‏إظهار الرسائل ذات التسميات الطائفية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الطائفية. إظهار كافة الرسائل

17/01/2007

عن طقوس الطائفية وحماسة الاتباع


يقول لي كثير من الناس ان الفتنة المذهبية في العراق سوف تؤدي الى كثير من النتائج الوخيمة. لكني لا اشك ان اسوأ تلك النتائج سوف يكون تراجع الايمان الديني في نفوس الناس. بل قد لا يكون من ضروب المبالغة القول بان هذا التراجع قد بدأ فعلا، رغم ما يظهر على السطح من تضخم في التيار الديني– السياسي وتضخم في ممارسة الطقوس ذات اللون الديني من جانب الجمهور. كثير من الدعاة غافل عن هذه المفارقة، أي تضخم التيار وممارسة الطقوس من جهة وتراجع الايمان من جهة أخرى. وسبب الغفلة هو التباس الايمان الديني بالتدين الطائفي، وتحول الانتماء الديني الى انتماء طائفي.
 ثمة علامات واضحة تسهل التمييز بين الايمان الديني والتدين الطائفي، فالايمان قرين التواضع والمسالمة والمحبة والصبر والايثار، بينما الطائفية قرين الترفع والكبر والكراهية والوجل والاستئثار. المؤمن محب لخير الناس متعاطف معهم في مصابهم ولو كانوا بعيدين عنه او مخالفين له. اما المتدين الطائفي فهو محب لنفسه منحاز لقومه حين يصيبون وحين يخطئون. والمؤمن منشغل بحياة الروح وصيانة جمالها، اما الطائفي فهو منشغل بحسابات الربح والخسارة المادية الدنيوية. من كل هذه الصفات نستطيع التمييز اذن بين دعاة الطائفية ودعاة الإيمان ، فدعوة الطائفيين محورها الصراع مع الغير، وهم لا يرون الدين الا منابذا للغير، اما دعاة الايمان فمحور اهتمامهم هو المسالمة والتقارب والمحبة والحوار.

 في تسعينات القرن المنصرم، اهرق الكتاب والخطباء المسلمون انهارا من الحبر وساعات طويلة من الكلام في تفنيد نظرية المفكر الامريكي صمويل هنتينجتون عن صدام الحضارات، وهاهم اليوم يتفرجون على انهار من دماء المسلمين تراق في سبيل مقعد اضافي في الحكومة، او مكسب هنا او هناك. والغريب في هذه المقارنة ان متفرجي اليوم لا يسألون انفسهم عما اذا كان الدين الذي خافوا عليه عندما نشر هينتنجتون نظريته المشهورة هو دين الله الذي يجمع المسلمين كافة، وهو رسالة الرحمة والمحبة لجميع البشر – كما هو المفهوم في العموم-، ام هو الدين الشخصي (او المدني حسب وصف جان جاك روسو) الذي لا يتجاوز حدود الفرد والجماعة الخاصة التي ينتمي اليها.

 يتبارى دعاة الطائفية في تحليل مكاسب وخسائر الصراع الطائفي في العراق وغير العراق، ويستدلون بكل منها على وجوب تشديد النكير على الغريم (أي المسلم من الطائفة الاخرى) والتنكيل به والمبالغة في النيل منه، ويكيلون الشتائم ضد الداعين الى السلام ونبذ العداوة والكف عن العدوان. جميع هؤلاء يعرفون تجاوز اصحابهم لحدود الله بقتل الآمنين وتدمير دورهم ومصادر رزقهم ونيلهم من الضعيف والمسكين، لكنهم يغضون الطرف عن هذا وذاك بينما يضخمون ما فعل الغريم ولو كان تافها او صغيرا، ويصحّ عندهم قول من قال «قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر وقتل شعب كامل مسألة فيها نظر».

 حين يسيطر الطائفيون على ساحة الفعل يتوارى دعاة الفضيلة والايمان. فاذا سمعت قعقعة السلاح، واذا سمعت الاصوات العالية المنادية بالويل والثبور وعظائم الامور، فاعلم ان الايمان قد انحسر. يُروى في الاثر ان الله عز اسمه قد اوحى الى احد انبيائه عليهم وعلى نبينا افضل الصلاة والسلام «تجدني عند المنكسرة قلوبهم»، فأين انكسار القلب عند من يدعو الى القتل والتدمير او يبرر القتل والتدمير؟.

 الايمان مثل النسيم يهب على النفوس فينعش فيها الامل و الرغبة في البناء والكمال. والطائفية مثل النار تشعل القلوب والنفوس اينما حلت. وفي مثل هذا العصر الذي تجاور اهله واتصلت اطرافهم وتواصلت احوالهم، فان اندلاع النار الطائفية في أي بلد حري بان يوقظ مخاوف الاباعد فضلا عن اهل الجوار. وحري بنا نحن جيران العراق ان نتبادر الى اطفاء هذه النار قبل امتدادها. ثمة من قومنا من ترك هموم العالم كله وفرغ نفسه كي يستثمر ما يجري في العراق وغير العراق في شحن النفوس بالعداوة والبغضاء لهذه الطائفة او تلك.

اولا يخشى هذا وامثاله من امتداد تلك النار، ام انه لا يفرق بين صراع من اجل الدين وصراع من اجل الطائفة؟، او لعله نسي ما يمتاز به الدين الحنيف من دعوة الى المسالمة والرحمة والحوار والاخوة، مع الابعدين فضلا عن الاقارب. لقد كنا نقارع الذين اتهموا ديننا بالارهاب وتبرير الارهاب بحجج من مثل ان الاسلام الحنيف يحض على السلام وانه دين السلام، فاين هذا الكلام من الخطب النارية التي نسمعها اليوم في بعض المساجد او نقرأها في بعض الصحف ومواقع الانترنت والمجالس من تهجم على بعض طوائف المسلمين وسخرية بمعتقداتهم ونيل من اشخاصهم وتحريض للاتباع والجهال عليهم ؟.

 اول العقل هو التمييز، والعاقل هو من يميز بين الاشياء المختلفة فيضع كلا منها في موضعه، خلافا للجاهل الذي يخلط بين الشيء ونقيضه. بدأ الخصام في العراق بين احزاب وجماعات سياسية يسعى كل منها للحصول على حصة الاسد من الغنيمة وهذا طبع السياسة، واستثمر كل منها بيئته الاجتماعية للوصول الى اغرضه. وقد اثمر هذا عما نعرفه اليوم من اصطفاف طائفي وقبلي يوشك ان يقود الى تقسيم العراق.

وسط هذا الموج المظلم نسي الكثير من الناس ضرورات الايمان وحلت في انفسهم ضرورات القبيلة والطائفة. يفهم العاقل ان هذا شأن يخص العراقيين، وليس له من علاقة ضرورية بمعتقدات او قناعات. انه بعبارة اخرى حراك اجتماعي مرتبط بالشروط الاجتماعية الخاصة بالعراق لا بعقائد اهله. 
ومن العقل حينئذ ان لا نخلط بين هذا وذاك، فضلا عن ان نتلبس بأوصاف لا تخصنا ولا مبرر لها في بلدنا، وهي ليست من الطيبات كي نتشبه بأهلها، وليس اهلها قدوة لنا كي نفعل ما فعلوا.

 بدل نقل النار الى ثيابنا، دعونا نسعى في اطفائها، فهذا خير واقرب لرضا الله من ذاك. واذا لم نسع في اصلاح ذات البين فان الدين سيكون الخاسر الاكبر. ربما يزيد الاتباع ويشتد حماسهم، وربما تتضخم الممارسات الطقوسية، لكن ايا منها لا يدل على ارتقاء الايمان بل هيمنة الطائفية، والفارق بين الطائفية والايمان مثل الفارق بين النار والنسيم.

عكاظ 17 يناير 2007     

14/03/2006

حزب الطائفة وحزب القبيلة




تعقيبا على مقال الاسبوع الماضي ، كتب لي احد الزملاء قائلا ان الحزب السياسي ليس مفيدا في المجتمعات العربية ، لان نظامها الثقافي والعلائقي لايسمح للحزب بدور كالذي نعرفه في المجتمعات المتقدمة . وبالتالي فان الكلام عن تدريب النخبة والتاثير في الحياة السياسية عن طريق الحزب هو كلام غير واقعي .

هذا الراي ليس جديدا فقد لاحظ باحثون غربيون منذ منتصف القرن الماضي ان كثيرا من احزاب  العالم الثالث هي مجرد صور "حديثة" عن التكوينات الاجتماعية القديمة ، الطائفية او القبلية او الاثنية . وينطلق هذا الراي من مراقبة واقعية لعمل الاحزاب في المجتمعات التقليدية او تلك التي تمر في مرحلة الانتقال نحو الحداثة . لكنه لا يقدم صورة كاملة عن واقع تلك الاحزاب او المجتمعات.
لكي نفهم الدور الممكن للحزب فاننا بحاجة الى فهم الهوية الاجتماعية التي يمثلها . كل مجتمع ، في اي بقعة من العالم ، هو تركيب من مجموعة كتل ، تتمايز عن بعضها بهوية موروثة مثل الدين او العرق ، او هوية مكتسبة مثل المصلحة او الايديولوجيا . تتضح اهمية هذا التقسيم بالنظر الى مكانة الفرد وقدرته على اختيار نوعية حياته . اذا قام النظام الاجتماعي على اساس الهويات الموروثة ، فان حدود حركة الفرد والمجالات المتاحة له ، تتحدد من قبل ان يولد. في لبنان مثلا ، لا يستطيع المسلم ان يسعى الى رئاسة الجمهورية ولا يستطيع السني ان يسعى الى رئاسة البرلمان او الشيعي الى رئاسة الوزراء ، بغض النظر عن مؤهلاته او قوته السياسية ، لان النظام ربط هذه المواقع بهوية موروثة وليس بكفاءة الافراد او جنسيتهم الوطنية .

خلافا لهذا ، فان قيام العلاقة على اساس الهوية المكتسبة سوف يوفر مظلة لجميع لافراد من مختلف الكتل الاجتماعية للسعي المشترك نحو مصلحة حاضرة ، لا علاقة لها بانتماءاتهم الجبرية او بارث الاموات . يمكن اذن تصور التقسيم الاجتماعي على واحد من نسقين : نسق عمودي يضم الهويات الجبرية او الموروثة ، ونسق افقي يضم الهويات الاختيارية او المكتسبة . من الواضح – نظريا على الاقل – ان قيام النظام الاجتماعي على الاساس الثاني هو الفرصة الوحيدة التي تسمح بمنافسة بين الافراد تعتمد اولا واخيرا على مؤهلاتهم وانجازاتهم الفردية . وحينئذ فان الفرد القادم من قبيلة صغيرة او طائفة محدودة العدد او من اقلية عرقية ، مثل الفرد الذي ينتمي لاكثرية دينية او عرقية او قبلية ، سيكون قادرا على التنافس على اي منصب في الدولة او مكان في المجتمع ، وسيكون جواز مروره الوحيد هو كفاءته الشخصية وليس هويته الموروثة. 
من نافل القول ان افضل المجتمعات واقدرها على التقدم ، هي تلك التي تسمح بالمنافسة المتساوية على اساس الكفاءة.

 ولا شك ان اعتبار الكفاءة معيارا اساسيا لنيل المناصب هو الطريق لاجتثاث التوترات الاجتماعية ودفع القوى الاجتماعية للخروج من شرنقة الطائفة او القبيلة . دعنا نتصور ان جمعية سياسية في بلد مثل البحرين اشترطت ان تتالف قيادتها من طيف متنوع فيه المراة والرجل ، الشيعي والسني ، المتدين والعلماني ، الحضري والقبلي . حينئذ سوف نجد عند هذه الجمعية خطابا سياسيا مختلفا ، وسوف نجد اولويات عمل مختلفة ، كما سنجد ان عملها لا ينحصر في منطقة دون اخرى او نطاق اجتماعي دون آخر. رد فعل الشارع على هذا التكوين سيكون مختلفا هو الاخر ، اذ ان كل فرد على امتداد البلد سيجد فيها فرصة للتعبير عن ارادته او نيل تطلعاته .

صحيح ان المجتمعات العربية لا زالت منحازة الى هوياتها الموروثة ، لكن هذا ليس وضعا نهائيا ، بل هو تعبير عن حداثة التجربة السياسية ، وقلة الشعور بالامان . ومن هذه الزاوية فان الرهان على مستقبل افضل هو رهان جدي وينطوي على احتمالات لا يستهان بقوتها .

تدل التجربة الفعلية للعالم العربي ان احزاب الطوائف والقبائل قد ساهمت في تعزيز الانقسام الاجتماعي ، وساهمت احيانا – ربما عن غفلة – في احياء نقاط توتر كانت قد ماتت ، في سبيل الحصول على المزيد من التاييد . وفي ظني ان هذه مرحلة لا مفر من المرور بها قبل نضج التجربة والانتقال من صورة حزب الطائفة او القبيلة الى حزب الوطن . لكن الامر الجدير بالاهتمام في كل الاحوال هو نقد هذه التجربة والتركيز على مرحليتها وضرورة تجاوزها في وقت معلوم . لا يمكن للقبيلة او الطائفة ان تتجاوز حدودها لانها في الاساس قامت للحفاظ على تلك الحدود .

خلافا لذلك فان معظم الاحزاب العربية – الاسلامية والعلمانية – تنكر ان هدفها هو المحافظة على تلك الحدود ، حتى لو كانت قد قامت اصلا في داخلها . واظن ان قادة هذه الاحزاب يشعرون بالحرج لانحصارهم هناك ، حتى لو كانوا مستفيدين منها.  يقدم مثال الهند دليلا على قابلية الحزب لاختراق حدود الطائفة والقبيلة ، فرئيس الجمهورية الحالي مسلم ، ورئيس الوزراء سيخي ، وينتمي كلاهما الى حزب المؤتمر الذي يملك الغالبية في البرلمان . يمثل السيخ اثنين في المائة والمسلمون ستة عشر في المائة من الشعب الهندي ، اي ان المنصبين الرئيسيين في البلاد قد منحا لرجلين يمثلان اقل من خمس السكان ، وقد وصلا الى هذه المكانة باصوات اكثرية من النوب الهندوس الذين تتجاوز نسبتهم سبعين بالمائة من السكان ومن اعضاء البرلمان . مثل هذا الانجاز المثير اصبح ممكنا بفضل وجود حزب يتخذ الهويات المكتسبة معيارا وحيدا للتقدم . ولو كان المعيار هو الهوية الموروثة ، لكان من المستحيل ان يصل مسلم او سيخي الى اي منصب في تلك البلاد.

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...