30/10/2025

انخفاض الخصوبة وتحدي الهوية


هذه خلاصة نقاش حول العوامل البنيوية التي تضغط على توجهات السياسة في أوروبا الغربية في الوقت الحاضر. وتلعب هذه العوامل أدوارا متفاوتة في كافة المجتمعات الصناعية ، كما انها تمثل تجربة متقدمة للمجتمعات التي تتجه نحو الاقتصاد الحديث بشكل عام.

يجدر الإشارة أولا الى فائدة التمييز بين نوعين من التحليل السياسي ، اكثرهما شيوعا هو الذي يركز على التجاذب بين الاطراف الفاعلة في الميدان ، بناء على ان نتائج التجاذب ، وما يكسبه كل طرف وما يخسره الآخر ، هو الذي يشكل الصورة الواقعية للحياة السياسية. اما النوع الثاني فهو الذي يركز على العناصر الجيوسياسية ، أي مصادر القوة وأسباب الضعف الثابتة ، التي لا تتغير بتغير الحكومة ولا البرامج السياسية. فهذه المصادر والأسباب تواصل تأثيرها في المشهد السياسي ، أيا كانت المجموعة الحاكمة.

سوف أركز في هذه الكتابة على انخفاض معدل الخصوبة. وهو أحد العناصر الجيوسياسية المؤثرة على مسارات السياسة. واشرحه مع الاخذ بعين الاعتبار تفاعله مع نموذج "دولة الرفاه" ، الذي تقوم عليه الدولة الأوروبية. وربما نعود للحديث عنه بشكل مستقل في مقالة قادمة.

معدل الخصوبة هو عدد الولادات المتوقعة لكل امرأة. ويجب ان لا ينزل دون 2.1 مولود لكل امرأة ، للحفاظ على نفس عدد السكان من دون هجرة. ولهذا أطلق على هذا الحد اسم "معدل الخصوبة الاحلالي". ولو اردنا المقارنة ، فان السعودية مثلا تحظى بمعدل مرتفع نسبيا ، أي 2.3 مولود حي لكل امرأة. اما في دول الاتحاد الأوروبي فقد انخفض المعدل الى 1.34 مولود لكل امرأة في عام 2023. معدل الخصوبة مهم ، لأنه هو الذي يحدد قابلية المجتمع لتوفير اليد العاملة الضرورية لتحريك العجلة الاقتصادية. فاذا تناقص عدد المواليد ، تناقص معه عدد الأشخاص المهيئين للعمل ، بينما يزداد بشكل معاكس ، عدد المتقاعدين الذين يحتاجون لم ينفق عليهم. في الوقت الحاضر تصل نسبة كبار السن (65 عاما وأكثر) في الاتحاد الأوربي ، الى 21.6 بالمائة من السكان. وهي نسبة تتصاعد باستمرار.

انخفاض عدد العاملين ، يعني تقلص الحراك الاقتصادي ، ومن ثم انكماش موارد الدولة ، التي تعتمد على الرسوم والضرائب. وهذا يقود طبعا الى زيادة الضغوط على نظام الخدمات العامة ، وتجميد أي توسع او تطوير يتطلب استثمارات كبيرة.

جرب عدد من الدول لا سيما فرنسا والسويد ، تشجيع الانجاب ، لكن هذه السياسات لم تلق نجاحا يذكر. الحل الآخر الذي يبدو معقولا ، هو السماح بالهجرة الواسعة. المانيا مثلا حصلت على 1.5 مليون مهاجر في 2022 و660 الف مهاجر في 2023. وتقول ارقام رسمية ان تدفق 200 الف مهاجر سنويا يضيف للاقتصاد الألماني نحو 100 مليار يورو على المدى الطويل. أي ان الهجرة تولد قيمة اقتصادية صافية ، رغم انها تبدو – في اول الامر – مكلفة. في الوقت الحاضر يمثل المهاجرون 25% من الشعب الألماني.

لكن الهجرة الواسعة ليست بلا تبعات. فقد أطلقت شعورا بالقلق من فقدان الهوية او تحولها. الواقع ان الحكومات الأوروبية تحاول علاج هذا المشكل ، بالتركيز على قيمة التنوع الثقافي باعتباره جزء حيويا من الهوية الوطنية. ولتأكيد هذا الاتجاه تشجع المهاجرين على المشاركة في الحياة السياسية ، وقد تولى بعضهم فعليا مناصب وزارية وعضوية البرلمان. لكن كثيرا من السكان ، لاسيما المحافظين التقليديين ، يتساءلون بقلق: هل سيتحول المهاجرون من محكومين الى حكام او مشاركين في حكم بلدنا؟.

ربما يجيب بعضهم ، لاسيما من السياسيين التقدميين: وماذا في ذلك ، طالما ان المهاجر يعمل مثل المواطن الأصلي ، ويؤدي واجباته الضريبية ، ويشعر ان هذا وطنه ، تماما مثل بقية المواطنين ، فهل نشعر بالقلق لمجرد اختلاف لونه او دينه او طريقة عيشه؟.

على السطح ، تبدو هذه أسئلة بسيطة ويبدو جوابها بديهيا. لكنها تخفي – في واقع الامر – تعقيدا شديدا ، ويختلط فيه المنطق بالعاطفة وانعكاسات التجربة التاريخية ، على نحو يستحيل ان تعالجه الأجوبة البسيطة.

الشرق الأوسط الخميس - 08 جمادي الأول 1447 هـ - 30 أكتوبر 2025 م

https://aawsat.com/node/5203041

16/10/2025

رحلت الحافلة ، فماذا ستفعل؟.

روى شاب مصري موقفا شهده يوم سافر من مكة للرياض في 2023. وخلاصتها انه ذهب للصلاة عندما توقفت الحافلة عند محطة بنزين ، فلما عاد اكتشف انها رحلت ، فاحتار في امره لان حقيبته وأوراقه في الحافلة ، وهو لا يعرف الطريق ولا كيف يتصرف ، فلقيه سائق شاحنة ، سأله عما به ، ثم اخبره ان يهاتف "ادارة امن الطرق". وخلال دقائق وصلت سيارة شرطة ، اخذته الى الحافلة التي اوقفتها الشرطة عند نقطة التفتيش. يقول الرجل في نشرة على "فيس بوك" انه مذهول ، لأن الناس والشرطة كانوا راغبين في مساعدته بكل مودة ، ومن دون ان يعرفوه او يوصي به أحد.

لو سألت أي شخص عن رأيه في هذا الموقف ، لامتدح كافة الأشخاص الذين شاركوا فيه ، وامتدح المجتمع الذي يعزز اخلاقيات الدعم والتكافل هذه. نعلم ان الناس يميلون بقوة للتعاضد حيثما امكنهم ، ويعتبرون هذا من الفضائل والمكارم. وهذا واضح أيضا في عشرات التعليقات على النشرة ، التي أكد أصحابها انهم يعرفون مواقف مماثلة.

هذا لا ينفي طبعا ، ان بعض الناس الذين يحبون سلوكا كهذا ، لن يفعلوه لو كانوا في نفس الموقف ، او لعلهم سيطلبون مقابلا ماليا للمساعدة. وأذكر قصة سمعتها من صاحبها ، وخلاصتها انه يملك سيارة كبيرة يستعملها لسحب السيارات المتعطلة. وقد اعتاد أن يذهب عصر الخميس والجمعة (يوم كان الخميس عطلة) الى منطقة صحراوية يمارس فيها الشباب هواية السباق على الرمال ، التي يسميها اهل بلدنا (التطعيس). يقول الرجل ان عدد السيارات التي تنقلب او تحتاج للمساعدة لايقل عن سبع في كل يوم ، وانه يحدد أجرته عن المساعدة تبعا لماركة السيارة وقيمتها. فالسيارة الغالية يفرض عليها 2000 ريال والرخيصة 500 ريال ، وهكذا. وقال انه يجني معظم دخله من هذا العمل. وفي وسط الكلام ، قال انه كثيرا ما ترك أشخاصا مع سياراتهم ولم يساعدهم ، لانهم لم يدفعوا المبلغ المطلوب. سألته: الم تشعر بتأنيب الضمير حين تترك شابا وراءك وسط الصحراء ، مع سيارة محطمة؟. فاجابني انه لم يندم ابدا ، لأنه في الأساس ذهب للعمل وكسب المال وليس للمساعدة.

افترض ان بعض القراء سيتفهم هذا العذر ، وسيرفضه آخرون ، نظرا للوضع الخاص لطرفي العلاقة ، السائق وطالب العون. سيقول أولئك ان الذين يتسابقون يلهون ويستمتعون بالمخاطرة ، فلماذا نفترض انهم يستحقون العون ، ولا سيما من شخص يعيش على هذا النوع من العمل ، هذا اشبه بصياد سمك ، ندعوه للتبرع بانتاجه لمن يحتاج الاكل ، فاذا فعل ، فمن سيطعم أطفاله؟.

اما الذين يرفضون موقفه ، فسوف ينظرون الى عواقب تركه لاولئك الشبان بمفردهم في الصحراء ، حيث يواجهون مخاطر ، غير مؤكدة لكنها واردة. وهم يفترضون ان على الانسان ان يقدم تنازلات أحيانا ، حتى لو كانت على حساب حاجاته وما هو ضروري له.

أميل الى رؤية المفكر المعاصر "ايزايا برلين" الذي رأى ان الفعل الأخلاقي في موقف كهذا ، ليس واحدا ولا ثابتا. ذلك ان العقلاء يبنون مواقفهم على مزيج من القيم ، مادية ومعنوية ، تتغير مواقعها وتأثير كل منها بحسب تفصيلات المسألة المطروحة فعلا. في المثال الذي امامنا ، يتاثر الموقف بالوقت (ليلا او نهارا) ووجود اشخاص اخرين ، ومدى حاجة الطرف الأول للمال والثاني للعون ، وتوفر البدائل ، ونوعية المخاطبات التي جرت بين الاثنين ، بل حتى طبيعة الأرض والطقس والبعد عن المدينة. تدخل هذه العوامل كلها في تكوين الموقف الأخلاقي الذي يتخذه العقلاء عندما يواجهون حالة كالتي ذكرناها.

ليس من الأخلاقي ان ترهن علاقتك بالناس ، بمقدار ما يدفعون لك. فلعلهم لا يذكرونك يوم يستغنون عنك ، فهل تريد حياة كهذه؟. كما لا يمكن – في واقع الحياة – ان تتحول الحياة كلها الى تطوع وتطوع مقابل ، فهذا يخالف طبيعة الانسان وفطرته.

الشرق الأوسط الخميس - 23 ربيع الثاني 1447 هـ - 16 أكتوبر 2025 م

https://aawsat.com/node/5197804 

09/10/2025

من اقتصاد السوق الى مجتمع السوق

 

في سبتمبر الماضي نشر د. فهد الخضيري ملاحظة للطبيب المصري د. يحي النجار ، يقول فيها انه شهد سيدة فقيرة بحذاء بلاستك تدخل عيادته ، فيصرف خمس دقائق على فحصها ، فتدفع له ما يكسبه زوجها من عمله في أسبوع عمل كامل. ثم يستدرك ان هذا عمل تستحي منه الإنسانية. ولهذا قرر جعل فحص الفقير والطفل اليتيم مجانيا. وقد حصدت الرسالة تفاعلا استثنائيا ، من جانب رواد منصة التواصل الاجتماعي "اكس".

قبل هذا ، في 26 فبراير الماضي ، عثر عامل صيانة ، بمحض الصدفة ، على جثة الممثل الشهير جين هاكمان ، الذي توفي بعد أسبوع تقريبا من وفاة زوجته في الغرفة المجاورة. يرجح ان الزوجة توفيت في 11 فبراير وتوفي هاكمان ، الممثل الحائز على جائزة الاوسكار مرتين ، في 17 فبراير. الجيران الذين تحدثوا للصحفيين ، قالوا ان الزوجين كانا منعزلين ، نادرا ما يزورهما أحد ، رغم ان هاكمان لديه ثلاث بنات من زواج سابق ، وبالطبع ، الكثير من زملاء وأصدقاء العمل. لكن أيا من هؤلاء ومن الجيران ، لم يفتقد الزوجين ولم يسأل عنهما طيلة أسبوعين على الأقل.

جين هاكمان

سيدة على صلة بالزوجين ، قالت فيما يشبه رثاء الذات ، ان حياة الناس تحولت الى ركض وراء المال. حتى العلاقة مع الاهل والأصدقاء باتت تقاس بالعائد او الفاقد المالي ، وكذا الخدمات البسيطة التي اعتاد الناس تقديمها لبعضهم ، تأكيدا للمحبة او الشفقة. فاذا بلغ الشخص خريف العمر ولم يعد مفيدا تجاريا ، فسوف تنتهي حياته الاجتماعية ، وسوف ينتقل الى هامش الحياة ، مثل سيارة قديمة تنقل بعد سنين من الاستعمال ، الى ساحة التشليح او حاشية الطريق.

الذي يجمع بين قصة الطبيب النجار وقصة الممثل هاكمان وامثالها ، هو ان الوقت الاجتماعي بات سلعة. أناس كثيرون باتوا يأبون إنفاق وقتهم في أشياء ضرورية جدا لأشخاص آخرين. يمكن ان يكون هؤلاء الاخرون أبا او اخا او صديقا او مريضا فقيرا او طفلا ، او أي شخص وضعته الحياة في طريقنا ، فهل نحن مستعدون لابطاء حركتنا ، او حتى التوقف من أجل ان نتعرف عليه او نساعده او نعطيه أملا؟.

يعتقد البروفسور مايكل ساندل ، وهو فيلسوف أخلاقي معاصر ، ان المشكل ليس البخل او قلة الأدب او قلة الاكتراث ، بل الانزلاق الذي لا نلاحظه بدقة ، من شعار "اقتصاد السوق" الى واقع "مجتمع السوق".

خلال الخمسين عاما الماضية ، بات اقتصاد السوق قرينا للازدهار والرفاهية. بل ان الفيلسوف المعاصر روبرت نوزيك ، اعتبره سبيلا وحيدا لاقامة العدالة في توزيع الثروة والفرص. وبشكل عام ، ورغم كل عثرات هذا النموذج ، فان التجربة العملية تؤكد فرضية انه الآلية الأكثر كفاءة لتنظيم الإنتاج والتوزيع ، والعون الأكبر لتحويل الأفكار الى محرك للابتكار والثروة.

معظم الناس يدعمون هذه الفكرة. لكن بعضهم أشار دائما الى مجال لا يمكن لاقتصاد السوق ان يعالجه بشكل جيد. خذ مثلا ظاهرة المشردين الذين تعج بهم المدن الكبرى في القارتين الامريكية والأوروبية ، الذين يعيشون في الخرائب او ربما على الرصيف ، لأنهم لا يملكون سكنا ولا المال اللازم لاستئجار مسكن. وخذ أيضا رفض المستشفيات الخاصة علاج حالات طارئة لان المريض ليس مسجلا في نظام التامين الصحي ، حتى ان بعض الناس توفوا في انتظار الموافقات وتأمين الأموال..

يتحول المجتمع الى سوق ، وتمسي الحياة الاجتماعية امتدادا للسوق ، اذا بات كل شيء يشترى بالمال ، بما فيه الصداقة والمحبة والتعاطف والوقت الاجتماعي والكرامة والفرح والحزن والألم والسعادة. قد يبدو هذا الكلام مبالغا نوعا ما. ولحسن الحظ فلازال المجتمع العربي بعيدا عن هذه الحالة. لكن انظر لما تنشره الصحافة ومنصات التواصل الاجتماعي ، من امثلة شبيهة لما ذكرته في السطور السابقة ، ثم سائل نفسك عن مصدر هذه الحالات واسبابها.. سترى الجواب واضحا تماما.

الشرق الاوسط - الخميس - 17 ربيع الثاني 1447 هـ - 9 أكتوبر 2025 م   https://aawsat.com/node/5195279

 

02/10/2025

العقل في المرحلة الأوروبية

العقل المعاصر نتاج لعصر النهضة الأوروبية. لكنه لم ينحصر في أوروبا ، بل بات أقرب الى نموذج كوني ، يمثل حقيقة الانسان في هذه المرحلة من تاريخ البشرية. أعلم ان غير الأوروبيين لا يرتاحون لهذه النسبة. فهي تقلل - ضمنيا - من قيمة اسهامهم  في انتاج الفكر الإنساني والتجربة التاريخية للبشر بشكل عام. وقد يظن بعض المسلمين ان الفارق الديني هو المحرك لكلا الموقفين ، الاستهانة الغربية والرد عليها. لكني وجدت مفكرين من خارج هذين السياقين يعبرون ، صراحة او ضمنيا ، عن موقف مشابه. من يقرأ اعمال امارتيا سن ، الفيلسوف والاقتصادي الهندي الحائز على جائزة نوبل ، سيلاحظ ان الثقافة الهندية حاضرة بكثافة في كل كتاباته تقريبا ، رغم انتمائه للتقليد العلمي الأوروبي.

أمارتيا سن

أردت البدء بهذا التمهيد تنبيها للقاريء الى حدود التعميم الذي سيظهر في ثنايا المقال. والحق اني انظر لتطور مفهوم العقل وانتسابه للحضارات المتعاقبة ، من زاوية لاتتصل ابدا بتقييم تلك الحضارات والمراحل. اعتقد ان تاريخ البشر تجربة واحدة ممتدة ، تتنوع وتتصاعد باستمرار ، وتتشكل في إطارات مختلفة ، لغوية او جغرافية او دينية ، بحسب مايتوفر من عوامل بعث أو خطوط انكسار. من هنا فان الأديان والحضارات والحروب والتجارب العلمية ، تشكل كلها طبقات في بناء واحد. لا شك عندي ان جانبا مهما من نضج الثقافة الإسلامية القديمة وعمقها ، ثمرة لاتصال المسلمين بالثقافات السابقة ، كاليونانية والصينية والهندية والفارسية والافريقية وغيرها. وبالمثل فان الثقافة الاوربية المعاصرة امتداد لتلك الثقافات ومنها الإسلامية. نعلم أيضا ان قابلية الثقافة للتطور ، رهن بقدرتها على التفاعل مع الثقافات المختلفة وإعادة انتاج مفاهيمها ضمن نسيجها المحلي. ولهذا السبب خصوصا ، ذكرت في كتابة سابقة ان ضعف النشر العلمي باللغة العربية ، يرجع في جانب منه ، الى ما أظنه تعقيدا مبالغا فيه للشكل اللغوي والقواعد النحوية والبلاغية ، بحيث باتت فرصة الكتابة العلمية بالعربية ، قصرا على من يجيد قواعدها النحوية والبيانية اجادة تامة.

بالعودة الى صلب الموضوع ، فان العقل المعاصر  يمتاز بسمات أساسية يشكل مجموعها خطا فاصلا عن عصور العقل السابقة. أذكر هنا ثلاثا من تلك السمات:

1-     الفصل بين المعرفة والقيمة. اذ لم يعد التفكير في القضايا ، متقيدا بقيمتها المستمدة من موقعها الاجتماعي او التاريخي او الديني. ربما يتقيد الباحث بقيمه الخاصة في مرحلة مابعد الاستنتاج ، لكنه في مرحلة الملاحظة والبحث وصناعة الفكرة ، ينبغي ان يتحرر من كل قيد. تتعاضد هذه المقولة مع قاعدة ان حرية التفكير والاعتقاد والتعبير ، جزء أساسي في مفهوم كرامة الانسان وقيمته كموجود عاقل.

2-     العقل نفسه ينظر اليه الآن ككون مستقل عن الأرضية الثقافية التي ولد فيها (او بالأحرى ينبغي ان يكون هكذا). لكن نتاج العقل لا يعد مطلقا ولا مستقلا. بات متفقا عليه ان العقل يتشكل بتأثير تجربة الانسان الحياتية ، التي تعكس الى حد كبير شروط بيئته وما يتجاذب فيها من تيارات. من هنا فان نتاج العقل لم يعد تعبيرا عن الحقيقة ، بل هو معرفة مؤقتة او رأي شخصي ، قد يتحول الى توافق عام اذا عبر القنوات الخاصة بتعميم الأفكار ، كمؤسسات الصناعة والبحث العلمي والهيئات التشريعية.

3-     التمييز بين استقلال العقل في الأصل ، وتبعيته الواقعية لشروط البيئة الاجتماعية ، تظهر أهميته في التمييز الضروري بين دورين يقوم بهما ، دور يسمى "العقل العملي" ووظيفته فيه هي ربط الانسان بما حوله وتيسير حياته ، أي ادراجه في شبكة الأعراف السائدة ، ودور يسمى "العقل النظري" ووظيفته نقد اعراف وتقاليد البيئة والثقافة ، ومحاولة تحرير الانسان من قيودها بإنتاج بدائل لها ، تتحول بالتدريج الى تقاليد في دورة اعلى ، وهكذا. العقل اذن تابع في مرحلة ومتمرد في مرحلة تالية.

 هذا ما اتسع له المقام. ولعلنا نعود للموضوع في قادم الأيام.

 الشرق الاوسط الخميس - 10 ربيع الثاني 1447 هـ - 2 أكتوبر 2025 م   https://aawsat.com/node/5192734

مقالات ذات صلة

اسطورة العقل الصريح والنقل الصحيح
اصلاح العقل الجمعي
اناني وناقص .. لكنه خلق الله
تعريف مختلف للوعي/ تحييد صنم القبيلة
الثقافة كصنعة حكومية
الرزية العظمى
العقل الاخباري
عقل الصبيان
العقل المساير والعقل المتمرد
العقل المؤقت
ما رايك في ماء زمزم؟
من العقل الجمعي الى الجهل الجمعي
من تقليد الى تقليد ، عقل معماري وعقل هدام
هل العقل كاف لانتاج القيم والاحكام؟
هل جربت صنم الكهف؟
اليد الخفية التي تدير العالم

ماذا يفعل السياسيون؟

" السياسة بوصفها حرفة " رسالة صغيرة الحجم ، وهي في الأصل محاضرة مطولة القاها عالم الاجتماع المعروف ماكس فيبر ، امام اتحاد الطلبة ...