التخصيص
أو الخوصصة كما يسميها اخواننا المغاربة ، اصبحت الان درة التاج في السياسات
الاقتصادية للعالم العربي. ونعني بهذا تخصيص مؤسسات الخدمة العامة ذات الطبيعة
الاستراتيجية ، واهمها تلك الخدمات التي تشكل - بصوة من الصور - مصدر دلالة على
مشروعية النظام السياسي ، مثل قطاع الكهرباء والماء والصحة العامة والتعليم
والاتصالات والامن .
وقبل
عقد التسعينات ، كان للقطاع الخاص المحلي دور في بعض الخدمات ، كالصحة والتعليم دون الجامعي ، لكن الدولة حافظت دائما
على الجانب الاهم من هذين القطاعين ، أي ذلك المتوجه للشريحة الاوسع من المجتمع ،
كما ان القطاعات الأخرى ، بقيت حكرا على الدولة حتى اواخر التسعينات .
الاتجاه
العالمي إلى ابعاد الدولة عن الخدمات التجارية أو شبه التجارية ، والميل إلى إعادة
تأسيس منظومات الخدمة العامة على أساس تجاري بحت ، كان وراء هذا التحول ، لكن
الدافع الاهم كان رغبة الدولة في التخفف من الاعباء المالية لهذه الخدمات ، خاصة
بعد انحدار عوائد البترول في النصف الثاني من الثمانينات ، وتفاقم الدين العام إلى
مستويات غير مسبوقة .
في
بريطانيا مثلا ، كانت سياسة تخصيص الخدمات العامة في عهد رئيسة الحكومة السابقة السيدة مارغريت تاتشر ، تجسيدا
لاتجاه عام نحو تعميق الليبرالية في الحياة السياسية ، التي جوهرها تجريد الدولة
من حق التدخل في حياة الناس في الظروف الطبيعية ، وتكريس جهدها للسياسة باعتبارها
عملا تخصصيا ، وهو اتجاه أوجع الكثير من الناس ولا سيما التنظيمات العمالية التي
تمثل الطبقات الفقيرة ، إلا انه في نهاية المطاف اثمر عن تعزيز قوة المجتمع المدني
، كما عزز قوة الدولة التي تخففت من اعبائها وتكرست لقيادة البلاد ، ولهذا يقال
الان ان الازدهار الاقتصادي الذي تعيشه بريطانيا اليوم - قياسا إلى ما كانت عليه
في السبعينات - هو ثمرة الفرص الكبيرة التي اوجدها ذلك التوجه السياسي .
على
خلاف هذا المنهج ، فان سياسات التخصيص القائمة عندنا ، تقتصر على الجانب الاقتصادي. ويبدو ان غرضها الأول والاخير ، هو نقل العبء المالي من كتف الدولة إلى كتف الناس. ولهذا فان معظم الناس ينظرون إلى هذا الاتجاه بارتياب ، خاصة وقد ترافقت مع دعوات
إلى فرض ضرائب على الدخل والخدمات ، وهو ما بدأ تطبيقه فعلا على صورة رسوم اضافية
على الخدمات مثل الكهرباء والوقود والخدمات الحكومية .
بالنسبة
إلى الولايات المتحدة واوربا ، فان فرض الضرائب وتخلي الدولة عن واجباتها الخدمية
، كان متلازما مع توسيع المشاركة الشعبية في القرار السياسي ، وصولا إلى
تجريد الحكومة من استقلالها ، وتحويلها
إلى هيئة مملوكة للمجتمع بصورة كاملة ، حيث لم يعد أحد من اهل الحكم قادرا على
تصور امكانية البقاء في السلطة ، دون تفويض متجدد من جانب الشعب. ان شعار (لا ضرائب من دون تمثيل شعبي) الذي يرجع إلى بدايات تاسيس النظام الغربي ، هو عنوان لفلسفة
شاملة في العمل السياسي ، خلاصتها ان اهلية الدولة لفرض الزامات سياسية أو مالية
على المجتمع ، مشروطة بكون المجتمع شريكا في القرار السياسي ، ورقيبا فعليا على الهيئات
التي يحق لها اتخاذ قرارات كهذه ، والرقابة تعني ان يكون المجتمع قادرا على منح
التفويض الذي بموجبه يصل الاشخاص إلى المناصب السياسية ، وسحب التفويض بما يؤدي
إلى عزلهم من تلك المناصب .
وارى
ان الحكومات العربية تعاني اشد المعاناة وهي تواجه القرار المحتوم بتخصيص الخدمات
العامة ، ولذلك فهي تتحرك ببطء شديد ، ويحاول البيروقراطيون والسياسيون بكل تصميم
قصر التحول على ذلك الغرض ، ولهذا مثلا فان تخصيص الخدمات العامة لم يترافق مع
الغاء امتيازاتها الاحتكارية ، فشركات البترول والكهرباء والاتصالات لا زالت تتمتع
باحتكار السوق ، مع ان التخصيص في كل بلاد العالم ، تلازم دائما مع فتح السوق امام
المنافسة التجارية ، من اجل تمكين المستهلك من الاختيار وازاحة حجاب التكتم الذي
يلف حسابات واعمال تلك الشركات ، التي ما زالت تحظى بمعاملة تفضيلية من جانب
الدولة .
كي
تكون الامور واضحة ، فان احدا من عامة الناس لن يرحب ببرامج التخصيص ، ولن يدفع
الضريبة عن طيب خاطر ، إلا إذا جاءت ضمن تغيير شامل في فلسفة الحكم ، تشمل فسح
المجال امام مشاركة شعبية كاملة في القرار السياسي ، من خلال ممثلين ينتخبهم جميع
الناس ، ورقابة شاملة تتجسد في ازالة الاستار التي تحجب ما يجري داخل مؤسسات
الدولة عن عين الجمهور ، والغاء القيود التي تعيق الصحافة المحلية عن ممارسة دورها
الرقابي ، وتمكين الناس من حقوقهم الطبيعية في التعبير عن ارائهم واراداتهم
وانتماءاتهم ، وربط الوظيفة السياسية والسيادية بالتفويض الشعبي ، الصريح والاختياري
، والا فان الدولة لا تملك أي حق في فرض اعباء مالية على الناس .
بعض
الخبراء والعالمين بامور السياسة ، يقولون ان امور البلاد لا يمكن ان تستقر مع
تزايد الاعباء المالية الملقاة على كاهل الدولة ، وارى ان الناس يمكن ان يقبلوا
بهذه الفكرة ، شرط قبول اولئك بما يريده الناس ، وهو ما عرضناه في السطور السابقة
، واحدة بواحدة ، فان لم يستطيعوا قبول هذه المعادلة ، فليتركوا الفرصة لغيرهم ،
عله يستطيع .
الرأي
العام 3 مارس 2001
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق