لطالما وجدت نفسي حاملا السلم بالعرض ، كما يقول اشقاؤنا في الشام. ولم اقصد هذا في اي حال. لكن بعض الاراء تورد الانسان هذا المورد ، برضاه او مجبرا. انها قضايا صغيرة ، تثير نقاشات عميقة متشعبة ، وقد تعلمت الكثير من متابعتها والتأمل في خلفياتها ، وأظن ان غيري قد استفاد منها ايضا.
ومن هذا القبيل نقاش
العدالة والمساواة ، الذي عرضت له في مقال الاسبوع الماضي. فقد اعترض بعض القراء ،
وبينهم اشخاص في مقام اساتذتي ، على تأكيدي المكرر على مبدأ المساواة. وهم يرون ان
الاصل ليس التسوية بين الناس ، لأن الناس غير متساوين في الاساس. البديل بحسب
هؤلاء الاعزاء هو مبدأ العدالة ، الذي يعني – عندهم - إعطاء كل شخص ما يستحقه ، ومراعاة
الفروق الفردية ، حتى لو ادى ذلك الى تمييز واسع النطاق بين الناس.
انني مهتم بهذا
النقاش لسبب بسيط ، وهو ان شريحة واسعة من القراء ، استراحت الى مقولة ان العدل
يقتضي التمييز احيانا. وهذا مبدأ صحيح ، لكنه استخدم في المكان الخطأ. بيان ذلك ان
أصل النقاش يرجع لخلاف حول التكافؤ الطبيعي. فهناك من قال بان الناس يولدون متكافئين
في القيمة والقابليات ، وانما يتفاوتون لاحقا ، بحسب البيئة والتربية والاجتهاد
الشخصي. وهناك من قال بان بعض الناس يولدون بدم انقى من الاخرين ، فمكانهم الاجتماعي
، على الدوام ، اعلى من غيرهم. وهذا أصل المسألة الفقهية المعروفة بتكافؤ النسب ،
وتفضيل الأبيض على الاسود والرجل على المرأة ، وتفضيل العربي والهاشمي على غيرهم الخ.
اما النقاش في
معنى العدالة ، فقد اتخذ مسارات ثلاثة:
الاول: يقول بان
العدل هو معاملة المتساوين بالسوية والتمييز بين المختلفين. مثلا: المساواة بين
كافة الرجال الاحرار العاديين. والتمييز بينهم وبين الرجال العلماء ، والرجال
العبيد ، والتمييز بينهم وبين النساء.. وهكذا. وهذا الراي هو السائد في المدارس الدينية ، الاسلامية
والكاثوليكية.
الثاني: يقول بان
السوق منظم عادل للحياة: يولد الناس متساوين ، ويجب ان يضمن المجتمع حصول الجميع
على فرص متساوية (المساواة في البداية). اما مايحصل لاحقا ، فان كفاحهم وظروف
السوق والحياة هي التي تقرر من يحصل على ماذا. وهذا راي التيار المعروف بالليبرتاري.
الثالث: يقول بان
المساواة هي التمثيل الأولي للعدالة. فاذا اقتضى الامر تمييزا ، فيجب ان يكون لصالح الاقل
حظا حتى يتساوى مع الاخرين.
انني لا اخفي ميلي
القوي الى الاتجاه الثالث ، والى التيار الذي يتبناه ، وهو المعروف
بالمجتمعية/المساواتية الذي ينسب للفيلسوف المعاصر جون
رولز. ومما شدني اليه ، انطلاقه من مبدأ العقد الاجتماعي وايمانه بخيرية البشر
وقدرتهم على ادراك الحق والخير ، اضافة لتشديده على مبدأ الحرية ، وكونها الاساس
الاول والركن الركين للعدالة الاجتماعية.
ان احدى السمات
المهمة في المساواة – وفق تصوير ايزايا برلين – هي
انها أصل وقاعدة
معيارية. لو ساويت بين الناس فلن تحتاج لتبرير ، لانها هي الاصل. لكن لو اعطيت
احدا اكثر من غيره ، فلا بد من تبرير لهذا الاستثناء.
وما دمت قد ذكرت
برلين ، فلعلي أختم به ، فرغم قوله بأن المساواة هي الاصل ، الا ان طبيعة الحياة
تقتضي تطبيق اكثر من مبدأ وقيمة كي تكون اكثر لينا ، اي ان ترجح هذه هنا وترجح تلك
في الموضع الآخر. لكن يجب ان لا ينتهي هذا
ابدا الى تهميش القواعد الاساسية ، فنتحول من المساواة الى التمييز او من الحرية
الى الاستبداد.
الشرق
الاوسط الأربعاء - 20 ذو القعدة 1442 هـ - 30 يونيو 2021 مـ رقم العدد [15555]
https://aawsat.com/node/3054056/
مقالات ذات صلة
"شراكة التراب" كتطبيق لمبدأ العدالة
الاجتماعية
العدالة
الاجتماعية وتساوي الفرص
فكرة المساواة: برنارد وليامز
قصة
المساواة... أولاد يشاهدون مباراة
مراجعة لحقوق النساء في الاسلام: من
العدالة النسبية الى الانصاف : محسن كديور (دراسة موسعة)
المساواة بين الخلق
... المساواة في ماذا ؟
المساواة والعدالة : ديفيد ميلر
المساواة: اشكالات المفهوم واحتمالاته: ايزايا
برلين