تعقيبا على حديث الاسبوع الماضي حول تطبيقات الحداثة التي باتت جزء من حياتنا اليومية ، قال احد الزملاء ان السلوك العقلاني في المجالات التي ذكرنا امثلة عنها ، أداتي محدود الأثر. ومقصوده ان المجتمع يعيش في ظل الحداثة ويمارسها ، لكن من دون ان تغير بنيته الذهنية التقليدية.
هذا مثال عن إشكالات رائجة تطرح في سياقات متفاوتة. وهي تشير الى مشكلتين ، اظنهما مصدر التباين في آراء الناس ومواقفهم حيال الحداثة. المشكلة الأولى هي المسافة بين ثقافتنا الموروثة وبين المضمون الثقافي للحداثة ، المخالف لما ورثناه وألفناه. أما المشكلة الثانية فتتعلق بما يبدو مسارا أحاديا لا خيار فيه: إما الحداثة او العيش على هامش العصر.
سوف اتعرض لهاتين المشكلتين في السطور التالية. لكن
يهمني أولا التأكيد على ما سبق ان طرحته ، وهو ان الحداثة ليست قصرا على النتاج
الأدبي ، بل يسعني القول ان ابرز تجلياتها تقع في الحياة المادية اليومية ، وذكرت
من بين جوانبها السوق والتعليم والصحة ، وأحسب ان هذه القطاعات تشكل الجانب
الرئيسي من الحركة اليومية للفكر والبشر والمال ، في أي مجتمع في شرق العالم او
غربه. صحيح ان الحداثة لازالت غير مكتملة ، الا ان ما نراه من تطبيقاتها التي
تتزايد يوما بعد يوم ، يؤكد على نحو قاطع انها باتت سمة رئيسية لحياتنا اليومية وتفكيرنا
في المستقبل.
بالعودة الى المشكل الأول الذي زعمت انه مصدر للتباين
في مواقف الناس تجاه الحداثة ، فالواضح ان كل مجتمع يتخذ موقف المتشكك تجاه أي
وافد جديد ، خاصة لو رآه معارضا لمألوفه الحياتي او الثقافي ، او العناصر المؤلفة
لهويته. وقد ذكرت في حديث الأسبوع الماضي ان العقل هو محور الحداثة ، ونتاجه ، اي
العلم البشري ، هو مصدر شرعية الأفعال ، ومعيار التمايز بين ما يصنف صحيحا وما يصنف
خطأ أو فاسدا. ثم ان الحداثة لا تقيم وزنا للماضي ، بل تعتبر فعل الانسان في حاضره
موضوعا وحيدا للنقاش والتقييم ، وان قيمته مرتبطة بما ينتج عنه الآن ، او ما يترتب
عليه في المستقبل.
الماضي – في الثقافة الحداثية - مخزن للمعرفة ،
يرجع الانسان اليه ان شاء ، يعمل فيه من اجل معرفة أدق وأعلى ، مرتبطة بزمنها
الراهن. بعبارة أخرى فانه ليس للزمن سلطة فوق العقل ، كما ان الماضي على وجه
الخصوص لا يتمتع بأولوية او فوقية على الحاضر. بل العكس تماما هو الصحيح ، فقد
يكون العلم نتاجا صرفا للحاضر ، او قد يكون امتدادا متطورا عن علم بدأ في الماضي
ولم يكتمل. في كلا الحالين ، فان علم الحاضر اعلى قيمة من نظيره القديم.
هذه الفكرة ، أي غلبة الجديد على القديم ، في
القيمة والاعتبار ، اقوى من أن تقاوم ، لأن الناس يرون ثمراتها الواقعية. وهذا
بالضبط هو سر المشكل الثاني ، اي كون الحداثة طريقا جبريا لا خيار فيه. هذه مشكلة
عسيرة فعلا ، لكننا لا نملك خيارات ازاءها. ان اعتزال العالم ليس خيارا. وقد
ابتلينا خلال نصف القرن المنصرم بطائفة من الناس اتخذوا التخويف من الحداثة عملا
يوميا ، حتى ترسخت قناعة لدى شريحة واسعة من الناس ، فحواها ان تقبل الحداثة يعني تسهيل
هيمنة الغرب وزوال الدين والهوية. هذا الخطاب الذي جرى تسويقه على نطاق واسع جدا ،
زرع ما يمكن وصفه بعقدة ذنب في انفس الناس الذين يرون بعقولهم فضائل الحداثة ،
لكنهم يخشون ارتكاب الخطيئة.
ربما لهذا السبب نرى من الشائع في مجتمعنا ان يعيش
الناس حقيقة الحداثة ويمارسونها كل ساعة ، لكنهم يلبسونها عباءة التقاليد. هذا لا
يعني ان ذهنيتهم غارقة في التقليد ، كل ما في الامر ان الحداثة لا زالت غير مكتملة
، وليست – بعد – خطابا مهيمنا.
الخميس - 26
مُحرَّم 1446 هـ - 1 أغسطس 2024 م https://aawsat.com/node/5045985/
مقالات ذات صلة
ثقافة المجتمع.. كيف
تحفز النمو الاقتصادي او تعيقه
الحداثة
باعتبارها حاجة دينيّة وواجباً أخلاقياً "عرض لكتاب الحداثة كحاجة دينية
الحداثة
كحاجة دينية -النص الكامل للكتاب
حول العلاقة بين
الثقافة والاقتصاد
د. السيف: فقد الدِين
وظيفته الاجتماعية لأنه أصبح حكرا على طبقة خاصة