من حيث المبدأ ، يتجه
الخطاب الديني الى كل البشر ، في كل الازمان والأماكن ، باعتباره مثالا ومنهجا
كونيا ، قادرا على توحيد الأحياء وتعزيز الالفة فيما بينهم ، وصولا الى تشكيل أمة
واحدة تسود الكوكب. وفي هذا المجال لا يختلف دين عن دين. الاسلام مثل المسيحية واليهودية
والبوذية وجميع الاديان الأخرى ، كل منها يقدم نفسه كخطاب كوني وقوة توحيد للعالم.
وهي جميعا تدعو للتعارف والتفاهم بين الاقوام والجماعات البشرية المختلفة ،
تمهيدا للاندماج والتوحد..
لكن تاريخ العالم يخبرنا
ان الأديان التي نجحت أولا في توحيد المجتمعات الصغيرة ، سرعان ما أصيبت بداء
الانقسام والتفكك الداخلي.
الامبراطورية الرومانية المقدسة 117م |
ومن المفارقات ان كل
الاديان تسعى للتوسع ، من خلال ضم مجتمعات جديدة الى قاعدة اتباعها ومعتنقيها. لكن
هذا المسار بذاته ، يفتح الباب لدخول أعراف تلك المجتمعات وموروثاتها الثقافية ،
الى النسيج الثقافي للدين. وطالما بقيت ابواب المعرفة الدينية مفتوحة لجميع اتباع
الدين ، فان احتمالات التحول في تلك المعرفة ، تبقى مشرعة بنفس القدر. المزيد من
الاتباع يعني المزيد من الاضافات ، والمزيد من الاضافات يعني احتمالات جديدة لظهور
جماعات متمايزة داخل الدائرة الدينية.
اختلاف الفتوى من بلد
لآخر ومن زمن لآخر ، مثال شائع عن تلك الحقيقة. وهو للمناسبة من الأمور التي
يحبذها كافة اتباع الأديان ، ويرونها دليلا على يسر الدين وانفتاحه. بعض الباحثين
ينظر لاختلاف الرأي والفتوى كقضية علمية بحتة ، سببها اختلاف العقول وتعدد الأدلة.
لكن الواقع يخبرنا ان عقل الانسان لا يعمل في العزلة. فهو يتأثر بالمعارف
المنظمة والأدلة ، إضافة الى التصورات الذهنية المنعكسة عن ظرفه الاجتماعي ، أي
أنماط معيشة الناس وهمومهم ومشكلاتهم وتطلعاتهم ومصالحهم ومخاوفهم. تترك هذه
المؤثرات بصمتها على الفتوى والرأي الديني ، مثل اي تعبير ثقافي آخر. العوامل
البيئية تؤثر في فهم الباحث لموضوع البحث كما تؤثر في مسارات تفكيره ، وتؤثر اخيرا
في صياغته لنتاج عقله. اختلاف البيئة الاجتماعية لعالم الدين ، هو السبب وراء تعدد
النماذج الدينية واختلافها بين بلد وآخر ، أو حتى بين جيل وآخر في نفس البلد.
المفترض ان نتعامل مع
تعدد النماذج الدينية كسياق طبيعي في الحياة. بل من المنطقي القول انه مؤشر على
اتساع التجربة الدينية وميلها الى الثراء والتكامل. لكننا مع ذلك سنواجه سؤالا لا
يسمح باجابة نهائية ، وهوسؤال المسافة الممكنة للاختلاف بين النماذج المحلية للدين
من جهة ، والمسافة الممكنة للاختلاف بين كل من هذه النماذج ، وبين النموذج النظري
الاصلي. سبب هذا السؤال هو القناعة القائلة بأن النموذج الاصلي للدين ، هو الوحيد
الذي يتمتع بمشروعية كاملة ، أما النماذج المحلية فمشروعيتها نسبية ، ومشروطة
بقربها الى الأصل أو بعدها عنه.
بالنسبة لمعظم الناس ،
يبدو ذلك السؤال بديهيا وضروريا. فجميعهم يود الاقتراب من الاصل قدر المستطاع.
لكنه ، من ناحية أخرى ، سؤال غير منطقي ، بل لا يبعد ان يكون بلا موضوع. فكل متدين
ينظر الى كلا النموذجين: المحلي والأصلي ، من زاويته الخاصة. اي أن رؤيته محكومة
بظرف الانقسام ، وبالتالي فهي منحازة. فهل يمكن لرؤية منحازة ان تقدم حكما محايدا؟.
نتيجة الجواب ليست مهمة ،
المهم ان قبولنا بالسؤال في الاصل يمثل اقرارا ضمنيا بأن المعرفة الدينية نسبية ،
وان التطبيقات الدينية من جملة تلك المعارف ، التي قد تطابق الحقيقة الدينية او
تفارقها.
الشرق الاوسط 31 مايو 2017
http://aawsat.com/node/939756