21/07/2021

البلاد بوصفها "مسرح العرائس"

 

اسهل الكلام هو اتهام الأفغان بانهم دمى تحركهم اياد اجنبية ، وان صراعاتهم كلها حروب بالوكالة. ومثله في السهولة اتهام السوريين والليبيين. اني لا انفي وجود اياد اجنبية في أي مكان. ولا أنفي انها تؤثر ، ولولا انها مؤثرة لما التفت اليها احد. لعل بعضنا يعرف ان القضاء الأمريكي لازال يحقق في "أياد روسية" حاولت التاثير في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. فاذا وصل الامر الى واشنطن فان كابل ايسر مؤونة.

رغم هذا فان اطلاق القول على هذا النحو مدعاة للسخرية. ولهذا يميز طلبة العلوم السياسية ، سيما الذين تدربوا على دراسة الحقل المشترك بين العلاقات الدولية وإدارة الازمات ، بين قيام الأجنبي ب"خلق ازمة" وقيام الأجنبي ب "استثمار أزمة ، نشطة او خاملة".

أعرف حالات قليلة جدا ، شهدت نجاح الايادي الأجنبية في خلق أزمات أدت الى صراع اهلي. لكن معظم حالات الصراع الأهلي تطور عن تأزمات داخلية ، فشل أطرافها في معالجتها على نحو سليم ، فنشأ فراغ أمني او فراغ سياسي ، مهد الطريق للتدخل الأجنبي.

ما الداعي لهذا الحديث اليوم؟

اعلم ان انسحاب القوات الامريكية من أفغانستان ، والتوسع المفاجيء لحركة طالبان ، سوف يجتذب اهتمام القراء. ولابد أنه سيحرك الكثير من النقاشات. فأردت استثمار المناسبة لكشف ما اظنه عيبا جوهريا ، في الثقافة السياسية السائدة بين العرب المعاصرين وبعض جيرانهم المسلمين. هذا العيب هو ببساطة احتقار الذات ، الذي يتغطى بعباءة تفخيم الذات او تبرئة الذات.

حين تقول ان كل الأطراف المتصارعة تقاتل بالوكالة عن قوى اجنبية ، فانت تشير ضمنيا الى ان الأطراف المحلية ، عاجزة عن اتخاذ القرار في أمور بلدها ، وحتى في تحديد دورها الخاص ومستقبلها ضمن هذا البلد. اذا قلت هذا الكلام ، فسوف تجد من يلقي الكرة في ملعبك سائلا: وهل انت واحد من هؤلاء العاجزين.. وهل قبيلتك او اهل ديانتك او قريتك ممن تحركهم الايادي الخارجية ، كما يفعلون في مسرح العرائس؟.

 يعلم الانسان بانه سيواجه هذا السؤال ، ولهذا فهو يستبق الأمور بتفخيم الذات وتنزيهها ، من خلال رمي المشكلة على الغير (الذي يكون في غالب الأحيان غائبا ، او غير قادر على المجادلة والرد). كمثال على هذا: يقول الليبيون انه لم يكن لديهم أي مشكلة قبل ان يأتي أناس من الخارج ، نفس الشيء قاله بعض العراقيين والافغان وربما غيرهم. بعبارة أخرى فان المسالة تتدرج على مرحلتين: الأولى الادعاء بان اهل الداخل أدوات تحركها قوى اجنبية (المضمون ان شعبنا عاجز عن القرار والفعل) ، الثانية: التحليل: لان اهل الداخل عاجزين فهم لن يرتكبوا خطأ (المضمون: طالما لم تتسبب في المشكلة فلا لوم عليك ، حتى لو انخرطت فيها لاحقا).

هذا كلام ينطوي على استهانة بالذات وبالمحيط الاجتماعي ، وان تلبس عباءة البراءة وتنزيه الذات. لانه حتى لو افترضنا جدلا انه صحيح ، فسوف يعود السؤال: هل كنتم مجرد قطيع يسوقكم راع هبط عليكم فجأة ، فاطعتموه من دون ان تعرفونه... اما كان الالاف منكم قادرين على التوقف لحظة والتفكير فيما يجري واكتشاف "المؤامرة" المدعاة؟.

الواقع ان معظم النزاعات الاهلية التي نعرفها ، في محيطنا العربي والإسلامي وصولا الى بقية قارات العالم تفجرت لوجود علل وأمراض في البنية الاجتماعية او السياسية. ان وجود هذه العلل في الاصل مؤشر على تقصير اهل البلاد ، وكان يتوجب عليهم المبادرة في علاجها يوم اكتشفت ، قبل ان يمسي العلاج مستحيلا ويصبح التفكك خيارا وحيدا ، كما جرى في السودان وقبلها في يوغوسلافيا السابقة.

يتعلق الموضوع في الجوهر بمسألة "الاجماع الوطني". ولهذا حديث آخر نعود اليه قريبا ان شاء الله.

الشرق الاوسط الأربعاء - 11 ذو الحجة 1442 هـ - 21 يوليو 2021 مـ رقم العدد [15576]

https://aawsat.com/home/article/3090701/

 

مقالات ذات صلة

المؤامرة والسياسة

حكومة العالم الخفية

تحولات التيار الديني – 5 السلام مع الذات والسلام مع العالم

الشيعة في زمن جديد

الحر كة الا سلامية ، الغرب والسيا سة ( 2 من 3 )

07/07/2021

العدالة الاجتماعية: رؤية جون رولز

 

"العدالة الاجتماعية" هي الموضوع الأكثر إثارة للجدل السياسي على امتداد العالم. ربما لا يذكر كثير من الناس هذا العنوان ، لكنهم يتحدثون عن التفصيلات التي تندرج تحته. خذ مثلا مسألة السكن: هل هي مسؤولية الدولة ام مسؤولية الافراد؟. خذ أيضا كفاءة الخدمات العامة كالتعليم والرعاية الصحية والمواصلات وتوليد الوظائف.

لم يكن هذا الموضوع محل نقاش جدي حتى الحرب العالمية الأولى ، التي شهدت نهاياتها انتصار الثورة الاشتراكية في روسيا ، وإعلان الحكومة التزامها بتأمين الحاجات الأساسية للمواطنين ، ومن بينها كافة الخدمات العامة المذكورة أعلاه ، من دون تمييز بين سكان المدن والقرى ، او بين من يدفعون الضرائب ومن لا يدفعون.

وقد كان لهذا النموذج انعكاس قوي جدا في المجتمعات الأوروبية ، حيث تحول المنظور الاشتراكي الى ملهم للطبقات الفقيرة. ومنذ ذلك الحين ، اتسع النقاش حول "واجب" الدولة في تأمين حد أدنى من ضرورات المعيشة لمواطنيها ،  وكون وفائها بهذا الواجب معيارا لشرعيتها السياسية ، أي حقها في الأمر والنهي والتصرف في الشأن العام.

ثمة فلاسفة انكروا ان تكون "العدالة الاجتماعية" موضوعا حقيقيا او شيئا يستحق النقاش. ابرز هؤلاء على الأرجح هو الاقتصادي والفيلسوف النمساوي فريدريك فون هايك ، الذي رأى ان العدالة وصف للفرد وليس للفعل ، خاصة الأفعال التي يشارك في انشائها مئات الأشخاص (كما هو الحال في الخطط الحكومية). لكن الاتجاه العام في  الفلسفة السياسية الحديثة ، يدور حول النظرية التي طورها الفيلسوف الأمريكي جون رولز ، والتي يطلق عليها اختصارا اسم "العدالة كانصاف".

وفقا لرؤية رولز ، فان العدالة الاجتماعية تسمح بتوزيع للمنافع ذي طبقات متعددة. فهناك منافع اجتماعية يجب ان توزع بالتساوي ، ومنها الحقوق الأساسية للإنسان كحرية التعبير والاعتقاد والتقاضي والعمل والانتقال وتكوين العائلة ، وكذلك الحقوق المرتبطة بالمواطنة ، لا سيما حق الوصول الى الوظائف العامة ، والاستفادة المتساوية من الأموال العامة والتساوي امام القانون.

وثمة منافع ينبغي توزيعها تبعا لحاجة المتلقين ، ومنها الدعم المباشر لمحدوي الدخل ، وتوفير السكن والرعاية الصحية لمن تقصر مداخيلهم عنها. والغرض من هذا هو ضمان حد أدنى من لوازم العيش الكريم لكافة المواطنين ، بمعنى ان الأكثر حاجة قد يتلقى منافع أكثر من غيره.

أخيرا ، ثمة منافع يمكن توزيعها بشكل متفاوت ، شرط ان يتاح لكل المواطنين فرص متساوية للحصول على نصيب أكبر منها. مثل مكافأة ذوي الإنجازات والمبتكرين ، والموظفين الذين يقدمون خدمات نادرة.. الخ. يمكن تبرير هذا التمايز اعتمادا على مبدا الاستحقاق والجدارة. كما يمكن تبريره بأن منح الأشخاص المنتجين حوافز مادية ، سوف يعزز قيمة الابداع والعمل الجاد ، ويشجع على توسيع إنتاج السلع والخدمات التي تحتاجها السوق ، الامر الذي ينعكس إيجابيا على معيشة أعضاء المجتمع كافة.

زبدة القول ان النظام الاجتماعي العادل ، يتسم – وفقا لهذه النظرية - بثلاث خصائص:

الأولى: يجب أن يحصل كافة الافراد على منظومة شاملة من الحريات الأساسية والمدنية المتساوية.

الثانية: الوظائف العامة التي يتمتع شاغلوها بمزايا أكبر (الوظائف الأعلى أجرا ، على سبيل المثال) يجب ان تكون متاحة لجميع الأفراد على أرضية مبدأ تكافؤ الفرص.

الثالثة: يسمح بعدم المساواة في الدخل والثروة ، إذا كانت ستفيد أفراد المجتمع الأقل حظا. ومن ذلك أيضا الحوافز التي تزيد الإنتاجية الإجمالية للمجتمع ، وبالتالي تسمح بتوجيه مزيد من الموارد المادية إلى الطبقات الأقل دخلا.

الشرق الاوسط - الأربعاء - 27 ذو القعدة 1442 هـ - 07 يوليو 2021 مـ رقم العدد [15562]

https://aawsat.com/node/3066306

مقالات ذات علاقة

 "شراكة التراب" كتطبيق لمبدأ العدالة الاجتماعية

التنمية على الطريقة الصينية : حريات اجتماعية من دون سياسة

عدالة ارسطو التي ربما نستحقها

العدالة الاجتماعية كهدف للتنمية

العدالة الاجتماعية وتساوي الفرص

العدالة كوصف للنظام السياسي

الغول

الليبرالية في نسخة جديدة: رؤية جون رولز

مجتمع العقلاء

معالجة الفقر على الطريقة الصينية

مفهوم العدالة الاجتماعية

من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

نحن مدينون لليسار المكافح

هل نحتاج حقا إلى طريق ثالث ؟

30/06/2021

المساواة اولا .. المساواة دائما

لطالما وجدت نفسي حاملا السلم بالعرض ، كما يقول اشقاؤنا في الشام. ولم اقصد هذا في اي حال. لكن بعض الاراء تورد الانسان هذا المورد ، برضاه او مجبرا. انها قضايا صغيرة ، تثير نقاشات عميقة متشعبة ، وقد تعلمت الكثير من متابعتها والتأمل في خلفياتها ، وأظن ان غيري قد استفاد منها ايضا.

ومن هذا القبيل نقاش العدالة والمساواة ، الذي عرضت له في مقال الاسبوع الماضي. فقد اعترض بعض القراء ، وبينهم اشخاص في مقام اساتذتي ، على تأكيدي المكرر على مبدأ المساواة. وهم يرون ان الاصل ليس التسوية بين الناس ، لأن الناس غير متساوين في الاساس. البديل بحسب هؤلاء الاعزاء هو مبدأ العدالة ، الذي يعني – عندهم - إعطاء كل شخص ما يستحقه ، ومراعاة الفروق الفردية ، حتى لو ادى ذلك الى تمييز واسع النطاق بين الناس.

انني مهتم بهذا النقاش لسبب بسيط ، وهو ان شريحة واسعة من القراء ، استراحت الى مقولة ان العدل يقتضي التمييز احيانا. وهذا مبدأ صحيح ، لكنه استخدم في المكان الخطأ. بيان ذلك ان أصل النقاش يرجع لخلاف حول التكافؤ الطبيعي. فهناك من قال بان الناس يولدون متكافئين في القيمة والقابليات ، وانما يتفاوتون لاحقا ، بحسب البيئة والتربية والاجتهاد الشخصي. وهناك من قال بان بعض الناس يولدون بدم انقى من الاخرين ، فمكانهم الاجتماعي ، على الدوام ، اعلى من غيرهم. وهذا أصل المسألة الفقهية المعروفة بتكافؤ النسب ، وتفضيل الأبيض على الاسود والرجل على المرأة ، وتفضيل العربي  والهاشمي على غيرهم الخ.

اما النقاش في معنى العدالة ، فقد اتخذ مسارات ثلاثة:

الاول: يقول بان العدل هو معاملة المتساوين بالسوية والتمييز بين المختلفين. مثلا: المساواة بين كافة الرجال الاحرار العاديين. والتمييز بينهم وبين الرجال العلماء ، والرجال العبيد ، والتمييز بينهم وبين النساء.. وهكذا.  وهذا الراي هو السائد في المدارس الدينية ، الاسلامية والكاثوليكية.

الثاني: يقول بان السوق منظم عادل للحياة: يولد الناس متساوين ، ويجب ان يضمن المجتمع حصول الجميع على فرص متساوية (المساواة في البداية). اما مايحصل لاحقا ، فان كفاحهم وظروف السوق والحياة هي التي تقرر من يحصل على ماذا. وهذا راي التيار المعروف بالليبرتاري.

الثالث: يقول بان المساواة هي التمثيل الأولي للعدالة. فاذا اقتضى الامر تمييزا ، فيجب ان يكون لصالح الاقل حظا حتى يتساوى مع الاخرين.

انني لا اخفي ميلي القوي الى الاتجاه الثالث ، والى التيار الذي يتبناه ، وهو المعروف بالمجتمعية/المساواتية الذي ينسب للفيلسوف المعاصر جون رولز. ومما شدني اليه ، انطلاقه من مبدأ العقد الاجتماعي وايمانه بخيرية البشر وقدرتهم على ادراك الحق والخير ، اضافة لتشديده على مبدأ الحرية ، وكونها الاساس الاول والركن الركين للعدالة الاجتماعية.

ان احدى السمات المهمة في المساواة – وفق تصوير ايزايا برلين – هي انها أصل وقاعدة معيارية. لو ساويت بين الناس فلن تحتاج لتبرير ، لانها هي الاصل. لكن لو اعطيت احدا اكثر من غيره ، فلا بد من تبرير لهذا الاستثناء.

وما دمت قد ذكرت برلين ، فلعلي أختم به ، فرغم قوله بأن المساواة هي الاصل ، الا ان طبيعة الحياة تقتضي تطبيق اكثر من مبدأ وقيمة كي تكون اكثر لينا ، اي ان ترجح هذه هنا وترجح تلك في الموضع الآخر. لكن يجب ان لا  ينتهي هذا ابدا الى تهميش القواعد الاساسية ، فنتحول من المساواة الى التمييز او من الحرية الى الاستبداد.

الشرق الاوسط الأربعاء - 20 ذو القعدة 1442 هـ - 30 يونيو 2021 مـ رقم العدد [15555]

https://aawsat.com/node/3054056/

مقالات ذات صلة

"شراكة التراب" كتطبيق لمبدأ العدالة الاجتماعية

23/06/2021

الاثم الاصلي

 

ذكرت في مقال الأسبوع الماضي ، ان المجتمعات الشرقية تميل في مجملها ، للرؤية القائلة بأن الناس لو تركوا وشأنهم ، فالمرجح ان ينزلقوا الى النزاع ، حتى يقتل بعضهم بعضا. كما اشرت في السياق الى راي افلاطون ،  الذي قال ان خوف الناس من العقاب هو الذي يدفعهم لاحترام القانون ، وليس اقتناعهم به او ايمانهم بضرورته للحياة السليمة ، وان هذا المبدأ يتخذ عادة كمبرر للسلطة الخشنة.

والرأي القائل بالميل الفطري للشر والفساد ، هو النظرية التي بقيت شائعة حتى القرن السابع عشر. وبحسب بعض الباحثين فان اول صياغة قوية لها ، تمت على يد القديس اغسطين (354-430م) في كتابه "مدينة الله" ، الذي يعد اول تصوير متكامل للنظرية السياسية الكاثوليكية. وفقا لرؤية اغسطين فان الانسان مذنب بطبعه ، ومحكوم بالاثم الأصلي original sin الذي أنزل أبانا آدم الى الأرض. ولذا فلا بد للمجتمع الإنساني ، من سلطة قادرة على منع الآثمين من الاستغراق في خطاياهم. كما تبنى موقف ارسطو ، القائل بان نظام الكون يقتضي وجود شريحة من الناس وظيفتها الحكم ، وشرائح أخرى وظيفتها الطاعة. تقاسم الأدوار هذا ضروري لاقامة العدل من جهة ، وهو علاج للاثم الاصلي من جهة اخرى. كما رأى ان السلطة الجبرية ضرورية ، وان العدل غير قابل للتحقق الا في دولة دينية ، تقيمها الكنيسة او تخضع لتوجيه الكنيسة.

وقد لاحظت خلال أبحاث سابقة ، ان القائلين بفساد الفطرة البشرية وميل الانسان الطبيعي للشر ، يشتركون في موقف آخر هو ايمانهم بعدم التكافؤ بين البشر ، وبالتالي فانهم لا يرون المساواة ضرورة للعدالة ، بل ولا يعتقدون بضرورتها. وفقا للعلامة الحسن بن مطهر الحلي (1250-1325م) فان "الغالب على أكثر الناس القوة الشهوية والغضبية والوهمية ، بحيث يستبيح كثير من الجهال لذلك ، اختلال نظام النوع الإنساني". وراي الحلي هذا ، مطابق لرأي غالبية معاصريه من الفقهاء ومن جاء بعدهم.

ومال غالبية القدامى (ومن تبعهم من المعاصرين) الى ان التفاوت يبدا في لحظة الولادة. وحسب رأي ارسطو ، فانه "من أجل انتظام الحياة ، قضت الطبيعة للكائن الموصوف بالعقل والتبصر ان يامر بوصفه سيدا. كما قضت للكائن القوي البدن ان ينفذ الاوامر بوصفه عبدا. وبهذا تمتزج منفعة السيد ومنفعة العبد".  ويؤكد في نفس السياق ، ان الله – في لحظة الولادة – "يصب من الذهب في نفس فريق ، ومن الفضة في نفس فريق آخر ، ويصب النحاس في نفس هؤلاء الذين يجب ان يكونوا صناعا وزراعا".

وبمثل ما اختلف الناس في المكانة والمؤهلات والقيمة في لحظة الولادة ، فسيبقون على هذا النحو طوال حياتهم ، حيث قرر افلاطون ، أستاذ ارسطو  بان العدالة لا ترتبط بالمساواة. تكون الدولة عادلة في رأيه اذا رضي كل صاحب حرفة بما أهلته له طبيعته ، اذا رضي الصانع والفلاح مثلا بوضعه ، ولم يحاول ممارسة عمل غير ما هو مؤهل له طبيعيا. بعبارة اخرى فان العدالة تكمن في المحافظة على الفوارق بين الناس وليس الغاءها ، كما يميل انسان العصر الحديث.

قلت في الأسبوع الماضي ان الارتياب في الفطرة البشرية ، متصل بموقع العدالة في ثقافتنا العامة. واظن ان هذا قد اتضح الآن ، على الأقل فيما يخص أبرز أركان العدالة وتجلياتها ، أي مبدأ المساواة بين الناس.

الشرق الاوسط الأربعاء - 13 ذو القعدة 1442 هـ - 23 يونيو 2021 مـ رقم العدد [15548]

https://aawsat.com/node/3041751/

مقالات ذات صلة


16/06/2021

بقية من رواية قديمة

 

هذا ماتبقى في ذاكرتي من رواية اشتريتها قبل أربعة عقود ، من رجل عجوز اقام بسطة على قارعة الطريق ، يبيع فيها كتبا ودفاتر ومجلات قديمة ، أسعارها تترواح بين 10 فلوس و100 فلس. وبينها هذه الرواية التي نزع غلافها وعدد من صفحاتها الاولى ، فلم اعرف اسمها ولا اسم مؤلفها ، وانما جذبني سعرها الزهيد قياسا بضخامة حجمها ، فقد دفعت يومها نصف درهم ، اي 25 فلسا ، عدا ونقدا ، وهي تعادل ربع ريال سعودي ، يوم كان الدينار العراقي دينارا.

تحكي الرواية قصة سفينة غرقت ونجى نحو الف من ركابها ، ولاذوا بجزيرة مهجورة وسط المحيط. وقد خصص الرواي نحو 200 صفحة لشرح علاقة الناجين ببعضهم بعد وصولهم الجزيرة ، وكيف انقسموا الى اغلبية تريد ان تنظم حياتها معا ، واقلية يريد كل فرد فيها النجاة بنفسه. ثم تحولت الأكثرية الى قرية منظمة تدير حياة طبيعية ، تزرع وتبني ويجتمع أهلها في المقهى والكنيسة ، ويتزاوجون ويحتفلون في المناسبات ، بينما بقي أعضاء الأقلية متشككين ، غير واثقين في مايجري ، خائفين من ان يتعرضوا للاستغلال ، فاختاروا العيش منفردين في نقطة قصية ، يراقبون الساحل املا في سفينة تنقذهم يوما ما.

لقد نسيت الآن معظم تلك الرواية عدا قصة نزولهم الجزيرة ، وإعادة تنظيم المجتمع الجديد. وللحق فاني لم ادرك مغزى تفاصيلها الكثيرة المملة ، الا يوم بدات دراسة العلوم السياسية ، ولاسيما حين وصلت الى الجدالات التي أعقبت نشر كتاب "لفياثان" او الغول لتوماس هوبز ، المفكر الإنجليزي ، الذي حاول فيه شرح سيناريو تحول الحشد العادي الى مجتمع فيه سلطة سياسية وقانون.

اني اميل للاعتقاد بأن المحرك الرئيس لتلك المجادلات ، هو تحفظ هوبز في الإقرار بخيرية الانسان وميله الفطري للتعاون والتكافل ، على النحو الذي فعله غالبية الناجين من ركاب السفينة. قدم هوبز مفهوما مزدوجا ، يؤكد في جانب منه على ان الانسان اقرب للشر منه للخير ، فلو اجتمع عدد كبير من الناس لكانوا أميل للتنازع ، الامر الذي يؤدي لما أسماه "حرب الجميع على الجميع". بينما يؤكد في الجانب الثاني على ان الانسان عقلاني ، برغم فساد فطرته. عقلاني بمعنى انه يجيد حساب العواقب وما يترتب على قراراته وافعاله. وهذه العقلانية أوصلت ذلك الحشد المتنازع ، الى ان مصلحة كل منهم تقتضي إقامة سلطة فوقهم ، تلزم الجميع بالسلام والتسالم ، وهذا أساس فكرة الدولة.

تعتمد الفلسفة السياسية المعاصرة نظرية معاكسة ، أساسها ان البشر بطبعهم ميالون للخير ، فلو اجتمعوا لتفاهموا وتعاونوا ونظموا حياتهم بما يفيد غالبيتهم. لكن يبدو ان المجتمعات الشرقية لازالت تميل لرؤية هوبز المتحفظة. اني افهم هذا من رغبة الناس في العقوبات المشددة كوسيلة للحكم ، وانكار غالبيتهم للتفاوض والمساومة والحلول الوسط للمشكلات السياسية ، بل وارتيابهم في الذين يستعملون هذا الأسلوب او يدعون اليه. هذا يعني انهم يؤمنون بان خوف العقاب هو الذي يدفع الناس للتسالم وليس كونهم خيرين بالفطرة.

سوف اشرح في وقت آخر علاقة هذا الميل بفكرة العدالة ، ومدى رسوخها في ثقافتنا. لكني اردت اختتام هذه المقالة بدعوة القاريء العزيز لمساءلة نفسه: هل يرى البشر (وهو واحد منهم) اقرب للشر والتنازع ، بما يستوجب قسرهم على التسالم ، ام يراهم مجبولين على الخير والتكافل وتنظيم حياتهم معا؟.

الأربعاء - 6 ذو القعدة 1442 هـ - 16 يونيو 2021 مـ رقم العدد [15541]

https://aawsat.com/node/3029386/

مقالات ذات صلة

القانون للصالحين من عباد الله

يسروا القانون كي تكسبوا طاعة الناس

الغول

صورتان عن الانسان والقانون

مجتمع العقلاء

الازمان الفاسدة والناس الفاسدون

مجتمع العبيد

كيف تقبلنا فكرة الانسان الذئب؟

الانسان الذئب؟...

02/06/2021

طريق التجديد: الحوار النقدي مع النص

عمل سيد ولي نصر  عميدا لكلية الدراسات الدولية بجامعة جون هوبكنز في واشنطن. ونال شهرة عريضة عن دراساته المعمقة في تيارات الاحياء الإسلامي ، في الشرق الأوسط وشبه القارة الهندية. لاحظ نصر ان كافة الجماعات التي درسها ، انطلقت من رؤية تربط النهضة بقراءة جديدة للقرآن الكريم وتراث الجيل الأول من المسلمين.

نظريا ، تبدو هذه رؤية جذابة. فهي تسمح بتصور فاصل معنوي ، بين أصحابها وبين واقع المسلمين القائم ، وما فيه من تخلف ومشكلات. كما انها تربطهم بالجيل الأول من الصحابة الذين لاخلاف على فضلهم ، وهو امر يضفي شعورا بالرضى عن الذات ، بل التفوق على الاخرين. اما نقطة القوة الأبرز في هذه الرؤية ، فهي انسجامها مع اعتقاد شائع بأنه "لايصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها" وهو قول ينسب للامام مالك (711-795م). وينصرف في أذهان السامعين الى معنى العودة للكتاب والسنة ، واستبعاد ما قام حولهما من شروح وتفسيرات.

هذه أبرز نقطة في تلك الرؤية ، لأنها تعفي أصحابها من التسليم بأي دليل علمي يعارض اجتهاداتهم. فهي تجعل النص القرآني والنبوي داعما مباشرا لآرائهم. وسوف يقتنع بهذه الآراء غالبية المتلقين ، الذين لاعلم لهم بمنطق الاستدلال وطرقه ، ولا بالفرق بين ادراج آية في سياق الكلام ، وبين كونها دليلا قطعيا على ذلك الكلام.

زبدة القول ان العودة للنص المقدس وإعادة قراءته ، هي القاسم المشترك بين التيارات الاحيائية في الإسلام. وهي تطرح أيضا كجوهر لمفهوم تجديد الدين الوارد في حديث نبوي ، ذكرناه في مقال الأسبوع الماضي.

لكن البروفسور نصر يلاحظ ، بعدما شرح هذه الرؤية ، ان التيارات المعنية أخفقت في تقديم مشروع تجديدي بالمعنى الدقيق ، فأكثرها عاد الى نفس الخطاب التقليدي ، مع تعديلات سطحية. ويلمح نصر الى ان السبب ربما يكون انشغال هذه التيارات بتوازنات القوة ، وحاجتها لمهادنة الجمهور أحيانا ، والتيار التقليدي أحيانا أخرى ، كي تضمن لنفسها مكانا في المشهد الاجتماعي-السياسي.

لكني أميل للاعتقاد بأن التيارات المذكورة ، ومن دون استثناء ، لم تخرج أصلا من النسق الفكري والفلسفي التقليدي ، حتى لو كانت قد استخدامت لغة جديدة او وسائل جديدة.

ان اردت اجتهادا جديدا في النص او سواه ، فيجب ان تقف على  مسافة منه (ربما خارج النسق الذي يتموضع فيه) ثم تقيم محاججة نقدية معه ، وتغفل مؤقتا (على الأقل في مرحلة البحث) جانبه القدسي ، وكونه صادرا عن الخالق او النبي. يجب ان تطلق قدراتك العقلية لمحاولة فهمه ، ثم مجادلته على ضوء منطق العصر ورؤيته المعرفية ، ومن يعرف هذه ويعرف نظيرتها في المدرسة الفقهية التقليدية ، فسوف يعرف أيضا ان الأولى متقدمة على الثانية بمراحل ، وانها تتجاوز كل ما لدى المدرسة التقليدية من أدوات لاستنباط المعرفة او صناعة المعرفة.

امامنا تجربة فعلية في تجديد الفكر ، خاضتها تيارات فيها علماء ومفكرون كبار ، طيلة قرن من الزمن. لكنا نجدهم قد عادوا جميعا الى نفس المعسكر التقليدي الذي تمردوا عليه. وبعكس هؤلاء ، نجحت اقلية من المفكرين في تحقيق اختراقات ، وقدمت فكرا دينيا قريبا من روح العصر. الذي ميز هؤلاء هو خوضهم حوارا نقديا مع النص. هؤلاء لم ينبهروا بأقوال اساطين اللغة ولا رواة الحديث والفقهاء ، بل اختطوا مسارا جديدا حقا ، فقدموا رؤية جديدة.

الشرق الأوسط الأربعاء - 21 شوال 1442 هـ - 02 يونيو 2021 مـ رقم العدد [15527]

https://aawsat.com/node/3004111/

مقالات ذات علاقة

 تأملات في حدود الديني والعرفي

تجديد الخطاب الديني: رؤية مختلفة

ثوب فقهي لمعركة سياسية

التجديد القديم واخوه العصراني

الحداثة باعتبارها حاجة دينيّة وواجباً أخلاقياً "عرض لكتاب "الحداثة كحاجة دينية"

الحداثة تجديد الحياة

الحداثة كحاجة دينية

 الحداثة كحاجة دينية (النص الكامل للكتاب)

حول الحاجة الى فقه سياسي جديد

حول تطوير الفهم الديني للعالم

دعوة لمقاربة فقهية جديدة

دور الفقيه ، وجدلية العلم والحكم

عن الحاجة إلى تجديد الفقه الإسلامي

فتاوى متغيرة : جدل المعاصرة في التيار الديني

فتوى الجمهور لا فتوى الفقيه

فقه جــديد لعصر جـديد

قراءة أهـل الشك

مرة اخرى : جدل الدين والحداثة

نظرة على علم اصول الفقه

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

نقد التجربة الدينية

هيمنة الاتجاه الاخباري على الفقه

هيمنة النهج الفقهي على التفكير الديني

 

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...