30/11/1998

اشكالية التعدد في اطار الوحدة



عندما تنظر إلى مجتمع عربي من الخارج ، فسوف تراه شريحة واحدة ، يشبه كل فرد فيه الآخر ، في ملامحه وفي كلامه وتفكيره ، وفي نمط حياته ، وهذا من طبيعة العقل الابتدائي ، الذي يميل إلى التعميم ويتفادى التفاصيل ، إذ التفصيل يحتاج إلى تأمل وبذل شيء من الجهد الذهني .

وبالنسبة لكل عربي فان هذا التقدير الأولي ، مرغوب ومطلوب ، كصورة نهائية للمجتمع الذي يود أن يراه ، فهو يعكس ـ ولو على مستوى الاستعارة والمجاز ـ فكرة الوحدة التي تعتبر ثابتا من ثوابت التفكير العربي والاسلامي ، وأملا عزيزا على قلب كل عربي ومسلم .
ربما كان الاستعمار ابغض شيء عند المسلمين المعاصرين ، فهم يرونه تجسيدا مقاربا لمفهوم الشيطان ، الذي يؤكد النص الديني على عداوته المطلقة للانسان وخالق الانسان ، ويحتفظ كل مسلم في ذاكرته بفكرة تعد من الثوابت والبديهيات ، خلاصتها أن الاستعمار سعى بكل دأب إلى تفريق الأمة الاسلامية وتقسيمها ، فكأن الاستعمار هو الشيطان الذي يقول عنه القرآن (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء) ولهذا فان كل مبادرة أو مسعى ، يشم منه رائحة الاختلاف عن التيار السائد ، فانه ينسب إلى خطة استعمارية .

 لقد تحول العداء للاستعمار ، إلى موضوع إجماع بين المسلمين ، فكل من تصدى لهذا الأمر أو دعا إليه ـ ولو على مستوى الخطابة ـ حصل على تقدير العامة وتأييدهم ، ذلك لان مقاومة الاستعمار هي الوجه الثاني للكفاح من اجل الوحدة .
والوحدة ، فوق أنها مطلب إنساني فطري ، فهي إحدى الأولويات الدينية الكبرى ، التي دعا إليها القرآن بصورة مباشرة وغير مباشرة .

ومع كل التأكيد على ضرورة الوحدة ووجوب الحفاظ عليها ، فان المجتمع المسلم لم يكن في يوم من الأيام ، موحدا بالمفهوم الذي يتخيله معظم الناس ، فقد كان هناك على الدوام آراء متباينة وتفسيرات مختلفة واجتهادات متعددة ، على المستوى الفكري والعقيدي ، وعلى المستوى الاجتماعي حافظت القبائل والطوائف والأعراق ، على قدر من الخصوصية والتميز عن غيرها ، وعلى المستوى السياسي كان الوصول إلى السلطة وممارستها ، موضوعا ثابتا للخلاف بين مراكز القوى ومجموعات الضغط المختلفة ، وعلى المستوى المعيشي كان هناك فقراء وأغنياء ومتوسطون .

في ظل هذه التباينات التي هي من سنن الحياة ، بقي المسلمون أمة واحدة ، ذلك أن الوحدة في حقيقتها هي اجتماع المختلفين على قواسم مشتركة ، وكانت شهادة أن لا اله إلا الله ، والشعور بالمصير المشترك ، والمصلحة الظاهرة في الوحدة ، هي هذه القواسم .

العجز عن تصور معنى التعدد في إطار الوحدة  ، هو واحد من ثمار انقطاعنا الثقافي عن تجربة اسلافنا في العصور الاسلامية السابقة . وبسبب هذا العجز فاننا نتطلع اليوم إلى وحدة قوامها انصهار المجموع في بوتقة واحدة ، اجتماعية وثقافية واقتصادية ، انصهارا يذيب الفروقات الفردية ، ويلغي ذاتية كل فرد واستقلاله .

 نجد هذا الشعور الخفي ـ لكن المسيطر على سلوكنا ـ في الضيق بالآراء المختلفة حتى لو لم تكن متناقضة أو متعارضة ، ونجدها في التوجس من تعبير الطوائف الاجتماعية أو الجماعات السياسية ، عن ذاتها وأفكارها بصورة صريحة أو من خلال رموزها الخاصة ، حتى ضمن السياق الايجابي الذي يتحاشى نقد الغير ، ونجدها في القلق الشديد من كل تشكل اجتماعي ـ سياسي أو فكري ـ متميز عن التيار العام .

وبصورة عامة فان مفهوم الوحدة الذي نحمله ويتبادر إلى أذهاننا ، يختلف عن مفهوم الوحدة الحقيقية ، كما لا يطابق حقيقة الوحدة التي كانت سائدة في عصور الاسلام السابقة . يصعب علينا اليوم فهم إمكانية ان يكون هناك تعبيرات عن الدين مختلفة ، وهي في نفس الوقت صحيحة ، أو ـ على اقل التقادير ـ مبرئة للذمة ، ويصعب علينا تصور ان الطريق إلى الله ليس محددا في مذهب معين ، أو اجتهاد مخصوص ، كما يصعب علينا أن نتعايش ، إذا كنا على خلاف في بعض المعتقدات أو الفروع الفقهية .

 ويضيف القلق الدفين من مؤامرات الاستعمار على الوحدة الاسلامية ، زيتا على نار الرغبة المحمومة في التماثل ، فكلما رأينا مختلفا يعبر عن رأيه ، أو يعلن عن نفسه ، استذكرنا سياسة (فرق تسد) التي سار عليها الاستعمار ، فنسبنا ظهور هذا الاختلاف إلى مؤامرة استعمارية جديدة ، أو رميناه بالتعاون مع الاستعمار أو ـ مع إحسان الظن ـ خدمة أغراض الاستعمار دون وعي .

05/11/1998

في الحوار النقدي مع التراث



أظهر الاستاذ عبد الله الحصين جلدا بينا وحصافة محمودة ، في مناقشة الملاحظات التي كتبتها ضمن مقال الخميس الأسبق ، تعقيبا على مقاله (لماذا الهجوم على الثوابت) المنشور في 27 جمادى الثاني المنصرم ، وقد طوق عنقي بالاحسان إذ مدحني وأنا غير مستحق للمدح ، فيحسن بي انتهاز الفرصة للاشادة بسعة صدره وخلقه الرفيع ، واحتماله مجادلة من هو في مقام ابنه أو تلميذه علما وشأنا .
أثار الاستاذ الحصين في مقاله الأول ورده التالي مسائل هامة ، تتعلق بمنهج النقد ونظرتنا إلى تراثنا الفكري وموقفنا من المساهمات الفكرية المعاصرة ، لا سيما هذه التي تحاول وضع تشكيل للثقافة الاسلامية ، جديد وقادر على الاستجابة لتحديات العصر ، هذه الاثارات هي الأولى بالنقاش ، أما الشواهد التي تفضل الاستاذ بايرادها فهي مقبولة على أي حال ، حتى لو اختلفنا في صحة الاستشهاد ببعضها ، أو التعويل عليها في اتخاذ موقف محدد من الاساتذة الذين خصص المقال لنقد آرائهم . فليسمح لي بالتعرض لبعضها على وجه الايجاز :

أولى المسائل هي التدرج الزمني للعلم ، يتساءل الاستاذ الحصين عما إذا كان شخص معين من كتاب هذا العصر قادرا على كشف ما لم يكتشفه الصحابة والسلف الصالح من العلماء الأجلاء ، ومفهوم هذا السؤال ، ان السلف لم يتركوا شيئا من العلم إلا وطرقوه وخلصوا إلى ما فيه ، فلم يتركوا لمن بعدهم ما يستحق النظر أو ما يعول عليه ، وبالتالي فان المواقف التي عبر عنها السالفون هي المواقف التي يجب على الخلف تبنيها والأخذ بها ، وليس لهم نقضها أو نقدها أو البحث عن احتمالات في غيرها ، وهذا رأي قال به كثير من أهل العلم في هذا العصر وفي الماضي ، وتدعمه نظرية السير  التراجعي للتاريخ التي يتبناها بعض أهل العلم ، وخلاصتها ان الزمان والخيرية يسيران في اتجاهين متعاكسين ، فكل زمن يأتي يكون أقل خيرا مما سبقه وهكذا .

 وكلا الرأيين مخالف للمنطق ، وما يهمنا هو الرأي الأول ، فالعلم قد يتوقف في أمة من الأمم زمنا ، وقد يبطيء الحركة ، وقد يذهب موضوع معين أو اتجاه علمي معين إلى هامش الاهتمام ، لكن لا يمكن الحكم على المحصلة العامة للعلم ، في أزمان متوالية ، بأنه تخلف أو توقف ، ولا يخرج العلم بالدين والشريعة عن هذا التعميم .

ومهما افتقرنا إلى جرأة الادعاء بوجود علماء في هذا العصر ، أو في سابقه ، ممن يجاوز ـ عمقا في الدين وفهما للشريعة ـ بعض السلف ، إلا انه لا مناص من الاصرار على أن ما يتوفر في هذا العصر ، من علوم ومناهج وأدوات بحث ، تزيد كثيرا عما توفر في الأزمان الماضية ، وتهيء  الفرصة للتوصل إلى آراء تجاوز ما وصل اليه السلف . ان فضل  السلف لا يرجع إلى كثرة علمهم وعمق نظرهم ، بل إلى سبقهم واحتمالهم وكفاحهم في سبيل تثبيت أركان الشريعة المقدسة ، وواضح ان هذه مسألة أخرى لا علاقة لها بالعلم على  وجه الضرورة .

وأظن أن جلال قدر السابقين قد أخذ بتلابيب أفهامنا ، فانتزع منا الجرأة التي يحتاجها صاحب العلم ، لكي يبحث أمرا سبقه اليه من يعلوه شأنا ، ونتيجة لهذا الخوف من المخالفة ، فقد اصبح انتاجنا العلمي مجرد جمع مكرور لما قاله السابقون ، وأصبحنا نعجب إذا سمعنا قولا يخالف ما ينقل من آراء السابقين .

الثانية : ان الدين في معناه الأخص والدقيق هو ما في القرآن والسنة المطهرة (ما ان تمسكتم به لن تضلوا) أما آراء الصحابة والتابعين والعلماء الأجلاء ، فهي شروح وتفسيرات وتنزيل للنصوص على الموارد الموضوعية الخاصة ، وليس لنا ولا لغيرنا ، الحق في وضع أحد من هؤلاء الأجلاء في مقام الرسول صلوات الله عليه ، فنأخذ كلامه كما نأخذ كلام الرسول . ان الله سائلنا في غد عما بين دفتي كتابه ، وما وصلنا من أقوال نبيه عليه الصلاة والسلام .

 لكن آراء الصحابة والعلماء قد تعامل معاملة الدين في معناه الأعم ، إذا اطمأن المكلف إلى كون الشرح أو التفسير أو الاجتهاد أو الارشاد ، مطابقا لمقاصد النص القرآني أو النبوي . والمكلف نوعان المجتهد والعامي ، فالمجتهد يأخذ برأي من سبقه إذا وافق على مبانيه وأدلته ، والعامي يأخذ بهذا الرأي إذا اطمأنت نفسه إلى قول محدد لعالم ، أو جملة ما قاله عالم معين ، فهو لعجزه عن البحث عن الادلة ، محتاج إلى ابراء ذمته بأخذ الرأي ممن يمكن الاحتجاج برأيه يوم السؤال ، ولا شك ان اجلاء الصحابة والتابعين والعلماء ، كثير منهم ، من هذا النوع ، فالاخذ بأقوالهم وتفسيراتهم على الوجه الأول أو الثاني ، لا غبار عليه .

لكن إذا استثنينا الحاجة الشخصية المحددة زمنا وموضوعا ، فان هذه الآراء تبقى في مكانها الطبيعي كآراء علمية ، ولا ترقى إلى مستوى النص المعصوم ، الملزم لكافة الناس في كل الأزمان والأمكنة ، وقد وضع الأصوليون لها تعريفا خاصا ، فأدرجوها تحت عنوان (الاحكام الظاهرية)  لتمييزها عن (الأحكام الواقعية) التي هي المراد الواقعي للخالق سبحانه ، بكلمة أخرى فان تلك  الاراء هي فهم اصحابها للدين ، وليست دينا بالمعنى الخاص . والفهم البشري ـ كما نعلم بالضرورة ـ قاصر عن بلوغ المراد الرباني ، فهو يصيب مرة ويخطيء أخرى ، وفي الأزمان السابقة اختلف العلماء في تحديد القيمة الشرعية لرأي المجتهد ، فقال الأكثر بالتخطئة ، وقال بعضهم ـ كالامام الغزالي في المستصفى ـ بالتصويب ، بل اعتبر قول المجتهد خلقا لخطاب التكليف ، لكن لم يذهب إلى هذا الرأي غير القليل .

والخلاصة ان أقوال العلماء السابقين ، في كل أزمانهم ، لها قيمة رفيعة ومرجعية ، لكنها قيمة علمية ومرجعية علمية ، فمخالفتها لا ترقى إلى مرتبة الخلاف في الدين ، ومن خالفها لا يعتبر خارجا عن الدين .

الثالثة : لكل من العلم والايمان مكانه الخاص ، الايمان مستقره القلب ، والعلم محله العقل ، طبيعة الايمان التمكن من النفس والتداخل مع نسيج العاطفة ، حتى يتحول المؤمن وما يؤمن به إلى شيء واحد ، والعاطفة قد تتحول في فروعها ويبقى الأساس ثابتا مكينا ، يحوم الانسان محاولا الابتعاد عنه ثم يعود ، وقديما قالت العرب (كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبدا لأول منزل).

أما العلم فهو دائم التحول ، لا يستقر على حال ، وهذه طبيعة العقل وما يحل فيه ، وتجد الانسان منذ نعومة أظفاره إلى أن يبلغ من الكبر عتيا ، مستقر الايمان بما عرفه أولا ، بغض النظر عن مصادر هذه المعرفة ، لكن لا تجد أحدا توقف عند حد معين في العلم ، فهو يتعرف كل يوم على جديد يحل في مكان ما حصل عليه بالأمس .

أردت من هذا ، الاشارة الى ان ايمان الناس لا يتزعزع لمجرد قراءتهم كتابا لمؤلف ، أو تعرفهم على رأي لعالم ، ما حصل في العالم الإسلامي من انسلاخ بعض أبنائه عن الالتزام بالدين القويم ، لم يكن نتيجة كتب قرأوها ، بل لأنهم لم يقرأوا ، ولو بكرنا قليلا في طرح مختلف الاراء تحت مظلة الاقرار بمرجعية القرآن وقطعيته ونهائيته ، لربما ساهمنا في الحفاظ على كثير ممن تباعد أو اتخذ طريقا آخر ، هؤلاء الذين ذهبوا بعيدا لم يجدوا سعة فيما هو متعارف ، فبحثوا عن غيره ، ولو تركنا فسحة لربما بقوا ضمن الاطار . وأخشى ان تؤدي المبالغة في التحوط والقلق إلى مزيد من التضييق . خاصة وأن ما نريده من الناس هو الاتفاق على الأصول ، أما الفروع ففيها سعة ، ولا يلام على الخلف فيها مخالف .
5 نوفمبر 1998



مقالات  ذات علاقة
-------------------


29/10/1998

وعي المستقبل



استمعت البارحة إلى متحدث يقترح أنماطا بديلة للمعيشة ، تبدأ من موارد العيش ، إلى نظام البناء والتعليم ومصادر الثقافة ، وغيرها من حقول الحياة ، وقد انطلق المتحدث من زاويتين محددتين ، الأولى هي الحاجة إلى التكيف مع دورة اقتصادية مختلفة ، يتوقع أن تبدأ في الظهور والتبلور قبل نهاية العقد الأول من القرن الجديد ، أما الثانية فهي الحاجة إلى استيعاب مناسب للجيل الجديد ، الذي سيدخل ميدان الحياة العامة خلال السنوات العشر القادمة .

قلت للمتحدث ان التغير في طبيعة المعيشة وفي حقول الحياة الأخرى ليس حدثا جديدا ، فحلـقاته تتوالى وتتسع ، ولا سيما في الربع الأخير من القرن العشرين ، فما السر في تحديد العقد الأول من القرن الواحد والعشرين على وجه الخصوص ؟ .

قال الرجل ان العالم العربي خرج بحصيلة طيبة من تطورات الربع الثاني من هذا القرن ، لكن النتائج الكاملة للمواجهة بين تحدي التغيير والاستجابة للتغيير ، أو التكيف مع ضروراته ، لم تتبلور تماما ، وحين يمضي ربع قرن أو ما يعادل قفزة جيلية واحدة ، سيكون لدينا رجال ولدوا وترعرعوا وانضموا إلى الحياة العامة ، في ظل نمط الحياة الجديد ، وسيكون لدينا جيل فتح عيونه على عالم تنفتح آفاقه بسعة ، وتنكمش المسافات بين أطرافه بسرعة ، عالم يشترك سكان الكوكب كلهم في صناعته ، بعد ان كان عالم الانسان الشرقي شرقيا بالدرجة الأولى ، كما للناس في الغرب وفي كل بقعة أخرى عوالمهم الخاصة المنفصلة .
سيكون الجيل الجديد قادرا ، بل راغبا أيضا ، في استقبال التيارات الثـقافية من شتى الأنواع والألوان ، وسيكون قادرا على التفاعل معها عبر شبكات الاتصال التي لا تحدها القوميات ولا الحدود الاقليمية ، ولا سيما شبكة المعلومات الدولية (الانترنت).
يتميز هذا الجيل عن جيلنا الحاضر بميزتين أساسيتين : الأولى انه لم يعاصر أبدا فترة النهوض الاقتصادي التي شهدتها بلداننا خلال الربع الأخير من القرن ، ولم يعرف كيف عاش الناس قبل هذه الفترة ، اللهم إلا ان يقرأ عنها في الكتب أو يسمعها في حكايات المتحدثين ، كما نقرأ اليوم عن أجدادنا وكيف كانوا يعيشون ، لكننا لا ندرك عمق الفارق بين أحوالنا وأحوالهم ، وإن تخيلناه  (فما راء كما سمعا)  كل ما نعرف هو الظرف الذي عاصرناه فعلا ، نحن اليوم نتـقبل ونتفهم الضرورات التي نتجت عن الارتباط الوثيق بين ظرفنا الراهن والظرف الذي سبقه ، قد لا نرتاح لكثير مما نراه ، لكننا نحتمل بصبر ، هو نتيجة للمقارنة بين ما كنا عليه في سالف أيامنا ، وما نحن فيه اليوم ، أما الجيل الآتي فلم يعرف ولم ير ، ولهذا فهو لا يتقبل ولا يتفهم تلك الضرورات ، بل ربما عجب لقبولنا بها أو سكوتنا عنها .

جيلنا متنازع بين هوية تنتمي إلى ماض لم نستطع الفكاك منه ، وحاضر لا نريد التفريط فيه ، أما هوية الجيل الآتي فهي تنتمي إلى الحاضر والمستقبل ، وإن بقيت فيها خيوط أو آثار من ماض

، لا يستطيع مزاحمة الايقاع السريع للحياة الجديدة والزاماتها ، بكلمة أخرى فاننا ننتمي إلى مجتمع توسط حقبتين ، ولهذا فهو يتلقى تحديات الحقبة الجديدة ، ولديه من وثاق قديمه ما يخفف من سرعة التغيير وشدة التباين ، بين ماض ذهب وحاضر يأتي ، أما الجيل الآتي فهو ينتمي إلى حقبة جديدة ، تقود إلى ما هو أكثر منها جدة واختلافا ، وليس لديه وثاق ، سوى ما يتلقاه اليوم من مصادر المعلومات والثقافة ، التي هي في مجملها نتاج الحاضر وسلم المستقبل ، وهذا يعني أن الكثير مما نقبله اليوم وما نعتبره محتملا أو طيبا ، سيكون غير محتمل عند أبنائنا .

أما الميزة الثانية التي تميز الجيل الجديد ، فهي دخوله الحياة  العامة بعد انكماش الموارد ، التي كفلت لجيلنا رغدا من العيش وسهولة في مصادر الرزق ، قل أن يجود بمثلها الزمان ، في وقت من الأوقات كان يكفي الانسان القليل من الكفاءة والتعليم ، حتى يحصل على وظيفة مرموقة أو تجارة عظيمة المردود ، أما اليوم فنحن نرى رأي  العين كيف يخرج تجار الأمس من السوق ، واحدا بعد الآخر ، وكيف تضيق الأبواب والطرق على غير الأكفاء والمتعلمين ، بل حتى على بعض  المتعلمين ، ممن بارت سوق اختصاصاتهم ولم يعد لها طالب .

 ونقرأ اليوم في الصحف ونسمع في المجالس ، عن عشرات من خريجي الجامعات يقضون شهورا في البحث عن وظيفة فلا يجدون ، فيقبلون  أي وظيفة دون شروط ، وأمامي قصص كثيرة عن مثل حامل الدكتوراه الذي انتظر عاما ونيف حتى عثر على وظيفة ، وقد كان معروضا عليه أن يعمل بشهادة البكالوريوس ، والمهندس الذي قبل فعلا بالعمل بشهادة الثانوية ، بعد أن بقي بضعة أشهر في انتظار وظيفة تناسب كفاءته ، ويسمع كل واحد منا كثيرا من هذه الأمثلة ، مما كان مستحيلا قبل عقد ونصف من الزمان .

في ذلك الوقت كان المواطن قادرا على بناء بيت بتحرير ورقتين فقط ،  واحدة يطلب فيها منحة ارض ، وأخرى يطلب فيها قرضا ، أما اليوم فلا هذا يتيسر ولا تلك ، وهذه طبيعة الحياة التي تدور إلى الأعلى ثم تنحني ، ولعل الأقدار تعيدها دورتها من جديد ، رغم ان طبائع الأمور تأبى تكرر القفزات في الأزمان المتقاربة .

أمام الجيل الآتي حياة صعبة  المراس ، طرقها ضيقة ، مواردها قليلة ، والتزاحم فيها شديد ، ولهذا سيجد نفسه مضطرا للكفاح الدؤوب من أجل القبض على فرصة لائقة ، وسيكون مضطرا للاعتماد الكامل على ذاته ، دون اتكال على سياسة الدعم أو سياسة الارضاء .

في مثل تلك الظروف يتطلب التكيف مع مقتضيات الحياة استجابة واسعة وجدية ، بقدر ما تحدي التغيير شامل ونتائجه قاسية ، ولكي يتمكن أبناؤنا من النجاح في مواجهة هذا التحدي ، ينبغي أن نكون جادين في إعدادهم وتجهيزهم بما يلزم من العتاد ، وأهم عناصره الكفاءة العلمية ، وتناسب الاختصاص العلمي مع حاجات السوق المتوقعة يوم يدخلون ، ومن عناصره أيضا تجهيزهم بالعتاد المعنوي ، والقيم الأخلاقية التي تحميهم من الانجراف وراء دواعي الرغبة والغضب ، حين يجدون أنفسهم محصورين في مضايق العيش ، من بينها خصوصا قيم التواصل مع الغير ، مثل الملاينة ، والتعاون والمشاركة ، وتحمل المسؤولية عن الأعمال والمبادرات الشخصية والأخطاء .

وإذا أردنا الحديث عن مجموع الجيل  الجديد من أبناء الوطن فقد لا يكفي توجيه النصيحة للآباء ، فليس كل أب قادرا على استيعاب حقائق المستقبل ، وليس كل أب قادرا على إدراك الخيط الذي يصل بين يوم أبنائه وغدهم يوم يصبحون رجالا ، فلعله يكتفي بمواعظ إجمالية ، تفيد في الجملة ، دون أن تطابق  المطلوب على وجه التحديد .

التخطيط العام لحياة الجيل الآتي يتطلب دراسات مستفيضة ، يستهدف كل منها رسم جزء من الصورة الكاملة ، في كل حقل من حقول الحياة ، نحن الآن لا نعرف على وجه الدقة ، كيف سيكون وضعنا الاقتصادي بعد عشر سنوات ، هل سيبقى البترول محورا أول للنشاط الاقتصادي ، أم سيكون لدينا غيره ، في كل يوم تقذفنا وسائل الاعلام بكل نقيض فهذه تعد بالمن والسلوى وتعد الأخرى بعظائم الأمور ، نحن لا نعرف أيضا مدى تأثر أوضاع مجتمعنا بانتشار التعليم ، وسرعة تدفق المعلومات و التواصل مع العالم ، والتغيرات الاقتصادية ، كما لا نعرف كيف سيكون محيطنا الاقليمي وانعكاساته علينا في ذلك الوقت ، اننا ـ بصورة عامة ـ لا نعرف الوجهة التي تسير نحوها مراكبنا ، ولهذا فقد لا نستطيع أعداد أبنائنا للرسو الآمن على الشاطيء المقصود .
عكاظ 29 اكتوبر 1998

22/10/1998

الهجوم على الثوابت .. اين هي الثوابت ؟



استهل الأستاذ عبد الله الحصين مقاله يوم الأحد الماضي (لماذا الهجوم على الثوابت) بالاشارة إلى أن التساؤلات التي طرحها مفكرون وباحثون حول التراث الإسلامي ، قوبلت (بالتحفظ الشديد مرة وبالرفض مرات أخرى) ثم عرض نماذج لاولئك المفكرين ولما قالوا. لكنه غفل عن ذكر الثوابت التي هجموا عليها ، أو لعله افترض أن النماذج التي عرضها هي من نوع الثوابت ، لكنه لم يخبرنا عن الأساس الذي اعتمده في تقرير هذا الاعتبار لها .
المرحوم د. محمد عابد الجابرى
والواضح أن الأستاذ الحصين قد انطلق من حرص مطلوب ومستحسن على التراث الإسلامي ، وخشية محمودة من أن تطاله أيدي العابثين والجهال ، لكن التوفيق لم يكن حليفه حين اختار الأمثلة التي عرضها للتدليل على مدعاه ، فالأساتذة الذين عرض أسماءهم ، لا سيما محمد عابد الجابري ومحمد أركون ومحمد شحرور ، لا يمكن تصنيفهم ضمن الجهال أو العابثين أو المعادين للمذهبية الاسلامية .
كتب الجابري عشرات من الدراسات القيمة ، محاولا البحث عن الجانب المضيء في التراث الإسلامي ، الجانب الذي يجسد مجد العقل والفعل الانساني ، وإنسانية الشريعة وكفاءتها ، أما محمد أركون فقد وضع النتاج العلمي للمسلمين ، في أزمان مجدهم الغابر ، على طاولة التشريح ، محاولا التأكيد على أن إلحاق هذا التراث الكبير بالشريعة والتفكير الديني ، لا ينبغي أن يؤخذ كمسلمة ، اذ لا بد من الفصل في كل حال بين النص الديني ، المعصوم والمتعالي على حدود الزمان والمكان ، وبين فهم البشر وتفسيرهم للنص ، المحدود والمقيد بأحوال الزمان وهموم المكان ، وكذلك فعل شحرور الذي ذهب إلى مدى أوسع فطالب بتركيز النظر على القرآن الكريم والغوص في بحوره ، منطلقا من افتراض أن محاولات المسلمين السابقين ليست نهائية ولا نتائجها قطعية  .
ولعل الاساتذة المذكورين قد خانهم الحظ في اقناع الاستاذ الحصين بالنتائج التي توصلوا إليها ، وهذه طبيعة العلم الذي يأبى أن يأتي موافقا لكل ميل ، لكن من جهة أخرى ، فان الاختلاف مع النتائج التي توصل إليها باحث ، لا تصح أساسا للتشكيك في نواياه أو الغمز من زاوية (حقه) في البحث ، بمثل القول انه (تخرج من جامعة الحادية تعتبر الالحاد ثابتا من ثوابت مناهجها) ذلك أن البحث في الاسلام ، ليس حكرا على طبقة من الناس ، ولا على أصحاب اختصاص معين ، أو خريجي مدرسة معينة ، أو المنتمين إلى مذهب فكري أو اجتماعي خاص .

 البحث في الاسلام ، كالبحث في  أي موضوع علمي آخر ، متاح لجميع الناس ، دون أن اعتبار النتائج التي توصل إليها الباحث أيا كان ، ملزمة لأي كان ، إلا بدليل آخر ، مثل أن يكون مقلدا له ، كما يفعل العامة مع المجتهدين ، أو أن تتحول نتيجة البحث إلى نظام ملزم للعامة أو الخاصة ، بعد أن تصدر وفق الأصول الشرعية المؤسسة للالزام القانوني .

حق البحث ليس حكرا على أحد ، والنتائج التي يتوصل إليها الباحث ليست ملزمة لأحد ، وانما هي مساهمة في الارتقاء بالعقل الانساني ، ليصبح أقدر على فهم الشريعة ، نصوصها وتجارب البشر في تطبيقها ، وهي مساهمة ذات طابع مؤقت ، تمهد لما هو أرقى منها ، فاذا وصل المتلقي إلى هذا المستوى الجديد استغنى عنها واستعاض بجديده عن قديمها .

ويستذكر الكاتب قصة مشهورة في  النهي عن بناء الحكم على الريبة في النوايا ، حين وضع أسير كافر في إحدى غزوات الرسول (ص) بين الاسلام والنطع ، فرفع صوته بالشهادة ، فأراد الخليفة عمر قتله قائلا انه اسلم خوفا من السيف ، فأجابه المصطفى صلوات الله عليه بقوله (هلا شققت قلبه فنظرت ما فيه) والأصل في الجدل العلمي أن يؤاخذ الباحث بما قال ، لا بما ينوي أن يقول ، أو بما يقصد من وراء القول  ، إلا أن يكون قصده صريحا بينا ، ولا يهم إذا ذاك أن يكون قد تخرج من جامعة توحيدية أو من جامعة الحادية ، خاصة في هذا الزمان الذي يصعب فيه تحديد ما هو الحادي وما ليس إلحاديا ، كما يندر أن تجد جامعة أو مدرسة للدراسات العليا ، ليس في مناهجها أو أساليب تعليمها شيء من الالحاد ، والالحاد هو الميل أو الانحراف عن الجادة الصحيحة ، أو شوب ما هو مستقيم بما هو أعوج ، ولو أردنا الخوض في هذا لما سلم جامعي من الريبة فيما يقول ويفعل ، إلا من عصم الله .

وما دام الاستاذ الحصين قد طرق موضوع التراث ، فقد ألزمنا بتكرار ما ينبغي التذكير به في كل حين ، وهو أن ما نطلق عليه (التراث الإسلامي) هو شيء آخر غير (الشريعة الاسلامية) فالشريعة المقدسة هي عبارة عن النص القرآني المحفوظ بأمر الله سبحانه ، وحديث الرسول (ص) الذي اجتهد المسلمون في توثيقه والمحافظة عليه ، منذ غيابه صلوات الله عليه إلى اليوم ، ومنذئذ ، وخلال مئات من السنين التالية ، عمل المسلمون في النص الديني شرحا وتفسيرا واستلهاما منه .

ومع تقدم المعرفة في ظل ارتقاء الحضارة الاسلامية ، أبدع المسلمون علوما وفنونا جديدة غير مسبوقة ، واستعانوا في كثير من الحالات بما أخذوه وما ترجموه من علوم الأمم الأخرى غير الاسلامية ، وأصبح لدينا في المحصلة النهائية كم هائل من المعارف ، المرتبطة بالنص ، أو المستقلة عنه ، في موازاة تجربة الحياة الاسلامية ، خلال بضعة قرون من الكفاح والارتقاء ثم الهبوط ، تشكل بمجموعها ما نسميه تراث الامة الاسلامية .

ان النتاج الثقافي والمعرفي لأي أمة هو تعبير عن مستواها الفكري وطبيعة أوضاعها الاجتماعية في ذلك الوقت ، فالفكر لا يتطور مستقلا عن الظرف الاجتماعي الذي يوجد فيه ، ولهذا السبب أيضا فان طبيعة التراث ومكوناته متطورة من حال إلى حال ، فهي لا يمكن ان تكون جامدة ، ولا عابرة للزمان ، ولو لم تكن متحولة ، لعجزت عن التفاعل مع المحيط الاجتماعي الذي أوجدها أو استثمرها ، ولأصبحت غير ذات قيمة .

ثم وصل العالم الإسلامي إلى المرحلة الدنيا من مراحل انحطاط حضارته ، فاصبح لا ينتج علما بل ينشغل باجترار ما أبدعه السالفون ، وفي وقت لاحق بدأ يبحث عند الغير عما يستغني به عن تجربة أسلافه .

غير أن الدعوات التي تكررت سابقا ، إلى البحث في الذات والتجربة التاريخية عن معين صاف ، لاعادة تكوين هوية العالم الإسلامي في هذا العصر ، هذه الدعوات تجد اليوم أصداء في كل مكان ، من جانب مثقفين وباحثين يريدون إعادة وصل ما انقطع بين مسلم العصر وبين مصادر هويته الثقافية ، ليس انقطاعا بالمعنى المادي ، بل بغلبة التفسيرات والأفهام المحدودة على النص المرجعي ، بحيث لم يعد المسلم قادرا على قراءة القرآن أو السنة بصورة مباشرة ، أي متحررة من التصور المسبق عن المقصود ، وهو تصور قد يصدق أحيانا وقد يخون ، أو قد يكون قاصرا عن بلوغ تمام المقصود .

 ومع غلبة الافهام والتفسيرات وشيوعها ، واضطرار المسلم المعاصر للأخذ بما انجزه الماضون ، فقد أصبح النص الديني أسيرا لتلك القوالب ، والتي مهما بالغنا في تقدير صحتها ، فانها لن تكون أكثر من تعبير عن عصرها ، بما فيه من أوضاع اجتماعية ، وبما بلغه أهله من مستوى عقلي ومعرفي ، بينما يقتضي خلود النص وعبوره لحواجز الزمان والمكان ، ان يكون نبعا متجددا ، يرده أهل كل عصر فيجدونه معينا عذبا ، قادرا على الاجابة على ما يطرحه زمانهم من اسئلة جديدة ومن تحديات .

نحن بحاجة إلى فهم متجدد للقرآن والسنة ، كل جيل بحاجة إلى فهم خاص ، يستثمر تطور العقل الانساني الذي لا يتوقف في زمن ، ويستثمر نتاج التجربة الانسانية من معارف وعلوم . لكي نجدد فهمنا للقرآن فسوف نحتاج إلى النظر اليه بعين عصرنا لا بعين العصور الماضية ، سوف نحتاج إلى التخلص ـ ولو مؤقتا ـ مما يعتبر بديهيات وثوابت ، تحكمنا قبل ان نصل إلى النص ، ينبغي ان لا تكون ثمة عوائق بين العقل والنص ، بين الانسان وروح النص ، لكي يحاوره متحررا من كل ضغط ، ومن كل التزام مسبق بالوصول إلى نتيجة محددة .

لكي نتخلص من ضغط الفهم المسبق ، فاننا بحاجة إلى نقد التجربة التاريخية للمسلمين ، والتراث المعرفي الذي نتج عنها ، نقد لا يؤدي بالضرورة إلى تسفيه ما كان ، بل إلى الفصل بين ما هو مرجعي وما هو عارض قليل القيمة أو معدومها ، لكي نعيد إحياء ما اندثر من ثقافتنا ، سوف نحتاج إلى نضع أنفسنا في قلب الدائرة ، ثم ننظر إلى ما ورثناه نظرة الحاكم على ما يملك ، لا نظرة السجين إلى شباك هذا القفص الذي نسميه التاريخ .

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...