08/08/2024

مشكلة الثقافة الدولتية

لو سألت رأيي في رعاية الحكومة للشأن الثقافي ، بل أي تدخل لأي حكومة في الشأن الثقافي ، لترددت طويلا قبل الاجابة. واظن السبب واضحا. فدخولها في الحياة الثقافية يعني تعيين احد التيارات الثقافية ، كخطاب رسمي تعتمده اجهزة الدولة ورجالها. ونعلم ان اتخاذ خطاب رسمي ، سيؤدي – شئنا أم ابينا – لإقصاء الآراء المختلفة عنه ، وتهميش الآراء المعارضة له. نعلم أيضا ان ازدهار العلم رهن بتنوع الآراء المتاحة في المجال العام ، والاقرار بحق صاحب الرأي في مخالفة الآراء الأخرى ، بما فيها المتبناة رسميا. ان الجدل الحر هو الوسيلة الاكثر بساطة والأيسر كلفة لانتشار العلم ، وتحوله من حرفة نخبوية الى مضمون للتبادل بين عامة الناس.

لكن هذي قصة ناقصة. واستكمالها يقتضي القول ان بعض مجالات الاصلاح الثقافي ، لا يمكن إنجازها دون مساهمة واسعة للدولة ، على المستوى السياسي والقانوني خصوصا. دعني أذكر مثلا مفهوم "سيادة القانون" الذي يعد من أعمدة الدولة الحديثة والمجتمع الحديث ، وبالتالي فهو من المسارات الهامة للانتقال نحو الحداثة. سيادة القانون لا تعني وضع العديد من القوانين واللوائح ، بل التخلص من الطابع الشخصي في الادارة ، وجعلها تجسيدا كاملا للقانون. يظهر الفارق بين الحكم الشخصي وحكم القانون في مضمون ومعايير العلاقة بين المجتمع والجهاز الاداري للدولة.

بيان ذلك: لعل القراء يذكرون نقاشات الصحافة في سنوات سابقة ، حول اختلاف القضاة في الحكم على المسائل المتشابهة. ونعرف ان السبب وراء هذا ، هو اعتبار القاضي مجتهدا يحكم برأيه. وهذا من التقاليد المأثورة في الفقه الاسلامي القديم. نعرف أيضا ان هذا الاختلاف يؤدي الى ما يسمى "عدم استقرار القانون" بل عدم استقرار المعاملات ، نظرا لان الناس لا يعلمون بما يواجههم حين يضطرون للتقاضي. هذا مثال على نوع الحكم الشخصي. لكن لو كان السائد هو حكم القانون ، فان كل شخص يعرف سلفا ما الذي سيواجه لو قام بهذا الفعل او ذاك. وان لم يكن خبيرا ، فان محاميه يستطيع اخباره بما سيجري له لو وصل الأمر الى المحكمة. حين يكون القانون حاكما ، فان الافعال الممنوعة تعرف وتحدد عقوباتها ، في نص قانوني واضح. وبناء على هذا سوف يصدر كل القضاة حكما واحدا في القضايا المتماثلة ، وان المتقاضين سيحصلون على نفس النتائج ، لو وصل امرهم الى المحاكم او حتى الادارات التنفيذية المخولة باصدار احكام. يطلق على هذه الميزة اسم "القابلية للتنبؤ" وهي من العناصر المؤثرة في تكوين البيئة المواتية للاستثمار. ولن تكون ممكنة الا اذا كان القانون هو المرجع الوحيد للجميع ، وليس الرأي الشخصي للمدير أو الوزير ، مهما علا شأنه او علمه.

أظن ان جميع الناس يريدون شيئا كهذا. لكننا نواجه مشكلة حقيقية ، تتمثل في ميل بعض الناس للالتفاف على القانون ، واعتماد العلاقة الشخصية او التأثير الخطابي على المدير ، وقبول المدير لهذا النوع من التعاملات ، التي تؤدي – بالضرورة – الى تقديم الأقوى شخصية او الأقرب علاقة ، على غيره ، ولو كان الحق لهذا الغير. واذكر مديرا بارزا اشتهر بعبارة يقولها تكرارا: "اشفع تشفع" وهي دعوة مفتوحة للوسطاء والمحتاجين لوساطة. وقد برر المدير الهمام دعوته بان القانون لا يلحظ كل القضايا. وهذا تبرير معقول أحيانا. لكنه سيؤدي – في نهاية المطاف – الى الغاء القانون واستبداله بالعلاقات الشخصية.

المجتمع التقليدي يثق في الأشخاص ويعول على "كلمة الرجال" اكثر من القانون. وأصحاب السلطة والنفوذ لا يتمنعون من التعامل مع هذا النوع من المحاولات الاجتماعية ، حتى لو أدت لتجاوز القانون في بعض الأحيان. مثل هذه الحالة لا تعالج باصدار المزيد من القرارات والقوانين والممنوعات ، بل بالتثقيف الواسع النطاق وعلى كل المستويات ، حول القانون وضرورته ، وكونه أساسا للمساواة بين الناس وحاميا لحقوقهم. فهل يمكن لجهة أخرى – غير الدولة – ان تقوم بهذه المهمة؟.

مقالات ذات صلة

 

 اصلاح العقل الجمعي

بين العقل الجمعي وسلوك القطيع

تفاح الرميحي وتفاح سعد الدين

التقدم اختيار.. ولكن

ثقافة المجتمع.. كيف تحفز النمو الاقتصادي او تعيقه

الثقافة المعوقة للنهضة

الثقافة كصنعة حكومية

الحداثة التي لا نراها

الحداثة باعتبارها حاجة دينيّة وواجباً أخلاقياً "عرض لكتاب الحداثة كحاجة دينية

الحداثة تجديد الحياة

حداثة تلبس عباءة التقاليد

الحداثة كحاجة دينية -النص الكامل للكتاب

حول العلاقة بين الثقافة والاقتصاد

د. السيف: فقد الدِين وظيفته الاجتماعية لأنه أصبح حكرا على طبقة خاصة

رأس المال الاجتماعي

طريق التقاليد

عقل الاولين وعقل الاخرين

لمحة عن تحولات المجتمع والثقافة

مرة اخرى : جدل الدين والحداثة

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

01/08/2024

حداثة تلبس عباءة التقاليد

تعقيبا على حديث الاسبوع الماضي حول تطبيقات الحداثة التي باتت جزء من حياتنا اليومية ، قال احد الزملاء ان  السلوك العقلاني في المجالات التي ذكرنا امثلة عنها ، أداتي محدود الأثر. ومقصوده ان المجتمع يعيش في ظل الحداثة ويمارسها ، لكن من دون ان تغير بنيته الذهنية التقليدية.

هذا مثال عن إشكالات رائجة تطرح في سياقات متفاوتة. وهي تشير الى مشكلتين ، اظنهما مصدر التباين في آراء الناس ومواقفهم حيال الحداثة. المشكلة الأولى هي المسافة بين ثقافتنا الموروثة وبين المضمون الثقافي للحداثة ، المخالف لما ورثناه وألفناه. أما المشكلة الثانية فتتعلق بما يبدو مسارا أحاديا لا خيار فيه: إما الحداثة او العيش على هامش العصر.

سوف اتعرض لهاتين المشكلتين في السطور التالية. لكن يهمني أولا التأكيد على ما سبق ان طرحته ، وهو ان الحداثة ليست قصرا على النتاج الأدبي ، بل يسعني القول ان ابرز تجلياتها تقع في الحياة المادية اليومية ، وذكرت من بين جوانبها السوق والتعليم والصحة ، وأحسب ان هذه القطاعات تشكل الجانب الرئيسي من الحركة اليومية للفكر والبشر والمال ، في أي مجتمع في شرق العالم او غربه. صحيح ان الحداثة لازالت غير مكتملة ، الا ان ما نراه من تطبيقاتها التي تتزايد يوما بعد يوم ، يؤكد على نحو قاطع انها باتت سمة رئيسية لحياتنا اليومية وتفكيرنا في المستقبل.

بالعودة الى المشكل الأول الذي زعمت انه مصدر للتباين في مواقف الناس تجاه الحداثة ، فالواضح ان كل مجتمع يتخذ موقف المتشكك تجاه أي وافد جديد ، خاصة لو رآه معارضا لمألوفه الحياتي او الثقافي ، او العناصر المؤلفة لهويته. وقد ذكرت في حديث الأسبوع الماضي ان العقل هو محور الحداثة ، ونتاجه ، اي العلم البشري ، هو مصدر شرعية الأفعال ، ومعيار التمايز بين ما يصنف صحيحا وما يصنف خطأ أو فاسدا. ثم ان الحداثة لا تقيم وزنا للماضي ، بل تعتبر فعل الانسان في حاضره موضوعا وحيدا للنقاش والتقييم ، وان قيمته مرتبطة بما ينتج عنه الآن ، او ما يترتب عليه في المستقبل.

الماضي – في الثقافة الحداثية - مخزن للمعرفة ، يرجع الانسان اليه ان شاء ، يعمل فيه من اجل معرفة أدق وأعلى ، مرتبطة بزمنها الراهن. بعبارة أخرى فانه ليس للزمن سلطة فوق العقل ، كما ان الماضي على وجه الخصوص لا يتمتع بأولوية او فوقية على الحاضر. بل العكس تماما هو الصحيح ، فقد يكون العلم نتاجا صرفا للحاضر ، او قد يكون امتدادا متطورا عن علم بدأ في الماضي ولم يكتمل. في كلا الحالين ، فان علم الحاضر اعلى قيمة من نظيره القديم.

هذه الفكرة ، أي غلبة الجديد على القديم ، في القيمة والاعتبار ، اقوى من أن تقاوم ، لأن الناس يرون ثمراتها الواقعية. وهذا بالضبط هو سر المشكل الثاني ، اي كون الحداثة طريقا جبريا لا خيار فيه. هذه مشكلة عسيرة فعلا ، لكننا لا نملك خيارات ازاءها. ان اعتزال العالم ليس خيارا. وقد ابتلينا خلال نصف القرن المنصرم بطائفة من الناس اتخذوا التخويف من الحداثة عملا يوميا ، حتى ترسخت قناعة لدى شريحة واسعة من الناس ، فحواها ان تقبل الحداثة يعني تسهيل هيمنة الغرب وزوال الدين والهوية. هذا الخطاب الذي جرى تسويقه على نطاق واسع جدا ، زرع ما يمكن وصفه بعقدة ذنب في انفس الناس الذين يرون بعقولهم فضائل الحداثة ، لكنهم يخشون ارتكاب الخطيئة. 

ربما لهذا السبب نرى من الشائع في مجتمعنا ان يعيش الناس حقيقة الحداثة ويمارسونها كل ساعة ، لكنهم يلبسونها عباءة التقاليد. هذا لا يعني ان ذهنيتهم غارقة في التقليد ، كل ما في الامر ان الحداثة لا زالت غير مكتملة ، وليست – بعد – خطابا مهيمنا.

الخميس - 26 مُحرَّم 1446 هـ - 1 أغسطس 2024 م           https://aawsat.com/node/5045985/

مقالات ذات صلة

 اصلاح العقل الجمعي

بين العقل الجمعي وسلوك القطيع

تفاح الرميحي وتفاح سعد الدين

التقدم اختيار.. ولكن

ثقافة المجتمع.. كيف تحفز النمو الاقتصادي او تعيقه

الثقافة المعوقة للنهضة

الثقافة كصنعة حكومية

الحداثة التي لا نراها

الحداثة باعتبارها حاجة دينيّة وواجباً أخلاقياً "عرض لكتاب الحداثة كحاجة دينية

الحداثة تجديد الحياة

الحداثة كحاجة دينية -النص الكامل للكتاب

حول العلاقة بين الثقافة والاقتصاد

د. السيف: فقد الدِين وظيفته الاجتماعية لأنه أصبح حكرا على طبقة خاصة

رأس المال الاجتماعي

طريق التقاليد

عقل الاولين وعقل الاخرين

لمحة عن تحولات المجتمع والثقافة

مرة اخرى : جدل الدين والحداثة

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

25/07/2024

الحداثة التي لا نراها

صديقي محمد الحرز ، الشاعر والكاتب المعروف ، متشكك في محتوى الجدالات التي تدور حول تصنيف الحداثي والتقليدي. فهو يقول صراحة انه لا ينبغي اتخاذ التصنيف السائد في اوربا معيارا للتمييز بين اهل الحداثة ومعارضيها. ويقول ايضا انه ليس من السهل ان يتبنى شخص ما الحداثة صراحة وعلنا ، لان مجتمعنا لا زال مرتابا في هذا التوجه ومن يتبناه. في نهاية المطاف فان الحرز لا يقدم فكرة ، بل يحكي هما ، أظن ان كثيرا من الكتاب وأهل الرأي ، قد عاناه او عبر عنه في وقت من الأوقات.

محمد الحرز

وقريبا من هذا المعنى تحدث الاكاديمي المعروف د. حسن النعمي ، عن النسق الثقافي العام في العالم العربي ، الذي يميل لانكار هيمنة العقل ، خلافا للحال في أوربا ، التي تقدس العقل وتجعله محور المعرفة ومصدرها الوحيد. الحداثة تدور حول العقل وكونه مهيمنا على العالم. وهذا معيار رئيس للتمايز بين الثقافة الاوروبية المعاصرة ونظيرتها العربية ، التي تستمد معظم طاقتها من التجربة التاريخية ، وترجح النقل على العقل أو نتاجه الصرف.

الامر العجيب في جدل الحداثة والتقاليد ، في منطقة الخليج بأسرها ، ان اكثر المتحدثين عنه هم الأدباء ، واكثر المعارضين لهم هم المشايخ. أقول انه عجيب ، لأن منظومة القيم والمعايير التي تعتبر جوهر الحداثة ، منتشرة في كل جوانب حياة المجتمع ، بينما يركز الأدباء على "الأشكال" الادبية الحديثة ، أكثر من تركيزهم على القيم المعيارية للحداثة.

افترض ان العديد من الكتاب الحداثيين خصوصا ، منتبهون الى هذه الاشكالية. فمجتمعنا يتحرك بثبات واصرار نحو الحداثة ، بقيمها ومعاييرها وتمظهراتها الحياتية. لتوضيح هذه المسألة ، سأشير الى التحول الجاري في ثلاثة قطاعات ، هي التعليم ، الصحة ، والتجارة. تغطي هذه القطاعات ما يقرب من ثلثي الحراك الاجتماعي اليومي ، في بلدنا واي بلد آخر ، فهي تستقطب قوة العمل وحركة راس المال وتوجه الانشغالات الذهنية للافراد. هذه القطاعات باتت اليوم بعيدة عن القيم التقليدية ، اكثر تمثلا لقيم الحداثة ، وأشد رغبة فيها. ربما لا يرى كثير من الناس في هذه القطاعات تجسيدا للحداثة الناضجة ، لكني واثق تماما انه لا يمكن تصنيفها في الدائرة التقليدية ، ان أردنا التزام معطيات الواقع المشهود.

انظر مثلا الى المحاور الرئيسية التي تدور حولها معيشة الناس ، هل تنتمي الى عصر الحداثة ام عصر التقاليد ، اليست البنوك هي قطب الرحى في حركة راس المال؟. ثم انظر الى مواقف الناس حين يشعرون بالمرض ، هل يتوسلون بالجن والسحر والاساطير ام يراجعون الطبيب. صحيح ان هناك من يلجأ للخيار الأول ، لكن خذ احصائية وزارة الصحة عن عدد مراجعي المستشفيات والعيادات في عام واحد ، ستجد ان جميع الناس تقريبا اختاروا السبل الحديثة في علاج انفسهم. والحال نفسه بالنسبة للتعليم وكافة النشاطات المعيشية.

الذي أردت قوله ان الحداثة ليست قصرا على التعبيرات الأدبية ، كي نقول انها موجودة او مفقودة في المجتمع السعودي ومجتمعات الخليج عموما. الحداثة منهج حياة يعتمد العقل والعلم كمصدر وحيد للمعرفة ، ومعيار لتمييز ما يصح وما لا يصح. وهذه قد تتجسد في مفاهيم يعبر عنها لفظيا ، او تتجلى في سبل عيش يتبعها الناس ويلتزمون بها وبما يترتب عليها ، حتى لو لم يطلقوا عليها اسم الحداثة أو اوصافها.

الحداثة بقطبيها ، العلم والعقل ، ليست نظاما محدد الأطراف. بل هي مشروع بنهايات مفتوحة للتطور والتحول. وكلما بلغ مرحلة انكشفت أمامها مسارات جديدة. لذا لا ينبغي اعتبار المستوى الفعلي لمجتمع معين (الغرب مثلا) معيارا نهائيا تقارن به المجتمعات الأخرى. ما هو مهم في الحقيقة هو ما ذكره د. حسن النعمي في حديث مسجل: محورية العقل وكون نتاجه معيارا وحيدا لما يقبل او يرفض. ولا أرانا بعيدين عن هذا ، حتى لو قبلنا بعض التحفظات من هنا او هناك.

الشرق الاوسط الخميس - 19 مُحرَّم 1446 هـ - 25 يوليو 2024 م

https://aawsat.com/node/5043509/

مقالات ذات صلة

الحداثة باعتبارها حاجة دينيّة وواجباً أخلاقياً "عرض لكتاب الحداثة كحاجة دينية

الحداثة كحاجة دينية -النص الكامل للكتاب

مرة اخرى : جدل الدين والحداثة

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

11/07/2024

اصلاح العقل الجمعي

 

دعنا نفترض ان حكومتنا قررت اصلاح او تطوير الثقافة الوطنية ، في السياق الذي اسميناه في الشهر الماضي "الهندسة الثقافية" ، فما هي الاهداف التي ينبغي ان تحتل المرتبة العليا في سلم اولوياتها؟.

للاجابة على هذا السؤال ، دعنا نوضح مسألتين: أولاهما وظيفة الثقافة والدور الذي تلعبه ضمن المخطط العام للتطوير في بلد بعينه. اما الثانية فعن طريقة توظيف الثقافة في خدمة الاغراض الوطنية العامة.

بالنسبة للمسألة الاولى ، فان الثقافة التي نعنيها هنا ، هي مكونات الخلفية الذهنية التي توجه السلوك الجمعي ، والتي نسميها أحيانا العقل الجمعي او العرف العام ، اي الطريقة التي يتبعها عموم الناس في تحديد ما هو مناسب او غير مناسب من السلوكيات الفردية. ونتعرف على هذه عادة في ردود فعل الناس على المواقف التي يواجهونها في حياتهم اليومية ، ولا سيما المواقف التي تتعلق بمسائل جديدة او غير معتادة.

نعلم ان 90 بالمائة من سلوك الافراد عفوي ، يصدر من دون توقف او تفكير. لكنه مع ذلك يبدو للناس معقولا. لأنه يعتمد على قناعات مسبقة ، جرى التوصل اليها وتثبيتها في الذاكرة ، كمعيار لما ينبغي للانسان ان يفعله او يعرض عنه. خذ مثالا من حياتك اليومية: فحين تركب سيارتك صباحا ، فان ذهنك يقوم بمئات من العمليات العقلية ، التي تشمل اختيار الطريق واستعمال السيارة ، ومقابلة التحدي الذي يمثله السائقون الآخرون. كل هذه العمليات تجري بشكل متوال وسريع ، اي انك تقوم بها طيلة الوقت ، من دون ان تشعر بكل جزء منها ، أو تقرر سلفا ما الذي ستفعل الآن وما الذي ستفعل لاحقا. توالي هذه العمليات بات ممكنا بعدما جرى تثبيت مرجع معياري لكل عملية منها ، في الذهن او الذاكرة. والحقيقة ان جانبا كبيرا من النشاط الذهني للانسان ، ينصرف الى صياغة واصلاح هذه المراجع او قواعد العمل. ومن هنا أيضا فان المهمة الكبرى للاصلاح الثقافي ، تتمثل في هذه النقطة على وجه التحديد: مسح القواعد العتيقة او غير المتناسبة مع حاجات الانسان وحاجات عصره ، وانتاج قواعد جديدة.

فيما يخص المسألة الثانية فان أبرز التحديات التي تواجه مجتمعنا ، هي تحدي الحداثة ، ولا سيما استيعابها من خلال معالجة نقدية ، تسمح بتنسيج قيمها الرئيسية في نسيجنا الثقافي ، وصولا الى انتاج ظرف ثقافي / اجتماعي حديث ، لكنه غير منقطع عن التجربة التاريخية. لا اقصد – بطبيعة الحال – ان يكون المجتمع الجديد استمرارا للتجربة التاريخية ، بل ان يكون واعيا بها ، قادرا على نقدها واختيار ما فيها من محاسن ، مدركا لحدود تأثيرها على تفكيره في قضايا اليوم.

استيعاب الحداثة يعني التمييز بين ما هو علمي وما هو اسطوري او خرافي في حياتنا ، والتأسيس على العقلانية والعلم. ليس من الضروري استبعاد الاساطير او انكارها ، طالما بقيت في إطار الفولكلور والتخيل ، ولم تتحول الى اساس تبنى عليه قرارات او مواقف. يجب أن نصارح انفسنا بأننا ورثنا طائفة واسعة من العناصر الثقافية التي تعطل عقولنا او تثبط همتنا ، وفي نهاية المطاف ، تعيق ما نطمح اليه من نهوض علمي واقتصادي واجتماعي.

بناء على ما سبق ، فان استراتيجية وطنية لاصلاح الثقافة ، ينبغي ان تحدد أهم أهدافها في: معالجة التقاليد والموروثات التي تدفع العقول نحو البناء على الاسطورة او القيم اللاعقلانية او المتعارضة مع مستخلصات العلم.

لحسن الحظ فان هذه المهمة الكبرى ليست عسيرة كما قد نظن. ذلك ان علاجها متوفر فعلا وقليل الكلفة. هذا العلاج هو الغاء القيود على تدفق المعلومات والضمان القانوني لحرية التعبير والنشر. ان رسوخ الخرافة في الاذهان سببه الرئيس هو ضيق الافق الثقافي ، وعدم الاضطرار الى مجادلة الموروث. فاذا وجد الانسان نفسه في مواجهة خيارات عديدة معارضة لمحتوى ذاكرته ، فسوف يضطر للتفكير والمقارنة. وهذا يكفي – في اعتقادي – كي يكتشف العقل الفارق الجوهري بين ما يحويه فعلا وبين الجديد الذي يعرض عليه.

الخميس - 05 محرم 1446 هـ - 11 يوليو 2024 م    https://aawsat.com/node/5039036/

مقالات ذات صلة

 

بين العقل الجمعي وسلوك القطيع

التقدم اختيار.. ولكن

ثقافة المجتمع.. كيف تحفز النمو الاقتصادي او تعيقه

الثقافة المعوقة للنهضة

الثقافة كصنعة حكومية

الحداثة تجديد الحياة

الحكم اعتمادا على العقول الناقصة

حول العلاقة بين الثقافة والاقتصاد

رأس المال الاجتماعي

عقل الاولين وعقل الاخرين

عقل العرب ، عقل العجم

العقل المؤقت

فكرة التقدم باختصار

في معنى "الدروشة" وتطبيقاتها

القيم الثابتة وتصنيع القيم

كيف نجعل الثقافة محركا للاقتصاد؟

من العقل الجمعي الى الجهل الجمعي

هكذا خرج العقل من حياتنا 

الهندسة الثقافية: تمهيد موجز

04/07/2024

لمحة عن تحولات المجتمع والثقافة

تنطلق التحولات الاجتماعية بتأثير عوامل مختلفة ، سياسية واقتصادية. بعض العوامل يطلق مسار التغيير ، وبعضها يحدد وجهته او يؤثر في سرعته. ويقال في العادة ان سياسات الدولة محرك قوي للتغيير. كما ان تحولات الاقتصاد والسوق تعجل الحراك بين الطبقات الاجتماعية ، وتسهم في تغيير الثقافة السائدة. تحولات السياسة في النطاق العالمي مؤثرة هي الأخرى ، ولا سيما تلك التي تحدث في المجتمعات الأقوى اتصالا او الأكثر تاثيرا. نعلم - على سبيل المثال - ان تحولات المجتمع الامريكي ، تنتقل سريعا الى الساحة الدولية فتغدو ظاهرة كونية. لكن التأثير ليس حكرا على هذه البلاد ، وانما نضرب بها المثل لسعة تأثيرها في النطاق العالمي. 

ابراهام ماسلو (1908-1970)

هذا ليس من نوع الكلام العام الذي يقال في سياق "السوالف" ، فهو نتاج لدراسات علمية معمقة وميدانية ، على تحولات جرت تكرارا في أكثر من بلد. زبدة القول ان التغيير حقيقة من حقائق الحياة التي لا يمكن منعها ، وانه يحدث بتأثير عوامل عديدة. ولذا لا يحسن بالعاقل ان يتصدى للتحول الاجتماعي او يقاومه او يتخيل امكانية وقفه.

-         ما الذي يحدث حين يبدأ المجتمع في التحول؟.

دعنا نضرب مثالا عن شاب ينتمي لعائلة ريفية فقيرة ، انضم للمدرسة ثم الجامعة وتخرج بشهادة عالية ، فحصل على وظيفة مرموقة: ماهو تصنيفه الاجتماعي الآن (في اي طبقة). وكيف سيعامله الناس وكيف سينظر هو الى نفسه والى معاملة الناس له؟.

لعل  بعض القراء يتذكرون "هرم ماسلو" الذي يقرر ان الانسان في حالة الفقر المطلق ، سيكون مشغول الذهن تماما بما يمكنه من مواصلة العيش. فاذا حقق كفايته من هذا ، سينشغل بتحقيق الامان كحاجة نفسية ذات علاقة مباشرة بالعيش والكرامة. ومع نجاحه في هذه المرحلة ، سيتجه الى ما اسماه ابراهام ماسلو بالحاجات الاجتماعية ، وأبرزها الحاجة للتماثل مع الغير ، أي اقرار المحيطين بأنه مساو لهم وليس أدنى منهم ، وانه جدير بنفس المكانة التي يتيحها النظام الاجتماعي القائم لكل اعضائه. بعد ذلك تأتي مرحلة البحث عن التقدير ثم تحقيق الذات.

هذا مثال عن فرد ، أظن ان كثيرا منا قد لاحظه يوما ما. لكن ثمة مراحل زمنية تشهد تحولات واسعة النطاق ، في المجتمع كله ، تنعكس على سلوكيات كافة الافراد او غالبيتهم. وأظن ان كثيرا من السعوديين الذين تتراوح اعمارهم بين الاربعين والستين قد مروا بهذا التحول ، او شهدوه في اشخاص من جيرانهم او معارفهم ، في سبعينات القرن العشرين ، حين تعرض المجتمع السعودي لتحولات عميقة ، بتأثير خطط التنمية الاقتصادية الاولى والثانية (1971-1980). ومثله ما حدث بعد الاجتياح العراقي للكويت أواخر 1990.

حين تستعرض طيفا واسعا من ابناء المجتمع ، سترى ان كثيرا من الشخصيات الرفيعة اليوم ، جاءت من عائلات متواضعة اقتصاديا او اجتماعيا. لكن مكانتهم ارتفعت نتيجة تعليمهم او ارتفاع مداخيلهم او أدوارهم الاجتماعية او مراكزهم الوظيفية. وهنا لا نتحدث عن عدد من الافراد ، بل عن ظاهرة عامة نستطيع – من دون تحفظ – اعتبارها صورة نموذجية للتحول الاجتماعي.

مجتمع ما بعد التغيير ، بكافة افراده او غالبيتهم ، يحمل مشاعر مختلفة عن تلك التي كانت في الماضي. وهذا يولد ردود فعل قد لا تكون مواتية في جميع الأحيان. ان رغبة الأفراد ، ولا سيما من الجيل الجديد ، في التساوي مع الغير ، قد ينظر اليها من جانب الجيل الاكبر سنا كتمرد على نظام القيم السائد. وقد يميل بعض هؤلاء للتشدد في التعامل مع تعبيرات الشباب عن انفسهم ومراداتهم. وعلى الطرف المقابل فان الشباب ربما يواجهون هذا الموقف بردود فعل غاضبة. هذا الموقف وذاك ، هو التجلي الأبرز لما يسمى صراع الاجيال ، وهو – في الاساس - صراع ثقافي وتعبير عن تحول ثقافي.

 الشرق الاوسط الخميس - 28 ذو الحِجّة 1445 هـ - 4 يوليو 2024 م

https://aawsat.com/node/5036864/

 

20/06/2024

الثقافة كصنعة حكومية

الحكومات هي الجهة الاقدر على تغيير ثقافة المجتمع. هناك بطبيعة الحال جهات اخرى قادرة على احداث تغيير بقدر ما (من سينما هوليوود حتى متاجر علي بابا). لكن لا احد يباري الحكومة في قدرتها على انجاز هذه المهمة. وأذكر لهذه المناسبة رؤية المفكر الامريكي بنديكت اندرسون ، التي أقامت أساسا متينا لدراسة مفهوم الهوية الوطنية والدولة القومية. رأى اندرسون ان تكوين هوية الامة او الجماعة الوطنية ، يبدأ باستعراض انتقائي للتجربة التاريخية ، وتحديد الفقرات التي ستشكل "التاريخ الرسمي للبلد" والذي سيكون – في نهاية المطاف – المرجع الرئيس للهوية الوطنية.

لو نظرنا الى واقع الحياة ، فسوف نرى ان غالبية الناس ، يعرفون انفسهم من خلال الأوصاف التي اخبرهم بها أشخاص آخرون. خذ مثلا معرفتك بآبائك وأجدادك ، كيف توصلت اليها.. اليس بالمعلومات التي سمعتها من أبيك او جيرانك. حسنا ، ماذا لو كانت هذه المعلومات مضخمة او مبتسرة او نصف حقيقية ، او هي معلومات مختلطة بالأماني والعواطف ، فهل ستعرف ذلك التاريخ على حقيقته؟.

إذا كنت تدعي لنفسك هوية عائلية او قبلية او تجربة تاريخية من أي نوع ، فاعلم انها ليست سوى روايات الآخرين ، التي قد تكون دقيقة محققة ، وقد تكون مجرد "سوالف" ، هذا ما أسماه اندرسون "جماعة متخيلة" اي هوية متخيلة. وهو وصف ينطبق على كل الجماعات والطوائف والامم ، بلا استثناء ، حسب اعتقادي.

تحدث أندرسون ايضا عن دور الطباعة ، اي الكتب والصحافة المطبوعة ، التي انتجت ما يمكن وصفة بثقافة معيارية مشتركة ، كما ساهمت في توحيد لغة الخطاب ، اي ما يقال وما لا يقال في المجال العام. وهذا هو الاساس الأولي لما نسميه "العرف العام". لا ننسى أيضا دور التعليم الرسمي والمنابر العامة الاجتماعية ، التي ساهمت بشكل فعال في رسم صورة موحدة عن الذات الجمعية ، مستندة الى تاريخ انتقائي او فهم محدد لما جرى في ذلك التاريخ.

لا شك اذن في قدرة الحكومة على صياغة الثقافة العامة وتوجيهها ، لأنها تملك كافة الأدوات اللازمة لهذه المهمة. وقد أشرت سابقا الى ان كافة الحكومات قد استثمرت هذه الامكانية ولم تفرط فيها.

لكن السؤال الذي ربما يراود بعض الناس: إلى اي حد ينبغي للحكومة ان تستثمر هذه القدرة... هل يصح للدولة ان تتحول الى صانع لثقافة المجتمع ، ام تكتفي بارساء الارضية اللازمة للمصلحة العامة او النظام العام؟.

توصلت في دراسات سابقة إلى ان الطبقة الوسطى في المجتمعات التقليدية ، ترغب اجمالا بتبني الحكومة لدور صانع الثقافة العامة ، بل وما هو أبعد من ذلك. اما في المجتمعات الصناعية ، فان الطبقة الوسطى تميل بقوة الى تقليص دور الحكومة في هذا المجال ، واقتصاره على دعم الهيئات الاهلية النشطة في المجال الثقافي. يرجع هذا التمايز الى الدور التحديثي للدولة ، وفق رؤية ماكس فيبر ، ابرز آباء علم الاجتماع الحديث. ففي المجتمع التقليدي تلعب الادارة الحكومية دورا محوريا في عقلنة العرف العام وغربلة التقاليد ، وصولا الى جعل الحياة العامة مرنة ومستجيبة لتيارات التحديث. وهذا هو بالضبط الدور الذي تريده الطبقة الوسطى. اما في المجتمعات الصناعية فان مهمة التحديث منجزة فعليا ، وان الخيارات الثقافية تصنف ضمن المجال الشخصي ، حيث تتجلى الحرية الفردية في أوسع نطاقاتها ، الحرية التي لا يريد الانسان الحديث ان تتقلص او تمسي عرضة للاختراق ، من أي طرف كان.

أميل للاعتقاد بأنه خير للدولة ان تقتصر على التخطيط لأهداف العمل الثقافي الوطني ودعمه ، من دون التدخل في تفاصيله. ربما يقول بعضنا ان المجتمع لن يفعل شيئا ما لم تبادر الحكومة اليه. وهذا امر محتمل جدا. لكني أظنه نتيجة لنوع من التوافق السلبي على هذه المعادلة ، اي ان الحكومة تملك كل شيء فعليها ان تفعل كل شيء. ولو بدأنا في تغيير هذه المعادلة ، فربما يتغير الحال ، ولو بعد حين.

الشرق الاوسط الخميس - 14 ذو الحِجّة 1445 هـ - 20 يونيو 2024 م https://aawsat.com/node/5032468

 مقالات ذات صلة

اشكالية الهوية والتضاد الداخلي

الاقليات والهوية : كيف تتحول عوامل التنوع الى خطوط انقسام في المجتمع الوطني

أمين معلوف... الهويات القاتلة

بين هويتين

تأملات في حدود الفردانية

تكون الهوية الفردية

حزب الطائفة وحزب القبيلة

حول أزمة الهوية

حول الانقسام الاجتماعي

حول المضمون القومي للصحوة الدينية

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

عن الهوية والمجتمع

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

مسيرة الهويات القاتلة

الهوية المتأزمة

 

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...