لم
يكن داريوش شايغان معروفا بين عامة الناس. لأنه لم يكتب أبدا لعامة الناس. ولم يكن
شايغان محبوبا بين الشريحة الاوسع من مثقفي العالم الاسلامي ، لأنه حمل السلم
بالعرض ، وسار في طريق لا يصمد فيه سوى زبدة الزبدة ، كما يقول الفرنسيون.
المرحوم داريوش شايغان |
كتب
شايغان عن الحداثة الاوربية مادحا وناقدا. وكتب عن الماركسية والاسلام مثل ذلك.
وقارن بين الثقافات الآسيوية وبين نظيرتها العربية والاوروبية ، باحثا عن القيم
الانسانية الجوهرية ، اي تلك القيم التي تشكل مستخلصا مشتركا لتجربة البشر عبر
تاريخ طويل.
نهاية
الاسبوع الماضي رحل شايغان عن عالمنا بعد جولات مضنية بين الايديولوجيات والمذاهب
، وبحث دؤوب عن نقاط التلاقي والتفارق بين الشرق والغرب ، جولات كانت جديرة بمنحه
مكانة بين قلة من مفكري العالم ، الذين يستحيل ان تصنفهم على تيار ، او تضعهم في
خانة مشروطة بتاريخ محدد او جغرافيا بعينها. قد تسمي هذا حيادا او تفوقا على الذات
او حالة كونية. وهي صفات تنطوي على إطراء. لكن هذه الحالة بالذات تسببت في اقصائه.
لأن العالم – فيما يبدو – منظم على نحو لا يترك فراغا لغير المنتمين الى تجربة
تاريخية خاصة ، او دائرة مصالح معرفة جغرافيا او ايديولوجيا. ان تكون مستقلا ،
يعني ببساطة ان لا تتوقع المجد قبل وفاتك ، اي حين لا تعود منافسا لأحد او قادرا
على وضع الملح على جرحه.
تمتد طروحات شايغان على مساحة واسعة من الفلسفة الى
الانثروبولوجيا والادب والتاريخ وعلم الاجتماع. ويثير اهتمامي بشكل خاص تحليله
العميق للعلاقة بين العالم الاسلامي والغرب.
تحدث شايغان عما أسماه "نقطة التصالب" التي افضت
اليها كافة الحوارات السابقة بين الشرق والغرب. حين تدخل في حوار منفتح مع طرف
يعارض مبانيك الايديولوجية او الفلسفية ، فقد اوتيت فرصة غالية لاستكشاف اسباب اختلافه
عنك ، اي نقاط الضعف الكامنة في بنائك الثقافي ، او نقاط القوة التي تستطيع
استعارتها منه.
لكن ما جرى فعليا ان الطرفين ، الغرب والشرق ، لبس كل
منهما رداء الداعية ، وحدد مهمته في اقناع الاخر بما لديه ، دون ادنى اهتمام بأن
يتعلم منه. لم يتردد الغرب في استعمال القوة لفرض ثقافته كنموذج كوني وحيد. ورد
عليه الشرق بتحويل الهوية الى قلعة يحتمي داخل أسوارها مما ظنه غزوا او هيمنة.
ان سعي الغرب للهيمنة ، حول العلم الى نوع من ايديولوجيا
مغلقة. كما ان مقاومة الشرق أحالت الهوية الى نوع من ايديولوجيا صلبة. كان بوسع
الغرب ان يتقي بعض مشكلاته ، لو تقبل فكرة ان القيم الروحية التي يزخر بها الشرق ،
توفر علاجا حقيقيا لبعض أدواء الحياة.
وكان بوسع الشرق ان يخرج من ركوده المزمن ، لو تقبل حقيقة ان الهوية ليست صنما
مقدسا ، بل منتج بشري ، يصنعه الناس ويعيدون صياغته وتعديله حسب حاجتهم.
بسبب هذا التصالب خسرنا زمنا طويلا ، كان يمكن اختصاره
لو تواضعنا وقبلنا بدور التلميذ في مدرسة الحضارة الغربية. وللسبب نفسه فوت الغرب
فرصة عظيمة للنجاة من أمراض الحضارة المادية ، حين حول الفلسفة والعلم الى صنم
وحيد.
نعلم اننا أفرطنا في الاعتداد بالذات ، ودفعنا ثمنا
غاليا هو الضعف والتأخر. ونعلم ان ديننا خسر فرصته في التحول من ايديولوجيا لأمة
واحدة ، الى مرشد للبشرية كلها. لكن ما الذي نحفل به أكثر: نجاتنا ام خسارة
الغرب؟.
الشرق
الاوسط . الأربعاء - 11 رجب 1439 هـ - 28 مارس 2018 مـ رقم العدد [ 14365]
http://aawsat.com/node/1218906
مقالات ذات علاقة