‏إظهار الرسائل ذات التسميات الحرية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الحرية. إظهار كافة الرسائل

12/01/2009

كيف يضمن القانون حرية المواطن ؟


قلنا في مقال سابق إن عدالة النظام الاجتماعي رهن بتوفر الضمان القانوني للحريات الفردية. وهذا يتعارض إلى حد كبير مع النظريات التي ترى أن القانون بطبعه قيد على الحرية. من المفهوم أن القانون ضروري لسلامة الحياة الاجتماعية مثلما الحرية ضرورية لانسانية الانسان. الاشكالية اذن تكمن في الموازنة بين متطلبات هذه ومتطلبات ذاك. وهذا يقودنا بالضرورة إلى التساؤل عن كيفية ضمان القانون للحرية.
Image result for "the spirit of the law" montesquieu
في الحقيقة فإن العدو الأول للحريات الفردية هو التدخل الشخصي والاعتباطي في خصوصيات الناس ومصالحهم وإرادتهم.
في المقابل يتميز القانون بالثبات وعدم التمييز بين شخص وآخر أو بين حالة وأخرى. وحسب تعبير مونتسكيو الفيلسوف الفرنسي الذي اشتهر بكتابه «روح الشرائع» فان الحرية هي أن «لاتكون مجبرا على فعل شيء لم يأمر به القانون، وأن لا تمنع من شيء لم يمنعه القانون. ذلك لان القانون هو الحاكم، نحن أحرار لاننا نعيش تحت قانون مدني».
في أي نظام اجتماعي ثمة فرص لتدخل الأقوياء في حياتك. وفي غياب القانون فأنت مضطر لاستخدام قوتك الجسدية أو المال أو العلاقات الشخصية لتحييد أو اعاقة التدخلات الاعتباطية والشخصية. لكن كم من الناس ياترى يملك المال أو القوة أو العلاقات، أو يستطيع استخدامها لضمان مصالحه ؟. في الحقيقة لا يمكن الاعتماد على هذه الوسائل في إقامة نظام اجتماعي سليم. وجود القانون هو الضمان الوحيد لمصالح الجميع بغض النظر عن قوتهم الشخصية.
عمومية القانون هي أبرز الفوارق بينه وبين التدخلات الشخصية التي تصاغ عادة في صورة أوامر ادارية. تصدر هذه الأوامر لمعالجة حالة خاصة، أما القانون فهو يقوم على مبدأ عام ويتوجه للجميع دون النظر إلى أشخاص بعينهم أو حالات بعينها. ولهذا فان القانون يبقى ساريا إلى أن يلغى بقانون مماثل، بينما ينتهي مفعول الأوامر الادارية فور انتهاء موضوعها الخاص.
من ناحية أخرى فان القانون هو تقرير للأغراض المستهدفة. فهو يصدر بعد دراسة متأنية ويشرح في ديباجته العلل التي اوجبت صدوره. ولهذا قيل إن القانون لا يطاع إلا إذا كان معلنا ومعروف المبررات. أما الامر الاداري فيعبر عن إرادة المدير، وربما يصدر في لحظات انفعال ومن دون دراسة متانية أو من دون أن تكون متوقعة من قبل عامة الناس. كما لا يتضمن تعليلا قانونيا مفتوحا لنقد العامة وتدقيقها.
وقد تقرر في نظام أثينا القديمة أن فهم الناس للقانون هو ما يوجب طاعتهم له. وكما يقول هانز- جورج غادامر الفيلسوف الألماني، فإن أحد الأركان الكبرى في فكرة النظام القانوني هو أن أحكام القاضي قابلة للتنبؤ مسبقا لأنها تقوم على مبررات وقواعد قانونية معروفة للجميع. وهذا هو الذي يجعل القانون علة للاستقرار. كل محام أو مستشار قادر من حيث المبدأ على إعطاء مشورة صحيحة، أي أنه قادر على التنبؤ بشكل صحيح بقرار القاضي بناء على القوانين الموجودة.
يتميز القانون أيضاً بأنه ضامن للحقوق والالتزامات التي أنشئت في ظله حتى بعد إلغائه. ذلك لأن القوانين العادلة لا تكون رجعية، بمعنى أن مفعولها يسري منذ لحظة إعلانها، فلا تلغي حقا جرى اقراره في ظل قانون سابق. فاذا حصل مواطن على حقوق أو مصالح أو التزامات في إطار القانون، فإنها تبقى قائمة محترمة حتى لو صدر قانون جديد مختلف. ومن هنا يستطيع الناس التخطيط لمستقبلهم بثقة واطمئنان، لأن أحداً لن يستطيع نقض مكتسباتهم.
عكاظ 12/ يناير /2009  العدد : 2766

مقالات ذات علاقة 

05/01/2009

حدود الحرية .. حدود القانون

؛؛ دعوة التيار الديني الى "حرية منضبطة" لا تنطلق من الاقرار بالحرية كقيمة عليا. ولو قبلنا بها ، فقد ننتهي الى تهميش قيمة الحرية ؛؛

يتفق العقلاء جميعا على ضرورة الحرية للانسان لانها شرط لكمال انسانيته . كما يتفقون على ضرورة القانون والنظام العام لانه شرط لسلامة الحياة الاجتماعية . من دون الحرية سيكون الانسان عبدا او شبه عبد ومن دون القانون سيكون المجتمع غابة او شبه غابة يأكل القوي فيها الضعيف.

المشكلة لا تكمن في الاقرار بالضرورتين ، بل في الحدود الفاصلة بينهما. وتظهر اهمية هذا الاشكال في ظروف الازمة بشكل خاص. 

فالدولة والمجتمع يميلان في مثل هذه الحالات الى توسيع مجالات اشتغال القانون ، مما يؤدي بالضرورة الى تضييق نطاق الحريات الفردية . بل قد يحدث هذا في الحالات الاعتيادية ايضا . ثمة حكومات تميل بطبعها الى التضحية بالحريات الفردية تحت مبررات مختلفة من السلامة الوطنية الى الارتقاء بمستوى المعيشة الخ .. ونذكر مثلا ان الحكومات الشيوعية كانت تسخر من قيمة الحرية الفردية وتصفها بالبرجوازية بناء على ان مهمة الدولة هي ضمان العدل الاجتماعي وتامين حاجات المواطن الاساسية . ونعلم ان تلك التجربة تحولت الى رمز لفشل النظرية الماركسية لانها ببساطة حرمت الانسان من بعض شروط انسانيته مثل حرية الاعتقاد والتفكير والتعبير والعمل والانتقال . وهو الامر الذي جعل معظم الماركسيين يعيدون النظر في عدد من مسلماتهم الايديولوجية الاساسية ، ولا سيما بعد سقوط الاتحاد السوفيتي في 1991 .

لا يمكن الموافقة اطلاقا على المقولة الشائعة التي تصف الحرية السليمة بالمنضبطة . لانها في نهاية المطاف لا تحدد المعايير الحاكمة ولا تنطلق من الاقرار بالحرية كقيمة عليا. ولو قبلنا بها ، حتى على المستوى النظري ، فقد ننتهي الى تهميش قيمة الحرية . بدلا من ذلك فاننا نتحدث عن الحقوق المدنية التي تعني :

1-       الضمان القانوني لشريحة من الحقوق والحريات الطبيعية الضرورية لانسانية الفرد .
2-       الحقوق التي يحصل عليها الفرد بسبب انتمائه الى مجتمع سياسي يحكمه قانون.

ترجع الشريحة الاولى الى فطرة الانسان التي يعتبرها الفلاسفة اعلى من كل قانون يضعه البشر. وابرز تمثيلاتها حق الحياة ، اذ يحق لكل فرد فعل ما شاء للمحافظة على حياته. ومنها المساواة مع الغير ، ويدخل فيها ايضا الحريات المرتبطة بالضمير مثل حرية الاعتقاد والدين ، وحرية التفكير والتعبير ، والحرية في اختيار نمط المعيشة واساليب العيش وحق الملكية واستثمار الجهد الشخصي .
اما الصنف الثاني فيطلق عليه اسم الحقوق الدستورية او التعاقدية ، وهي حقوق يحددها القانون وترتبط بالوصف القانوني للفرد ، اي كونه مواطنا او عضوا في مجتمع مدني . من هذه الزاوية فان الصنف الاول سابق للقانون وحاكم عليه ، اما الصنف الثاني فهو تابع للقانون وخاضع له . وابرز ما يدخل ضمن هذا الصنف هو حق المشاركة المتساوية في الشؤون العامة للجماعة ، بما فيها حق الوصول الى المناصب العامة. ومنها ايضا حق الاستفادة المتساوية من الموارد العامة المادية وغير المادية الخ . 

بطبيعة الحال لا يمكن التمتع بالحرية ما لم يكن ثمة قانون يحمي ممارستها . كما لا يمكن تصور حرية من دون قانون يضع حدودا لما هو مقبول وما هو ممنوع ، لان الحرية المطلقة تعني ايضا حرية الانسان في ان يخترق مساحات الاخرين ، وربما تقود الى فوضى اجتماعية ، تضيع معها فائدة الحرية ، ويستأثر بها الاقوياء على حساب الضعفاء. المبرر الوحيد لهذا التقييد هو العدالة ، فالبديهي ان الحرية حق متساو لجميع الافراد ، وتقتضي العدالة ان يتمتع كل فرد بنفس القدر الذي يتمتع به غيره ، وهذا يؤدي بالضرورة الى تقييده. الطريق المتبع في المجتمعات المتقدمة هو تقسيم الحياة الى مجالين : مجال شخصي يتمتع فيه الفرد بالحرية المطلقة ، ومجال عام يطبق فيه القانون . وقد وجدت في التراث الاسلامي نظائر كثيرة لهذا التقسيم ، حتى في تطبيق الاحكام الشرعية من جانب الدولة . واظن انه يشكل مدخلا مناسبا للنقاش في الحدود الفاصلة بين ولاية القانون ونطاق اشتغاله وبين حرية الفرد في ان يفعل ما يشاء .

13/08/2007

الحرية التي يحميها القانون والحرية التي يحددها القانون

يقال احيانا ان اعظم الافكار قد يكون اكثرها بساطة اذا قيل في الوقت المناسب. والوقت المناسب هو الظرف الذي يحتاج الناس فيه الى جواب عن سؤال محدد او حل لاشكالية محددة. واظن ان مفهوم الحرية الذي عرضه ايزايا برلين في منتصف الخمسينات من القرن العشرين ، هو واحد من هذا النوع من الافكار التي قدمت اجابة بسيطة عن سؤال اكثر بساطة ، لكنها حظيت باستقبال حافل بين اهل الفكر والسياسة على السواء.

 هتلر يخطب في حشد ضخم في 1933 

لا بد ان جميع القراء قد سمعوا بالعبارة التي يكثر تردادها، وفحواها انه لا توجد حرية مطلقة، وانه لا بد من تقييد الحريات الفردية بالقانون او الاخلاق.. الخ. هذه الفكرة بذاتها كانت موضع انشغال الناس في اوربا في السنوات القليلة التي تلت الحرب العالمية الثانية. قبل الحرب مال معظم مثقفي اوربا الى نموذج الدولة الليبرالية الكلاسيكية، التي لا تتدخل في حياة الناس ولا في السوق الا في اضيق الحدود. لكن هذه الفكرة تراجعت بعد الحرب الى حد كبير بالنظر الى عاملين:

 اولهما الدمار الهائل الذي شهدته مختلف البلدان، مما استوجب جهدا منظما وجمعيا لاعادة الاعمار، وهذا يستدعي بطبيعة الحال تخطيطا وادارة مركزية لتوزيع الموارد.

 اما السبب الثاني فهو تفاقم الاتجاه الى التخطيط المركزي في اوربا الشرقية والصين، وهو اتجاه حقق في تلك الحقبة المبكرة بعض النجاحات الملموسة على المستوى الاقتصادي لفتت أنظار الاوربيين. معظم المثقفين كان واعيا بجوهر المشكلة المطروحة. على احد الجانبين هناك بلد يحتاج الى اعادة بناء وبالتالي حكومة قوية وقادرة على التدخل.

 وعلى الجانب الثاني، كان ثمة قلق من ان القبول بتدخل الدولة في السوق وفي حياة الناس سوف يحولها الى «غول» عصري، يبتلع الحريات المدنية ويقيم نظاما تحكميا شديد الوطأة، شبيها بالغول السياسي الذي كتب عنه توماس هوبز في القرن السابع عشر.

ولم يكن كثير من هؤلاء المثقفين قلقا على حريته فقط، بل كان قلقا من ان منح الدولة سلطات غير محدودة، قد يدفعها الى الطغيان وربما الدخول في حروب جديدة، مثلما فعلت حكومة هتلر، التي استغلت سلطاتها المطلقة فورطت المانيا في حرب ضروس اكلت الاخضر واليابس. ولو لم يكن الامر على هذا النحو لاستطاع المجتمع الالماني معارضة اتجاه الحكومة العدواني واعاقة انزلاقها نحو الحرب. 

كان السؤال الذي شغل الناس يومئذ

هل نغامر بمنح الدولة سلطات مطلقة لاعادة تنظيم حياتنا وازالة آثار الحرب ؟. أي: هل نقدم المصلحة المادية الواضحة على الحريات المدنية، ام نحافظ على هذه الحريات ولو ادى الامر الى تعطيل الاعمار؟. من الواضح ان غالبية الناس سوف تميل الى الخيار الاول، لان ضغط حاجات الحياة اليومية اشد من ان يقاوم. لكن المثقفين وقادة الرأي نظروا الى نهاية المسألة وليس بدايتها. 

قدم ايزايا برلين حلا بسيطا، خلاصته التمييز بين مفهومين للحرية سلبي وايجابي. ينطبق المفهوم السلبي للحرية على المساحة الخاصة بالحياة الشخصية التي يتصرف الفرد فيها وفقا لقناعاته الخاصة ومن دون تدخل احد، سواء كان شخصيا او قانونيا. من ذلك مثلا حرية التفكير والتعبير والاعتقاد، وحرية الانسان في العيش والعمل كما شاء طالما لم يزاحم الغير. 

طبقا لرأي برلين فان هذا النوع هو التجسيد الابسط لمفهوم الانسانية، ويعد حرمان الانسان منه انتقاصا من انسانيته. ولهذا وجب ان يحمى بالقانون لا ان يحدد بالقانون. فلا يجوز اصدار قانون يحد من حريات الناس الشخصية التي اودعهم الله اياها يوم خلقهم. اما الحرية الايجابية فيتجلى تطبيقها في المساحة التي يشترك فيها الفرد مع غيره من ابناء المجتمع. 

بعبارة اخرى فهي منظومة الحقوق والحريات التي يحصل عليها الفرد بالاتفاق مع بقية اعضاء الجماعة، وهي لهذا السبب حرية يقررها القانون وتوضع حدودها بالتوافق والتراضي. قال برلين انه يمكن للمجتمع منح الحكومة حق التدخل في المجال الثاني شرط التزامها بحماية الاول والامتناع عن اختراقه. 

 قد يكون من العسير تحديد فاصل دقيق بين المساحتين، لكن ما يمكن قوله هنا هو ان لكل فرد شريحة من الحريات الاساسية التي ينبغي احترامها على الدوام وفي جميع الظروف، لانها شرط للانسانية. واظن ان هذا يوضح المجال الذي يجوز فيه تحديد الحرية من دون ان يعد التحديد طغيانا، وذلك الذي لا يجوز للمجتمع الاقتراب منه لانه حرم خاص للفرد يفعل فيه ما يشاء، ولا يخضع لغير رقابة ضميره ومن فوقه رب العالمين.

 عكاظ الإثنين 30/07/1428هـ ) 13/ أغسطس /2007  العدد : 2248

https://www.okaz.com.sa/article/124632              
مقالات ذات علاقة 

29/04/2007

عدالة ارسطو التي ربما نستحقها


 العدالة الاجتماعية هي واحد من الاسئلة المحورية في الفلسفة السياسية. بل قد لا نبالغ اذا اعتبرناها السؤال الاول لهذا الحقل من العلوم منذ قديم الزمان وحتى اليوم. ونشير بالمناسبة الى ضآلة الابحاث المتعلقة بالموضوع في الفكر الاسلامي القديم والمعاصر، رغم الاهمية الكبيرة التي توليها النصوص الاسلامية لمسألة العدل.
تمثال ارسطو
وقد سألت شيخي في قديم الايام عن سر افتقار المكتبة العربية الى بحوث معمقة في الموضوع فقال لي ان فكرة العدالة مفقودة في التراث الديني الغربي ولهذا احتاج الغربيون الى بحثها. بينما اعتقد المسلمون ان ما وصلهم عنها من اسلافهم فيه غنى وزيادة، فلم يجدوا حاجة الى مزيد بحث عنها. وظننت انني قد قنعت بهذا التبرير.

 لكن سرعان ما اطاح بهذه القناعة اسئلة اخرى مثل: اذا كان لدينا نصوص او بحوث سابقة، فقد كان احرى ان تشق الطريق الى مزيد من البحث والدراسة، لا أن تترك او تهمل. ثم قرأت مجادلات الاسلاميين حول الماركسية والرأسمالية وفضل الاسلام عليهما، فوجدت معظمهم يتجنب - غفلة او عمدا - الجوانب الاشكالية من مسألة العدل الاجتماعي وتطبيقاتها، ولا سيما علاقتها بالتنظيم الاقتصادي والسياسي وهيكل القيم الناظمة للعلاقات الاجتماعية وتطبيق الاحكام والاعراف.. الخ.

بعض الذين تطرقوا الى مسألة العدالة، ولا سيما من قدامى الاسلاميين ومن سار على نهجهم من المعاصرين، ذهبوا مذهب الفيلسوف اليوناني ارسطو الذي رأى ان جوهر العدالة يكمن في معاملة المتساوين بالسوية، والتمييز بين غير المتساوين.

 قامت نظرية ارسطو على فرضيات سابقة حول التمايز بين الناس، كانت متعارفة ومقبولة في زمنه، وقد اضاف اليها ومنحها مبررات فلسفية واجتماعية. من ذلك مثلا ان نظام المدينة اليونانية كان يميز سكان اثينا على غيرهم، ويميز الرجال على النساء، والاحرار على العبيد، والجنود على الزراع والحرفيين، واهل الملكات الفكرية كالفلاسفة والاطباء على بقية العاملين، ورجال السياسة على سائر الناس.

بطبيعة الحال فان هذا التمييز ليس مقبولا في عالم اليوم. لكنه - في ذلك الزمان على الاقل - لم يكن اعتباطيا، فقد استند الى قائمة من المبررات التي بدت لاصحابها معقولة. وابرز تلك المبررات هو القول بان الناس ليسوا متساوين اساسا، فبعضهم اعلى - معنويا - من غيره لاسباب ذاتية او عضوية، وبعضهم كافح لاكتساب ملكات اضافية فاصبح اعلى من غيره. ومن النوع الاول مثلا منع النساء من المشاركة في السياسة والامور العامة لان المرأة - حسب رأي ارسطو - عاجزة عضويا عن التفكير السليم في الامور العامة والسياسة. وكذلك الامر بالنسبة لابناء المهاجرين الى اثينا، لانهم لم يتشربوا روح المدينة وقانونها، ومثلهم اصحاب الحرف اليدوية الصغيرة لان عقولهم غير نشطة.. الخ.

ولو اتيحت لك الفرصة للتأمل في بعض ما كتبه قدامى الاسلاميين واتباعهم من المعاصرين حول النساء وحقوقهن، وحول العلاقة مع غير المسلمين، بل وحتى المسلمين من غير اهل الديار، وحول حقوق الطبقات الاجتماعية المختلفة والقيم الناظمة للعلاقة بينها، فسوف تجد هذه الاراء نفسها او قريبا منها بنفس المبررات او مع مبررات اضافية.

يشير هذا - من ناحية - الى واحد من الاسئلة الهامة حول مبدأ العدالة وموقعه من سلم القيم الاساسية في حياة البشر. من الواضح ان التطبيق اليوناني لمبدأ العدالة كان مشروطا بالتنظيم الخاص لمدينة اثينا، ولعل بعضنا يرى ان التطبيق الاسلامي لمبدأ العدالة ينبغي ان يخضع ايضا للتنظيم الخاص للمجتمع الاسلامي.

ومعنى ذلك ان العدالة ليست من القيم العقلية المستقلة - كما يدعي جميع الفلاسفة-، وليست جزءا من الجوهر الانساني للانسان - كما يدعي الاخلاقيون - وليست معيارا اعلى لصلاح النظام الاجتماعي - كما يدعي علماء الاجتماع والسياسة. بل هي قيمة اجتماعية يتحدد مفهومها ومعناها وتطبيقها تبعا لثقافة المجتمع وما توافق عليه من نظم وأعراف. بعبارة اخرى فان المضمون النهائي لهذا الفهم يقرر ان العدالة ليست من القيم المطلقة الموضوعية، بل هي قيمة نسبية، وليست مصدرا لقواعد العمل بل فرع عنها.

وهو يشير - من ناحية اخرى - الى سؤال جوهري، يتعلق بالعامل الاساس في تحديد قيمة الانسان. يمكن صياغة السؤال على النحو التالي :

 هل تتحدد قيمة الانسان قبل ولادته ؟. بعبارة اخرى هل يتساوى جميع المواليد من حيث القيمة - وبالتالي الاهلية لاستحقاق نفس القدر من العدالة، ام ان بعضهم يولد ارقى من غيره، اي مستحقا لشريحة اعلى من العدل؟. هذا يقودنا بالتاكيد الى جدل حول ما يستحقه الفرد بالولادة وما يستحقه بالكفاءة والجهد. طبقا للرؤية الاولى فان نسب الفرد ولونه ودينه او مذهبه وانتماءه الى بلد معين هي قدر لا مفر منه، فهي التي تحدد قيمة الفرد وحياته. والفرق بين الرؤيتين لا يخفى على بصير.

26/09/2006

الحرية والنظام العام

|| الحرية حق للمواطن لانه شريك في ملكية ارض وطنه. من الناحية الاخلاقية والدستورية لا تملك الدولة اي حق في "منح" الحرية او حجبها. الحرية الفردية والحريات العامة ليست ملكا للرئيس كي يمنحها ، وليست ضمن حدود صلاحياته الدستورية كي يحجبها ||

يطالب دعاة الاصلاح بالحرية ، لانها حق لهم ولكل مواطن. ومن دون الحريات الفردية والعامة فان المواطنة تصبح كلمة فارغة من اي مضمون. في ماضي الزمن كان اعضاء القبيلة او سكان القرية اتباعا لرئيسهم. وامتد هذا المفهوم بعد قيام الامبراطوريات الكبرى ، فاصبح عامة افراد المجتمع اتباعا للامبراطور او الحاكم.
 وبقي هذا المفهوم سائدا في دول العالم حتى 1789 ، حين اصدر برلمان الثورة الفرنسية وثيقة حقوق الانسان والمواطن التي مثلت اول تقرير رسمي لشريحتين من الحريات ، تقرر الاولى ما هو حق للانسان باعتباره انسانا ، بينما تعالج الثانية الحقوق التي يتمتع بها المواطن بسبب انتمائه للمجتمع وشراكته فيه. 
التمييز بين الحقوق الطبيعية ، اي تلك المرتبطة بانسانية الانسان ، والمدنية او الدستورية المرتبطة بشراكته في المجتمع السياسي ، هو ثمرة للنقاشات الفلسفية والفكرية التي شهدتها اوربا منذ منتصف القرن 17 ، والتي انتهت الى تاسيس ما نعرفه اليوم من فلسفة سياسية حديثة تهتدي بها جميع الدول المتقدمة. في حقيقة الامر فان تطور هذا المفهوم كان حجر الزاوية ، في النهضة العلمية التي قامت على ارضيتها وفي اطارها الحضارة المعاصرة.
ثمة فارق جوهري بين مفهوم الحرية الذي تطور في هذا السياق ، وذلك المفهوم الذي يتبناه التقليديون. هذا الفارق يكمن في فكرة الشراكة في الوطن. ففي الازمان الغابرة لم يكن الانتماء الوطني او الاجتماعي اساسا لحقوق معينة يتمتع بها الافراد. في بعض الحالات كان ثمة امراء صالحون "يتفضلون" على رعاياهم بحقوق او حريات معينة ويفضلون لين المعاملة على التشدد ، وربما استشاروا بعض اهل الراي او نخبة القوم قبل اتخاذ القرارات الرئيسية.
والواضح ان مفهوم الحرية الذي يتبناه التقليديون لا يختلف كثيرا عن هذا السياق ، فهم يفضلون الملاينة على التخاشن والمشورة على الانفراد بالراي. كما يفضلون حل التعارضات بالمعروف بدل استعمال القوة. 
ولا شك ان هذه الميول تستحق التقدير. لكن هذا المفهوم لا يقود – في نهاية المطاف – الى الحريات الفردية والمدنية التي يطالب بها عامة سكان الارض في هذا الزمان. بل هو اقرب الى فكرة التسامح التي تتماثل مع الحرية في بعض الجوانب ، لكنها تختلف عنها في الارضية الفلسفية التي تنبعث منها ، كما تختلف عنها في الاطار القانوني الذي تعالج ضمنه قضاياها ومترتباتها. انها اقرب الى قرار "من فوق" مثل ميل الاب الى استعمال اللين مع ابنائه ، او قرار رئيس شركة بمداراة موظفيه. وهذا يختلف اختلافا بينا عن مفهوم الحرية الذي اطلق النهضة العلمية والصناعية التي يعرفها عالم اليوم .
المفهوم الجديد يعتبر الحرية "حقا للمواطن" يتمتع به لانه شريك في ملكية الارض التي نطلق عليها اسم الوطن. وسواء كان الرئيس كريما او بخيلا ، لينا او خشنا ، متفضلا او ممسكا ، فانه لا يملك من الناحية الاخلاقية او من الناحية الدستورية "منح" الحرية او حجبها. بعبارة اخرى فان الحرية الفردية والحريات العامة ليست ملكا للرئيس كي يمنحها ، وليست ضمن حدود صلاحياته الدستورية كي يحجبها. بل ان وجوده على مقعد الرئاسة وتمتعه بالصلاحيات والامتيازات التي يتفوق بها على غيره ، مشروط بحمايته لحقوق مواطنيه وحرياتهم وتكريس جهده للدفاع عنها ومنع الاضرار بها او تعطيلها من جانب اي هيئة اخرى حكومية او غير حكومية.
لهذا السبب فان دساتير الدول المتقدمة ، تنص صراحة على بطلان اي قانون او قرار او اجراء حكومي يؤدي بصورة من الصور الى تعطيل حريات المواطنين. ولحسن الحظ فان واضعي الدستور العراقي الجديد قد توصلوا الى صيغة مبتكرة ، تمثل حلا لاشكالية العلاقة بين الدين والحرية. اذ تنص معظم دساتير الدول العربية كما هو معروف على ان الاسلام مصدر اساسي للتشريع والقانون. لكن كان ثمة خشية من ان يستثمر بعض المتشددين واصحاب العقول العسيرة هذه المادة في اصدار قوانين او سياسات تعطل الحريات الفردية ، كما هو مشهود في عدد من الدول العربية التي تصدر فيها بين الحين والاخر قرارات حكومية او احكام قضائية تعطل حريات التعبير او العقيدة او العمل تحت مبررات تلبس ثوب الدين او التقاليد.
 الحل الذي توصل اليه المشرعون العراقيون ، هو اضافة مادة تنص صراحة على الغاء اي قانون يعارض المتفق عليه من الدين الحنيف او يضيق حرية المواطن (المادة 2). وهكذا ربطت بين الالتزام باحكام الدين وحماية الحريات الفردية. ومن المأمول ان يسهم هذا التاسيس الدستوري في اطلاق حركة فكرية واجتماعية نشطة بعد ان تستقر الاوضاع في العراق في قادم الايام.
من المفهوم بطبيعة الحال ان مفاد الحرية لا يتحقق على ارض الواقع ما لم يكن الامن والنظام العام مستقرا. ولذا قيل بان الحرية لا توجد الا في مجتمع يحكمه القانون. لكن شتان بين قانون يسعى لحماية الحرية وقانون يسعى لتعطيلها بحجة الامن والاستقرار. ومن المؤسف ان هذا هو الميل الغالب عند الكثير من الحكومات العربية. واذا كان للعلم من فائدة ، فان العديد من الدراسات الجديدة المدعومة باستنتاجات عن تجارب فعلية ، قد توصلت الى ان تعطيل الحريات لم يؤد ابدا الى سيادة الاستقرار ، بل ادت في كثير من الاحيان الى نقل التوتر الاجتماعي من السطح الى تحت الارض وانتجت حالات التمرد والانشقاق التي نعرفها في العالم العربي اليوم. 




مقالات ذات علاقة

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...