11/10/2006

الهندسة وسخرية الاقدار



الهندسة الاجتماعية هي واحد من الحقول العلمية التي اثارت اهتمام الكثير من السياسيين والعلماء في اوقات مختلفة، لكنه - مع ذلك – بقي على حاشية اهتمام المجامع الاكاديمية. جوهر فكرة الهندسة الاجتماعية هو تفكيك النظام الاجتماعي ثم اعادة تركيبه وصياغته على نحو خاص. الزعيم، سيما ذلك الذي ينظر الى نفسه كصاحب رسالة او رؤية تاريخية، يرغب في ان يرى جميع افراد شعبه على شاكلته: يحملون افكاره ويتبنون مبادئه ويتطلعون الى اهدافه، ويرون فيه المثال الاعلى او الانسان الكامل الذي يستحق الاتباع.
ترجع هذه الفكرة الى زمن قديم جدا، فهي ترتبط فلسفيا بنظرية النظام ونظرية الانسان الكامل المعروفتين في فلسفة ارسطو. تصور ارسطو العالم المثالي على شكل نظام ثابت تتحدد فيه ادوار الناس واعمالهم ومكانتهم على نحو يشبه ما نفهمه من فكرة «القدر».
ثمة من يولد كي يصبح ملكا، وثمة من يولد كي يعمل فلاحا، او فيلسوفا او جنديا او تاجرا، فاذا قبل كل فرد مكانه وعمل فيه بافضل ما يستطيع ولم يتطلع الى ادوار سواه او ينافسهم فيها، فان الحياة الاجتماعية ستستقر وتتطور بالتدريج نحو صورة المدينة المثالية. ولهذا عارض ارسطو النظام الديمقراطي لانه يفتح الباب للصدف الخارجة عن التخطيط والنظام، بخلاف النظام الارستقراطي الذي يضمن وصول افضل الناس واعلاهم علما ومكانة الى السلطة السياسية وادارة المجتمع.
تطورت هذه الافكار العتيقة الى المذهب السياسي الذي يعرف اليوم باسم الشمولية او التوتاليتارية، وخلاصته ان الحاكم او النخبة الحاكمة تحمل رسالة تاريخية الى المجتمع الذي تحكمه، وان على المجتمع ان يمكنها من فعل ما تشاء في سبيل تحويل مضمون هذه الرسالة الى واقع قائم.
كان الزعيم النازي هتلر بين ابرز الذين تبنوا هذا المذهب، وكافح كفاحا مريرا في سبيل تحويل المانيا الى قلب العالم ونجح الى حد كبير، لكنه وصل الى ذروة نجاحه في الوقت الذي وصلت اخطاؤه ايضا الى الذروة، فكانت نهايته كما نعرف. وكرر التجربة نفسها ستالين في الاتحاد السوفييتي السابق، لكنه وصل الى ذات النهاية التي اودت بهتلر ولو على صورة مختلفة. وفي السنوات الاخيرة حاول بعض الزعماء الاقل شأنا، مثل الرئيس العراقي السابق صدام حسين، تقليد تلك التجربة، فانتهى الامر بتحول العراق الى جحيم لاهله وجيرانه.
طبق المذهب الشمولي على اشكال مختلفة، وقد راينا في التجارب السابقة عنصرا يتكرر باستمرار هو محاولة الحكومة اعادة صياغة النظام الاجتماعي من خلال تغيير البنية السكانية. ركز هتلر قليلا على هذا العنصر واستهدف خصوصا الطائفة اليهودية، فعمل على اضعافها وابعادها عن اي مركز مؤثر في السياسة اوالاقتصاد او التعليم او الاعلام. اما ستالين فقد قام بعمل نموذجي اذ نقل شعوبا بكاملها من مناطقها واعاد اسكانها في اماكن اخرى ضمن عملية خلط قسري بين القوميات المختلفة بهدف اضعاف او تفكيك الهويات الموروثة لصالح الهوية السوفيتية الارقى.
قام صدام حسين بتجربة مماثلة فقد نقل العديد من العشائر الكردية الصغيرة من مواطنها الى مناطق عربية في الجنوب، وهجر الى خارج العراق اربعين الف عائلة من ذوي الاصول الايرانية، كما استقدم نحو ثلاثين الف عائلة من مصر واعاد اسكانها في مناطق في الشمال والوسط بهدف اضعاف الهويات العشائرية والمذهبية والقومية لسكان المناطق المستهدفة.
لم تفشل هذه التجارب فحسب، بل ادت ايضا الى اضعاف النظام السياسي في كل دولة شهدتها فشل هتلر واصبح مشروعه وصمة عار في تاريخ اوربا والعالم. ويذكر مشروع ستالين كسبب مهم وراء انفجار الاتحاد السوفيتي وسقوطه في 1991. اما العراق فقد تحول شبح «الهندسة الاجتماعية» التي طبقها النظام السابق الى محرك للتنافر والمخاوف ومبرر لدعوات التقسيم التي نسمع بها كل يوم.
يعتقد الزعماء انهم سيكونون احسن حالا لو اعادوا تركيب النظام الاجتماعي على نحو يناسب طموحاتهم. لكنهم في حقيقة الامر لا يريدون اكثر من تثبيت جذورهم في الارض، وتحويل سلطتهم من ظرف مؤقت الى «قدر» نهائي. نقطة الضعف الكبرى في هذه المشروعات هي موضوعها، اي البشر الذين يراد اعادة صياغتهم. لو كان الامر يتعلق بجمادات او مكائن لكان الامر هينا، فالجماد يبقى في اي مكان تضعه فيه.
 اما الانسان فهو كائن متحول، تستطيع ان تفرض عليه مكانه في يوم معين، لكن من المستحيل ان تفرض عليه غده ومستقبله، ومن المستحيل ان تحدد منتجات عقله وميوله فاذا خضع اليوم وبدا ان الامور ستستقيم كما خطط لها، فمن السفه الظن بان غدا سيكون مثل اليوم. انسان اليوم هو غيره في الغد، واذا لم يكن مختلفا فان ابنه سيكون مختلفا ولهذا فان مشروعات الهندسة الاجتماعية لم تنجح في اي بلد. ومن الاسلم والانفع اذن البحث عن سبل اخرى لتعزيز السلطة، وتعلمنا تجارب العالم المتحضر ان تحقيق الاجماع الوطني والتوافق هو اكثر السبل نجاحا واقلها كلفة.
  صحيفة الأيام البحرينية 11 / 10 / 2006م 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الانتقال الى الحداثة

بعد جدالات الاسبوعين الماضيين ، قد يسألني القاريء العزيز: لنفترض اننا اردنا التحرر من أسر التقاليد المعيقة للتقدم والتكيف مع روح العصر ومتط...