31/03/2005

مجتمع العقلاء

فكرة الدولة الحديثة في نموذجها الليبرالي ، هي من غير شك ثمرة المعالجة الرائدة للمفكر الفرنسي جان جاك روسو الذي اشتهر بعمله الابرز "العقد الاجتماعي".


والحقيقة ان توماس هوبز هو الذي ابتكر نظرية العقد الاجتماعي ، لكن الاضافات التي وضعها روسو وتفسيره الجديد لفلسفة قيام الدولة ومسارات الحياة والعمل الجمعي في المجتمع السياسي ، هي التي جعلت هذه النظرية تنسب اليه في المقام الاول. ولهذا فان اعماله تلقت قدرا اقل من النقد من جانب الباحثين والمنظرين اللاحقين له ، خلافا لاعمال هوبز التي لا تزال موضعا للمجادلة بين الباحثين حتى يومنا هذا.
رأى هوبز المجتمع الانساني قبل الدولة ميدانا للصراع بين المصالح المتنافسة المتاتية من نزعة طبيعية في الانسان للتملك والسيطرة والاستمتاع . وراى ان المجتمع اقام الدولة من اجل ان تحميه من شرور نفسه في المقام الاول. وفي رايه ان تحقيق هذا الغرض يستوجب اقامة حكومة ذات جبروت ، ولهذا لم يعترض على الطغيان واعتبره نتيجة طبيعية لقيام الدولة .
اما روسو فقد نظر الى المجتمع الانساني باعتباره منظومة عقلائية ووصف اتجاه البشر الى العيش معا وتبادل المصالح باعتباره الدلالة الابرز على عقلانية الانسان . ومن هذا المنطلق فقد راى في اتفاق الناس على اقامة الدولة ، عملا عقلائيا ، يتناقض مع قبولهم بطغيان الدولة او جبروتها.
وخلافا لفكرة مجتمع الشقاق التي تبناها هوبز كوصف لمرحلة ما قبل الدولة ، فان روسو وصف المجتمع الانساني في تلك المرحلة الافتراضية بالمجتمع المدني . 

ومن هنا فان فكرة المجتمع المدني التي انتشرت منذ اواخر ثمانينات القرن العشرين تنسب في الاساس اليه . المجتمع الانساني – في راي روسو – قادر على العيش مع الدولة او بدونها ، وفي كلا الحالتين فانه اميل الى التوافق والسلام واقامة علاقات مصالح بناءة . ان عقلانية البشر هي التي تدفعهم الى التسالم والتوافق والعمل المشترك . ومن هنا قال بان الغرض الاساس للدولة ليس المحافظة على النظام العام وقمع المشاكسين – كما ذهب توماس هوبز – بل تنظيم العمل الجمعي الهادف الى تحسين مستوى الحياة والمعيشة لعامة اعضاء المجتمع . على هذا الاساس فقد قرر روسو ان ممارسة الدولة للقمع ضد المجتمع ككل او ضد جزء منه ، هو نقض صريح لفلسفة وجودها

ومثلما عالج هوبز مشكلة العلاقة بين الدين والدولة ، فقد عالجها روسو ، لكن من منظور مختلف . ركز هوبز جل اهتمامه على نفي حق الكنيسة في الطاعة العامة ، ورأى ان الدولة هي الكيان الوحيد الذي له حق قانوني في فرض طاعته ، وكان بذلك يعالج مشكلة تنازع السلطة بين رجال الدين والسلطة السياسية . اما روسو فقد قدم تصورا سوسيولوجيا لدور الدين في حياة الناس وتاثيره على علاقاتهم ، يدور في الاساس حول الفصل بين المثاليات الدينية المجردة والتطبيقات العملية التي يتداخل فيها المثالي بالواقعي .

ان فكرة "الدين المدني" التي قدمها روسو ، لا تزال هي القاعدة الاساس لجانب كبير من البحوث المتعلقة بعلم اجتماع الدين . هذه الفكرة – بصورة مبسطة – تقول بان الدين الذي يمارسه الناس ويتحدثون عنه ، هو نموذج خاص من الدين تشترك في صياغته عوامل كثيرة ، من بينها المثاليات والمجردات الواردة في النصوص الاصلية ، اضافة الى المؤثرات الاقتصادية والاجتماعية والتجربة التاريخية الخاصة للمجتمع . وعلى ضوء هذه النظرية اعتبر ان الدين الواحد يمكن ان يتخذ نماذج شتى وان هذا الاختلاف يرجع في الاساس الى نوعية العوامل التاريخية والواقعية التي تعرض لها كل مجتمع على حدة . بكلمة اخرى فان فهم المجتمعات للدين ، ودرجة تاثير الدين في حياتها ، وموقعه من منظومتها القيمية وبنياتها العلائقية والمادية ، هو انعكاس لعوامل غير دينية . ومن هذه الزاوية فان ما يوصف بالتعصب الديني في مكان او التسامح في مكان اخر ، وما يعتبر التزاما شديدا بالدين هنا او تساهلا هناك ، لا يرجع في حقيقة الامر الى الدين نفسه ، بل الى العوامل التي تسهم في صنع التجربة الاجتماعية في كل مجتمع ، سواء التجربة التاريخية ، او مصادر المعيشة ، او مستوى الثقافة والتقنية ، او درجة التفاعل مع المجتمعات الاخرى المختلفة في تجربتها ونظام حياتها.

قرر روسو ايضا ان الجماعة ، او عامة المواطنين ، هي المكون الاساس للاجتماع السياسي وان الدولة فرع من هذا الاجتماع وان انتظام الاجتماع السياسي رهن بتحقق قدر عال من الحريات العامة والمساواة بين اعضاء الجماعة . اطروحات روسو تتمتع باهمية خاصة لانها ساهمت – الى حد بعيد – في تحرير الفلسفة السياسية من التاثيرات العميقة للفلسفة اليونانية القديمة ، وقدمت تصويرا جديدا للمجتمع السياسي باعتباره مجتمع المواطنين لا مجتمع الطبقات الذي تتحكم فيه النخبة.

29/03/2005

الغول

اذا لم يكن توماس هوبز ابرز صناع الفكر السياسي المعاصر على الاطلاق ، فلا شك انه اكثرهم تاثيرا على مختلف المذاهب السياسية ، والى حد كبير على الاتجاهات الفلسفية الجارية في عالم اليوم. ولد هوبز في ويلتشير جنوب بريطانيا ، في 1588 وتوفي في 1679 ، وسجل نظريته السياسية في كتابه الاشهر "لفياثان" وهو اسم يلخص جوهر فلسفته السياسية . ورد مصطلح لفياثان في التوراة كوصف لحيوان بحري خيالي هائل القوة قادر على ابتلاع الناس والمراكب. وورد في نصوص اخرى كرمز للامبراطورية البابلية في العراق القديم التي كانت يومها اعظم الدول على وجه الارض.
اظن ان قرب المصطلحات العربية الى هذا المعنى هو "الغول" وهو ايضا رمز لكائن خيالي ذي هيمنة لا تقاوم ، لكنه – مثل اللفياثان – غير موجود في الحقيقة ، بل هو رمز يصنعه الانسان لوصف القوى التي لها وجود بشكل او باخر ، لكنه لا يعرف حقيقتها ولا يستطيع مقاومتها. انه من هذه الزاوية مثل الجن الذين يرمزون لخوف الانسان اللاواعي من المجهولات. انها اذن كائنات اعتبارية ، وجودها المادي الموضوعي مشروط باعتبار الناس وليس مستقلا بذاته .
هذه الفكرة تلخص تصور هوبز للدولة التي يراها ضرورة للحياة الاجتماعية التي لا تستقيم بدون مصدر للخوف ، اي عامل ردع للافراط في استعمال الحقوق الطبيعية من جانب بعض الناس. الدولة في نظر هوبز هي كائن اعتباري ، قوتها وقابليتها للردع ليست نابعة من ذاتها بل من رغبة الناس في ان تكون كذلك . لقد ارادها الناس رمزا للقوة المطلقة فاصبحت كذلك . ولولا هذا الاعتبار لما كانت كذلك ، لانها في نهاية المطاف تتكون من افراد يمكن ان يختلفوا او يتفقوا ، يمكن للناس ان يقبلوهم او يرفضوهم ، ويستطيعون استعمال القوة المادية لفرض مراداتهم وقد يعجزوا . بكلمة اخرى يمكن للدولة ان تكون القوة المطلقة في مجتمع معين ويمكن ان تكون مجرد واحدة من قوى كثيرة تتصارع على السلطان.
رأى هوبز المجتمع الانساني قبل الدولة ميدانا للصراع بين المصالح المتنافسة المتاتية من نزعة طبيعية في الانسان للتملك والسيطرة والاستمتاع . وهو يصف هذا النوع من الحياة بالحالة الطبيعية ، حيث يلقي كل شخص على مراداته صفة الحق وما دونها صفة الباطل . الحق والباطل في راي هوبز هي اوصاف لغوية للارادات ، انها بكلمة اخرى فن بلاغي وقدرة على رسم صورة لما يريده المدعي وما لا يريده . ان قدرة هذا الشخص على استعمال فنون اللغة في اقناع الغير او دحض حجتهم هو ما يحول ارادته الى حق وارادة الاخرين الى باطل .

بهذا الوصف المتطرف لفكرة الحق (والمقصود بطبيعة الحال الحقوق الدنيوية) اراد هوبز اضعاف حجة الكنيسة التي تزعم ان الحق هو كلمة البابا ، وان هذه الكلمة لها قدسية ذاتية نابعة من اتصالها بالسماء. اراد هوبز التشديد على ان المجادلات السياسية كلها تقوم على اعتبارات دنيوية ، وتستهدف بصورة او باخرى الحصول على قدر اكبر من القوة المادية او السلطة . السعي للسلطة ، ضمن اطار الدولة او ضمن اطار المجتمع ، هو المجال الذي لا يتعب الناس منه ولا يملون ، وهو الامل المحرك لآمالهم وفاعليتهم في الحياة حتى ياتيهم الموت.

اراد هوبز من تشديده على الطبيعة الدنيوية للسلطة ، معالجة الاشكال الرئيسي في جدل الدولة والسياسة ، اي الطاعة ، وفي الحقيقة فقد اراد القول انه في مجتمع معين ، لا يمكن ان تتعدد الطاعة والا فسد النظام ، يجب – في رايه – ان تكون الطاعة العامة مختصة بالدولة خلافا للاعتقاد الذي روجته الكنيسة بان طاعة البابا مقدمة على طاعة الدولة . كان هذا التشديد ضروريا بالنظر الى الظرف الخاص الذي طرح فيه هوبز نظريته ، حيث كانت السيادة ، او ما يسمى اليوم الحاكمية العامة ، موزعة بين الدولة والامارات شبه المستقلة والكنيسة ، فقد رأى ان قيام نظام اجتماعي متين وفاعل ، مستحيل في ظل هذا التعدد .

اعتبر هوبز ان قيام الدولة هو نتاج لعقد اجتماعي فرضته الضرورة لكنه قام باراداة عقلانية من جانب كل افراد المجتمع . الناس توصلوا الى استحالة الحياة في ظل تصارع الارادات والمصالح ، فقرروا ان ضرورة النظام تقتضي حصر السيادة والسلطة والطاعة في جهة واحدة هي الدولة . من هذه الناحية فان السلطة والدولة والسياسة ، كلها كائنات اعتبارية ارضية ، اوجدها الناس لتنظيم امورهم ، وهم شركاء فيها شراكة اصلية بمقتضى الطبع الاولي ، وهي لم تقم الا على هذا الاساس ولا تستمر الا به.

استقطبت طروحات هوبز الكثير من النقد ، ولا زالت دراسات في نقد "لفياثان" تظهر بين حين واخر. لكنه مع ذلك لا زال ينظر اليه باعتباره مؤسس الفلسفة السياسية الحديثة ، والرجل الذي اضعف مرجعية الفلسفة اليونانية  القديمة ، فحولها – في نظر الباحثين - من مصدر وحيد للتفكير في السياسة الى مجرد تاملات خيالية ، اقرب الى الاخلاقيات الرومانسية منها الى تصوير السلوك الطبيعي للانسان.

اواخر مارس 2005

مقالات ذات علاقة

من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

26/02/2005

من أجلنا لا من اجل بوش


دعوة الرئيس الامريكي الاسبوع الماضي الى دعم مسيرة الديمقراطية في العالم الثالث ، وفرت فرصة للحديث المكرور عن فرض الديمقراطية من الخارج ، والنفاق الامريكي في دعوة الدول النامية الى رعاية حقوق الانسان ، بينما يخرق جنودها ابسط حقوق السجناء في العراق وافغانستان وكوبا الخ..
جورج بوش
ولا شك ان سجل الحكومة الامريكية في مجال حقوق الانسان داخل بلادها ليس سيئا ، بالقياس الى سجلها الخارجي الذي لا يمكن امتداحه بأي حال. لكن ما ينبغي الاهتمام به هو وضع حقوق الانسان في مجتمعنا العربي وليس في اميركا. اذا كانت اميركا سيئة فلتذهب الى الجحيم ، لكن ماذا عنا نحن العرب هل نذهب الى الجحيم ايضا, ام نسعى لاصلاح حالنا بغض النظر عما يقوله الامريكيون وما يفعلونه.
المسألة ببساطة تدور حول واحد من احتمالين :
 اما ان حقوق الانسان في المجتمعات العربية مرعية او انها ناقصة. اذا كانت مرعية فليكشف العرب ذلك للعالم وليدعوا القاصي والداني كي يراها في الأنظمة والقوانين والاعلام.
 اما اذا كانت ناقصة فليقولوا الحقيقة لانفسهم وللعالم. كثير من مجتمعات العالم - ومن بينها المجتمعات الغربية جميعا - لا تخجل من الاقرار بأن حقوقا معينة تهدر او تنتهك لمبررات امنية او اقتصادية او ثقافية او غيرها, او لقصور على المستوى القانوني او الاجتماعي.
حقوق الانسان ليست مجرد عنوان, بل هي منظومة من المفاهيم والمعايير وطرق العمل التي ينبغي ان تحترم بشكل تفصيلي. ولكي يتحقق هذا الاحترام فانه يجب الاقرار بضرورتها, ثم وضع القوانين ولوائح العمل التي تعرفها وتحدد كيفية رعايتها, واخيرا تحديد الوسائل القانونية لتمكين عامة الناس من التظلم والشكوى اذا تعرضت حقوقهم للهدر والانتهاك.
قبل بضعة ايام احتفلت بعض الصحف العربية ، بقرار مجلس اللوردات البريطاني الذي الغى قانونا اقره البرلمان ، يسمح باحتجاز المتهمين بالارهاب دون محاكمة ، ولفترة غير محددة. ألغي القانون بناء على شكوى من سجين مسلم قال ان احتجازه دون محاكمة ، ينطوي على خرق لحقوقه الانسانية. وجادلت الحكومة بأن القانون ضروري للوقاية من اعمال ارهابية وشيكة. لكن مجلس اللوردات قرر ان هذا لا يبرر التغاضي عن حق المتهم في الحرية او الدفاع عن نفسه امام المحكمة. وقد ادعت الحكومة ان لديها ادلة كافية للادانة ، لكنها لا تريد عرضها امام المحكمة خشية انكشاف مصادرها الامنية. فأجابها المجلس بأن عليها في كل الاحوال ان تكشف تلك الادلة ، لتمكين المتهم من الطعن فيها.
وقد جرت عادة بعض العرب على العودة الى مكتبتهم ، كلما اثير موضوع حقوق الانسان ، واستخراج القصص التاريخية عن رعاية الاسلام لحقوق الانسان ، بما يُوازي ما يفعله الغربيون ويزيد. لكنهم ينسون - عادة - ان هذا كله كلام لا علاقة له بالموضوع ، لان المتهم بهدر حقوق الانسان ليس المجتمع الذي عاش في القرون الغابرة ، بل مجتمع المسلمين المعاصر ، بمن فيه من موجهين ومثقفين ومفكرين ودعاة ، واصحاب نفوذ وآباء وأمهات وأفراد.
قضية حقوق الانسان هي ابرز التحديات التي تواجه المجتمعات العربية في هذا الوقت. وسواء امتدح العرب الآخرين او قدحوا فيهم ، فان رأيهم لا ينبغي ان يكون مدار الاهتمام. يجب ان يتركز اهتمام العرب على ضمان هذه الحقوق لكل مواطن ومقيم. انه حق ثابت لكل انسان ، لا يستطيع احد ، قانونياً كان أو فقيها او تاجرا او شيخ قبيلة او زعيم حزب او مفكرا ، ان ينكره عليه. اذا اراد بعض الناس ان يتنازلوا عن حقوقهم فذلك شأنهم. لكن لا يجوز في اي حال ان نحرم احدا حقوقه رغما عنه.
من الجدير بالعرب ان يعيدوا النظر في الكثير من القوانين والتعليمات والممارسات التي تهدر فعليا حقوقا اولية واصلية للانسان ، في معيشته أو حياته.. الخ. واول الطريق الى هذه الغاية هو فسح المجال امام النقاش الحر بما يتضمن من نقد واقتراح للبدائل. المجتمع الذي يتمتع فيه الناس بحقوقهم وحرياتهم اقدر على الصمود امام التحديات والتهديدات, وهو اقوى على احتواء المشكلات والتوترات. تجربة العالم خلال القرن العشرين تكشف ان حركة المجتمع نحو التقدم العلمي والاقتصادي والتحرر من وصاية الآخرين لاتكتمل إلا إذا شعر افراده بان حقوقهم مصانة.
  - « صحيفة عكاظ » - 26 / 2 / 2005م  

19/02/2005

فضائل المال وبدائل المال


يجسد صعود الرئيس رفيق بهاء الدين الحريري مثالا على التغير الذي شهده المجتمع العربي خلال الربع الأخير من القرن المنصرم. الرجل الذي بدأ حياته معلما في مدرسة, تحول في اقل من عشرين عاما الى زعيم سياسي يتجاوز قوة ونفوذا جميع العائلات السياسية العريقة التي عرفها لبنان.
رفيق الحريري في “حكاية إنسان”.. مواقف قد لا تعرفها عن الرئيس ...
 نجاح هذا الرجل هو مثال على الفارق بين ثلاث شرائح من الاثرياء : شريحة دخلت الى عالم المال من بوابة السياسة, فاستثمرت نفوذها السياسي كي تجمع المال, وشريحة دخلت الى عالم السياسة من بوابة المال, اي استثمرت مالها كي تشتري المجد.
  اما الشريحة الغالبة من الاثرياء العرب, فهم الذين دخلوا الى عالم المال فلم يخرجوا منه ابدا, بل لقد تحولت ثروتهم الى قيد على السنتهم وايديهم. بدل ان يستخدموا هذه الثروة كي يصبحوا عظماء يشار اليهم بالبنان, فقد رضوا بان يبقوا حراسا على الخزائن خوف ان تفرغ او تنقص, وهم لهذا راضون بالبقاء في ظل هذا او ذاك من الاقوياء واصحاب السلطان.
تجربة الحريري تؤكد ان الشريحة الوسطى لا تنقصها الفرص اذا بحثت عنها. وان الانسان لا يفتقر اذا اعطى الكثير من المال, بل هو يزداد في هذا المكان او ذاك. عطاء الحريري لم يكن من نوع الصدقات الصغيرة التي يدفعها الاثرياء كي لا يعاتبوا, بل من نوع الاعمال التأسيسية التي تتزاوج فيها المغامرة مع الرؤية, والشجاعة مع سعة الخيال, والسخاء مع الحساب العقلاني .
في منتصف الثمانينات, حينما كان لبنان يشتعل في حربه الاهلية, التقيت في الولايات المتحدة الامريكية بعدد من الطلبة اللبنانيين الذين اخبروني انهم يدرسون على حساب الحريري, وقيل لي ان عددهم يتجاوز بضعة الاف, وعلمت لاحقا ان هذا المشروع قد ضم في مختلف مراحله ما يصل الى ثلاثين الف طالب جامعي. ولا ادري كم دفع الحريري في ذلك المشروع لكن الرقم يدور قطعا حول مئات الملايين من الدولارات.
تجربة اعادة بناء الوسط التجاري لمدينة بيروت هو مثال آخر على امتزاج المغامرة بالرؤية, فلولا مساهمته الأولى بنحو ربع رأس مال الشركة التي تولت هذه المهمة الكبرى لما اقدم غيره عليها. ان رجلا يضع ربع مليار دولار في مدينة مهدمة تحتوشها الحرب والخراب والنزاعات والتدخلات الاجنبية ليس مجرد تاجر يسعى وراء الثروة بل صاحب رؤية لا ينقصه الحساب.
صعود الحريري أدى عمليا الى تهميش معظم النخبة المسلمة التقليدية التي اعتاد أبناؤها على أن يكبروا كي يرثوا مناصب آبائهم في الدولة اللبنانية. ليس لان هؤلاء يفتقرون الى الخبرة السياسية والقدرة على اعادة صياغة التحالفات, بل لان المجتمع اللبناني تغير ولأن الزمن تغير. لبنان ما بعد الحرب الأهلية هو مجتمع الطبقة الوسطى التي استوعبت العالم الجديد وضروراته.
كان الحريري علامة على زمنه. في كل بلد عربي هناك مغامرون وسياسيون ناجحون وفاشلون وأصحاب رؤية ورجال اسخياء واثرياء بخلاء. كل واحد من هؤلاء قادر على أن يصنع مجداً لنفسه, ويحول اسمه من مجرد رقم على جواز السفر أو تكملة لعنوان شركة تجارية الى علامة على زمن باكمله. لكن بلوغ هذه المكانة يحتاج الى ما هو أكثر من الرغبة وما هو اكثر من الذكاء. انه يحتاج ببساطة الى ربط بين العناصر المكونة للمجد, وابرزها القدرة على السخاء بالكثير والقدرة على توجيه هذا السخاء في المجالات التي تؤدي فعلاً إلى إعادة بناء المجتمعات.
 لا أظن أن أحدا انفق على تعليم الشباب اللبناني من ماله الخاص قدر ما انفق الحريري, و لا اظن احدا ساعد على توفير فرص العمل والاثراء لعامة الناس مثلما فعل الحريري ترى كم من الاثرياء والسياسيين الطامحين يقدر على تكريس جانب من ماله وجهده لمثل هذين الجانبين.
الذي يملك عشرة ملايين (وهناك الكثيرون ممن يملكون هذا القدر) لا يضيره أن يدفع نصفها لمساعدة الشباب في بناء حياتهم من خلال التعليم او - بصورة عامة - الاستثمار في البنية التحتية للمجتمع. لكن كثيرا من الذين يملكون هذا القدر ينظرون الى انفسهم كحراس على هذا المال, حراس يقتصر دورهم على نقله الى ورثتهم من بعدهم, كما تفعل الشركات الأمنية التي تنقل المال بين البنوك. من يملك عشرة ملايين يستطيع العيش في رفاهية بنصفها أو ربعها, لكن كم من الناس يريد تغيير وظيفته من حارس للمال الى زعيم يبكيه الملايين حينما يموت?.
« صحيفة عكاظ » - 19/02/2005م -  

29/01/2005

المجتمع المدني كاداة لضمان الاستقرار

  تصريحات سمو وزير الدفاع الامير سلطان بن عبد العزيز بشأن توسيع صلاحيات مجلس الشورى وزيادة عدد اعضائه أحيت الامل بتواصل مسيرة الاصلاح وصولا الى تحقيق مشاركة شعبية كاملة في الحياة السياسية . المشاركة السياسية الواسعة ليست فقط مطلبا عاما بل هي ايضا وسيلة رئيسية لتعزيز الاستقرار السياسي والاجتماعي ومعالجة التوترات التي يمكن ان تؤدي الى اختلال النظام العام.
مجلس الشورى - الرياض
ادى الاختراق المتزايدة للحداثة الى تعقيد ممارسة السلطة في المجتمعات التقليدية. وازداد هذا التعقيد بفعل ثورة الاتصالات والتطور الهائل في تقنيات انتقال المعلومات التي تجتاح العالم . حتى اواخر الربع الثالث من القرن العشرين ساد اعتقاد ، بان احتكار الحكومات لوسائل الاتصال المتقدمة ، كان ابرز العوامل التي مكنتها من توزيع الموارد العامة ، بصورة تضمن سيطرة مركزية شبه مطلقة على حركة المجتمع. لكن انتشار التقنيات الرقمية ، ولا سيما تحول الكمبيوتر الى سلعة منزلية ، ادى بصورة متزايدة الى انهيار ذلك الاحتكار. فمع انتشار وسائل الاتصال ، تغيرت منظومات العمل ووسائل كسب الثروة ، كما تغيرت ايضا وسائل التاثير في الراي العام ، وصار من الممكن للكثير من الناس ، الذين لا يتمتعون بالمقومات المادية للنخبة القديمة ، ان يضعوا ارجلهم على سلم الارتقاء الاجتماعي ، بالاعتماد على الوسائل التي وفرتها الحداثة .

 نتيجة لهذا اصبح في الامكان رؤية ما يمكن وصفه بنخبة جديدة ، على مستوى العالم وعلى مستوى المجتمعات المحلية ، نخبة تتمتع بقدرة على التاثير في الراي العام ، رغم انها لا تتمتع بمقومات الارتقاء التي كانت متعارفة في الماضي ، ولا سيما تلك التي ترجع الى رابطة القرابة او التواؤم الثقافي. مثل هذا التطور يتطلب بصورة ملحة ، اعادة تنظيم المجتمع لتمكين هذه الطبقة الجديدة ، من التعبير عن نفسها ضمن اطارات قانونية ، وهي ما يمكن وصفه في الجملة بمنظمات المجتمع المدني .
لا يخلو مجتمع في اي بقعة من العالم من مسببات للانزعاج ، والانزعاج قد يكون فرديا او بسيطا وقد يكون واسعا بحيث يمكن مقارنته بظاهرة عامة . لكن في كل الاحول فان منظمات المجتمع المدني هي ادوات مثالية لتاطير ذلك الانزعاج وحصره في نطاق محدود ، ثم تحويله من مبرر للتمرد على النظام العام ،  الى مجرد موضوع للنقاش . وفي بعض الحالات تحويله من غضب احتجاجي ، الى مطلب شرعي قابل للمعالجة بصورة نظامية وفي اطار القانون الوطني. منظمات المجتمع المدني هي ادوات لتاطير نشاط النخب الجديدة وعامة الناس ، ولا سيما من الجيل الجديد ، غير القابل للضبط في الاطارات الاجتماعية القديمة. في هذه الحالة فان عملية الضبط لا تتخذ شكل القهر ، بل تنظيم مخرجات النشاط بحيث لا تتجاوز حدود النظام العام . غياب هذا النوع من الاطارات او ضعفها او تحديدها في نطاقات صغيرة ، يحرم المجتمع من فرصة لعقلنة التعبيرات الجديدة الناتجة عن تغير القيم والعلاقات الاجتماعية ، او المشكلات الناتجة عن التباين بين الافراد في القدرة على استيعاب التغيير والتعامل مع افرازاته .

المجتمع المدني المنظم هو احد الصيغ الاكثر فاعلية ، لتاسيس مفهوم للمشاركة الشعبية يقوم على التواصل بين الحلقات الاجتماعية الدنيا من جهة ، والنخبة السياسية وهيئات اتخاذ القرار من جهة ثانية ، وهو وسيلة لتحويل المطالبات العامة من خلفية للانزعاج – وبالتالي للخروج على النظام العام – الى حوار تفاعلي ، يعين المسؤول الرسمي على قياس شعبية السياسات وبرامج العمل .

مع الاتجاه القائم الى تطوير تجربة مجلس الشورى ، فانه ينبغي ايضا النظر الى الموضوع ضمن افقه الاوسع ، اي باعتباره خطوة لتوسيع مشاركة المجتمع في الحياة السياسية . وفي هذا الاطار فان عملية التطوير يجب ان لا تغفل الحاجة الحقيقية ، الى ادماج المجتمع ضمن العملية السياسية ، وفي ظني ان تسهيل قيام منظمات المجتمع المدني وتوفير المساعدة القانونية الضرورية لتمكينها من النضج ، هو الوسيلة المثالية لتحقيق هذا الغرض.

 ( السبت - 19/12/1425هـ ) الموافق  29 / يناير/ 2005  - العدد   1322
www.okaz.com.sa/okaz/Data/2005/1/29/Art_185158.XML

22/01/2005

من التوحيد القسري الى التنوع في اطار الوحدة

 مقالتا الزميلين الاستاذ سعد الموسى والاستاذة مرام مكاوي (الوطن 19 يناير) تمثلان نموذجا على نسق من التناول المعمق للمشكلات التي تواجه مجتمعنا ، يتمايز عن الكم الكبير من الكلام الذي ينشر في الصحافة او يظهر على شاشات التلفزيون ، والذي لا يقدم شيئا سوى تكرار ما قيل ، مما لا يقدم او يؤخر ولا يزيد علما ولا يرسي فهما . مقال الموسى حاول ان يضع مشكلة العنف السياسي ضمن اطارها الاجتماعي- الثقافي كواحدة من ثمار التنمية غير المتوازنة . وهو يؤكد على الحاجة الى فهم العلاقة بين قابلية المجتمع لاستنباط العنف السياسي ومقوماته الثقافية والمادية ، ولا سيما انعكاس التحول في المقومات المادية على رؤية الانسان للذات والعالم . ويدعم الموسى رايه بما يسميه خريطة الارهاب حيث يشير الى ان انتشار العنف في مناطق محددة وانحساره في مناطق اخرى هو ثمرة لاختلاف في العلاقة بين مسار النمو الاقتصادي ومخرجاته الثقافية بين هذه المناطق.
مقال الاستاذة مكاوي يركز على الحاجة الى فهم التنوع الثقافي بين مناطق البلاد باعتباره اساسا لنماذج مختلفة من السلوك وانماطا متنوعة من الحياة ، وبالتالي رؤية مختلفة للذات والعالم . لفترة طويلة اعتاد الكتاب والمتحدثون على انكار هذا التنوع لصالح التركيز على وحدة الثقافة . وهذا المفهوم ينطوي على خلط بين المستوى القاعدي للثقافة ، او ما يسمى بالثقافة الشعبية التي تشكل في حقيقة الامر خلفية الفعل الجمعي ، ويين المستوى الفوقي من الثقافة او ما يسمى بالثقافة العالمة ، اي تلك الافكار التي يحصل عليها الانسان من خلال التعلم المباشر من الكتب او المدرسة او المسجد. واظن اننا جميعا قد تاثرنا بالميل الذي ساد في الستينات والسبعينات من القرن الميلادي المنصرم ، الميل الى التوحيد القسري للافكار والتوجهات باسم القومية العربية اولا وباسم الاسلام تاليا وباسم الوحدة الوطنية في معظم الاحوال. هذا النوع من التوجيه يقوم على فكرة خاطئة خلاصتها ان اي انتماء دون هذه الدوائر الثلاث ، هو نقيض ضروري لكل منها ، لذلك قيل مثلا ان الانتماء القومي نقيض للدين ، او ان الانتماء الديني – او المذهبي – نقيض للمواطنة ، او ان الانتماء الاقليمي نقيض للعروبة وهكذا . لذلك يصر بعض الناس على انهم سعوديون اولا ، ويصر غيرهم على انهم مسلمون اولا ويصر البعض على انهم عرب اولا واخيرا .

هذا التوحيد القسري يؤدي بالضرورة الى تصور المجتمع كله كشريحة واحدة متماثلة في السمات والدوافع وردود الفعل. اي بكلمة اخرى الغاء الشخصية الفردية او المجتمعية الخاصة بكل مجموعة . البناء على هذه الرؤية في اتخاذ القرار يؤدي بالضرورة الى تناقضات وتعارضات ربما لا تسهل معالجتها . بل ربما تولد انواعا من المشكلات اكثر عسرا من تلك التي اريد معالجتها .

الاقرار بالتنوع الفعلي في السمات المجتمعية يعني ان نشجع كل وحدة من الوحدات التي تمثل المجتمع الوطني الكبير على التعبير عن ذاتها الخاصة وسماتها الخاصة ، الثقافية والاقتصادية والدينية ، ضمن قنواتها الخاصة او ضمن القنوات الوطنية المشتركة ، حينئذ ستجد كل مجموعة ان خصوصيتها قابلة للتكامل مع خصوصيات الوحدات الاخرى ، وقابلة للاندرج ضمن الاطار العريض للوطن الواحد.

- هل لهذا الامر علاقة بمعالجة المشكلات الوطنية ، ومنها مشكلة العنف السياسي ؟

- ثمة اتفاق بين الاجتماعيين على ان كل مجتمع هو عبارة عن منظومة من القيم والعلاقات واليات الضبط . في كل بلاد العالم ، تلعب المنظومة الاجتماعية الدور الابرز في صيانة النظام العام ، ويتجاوز دورها الى حد كبير دور المؤسسات الرسمية ، سواء تلك المعنية بالتوجيه او الردع . الاكثرية الساحقة من الناس لا يقومون بافعال مشينة لانهم تربوا على اعتبارها خطأ ، ولان علاقاتهم الاجتماعية ، اي نظام المصالح الذي يعتمدون عليه في حياتهم لا يقبل بذلك النوع من الافعال . هذا مثال واحد على فاعلية النظام الاجتماعي في معالجة المشكلات . اذا اردنا استنهاض المجتمع لمكافحة المشكلات الكبرى كالعنف السياسي مثلا ، فاننا بحاجة الى تمكينه من اكتشاف ذاته . اكتشاف الذات الحقيقية في ابعادها المختلفة يتوقف على الخروج بها من حالة التكتم الى حالة العلانية والاقرار بها كتعبير مشروع ومقبول عن خصوصية قابلة للتفاعل مع بقية المكونات الاجتماعية في الوطن ، لا باعتبارها "طائفة" غريبة الاطوار ، او "قبيلة" متخلفة التفكير ، او "اقليما" يملؤه الغرور.

http://www.okaz.com.sa/okaz/Data/2005/1/22/Art_183477.XML    

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...