||
ما يدفع الانسان الى العنف هو اكتشافه للمضمون السياسي للفقر. اهمال الدولة يولد
عند الناس شعورا بان فقرهم ليس ناتجا عن تقصيرهم ، بل عن خلل في بنية النظام
السياسي ، الذي لا يهتم بهم او لا يريدهم اغنياء ||
قبل
وقت طويل نسبيا، كتب د. محمد جابر الانصاري عن مواطن عربي ينهض لحرب يتوقع مقتله
فيها لكنه لا ينهض لتنظيف الطريق امام بيته. هذه الملاحظة العميقة يمكن تطبيقها
على منظمات وحكومات تنهض لخوض حروب تنفق فيها مئات الملايين، وقد كانت تستطيع
اتقاءها لو انفقت بضع عشرات من تلك الملايين على التنمية الاقتصادية والاجتماعية
وتحسين مستوى الحياة لاولئك الذين تحاربهم. بعبارة اخرى، فانت مخير بين ان
تدفع مليون دولار لشخص كيف يكفيك شر الحرب او تنفق عشرة ملايين في الحرب عليه.
ربما
يبدو هذا الكلام مغريا للناس الذين يحسبون المسألة رياضيا. لكن السياسة لا تدار على
هذا النحو. السياسيون واصحاب التاملات يفضلون الابتعاد عن التبسيط، ويعتبرون كلاما
من صنف الذي ذكرناه سذاجة مغرية. انا ايضا اعتقد انها فكرة ساذجة ومغرقة في
التبسيط. لكني اجد - من ناحية اخرى - ان الحقائق بسيطة وان الفهم الساذج او الفطري
هو اقرب الافهام الى جوهرها. كثير الكلام لا يغير حقائق الاشياء ولا يزيدها وضوحا.
الحرب
في اليمن ، والحرب السابقة في السودان ، والحروب الاخرى التي طحنت المئات في
الجزائر والعراق وباكستان وافغانستان ، كان يمكن تفاديها او على الاقل اختصار
حجمها والامها ، لو انفقت موارد مناسبة على تنمية المناطق المشحونة بالعنف. جاء
متمردو الجزائر من ولايات فقيرة بحثا عن حياة كريمة في العاصمة. وفي باكستان يدور
التمرد المسلح في الولايات الجبلية الشمالية ، وهي الاشد فقرا وتخلفا في هذه
البلاد. وانطلقت حرب السودان في الجنوب ، الذي طالما ضربته المجاعات والاوبئة بسبب
غياب اي مشروع تنموي جاد.
ارتباط
العنف بالفقر ليس من اسرار السياسة. منذ زمن طويل كان علي بن ابي طالب يقول
"عجبت للجائع كيف لا يخرج في الناس شاهرا سيفه". يقدم د. تركي الحمد
اشارة ذكية الى هذه العلاقة مستشهدا بتفسير الفيلسوف الفرنسي روسو ، الذي رأى ان
الفقر بذاته لا يدفع الانسان الى العنف. ثمة كثير من الناس فقراء جدا لكنهم
مسالمون. ما يدفع الانسان الى العنف هو اكتشافه للمضمون السياسي للفقر. اهمال
الدولة يولد عند الناس شعورا بان فقرهم ليس ناتجا عن تقصيرهم ، بل عن خلل في بنية
النظام السياسي ، الذي لا يهتم بهم او لا يريدهم اغنياء. عندئذ يجد الناس انفسهم
امام خيارات كلها مريرة: الصبر على حياة بائسة، او الهجرة الى بلاد اخرى، او
التمرد.
هذا
وجه للمشكلة . لكن ما الذي يجعل التمرد خيارا وحيدا، رغم عواقبه الكارثية
الواضحة؟. لو فكر كل فرد في حل شخصي لمشكلته، افليس من الممكن ان ينتهي جزء كبير
من المشكلة؟.
هذا
يعيدنا الى ملاحظة الدكتور الانصاري ، عن هوس العرب بالحلول الحاسمة واعراضهم عن
الحلول الطويلة الامد والتدريجية. سواء كنا نفكر في مواجهة عدو او في تحسين مستوى
معيشتنا ، فاننا نفكر دائما في حلول كاملة وفورية، حلول بالضربة القاضية. لا يختلف
الافراد عن الحكومات، فالجميع يفكر على هذا النحو. احد الاسباب يكمن في
افتقار ثقافتنا الى القيم التي تعلي من شأن الحلول التدريجية والمساومة والتفاوض.
لكن لعل السبب الرئيسي يكمن في فلسفة التربية والتثقيف ، التي تؤكد على احتكار
الدولة للشأن العام.
نتعلم
في مدارسنا ان الدولة هي الجهة الوحيدة المكلفة بتنمية البلاد. يضاف الى هذا ان
الدولة لا تسمح عادة للافراد والجماعات الصغيرة ، باقامة اطارات خاصة لتنظيم
مشاركتهم في الجهد التنموي. لا شك ابدا في ان المجتمع الاهلي يستطيع المشاركة في
علاج المشكلات وملء الفراغات وتعويض مواضع القصور في الاداء الحكومي. ابسط الامثلة
على ذلك هو النشاطات الثقافية والجمعيات الخيرية الاهلية التي تسد بالتاكيد فراغا
محسوسا .
هل
يعني هذا ان المجتمع قادر على معالجة مشكلة العنف والحروب المتنقلة؟
المؤكد ان المجتمع
قادر على ان يشارك في العلاج. لكن دوره يتوقف على مبادرات حكومية لتمهيد الطريق
امام المجتمع كي يقوم بهذا الدور. قبل ذلك يجب ان نفكر جديا في الثمن الباهظ الذي
تدفعه الدولة للحرب على المتمردين، والذي كان يمكن توفيره او تخفيضه لو عملت على
تبريد البيئات المنتجة للعنف والتمرد. هذا يحتاج طبعا الى مراجعة جذرية لخريطة
توزيع الموارد المالية، اي توجيه الجزء الاعظم لانماء المناطق الفقيرة بدل شراء
الاسلحة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق