اريد في هذه السطور تبسيط فكرة
العلاقة بين العقل والنقل ، واعني بها تحديدا وظيفة العقل كمصدر للتشريع ، مواز
للكتاب والسنة. والحق انها فكرة ثقيلة ، لكنها ليست معقدة ، كما قد يظن. على أي
حال ، لو تأملنا السيناريو الواقعي لدور العقل في التشريع ، لوجدنا انه ينصرف
الى معنيين في الغالب: الأول هو العلم في مختلف حقوله ، الطبيعية
والتجريبية والنظرية ، والثاني هو ما نسميه عرف العقلاء او بناء العقلاء (مع
ملاحظة الفرق بينهما). وسوف اركز في السطور التالية على الأول، أي العلم. فهم الزكاة في اطار السعي لاقرار العدالة الاجتماعية يتطلب تغيير مفهومها الفقهي جذريا
نستذكر هنا ان علاقة العلم بالدين قد أسالت انهارا من الحبر. وأجمع الإسلاميون قاطبة ، على تعظيم الإسلام للعلم ، كما دأبوا على تمجيد المساهمات الجليلة لعلماء العصور الإسلامية القديمة في مختلف الحقول. واحسب ان هذا بات من المسلمات التي لا تحتاج الى مزيد كلام.
لكن الذي يحتاج الى مراجعة ، هو السؤال التالي: هل نفهم تعظيم الإسلام للعلم ، باعتباره احتفاء بشيء خارج حدوده ، مثلما نحتفي بضيف غريب ، ومثلما نحتفل بفوز فريقنا في دوري كرة القدم ، ام انه بمثابة إقرار بالدور الحيوي للعلم في حياة الدين وأتباعه ، مثلما نقر بدور المهندس في تخطيط بيتنا ومدينتا ، ومثلما نثق بدور الطبيب في علاج اجسامنا. دعنا فقط نتخيل الفرق بين مهندس توكل اليه تخطيط بيتك ، فتلتزم بتطبيق الخريطة التي رسمها لك ، وبين مهندس نستمع اليه ثم نحتفي به ونفخر بوجوده بيننا ، لكننا لا نعتمد عليه في أي عمل. هذا هو على وجه التحديد ، الفرق بين حالة الدين الذي يعظم العلم ، ثم يعتمد عليه في تحديد مسارات عمله وتنظيم حياة اتباعه ، وحالة الدين الذي يحتفي بالعلم ثم يرسله الى المكتبة أو المتحف ، كي يستريح هناك حتى موعد الاحتفال التالي.
اعتقد ان أكثر الناس لن يقبلوا بالاقتصار على الدور الاحتفالي للعلم. لكني لست واثقا ان عدم قبولهم ، يعني تقبل دور المهندس او دور الطبيب الذي اشرت اليه آنفا. دعني اضرب مثالا ، يوضح معنى دور المهندس او الطبيب بالنسبة للدين: نعلم ان الغرض الأبرز لتشريع الزكاة مثلا ، هو دعم الفقراء والمساكين. في أيامنا هذه ، طور علماء الاقتصاد طريقة للقضاء على المسكنة ، من خلال كسر تسلسل الفقر عبر الأجيال ، وكسر العوائق الاجتماعية التي تعيق الحراك الطبقي ، وتمكين الفقراء من الوصول الى الموارد والفرص المتاحة في المجال العام. هذا هو جوهر نظرية العدالة الاجتماعية ، في النسخة المساواتية التي طورها امارتيا سن ، وتم تحويلها الى سياسات تفصيلية ، ذات اهداف محددة كميا وكيفيا ، في اطار برنامج التنمية البشرية الذي تبنته "الأمم المتحدة". وتظهر التقارير السنوية ان هذا البرنامج كان له أثر عظيم في تحسين مستوى المعيشة ، في المناطق الريفية الأشد حرمانا.
حسنا.. هذا يظهر ان لدينا بديل عن الزكاة ، يحقق غاياتها بصورة أوسع واعمق ، وهو بديل يستند الى دراسات اقتصادية واجتماعية ، وترتبط به أدوات قياس ومعالجة ميدانية. فهل نأخذ به ، ام نواصل التغني بفضل الزكاة ورمزيتها للتكافل الاجتماعي ، ام نطور مفهوم الزكاة بحيث يستوعب البديل العصري ، ولو أدى الى الغاء الاحكام القديمة المعروفة عند الفقهاء؟.
أعلم ان كثيرا من القراء سيتوقفون في هذه النقطة. وربما ذهب بعضهم باحثا عن مخرج رابع. لكني أردت الإشارة الى المعاني النهائية لما نفكر فيه ، لأن لكل خيار ثمن ، وأن قيمة الأشياء رهن بما تحدثه من تغيير في الحياة الواقعية. هذا يوضح في الحقيقة واحدا من أسباب القلق الذي يثيره نقاش العلاقة بين العقل/العلم وبين النقل ، وكان الغرض منه هو إيضاح ان جدل العقل والنقل ينصرف غالبا الى معنى علاقة العلم بالنقل وعلاقته بالدين عموما.
الشرق الأوسط الأربعاء - 19 محرم 1444 هـ - 17 أغسطس 2022 مـ رقم العدد [15968]
https://aawsat.com/node/3820711