22/06/2022

نهاية المدن الفاضلة

 

تنسب أسطورة الاخ الاكبر المعروفة في الحياة السياسية والأدب الى جورج اورويل. وهو اسم مستعار للمفكر الإنجليزي إريك آرثر بلير (1903-1950). دارت أبرز  كتابات اورويل حول مسألة الحرية الفردية ، ولا سيما في اطار التنازع بين خيارات الافراد وحدود القانون. واحتمل ان قلقه تجاه هذا الموضوع ، يعود للجدالات التي عرفتها أوروبا الغربية ، خلال الحرب العالمية الثانية والسنوات القليلة التي تلتها ، وتركزت على حق الدولة في تحديد الحريات المدنية ، بدعوى الحاجات الأمنية أو الاستراتيجية المرتبطة بالحرب. 

جورج اورويل (1903-1950)

كانت فكرة الدولة القوية المهيمنة ، التي تنوب عن المجتمع في كل شيء وتتدخل في كل شيء ، قد حصلت على رواج كبير نسبيا ، بعد نجاح الحزب النازي بقيادة ادولف هتلر ، في تحويل المانيا من دولة فاشلة مهزومة وغارقة في الفوضى ، الى قوة عسكرية وصناعية تتحدى أوربا كلها ، خلال سبع سنين فحسب. وتعزز هذا الاتجاه مع نجاح الحكم الشيوعي في روسيا في تحقيق المساواة والأمان المعيشي للفقراء.

أثمرت تلك التحولات عن احياء حقل أدبي معروف في التاريخ الأوروبي ، يطلق عليه اسم "اليوتوبيا / المدينة الفاضلة". وهو حقل صغير نسبيا ، الا انه ملهم للباحثين عن حلول ، ولو كانت خيالية. الواقع ان معظم الحلول المستقبلية كانت في اول امرها تخيلات.

ويمثل التراث اليوتوبي مجالا يلتقي فيه من يسمون – في الفلسفة - مثاليين او كماليين ، مع العسكر والتكنوقراط المؤمنين بتفوق آلة الدولة وقدرتها على فعل المستحيل. يشترك هؤلاء جميعا في الايمان بالدولة المطلقة ، التي تلعب دور النبي والمعلم الأكبر ، العارف بكل شيء والقادر على كل شيء ، بينما يتخذ المواطنون دورا يشابه دور تلاميذ المدارس ، الذين يتلقون الحكمة والمعرفة من المعلم الأكبر.

نعلم ان اول الاعمال التي انتهجت طريق اليوتوبيا هو "جمهورية افلاطون" الذي ضم خلاصة الفكر السياسي والاجتماعي لليونان القديمة. أما آخر الكتابات التي تبعت هذا النهج فهو "يوتوبيات حديثة" للروائي  الإنجليزي هربرت ج. ويلز (1866-1946) الذي اقر باخفاق الحلول المثالية ، وأراد في الوقت ذاته ، تذكير الناس بأن وراء الأزمات الطاحنة التي خيمت على العالم يومئذ ، إمكانات لعالم اصفى واكثر رفاهية.

انتقد ويلز ما اعتبره ميولا أسطورية في اليوتوبيات التقليدية ، وتبنى عددا من قيم الاقتصاد الحديث. لكنه بموازاة ذلك ، تمسك بفكرة الدولة المهيمنة ، وسعى لتحسين صورتها من خلال وضع تدخلها في اطار قانوني محكم نوعا ما. وفي هذا السياق دعا ويلز لانشاء سجل عالمي ، يضم أسماء وعناوين وصفات البشر جميعا (يضم وفق تقديره 1500 مليون انسان) مع بصماتهم وملاحظات عن تحركاتهم وازواجهم وسوابقهم.. الخ ، كي يكونوا جميعا تحت نظر الدولة العالمية ، في أي وقت احتاجت لاستدعائهم او التخطيط لحياتهم.

اما اورويل فاختار الاتجاه المعاكس تماما ، حيث نشر في نفس الفترة ، روايتين نالتا شهرة عريضة ، هما "مزرعة الحيوان" في عام 1945 و "1984" في عام 1949. وتصنف كلا الروايتين في إطار اليوتوبيا المضادة او المدينة الفاسدة Dystopia. قدمت الروايتان تصويرا مفزعا عما يمكن ان يؤول اليه المجتمع ، حين تنشغل الدولة بمراقبة الناس ، أو تبالغ في وضع القوانين وفرض الضرائب.

من بعد اورويل باتت اسطورة "الأخ الأكبر " والمصطلحات الأخرى التي ابتكرها ، مثل "شرطة التفكير" و "جريمة التفكير" رموزا لرفض الميول الشمولية ، وتعبيرا عن إدانة الميل لمراقبة الناس والتحكم في حركاتهم ، سواء قامت به الدولة او الجماعات الاهلية. 

الشرق الاوسط الأربعاء - 22 ذو القعدة 1443 هـ - 22 يونيو 2022 مـ رقم العدد [15912]

https://aawsat.com/node/3716886/

 

مقالات ذات صلة

الأخ الأكبـــر

اساطير قديمة

الديمقراطية في بلد مسلم- الفصل الرابع

شرطة من دون شهوات

كلمة السر: كن مثلي والا..!

المدينة الفاضلة

نموذج مجتمع النحل

الموت حلال المشكلات

08/06/2022

نحو نسق/بارادايم ديني جديد

 

فكرة هذا المقال اقرب الى تفكير بصوت عال ، أتمنى ان يشارك الأصدقاء والقراء الأعزاء فيه ، وأرى ان الموضوع جدير حقا بالتأمل.

اما الموضوع فهو العلاقة بين الدين والمتدين ، الإسلام والمسلم خصوصا ، وهي مسألة لا تطرح للنقاش الا نادرا ، مع اني أظنها في غاية الأهمية. وهي تزداد غموضا مع زيادة احتكاك التقاليد الدينية بتحولات الحياة الحديثة. 


الصورة الحالية للعلاقة المذكورة ، اقرب الى تنازع صريح أحيانا وضمني أحيانا أخرى ، بين اتجاهين:

** اتجاه سائد في المجتمع الديني ، يدعو الانسان للتسليم بما بلغه عن الله ، من أمر ونهي وقيم وقواعد ، بلا تردد ولا شك ولا نقاش ، لأنه مكلف بطاعة ربه.

** اتجاه يتبلور تدريجيا ، كنتاج لتطور مكانة الانسان الفرد ، وشعوره بذاته المستقلة عن الجماعة. ويتجلى في ميل الفرد لمساءلة موروثه الثقافي والمسلمات الشائعة في محيطه الاجتماعي ، ومن بينها خصوصا ، القيم والاحكام الدينية ، التي يظهر بعضها كقيد على الحرية الشخصية.

 لقد مرت ازمان متطاولة ، ما كان الفرد المسلم فيها غير نقطة في بحر الجماعة ، شخصيته نسخة منها وهويته امتداد لهويتها. اما في هذا الزمان ، فان العالم كله ، يميل للتخفف من ثقل الهويات الكبرى والقوميات الممتدة ، وينظر للافراد كذوات مستقلة ، تشارك في توليف هويتها الخاصة ، كما تساهم في صياغة العالم الذي تعيش فيه.

لم يعرف تاريخ البشرية زمانا كهذا الزمان. لقد تراجع دور الدول والمنظمات الكبرى ، بينما تصاعد دور الأفراد في تطوير الاقتصاد الجديد والثقافة. وينسب الفضل في هذا الى التوسع الهائل لانظمة الاتصال الحديثة ، التي وفرت للافراد من مختلف الطبقات والفئات العمرية ، فرصا متعاظمة للتعرف على ثقافات العالم وتياراته وتحولاته. كما ان تزايد اعتماد العالم على التقنيات الرقمية والذكاء الصناعي ، جعل الافراد لاعبا رئيسيا في انتاج التطبيقات التي يحتاجها هذا الحقل ، وحولهم من أرقام في سجلات المنظمات الصناعية الكبرى ، الى صناع للارقام والمعادلات ، ومشاركين مؤثرين في تطوير اقتصاديات العالم الجديدة. ان المزيد من المعرفة يقود الى المزيد من تقدير الذات والمزيد من الاستقلال.

في تجارب اجتماعية سابقة ، كانت مثل هذه التحولات عاملا محركا للتساؤل حول ضرورة الأيديولوجيا وفائدة الايمان ، وحول علاقة الفرد بمصادر الأيديولوجيا والايمان. كما ان أسئلة مشابهة ، مطروحة بالفعل في مجتمعاتنا. ان كثرة ما يسمع من شكاوى حول ابتعاد الجيل الجديد عن التقاليد الدينية ، مؤشر على تفاقم تلك التساؤلات واخفاق المجتمع الديني في تقديم الأجوبة المناسبة.

في اعتقادي ان ظروف العالم اليوم ، تمثل فرصة سانحة لمراجعة النسق الديني بمجمله ، ولا سيما في اتجاه التحول من العلاقة القائمة على التلقي والانفعال (مثلما اشرت في مطلع المقال) الى علاقة تفاعلية ، تحقق احدى ابرز الغايات التي تستهدفها الرسالات السماوية ، أعني بها مشاركة الناس جميعا ولا سيما المؤمنين ، في إعادة انتاج نموذج للحياة الدينية ، يلائم حاجات العصر والزاماته.

لقد جرت العادة (وترسخت بمرور الزمن) على النظر للدين على انه نسق جمعي ، يتمثل في كيان اجتماعي خاص ، له أيديولوجيا رسمية وقيادة وتقاليد ، وهو محاط بسور يميز بين اهل الداخل واهل الخارج. جوهر فكرة التدين هو الانتماء الى هذه الجماعة.

وقد حان الوقت للانتقال الى نسق/بارادايم جديد ، يتمثل في ثقافة مشتركة جوهرها الورع والتقوى ، أي الخوف من الله والرغبة في العمل الحسن وتجنب الفعل القبيح. نسق يجمع بين بني آدم جميعا ، باعتبارهم مخاطبين بأمر الله ، من دون تمييز بين اهل الداخل والخارج.

الشرق الأوسط الأربعاء - 9 ذو القعدة 1443 هـ - 08 يونيو 2022 مـ رقم العدد [15898]

https://aawsat.com/home/article/3690591

مقالات ذات علاقة

«21» الفردانية في التراث الديني

«22» الهوية الفردانية

أن نفهم الآخرين كما هم لا كما نتصورهم

الانسان الذئب

تأملات في حدود الفردانية

تكون الهوية الفردية

حزب الطائفة وحزب القبيلة

الحق أولا

عن العالم المحبوب

في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

كهف الجماعة

كيف تولد الجماعة

المسألة القومية واستقلال الفرد

مكانة "العامة" في التفكير الديني

 

01/06/2022

معنى البعد الدنيوي للدين


بعض القراء الأعزاء عارض ما قال انه اتهام للدين الحنيف باغفال الدنيا. وهو يعني المقالات الثلاثة السابقة. كما جادل في صحة استخدام المعايير الدنيوية لاثبات او نفي الحقائق الدينية. وهو يعني بهذا دعوة الكاتب الى دراسة النتائح التي تمخضت عنها تطبيقات الأحكام الشرعية وآراء الفقهاء.

وقد وجدت هذا النقد متداولا بين كثير من الناس ، حتى ان احد الخطباء الكرام قاله على المنبر. والحق ان ما قيل لا يخلو من وجاهة ، حتى لو خالفته. ولذا أرى في مجادلته تعميقا للفكرة التي وددت بيانها في تلك المقالات ، أي البعد الإنساني/الدنيوي في التفكير الديني ، ودور المسلمين المعاصرين ، في انتاج تجربتهم الدينية ، من دون التزام بفكر الأسلاف واجتهاداتهم.

وأبدأ بقصة اهتمام الإسلام بالدنيا. فهذا أمر بديهي يعرفه جميع المسلمين. لكن القضية ليست في الاهتمام ، بل في المباشرة والتفاعل. كمثال: افترض ان مدير الشركة التي نعمل فيها ، اخبرنا انه مهتم جدا بالعمل ، ولهذا نشر مقالات ، يطلب منا قراءتها. سوف نقول ان هذا المدير مهتم ، لكنه لا يباشر العمل الإداري ، ولا يتفاعل مع يوميات الشركة. انه اقرب الى الاهتمام بالمراسلة ، حيث يتجلى الاهتمام الشعوري وليس العملي.

ان اهتمام الإسلام بالدنيا ، ينبغي ان يتجلى أولا في تفاعل قيم الإسلام واحكامه مع تحولات الدنيا وتطوراتها. التفاعل ينطوي على تشارك في الفعل بين الطرفين ، أي ان كلا منهما يؤثر ويتأثر ، وهكذا يتطوران معا. اما ما نراه في واقع الامر  ، فليس تفاعلا ، بل هو أقرب الى انفعال بتحولات العالم ، يجري الرد عليه بأحكام أحادية البعد ، لا تأخذ بعين الاعتبار حقيقة المشكلة وابعادها ، بل تعتمد على تصور ذهني يحدد اطارها القيمي فقط.

لقد ضربت في الأسبوع الماضي مثالا بالمشروع الضخم المسمى "المصرفية الإسلامية" التي لم تهتم أصلا بدور المال في الدورة الاقتصادية ، ولا باحتمالات الاستغلال ، ولا بالتوازن بين راس المال والعمل في توليد فائض القيمة ، ولا بالفارق بين الانفاق الاستثماري والاستهلاكي ، بل كرست كل اهتمامها لشيء أسموه "الفائدة المشروطة" واعتبروه وعاء الحكم.

ومن الأمثلة التي تذكر أيضا ، مسألة التبرع بالاعضاء باجر او بدون أجر ، من الميت او من الحي ، ومثله تشريح الجسد الميت ، وتفريقهم بين جسد المسلم وغير المسلم. والاحكام المعروفة في كل هذه الموضوعات راجعة الى روايات ، فسرها قدامى الفقهاء على نحو معين ، ثم جاء فقهاء اليوم فأخذوا بهذه التفسيرات وطبقوها على موضوعات ، لم يعرفها المسلمون أصلا قبل القرن العشرين. فكيف امكن لفقهاء عاشوا قبل قرون ان ينسبوا الأسماء  المعروفة لموضوعات لم تكن قد وجدت أصلا.

أعلم طبعا ان غالب الناس (وانا منهم في بعض الأحيان) سيردون على هذا القول بالجواب الاعتذاري المعروف ، وفحواه ان ما قيل لا يدل على قصور في الدين ، بل هو تقصير من اهله ، ولاسيما اهل العلم فيهم. لكن هذا قول ضعيف في رايي.

القول الذي أدعو اليه هو ان الدين مثل أي منظومة ثقافية/ايديولوجية ، لا يتطور الا اذا أنصت لصوت الزمن ، أي حاجات الانسان في كل عصر ، أيا كان دينه وطريقة عيشه ، ودخل في تفاعل إيجابي مع ذلك الصوت ، وتقبل احتمال التخلي عن بعض ما أنتهى دوره من قيم وأحكام ، وتبني قيم واحكام وطرائق عمل جديدة ، اقدر على تلبية حاجات الانسان في هذا الزمان. اعتقد ان هذا هو جوهر البعد الإنساني للدين في هذا العصر.

الأربعاء - 2 ذو القعدة 1443 هـ - 01 يونيو 2022 مـ رقم العدد [15891]

https://aawsat.com/node/3677131/

مقالات ذات علاقة

 التشريع بين المحلي والكوني

حول تطوير الفهم الديني للعالم

الخروج من قفص التاريخ

دعوة لمقاربة فقهية جديدة

الـدين والمعـرفة الدينـية

فقه جــديد لعصر جـديد

الفكــرة وزمن الفكـرة

 في مبررات العودة الى التاريخ

نسبية المعرفة الدينية

دواء لما بعد الموت؟

دعوة لترك المفاصلة والانفصال عن العالم

 

25/05/2022

دواء لما بعد الموت؟

 


في سياق الجدل الجاري حول التفكير الديني ، نبهني صديق الى أهمية التجربة الواقعية ، كدليل على سلامة الفكرة ، وقابليتها للنزول من رفوف المكتبات الى ميدان الحياة. ان دراسة التجارب والتطبيقات الفعلية للأفكار ، نادرة جدا في المجال الديني (لعلي أقول انها معدومة ، لكني لا أستطيع الجزم بهذا).

-         ماذا نعني بالتجارب الواقعية؟.

تخيل أنك سألت الطبيب: هل لهذا الدواء أي فائدة؟. فأجابك قائلا: نعم ، سوف تعرف الفائدة بعد وفاتك وليس في هذه الدنيا. فهل ستقبل نصيحته ، ام ستبحث عن دواء آخر ينفعك اليوم ، في هذه الحياة ، وليس في الآخرة؟.

لا يمكن طبعا مقارنة الدين بالطبيب او بأي شيء في الدنيا. لكن لو راجعنا ما يقال في سياق التعريف بالدين ، لوجدنا مثلا ان الإسلام تجاوز المسيحية في اهتمامه بالجانب المادي وإصلاح الدنيا. كما نقرأ  عند بعض العلماء تأكيدا لهذا المعنى ، مثل القول بان "الدنيا مزرعة الآخرة" ، وان "من لا معاش له لا معاد له".. والكثير مما يجري مجراها.

-         كيف اذن نفهم دور الدين في الدنيا؟.

-         يمكننا معالجة السؤال بثلاث طرق:

الأولى: تكرار القول بان الإسلام يهتم بالدنيا واستعراض النصوص التي تؤكد نفس الكلام.

الثانية: رد السؤال بسؤال مضاد استنكاري ، مثل القول: هل يعقل ان دينا بهذه العظمة ، يتبعه هذا العدد من الناس ، دينا اقام امبراطورية تمتد بين المشرق والمغرب ، هل يعقل ان دينا كهذا لا يهتم بالدنيا؟. او ننتقد الأديان الأخرى ، نظير القول: لماذا لا تسأل البوذيين عن موقع الدنيا في دينهم ، ولماذا لا تسأل الكاثوليك والهندوس.. الخ؟.

الطريقة الثالثة: ان نعرض أمثلة واقعية عن تطبيقات وتجارب ، تخبرنا ان السياسات او البرامج الدينية التي تم تطبيقها ، قد نجحت في تحقيق أهدافها ، خلال الوقت المحدد وبالكلفة المحددة.

واضح ان الطريقتين الأوليين سجال فارغ ، وان الثالثة هي التي ستقود النقاش ، لأنها تقترح تمثيلا واقعيا للنقاش النظري: تجربة تثبت صحة الدعوى او تثبت بطلانها. نتحدث طبعا عن التجارب المعاصرة. اما تجارب القرون السالفة فلا نعرف ظروفها ولا نملك معلومات دقيقة عنها. والحقيقة ان تدوين التجارب لم يكن تقليدا جاريا عند أسلافنا. ولذا لا نملك تفصيلات مفيدة عن حروبهم واقتصاديات مدنهم وغيرها.

توثيق التجارب المعاصرة ، يعني مثلا دراسة نتائج المشروع الضخم المسمى بالمصرفية الإسلامية: هل أدى الى انهاء الاستغلال الناتج عن الربا ، وهل زاد معدلات التنمية الاقتصادية ، وهل أسهم في توزيع الثروة؟. كذلك الحال في الزكاة (والخمس عند الشيعة) ، هل اثمرت عن انهاء الفقر وسوء التغذية. ومثلها تطبيق الحدود (في البلاد التي تطبقها): هل نجحت في انهاء الجريمة (بقياس تاريخي ، ومقارن مع الدول الأخرى ، وموضوعي يقارنها مع العقوبات غير الدينية)؟. كذلك الحال في قضايا الثقافة والتنمية البشرية والعلم والمعيشة والمساهمة في السلم الدولي.. الخ.

-         حسنا.. لماذا نتحدث في هذا الموضوع؟

ان غرضنا الأساس هو التأكيد على حاجة المسلمين المعاصرين ، لمراجعة المفاهيم والمسلمات الموروثة ، حول معاني النسبة للاسلام ، والبدء بالنظر العلمي والعقلاني فيما ينشر تحت عنوان الفكر الإسلامي او الفقه الإسلامي. لقد اعتدنا القاء الوصف الديني على كل رأي في قضايا الدنيا ، أمكن دعمه بآية او حديث. بل لعل بعضنا يعتبره ملزما للناس. لكننا نعرف من تجارب معاصرة ان كثيرا من الفتاوى والآراء والتفسيرات ، فشلت في اثبات صحتها عند التجربة ، وان بعضها مخالف لأوليات العلم او المنطق. فهل نريد دينا يصلح دنيانا ام نكتفي بالدواء الذي لن نكتشف جدواه الا بعد الموت؟.

الشرق الأوسط الأربعاء - 24 شوال 1443 هـ - 25 مايو 2022 مـ رقم العدد [15884]

https://aawsat.com/node/3664006/

18/05/2022

دعوة لترك المفاصلة والانفصال عن العالم


الغرض من هذه الكتابة ، هو الدعوة لترك "المفاصلة" كأساس لعلاقة المسلمين فيما بينهم ، وعلاقتهم مع غيرهم. ومعنى المفاصلة هو تحويل فهمك الخاص للدين او الايديولوجيا ، الى حاجز يفصلك عمن يخالفونك في بعض الأفكار او السلوكيات او طريقة العيش.

هذه دعوة تبررها حاجتنا المصيرية للتعلم من الأمم الأخرى. نحن لا نقود العالم ، ولا نستطيع التعلم منه دون تفاعل معه. أضف الى هذا ، ان تطور البشرية يأخذنا للمزيد من التوحد والاندماج ، سواء كنا ركابا في قطار الحياة ام كنا في مقعد السائق. الواقع ان الميل للانفتاح والاندماج هو ديدن الأمم الناهضة ، بينما تميل الأمم المنتكسة والمتخلفة ، للانكفاء على الذات ، لأن نوايا الاخرين مريبة.

شيرين ابو عاقلة (1971-2022)

المفاصلة وكراهة التواصل مع العالم ، لها جذور عميقة في التراث الديني ، وتجسدت في قواعد عقيدية (الولاء والبراء او التولي والتبري) وفي مسلمات عامة (نظير الاعتقاد بان الحق يعلو ولا يعلى عليه ، الذي يفسر بان المسلمين هم الاعلون على اي حال) ودعمتها مأثورات عرقية مشهورة عند العرب (مثل تفضيل جنس العرب ، وبشكل مطلق ، على بقية الأمم) ثم لحقت بكل ذلك احكام فقهية ، اجمع عليها الفقهاء ، نظير اعتبار دية الكافر نصف دية المسلم ، والتمييز في عقوبة القتل بين الاثنين ، وعدم ارث الكافر من مورثه المسلم.. الخ. ووصلت الى حد تحريم بعضهم الترحم على الام والاب والزوج ، ان ماتوا على غير الاسلام.

لعل القراء الاعزاء قد استذكروا الآن الجدل الساخن حول جواز الترحم على الصحفية الفلسطينية "شيرين ابو عاقلة" نظرا لكونها مسيحية. لحسن الحظ فقد اثمر ذاك الجدل عن نتيجة إيجابية ، حيث شجع الكثير من الناس على اعلان تعاطفهم مع المرحومة شيرين ، الأمر الذي جعل مقتلها ثم تشييعها ، حدثا استثنائيا ، وحد قلوب العرب ، على امتداد العالم. وذكرني هذا بما جرى في 2017 حين توفي الفنان الكويتي المعروف عبد الحسين عبد الرضا. في تلك المناسبة أفتى أحد الشيوخ بحرمة الترحم عليه لكونه شيعيا. فرد الناس على تلك الفتوى بعكس ما أراد صاحبها ، وتحولت جنازة الفنان الى استعراض هائل للوحدة الوطنية والتعاطف ، لم تشهد له الكويت مثيلا في تاريخها كله.

غريزة التضامن والتعاطف هي ، على الأرجح ، أعمق العوامل المحركة لميول الانسان الاجتماعية ، وبالتالي رغبته للعيش في الجماعة ، حتى لو كلفه شيئا من ماله او حريته. وهذا هو التفسير الذي اعتمده الفيلسوف المعروف جان جاك روسو ، في معارضته لنظرية توماس هوبز ، التي تعالج حالة المجتمع في المرحلة السابقة لقيام الدولة.

بالعودة الى أصل الموضوع فان المسألة الجوهرية ، ليست الغاء الأحكام التي قامت على أرضية الميل للمفاصلة ، نظير الاحكام التي ذكرتها آنفا ، رغم اني شخصيا وجدتها معارضة لأصل العدالة الحاكم على كل حكم شرعي او وضعي. المسألة الجوهرية هي التفاعل مع المخالفين والمختلفين ، فاما ان نعتبر التواصل غير ضروري ، كما رأى أسلافنا ، واما ان نعتبره ضرورة للتقدم ، بل ضرورة للحياة. اظن ان عقولنا قد اخبرتنا فعليا بالخيار الصحيح. فاذا اعتبرنا التواصل صلاحا لنا وضرورة لحياتنا ، يلزمنا إعادة النظر في الاحكام والرؤى التي وضعت على خلفية الميل للمفاصلة او كانت تخدمه.

المفاصلة واعتزال المخالفين ليست من نوع العبادات التوقيفية ، بل من المصالح المتغيرة بحسب الزمان والمكان ، والتي يصح الاجتهاد في أصلها وفي تفصيلها ، كي تستجيب لحاجات الزمان ومصالح أهله.

الشرق الأوسط الأربعاء - 17 شوال 1443 هـ - 18 مايو 2022 مـ رقم العدد [15877]

https://aawsat.com/node/3651066

 

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...