26/10/1996

(4) من الحلم الى السياسة



قد يكون التركيز في الدعاية السياسية على الشعار العام دون برامج العمل ، مدخلا الى تزييف او تحريف الوعي الشعبي ، ذلك ان الشعار يختصر اجمل ما يتمناه الناس ، فينصب تركيزهم العاطفي على اللغة متأثرين بجماليات الاسلوب ، بدلا من التأمل في الفجوة العريضة التي تفصل الشعار عن تجسيداته الواقعية .

تهدف الدعاية السياسية ـ كما هو متفق عليه ـ الى اقناع الجمهور بتسليم قياده الى شخص معين او جماعة سياسية معينة ، أي التخلي عن بعض ارادته وتكثيفها في اراداة الداعي ، باعتباره ممثلا للجمهور او نائبا عنه ، ومن المفترض ان يكون الداعي مخلصا في وعوده بتحقيق الاماني التي تعبر عنها شعاراته ، لكن الاخلاص وحده لايكفي ، ان الاخلاص لايزيد عن كونه نية ، يلزمه بعدها توفير الامكانات اللازمة لانزال الاماني من عالمها المثالي المجرد الى ارض الواقع ، فينبغي ان يكون الظرف ملائما ، وينبغي ان يتمتع الداعي بالامكانات المادية والعلمية ، هذا على افتـراض كونه مؤهلا ـ من الناحية الذاتية والاجتماعية ـ للقيام بهذه المهمة .

واذا نجحت الجماعة السياسية في عرض برنامج عمل تفصيلي ، بدلا من التركيز على الشعارات والامينات ، فانها ستحقق مكسبا عظيما لنفسها وللايديولوجيا التي تنطلق منها ، مكسب يتجلى في تحقيق الربط الضروري بين المباديء النظرية والمصالح الواقعية ، بين طموحات الناس وآمالهم وبين ممارستهم الحياتية العادية ، وعندها فان الذين ايدوها سيكونون اكثر من اتباع تحركهم العاطفة ويجرون وراء الامل ، سيصبحون شركاء يتحركون عن وعي بما يستهدفون ، ومتضامنين في ايمان ومعرفة بالطريق الذي يسلكون ، سوف تستفيد الجماعة من هذا الوعي الذي اوجدته ، في تثبيت نفسها كجزء من ثقافة المجتمع وتاريخه ، لا كنقطة ضوء عابرة في مرحلة من مراحل التاريخ.

ونلاحظ من خلال استقراء التجربة العربية المعاصرة ، ان بعض الجماعات السياسية قد تحولت من صورتها الاولية كتعبير عن تيار اجتماعي محدد ، الى زعامة تقليدية تمثل المجتمع كله او اكثريته ، كما هو الشأن بالنسبة لحركة فتح الفلسطينية ، التي نجحت رغم كثرة الانشقاقات التي اصابتها ، في تحويل نفسها من حزب اعتيادي الى قاطرة للحياة السياسية الفلسطينية ، ذلك لانها نجحت ـ مع كل ما يقال عنها من مؤاخذات ـ في الربط بين الامال التي تراود نفوس جمهورها ، بعض الامال على الاقل ، وبين سياساتها اليومية ، وبالتالي علاقاتها اليومية مع الجمهور .

تسييس الجمهور

ينبغي لكل جماعة سياسية ان تضع تعميم الوعي في اعلى سلم اولوياتها ، تعميم الوعي يعني بصورة محددة تسييس عامة الناس ، جمهورها الخاص على اقل التقادير ، وتحريرهم من الارتباط العاطفي بالحلم المجرد ، الى تفهم ودعم السياسات العملية التي تستهدف تحقيق ما يمكن تحقيقه من الاحلام ، ثم توسيع نطاق اهتمامهم من الحاجات الشخصية ، او المتعلقة بعدد محدد من الناس ، الى الحاجات العامة التي تتعلق بجميع المواطنين ، واخيرا مساعدتهم على اكتساب القدرة النظرية على تحديد ما يريدون وما لا يريدون ، ما هو حاجة حقيقية يكافحون لاجلها ، وما هو مجرد حلم ، يغرقون في بحوره الرومانسية اثقال همومهم .

بالنسبة للحركة الاسلامية فان هذا الموضوع يتمتع باهمية مضاعفة ، ذلك ان الانحدار الذي منيت به الثقافة الاسلامية في العصور السابقة ، قد اثمر انفصالا شبه كامل بين الصورة المثالية للحياة في هذه الثقافة ، وبين واقع الحياة الذي يعيشه المسلمون في جميع اقطارهم ، نحن نتحدث ـ مثلا ـ عن مجتمع القوة الذي يريده الاسلام ، وليس في اقطارنا مجتمع واحد يمكن وصفه بالقوة ، قياسا الى مجتمعات العالم المعروفة بهذا الوصف ، ونتحدث عن التسامح بينما نفتقر تماما اليه ، على المستوى النظري فضلا عن الممارسة العملية ، الا نادرا ، ونتحدث عن الحضارة التي يمكن ان يقيمها الايمان ، ونحن نعيش على استهلاك منتجات حضارة الاخرين .

وقد يظن احد ان في الامر اضطرارا ، لكن الحقيقة اننا غير مضطرين الى هذا ، الا بقدر ما نتهاون في البحث عن مخارج من حالنا البئيس ، بكلمة اخرى فان الاضطرار ـ على فرض وجوده ـ هو ثمرة لانعدام ارادة الخلاص في نفوسنا ، او عدم تحول ارتقاء الرغبة فيه ، من مستوى التمني الى مستوى التعقل والعمل .

ندعو الله مرات كثيرة في كل صباح ومساء ، ليهدينا الى الطريق المستقيم ، ولو كنا على هذا الطريق لتغير حالنا الى احسن حال ، نحن اذن نتمنى ان يهدينا الله سبيل الخلاص ، لكن ما نبذله من جهد للانتقال لايتناسب وحجم المهمة ، وهذا نموذج واضح للانفصال الحقيقي بين ما نرغب فيه وما نعمل لاجله .

وبسبب مرور الزمن على الانفصال بين المثل التي تدعو اليها الثقافة الاسلامية ، وبين انماط الحياة التي يعيشها المسلمون ، فقد ازدادت المسافة بين المثال وبين الواقع ، فتسامى المثال ، بقدر ما هبط الواقع ، ثم تجرد وتحول من ارادة وهدف الى مجرد حلم ، لهذا فان كثيرا من الناس لا يتحدثون عن اقامة الشريعة باعتباره هدفا موضوعيا ، يتمثل في اقامة علاقات جديدة بين الناس ، وبين الناس من جهة والاشياء من جهة اخرى ، وبالتالي فانهم لا ينظرون الى مشروع ذي عناصر مادية ، قابل للفشل والاعاقة ، بقدر ما هو قابل للنجاح ، بل يتحدثون ـ في الحقيقة ـ عن حلمهم برؤية نموذج مصغر للجنة على الارض ، حيث يصبح الناس والاشياء في اجمل صورة يمكن لهم ان يتخيلوها ، وحيث يتدخل الغيب في كل لحظة ، فيتحول الجهد البشري الى عامل ثانوي في تصريف اسباب الحياة .
الراي العام 26 اكتوبر 1996

25/10/1996

جدل السياسة من الشعارات الى البرامج


لاسباب شتى انضم تطبيق الشريعة الى قائمة المواد التي يتصارع حولها السياسيون في العالم العربي ، شأنها في ذلك شأن قضايا كثيرة ، بعضها مصنف كضرورة يومية ، مثل توفير الخبز والكرامة ، وبعضها اقرب الى الاحلام منه الى  الاهداف العملية ، مثل الوحدة الشاملة والنهوض الحضاري .

ويبدو لي ان الاطراف التي تتصارع حول تطبيق الشريعة ، مستفيدة كلها بصورة او باخرى من اعلان مواقفها ، بغض النظر عن مقدار ما يبذله هذا الطرف في العمل لتطبيق الشريعة ، او ما يبذله ذاك لاعاقتها ، ولذلك فلا ينبغي لنا ان نتوقع انتهاء هذا الجدل بحوار بين الطرفين ، او بجولة مساع حميدة يبذلها اهل الخير من المصلحين ، كما لا ينبغي ان نتوقع هزيمة احد الطرفين بالضربة القاضية ، فلا انتصار الذين يسعون الى تطبيق الشريعة ، سيوقف الطرف الاخر عن المعارضة ، ولا معارضة هذا الطرف سيثني الاسلاميين عن هدفهم .


 في ايران مثلا التي اقامت نظامها السياسي على هذه القاعدة ، لا يزال الجدل محتدما حول معاني التطبيق المستهدف ، وثمة بين الايرانيين ـ ومنهم علماء بارزون ـ من يشكك في اسلامية بعض التطبيقات ، ومثل ذلك ماوجدناه في السودان التي تتبنى حكومتها رسميا تطبيق الشريعة  ، والتي نالت بعض سياساتها نقدا من جانب قادة حركات اسلامية وعلماء في الشريعة  .

 وعلى الجانب الثاني وجدنا  الاقطار التي شنت حكوماتها حربا على الاسلاميين ، قد ابتليت اكثر من غيرها بالفتن ، وتحول الجدل اللفظي الى حوار بالرصاص ، فلا انتصار الاسلاميين هناك اخرج منافسيهم من الحلبة ، ولا قمعهم هنا عاد على هؤلاء بالاستقرار  والسلامة ، واستحضر هنا اشارة الامام علي بن ابي طالب الى هذا المعنى ، حين اقترح بعض اصحابه تصفية الخوارج الذين تمردوا عليه في معركة صفين ، فوبخه الامام قائلا (انهم ـ الخوارج ـ  لا يفنون ، انهم لفي اصلاب الرجال وارحام الامهات الى يوم القيامة) (ابن ابي الحديد ، شرح نهج البلاغة 3/128) وقد اظهرت تجارب البشرية على امتداد تاريخها الطويل ، ان الصراع ـ ولاسيما صراع الافكار ـ لا يتوقف ، بل يستبدل العناوين بحسب اختلاف المراحل ، واختلاف توجهات الناس في ميدانه .

الهروب من التفصيل

يتضح من مجريات الجدل حول تطبيق الشريعة ان اطرافه يدورون ـ غالبا ـ حول العناوين العامة والكليات ، ومن المهم ـ لتصحيح مسار الجدل ـ  نقل الجدل حول الموضوع المطروح للنقاش الى تفاصيله ،  فالذين يدعون الى تطبيق الشريعة مطالبون ببيان مواقفهم التفصيلية ، كاطراف سياسية ، من كل قضية راهنة ، وعرض البدائل التي يقترحونها ، كما ينبغي للذين يعارضون هذا الطرح عرض الادلة على اضراره وفائدة الطروحات التي يقترحونها .

وتظهر اهمية الخروج من مقام الكليات الى مقام التفصيل ، في علاقة الجمهور بكل من طرفي الصراع ، فالاقتصار على العناوين العامة يستثير حماسة الشارع مع هذا الطرف او ذاك ، لكنه ـ الى جانب الحماسة ـ يغتال الوعي او يحجّمه على الاقل ، ويحول الاستقطاب من محور الافكار والبرامج الى محور الشخص والجماعة ، وفي احيان قليلة الى الشعار الغامض المعاني والانعكاسات ، وهو بهذه الممارسة يعزز اسلوبا من الاحتيال السياسي ، اشتهر في العالم العربي وادى الى سرقة طموحات الناس ، او تزييف اهتماماتهم ، بابعادها عن حقوقهم العاجلة الى امانيهم القابلة للتاجيل ، ولازلنا نتذكر ان شعارات مثل (كل شيء من اجل المعركة) و ( ... من المحيط الهادر الى الخليج الثائر) قد ساعدت في تطبيع ـ ومن ثم تشريع ـ سيطرة العساكر على الحياة السياسية في العالم العربي كله ، كما ان شعار (حماية البوابة الشرقية للوطن العربي ) كان تمهيدا لقرار تدمير العراق والكويت معا ، قرار التدمير الذي جرف في طريقه ايضا الكثير من الثوابت والمفاهيم والمشاعر ، التي طالما كانت رهانا للعرب ورأسمال يعتدون به ، وقد جرى في كل الاحوال الغاء الشعب وحقوقه ودوره ، تحت مبررات مماثلة ، او تحت شعار اولوية الامن والاستقرار  .

ولهذه الاسباب وغيرها فان يصعب بناء علاقة تفاعل ايجابي بين الجمهور والنخبة السياسية ، احزابا او شخصيات ، اذا كانت دعوة هذه النخبة ستقتصر على الشعارات العامة في عملها السياسي .
 اذا كان الحزب الفلاني يريد اقامة الديمقراطية من اجل الناس وليس من اجل نفسه ، واذا كان الحزب العلاني يريد تطبيق الشريعة من اجل الدين وليس التسلط ، فانه ينبغي لكل منهما ان يخبر الناس بالتفصيل عن السياسات التي يسعى لتحقيقها ، وعن الحلول التي يريد يريد تطبيقها ، واذا كان غيرهم  يعارض تطبيق الشريعة لسبب ما ، او يرى في الديمقراطية والشورى عبئا على اقتصاد البلاد او خطرا على استقرارها ، فليعرض بدائله ، وليعلن عن تفاصيل برنامجه ومعالجاته المقترحة للمشاكل التي يدعي القدرة على حلها ، وليبين تميزها عن تلك التي يعارضها  ، بدلا من فرض صورته الشخصية او اشغال الناس بالعناوين العامة والشعارات .
الراي العام 25 اكتوبر1996

22/10/1996

وافــدون وماء مالــح



تصدر موضوع (السعودة) قائمة اهتمامات الصحافة المحلية خلال الاشهر المنصرمة من هذا العام ، ويبدو انه قد استقطب ايضا اهتمامات القراء ، اضافة الى ما يحظى به الامر من اهتمام رسمي ، وفي بداية العام الحالي سألت (عكاظ) كتابها اقتراح الموضوعات المهمة للمعالجة الصحفية ، فاجمعوا على اختيار هذا الموضوع .
يستبطن هذا الاهتمام الاستثنائي شعور بالحاجة الى ضمان الوظيفة المناسبة لكل مواطن ، وقلق من نتائج الافراط في الاعتماد على العمالة الاجنبية ، خاصة وان المملكة تتجه الى وضع اقتصادي ذي حركية افقية تخلو من الطفرات التي اتسم بها عقد السبعينات والنصف الاول من الثمانينات .

ولا يختلف اثنان في مشروعية هذا القلق وصحة اسبابه ، لكن لا ينبغي ان نحمل الامر اكثر مما يحتمل ، وان لا نخرج بالمعالجة من سياقها الايجابي الصحيح الى سياق سلبي ، قد لا يكون متلائما مع اخلاقياتنا والتزاماتنا الادبية.
تتجلى المعالجة السلبية لموضوع العمالة الوافدة في الربط المتكلف بين الوافد والمشكلات ، فاذا جرى الحديث عن التسول اشير بصورة خاصة الى الوافدين ، واذا ذكرت حوادث السيارات نسبت اليهم ، واذا ورد موضوع النظافة القيت المسؤولية على اكتافهم ، فلا ترى الوافد في صحافتنا الا سببا للمشاكل او متورطا فيها ، بل ان احد الزملاء كتب تحقيقا في صحيفة محلية ، فذكر ان السبب الرئيسي لتلفيات الطرق السريعة ، هو عدم اتقان السائقين الاجانب للسياقة في مثل هذا النوع من الطرق ، ولا أدري ان كان الزميل جادا في كلامه ، فلم اعهده خبيرا في هندسة الطرق ، لكن ثمة من يعتقد ان المواطن جنس خاص منزه عن الاخطاء وان الوافد سبب لكل بلية ، ومن اعجب ما قرأت ، تحقيق نشرته (عكاظ) قبل نحو شهر عن الاربطة (دور رعاية العجائز ) فقد اظهرت الكاتبة المكرمة عدم رضاها عن تمتع بعض المقيمات في هذه الدور بالرعاية مع انهن من الوافدات ! ، ولعل احدهم يكتب في يوم من الايام ان حرارة الجو في البلد سببها كثرة الاجانب الذين يتنفسون فيه ، وان ملوحة الماء سببها كثرة الوافدين الذين يشربون منه .

لا نريد المبالغة بالقول ان هذه الاشارات السلبية دليل على وجود اتجاه عنصري ، فهي لا تزال مقتصرة على حالات محدودة ترد ضمن سياق اعتيادي ، لكن ما يهمنا هو دعوة الزملاء  الى توخي الحذر في معالجاتهم ، خشية ان يسيء الكاتب وهو يريد الاحسان ، فالاجنبي مثل المواطن بشر من هذا البشر المجبول على الاصابة حينا والخطأ حينا ، وبالنسبة للمسلم فان الانسان عزيز ومكرم لانه انسان ، لا لانه ينتمي الى جنسية محددة ، واذا كان المواطن يعتز بوطنه فـلانه يعتز بنفسه ، ومثل هذا الشعور عام بين البشر ، كل يرى نفسه عزيزا  وكل يجد اسبابا للفخر بوطنه واهله ، وشتان بين الفخر بالوطن والتهوين من قدر الاخرين .

ربما كانت مشكلات العامل الاجنبي اكثر من نظيره المواطن ، لكنها في المحصلة الاجمالية ، لاتزال اقل بكثير من المشكلات الشبيهة في الاقطار المجاورة ، ويرجع الفضل في هذا الى سياسات الاستقدام الرسمية التي تتسم اجمالا بالتحفظ والحذر ، ومع الاتجاه الجديد الى تشديد القيود على الاستقدام وتحديد الوظائف المتاحة للاجانب ، فان المعدل العام للوافدين مقابل الوظائف سوف ينخفض بالتدريج ، وسوف يتوفر للمواطنين مزيد من الفرص الوظيفية ، واذا واصلت الحكومة تبني سياسة التحديد هذه ، فلعل ما يقال عن وجود بطالة بين المواطنين يصبح جزء من التاريخ .

لكن الحاجة الى العامل الاجنبي ستبقى قائمة اليوم وغدا ، ما دام النشاط الاقتصادي متواصلا ، اذ لا يتوقع ان تستغني البلاد عن اليد العاملة الاجنبية في ظل معدلات النمو السكاني الحالية ، وما دام الامر كذلك فاننا بحاجة الى علاقة اكثر لينا بهؤلاء ، الذين هم ـ على أي حال ـ نظراء  لنا في الانسانية فضلا عن كون اغلبهم اخوة في الدين  ، على اقل التقادير فاننا غير مضطرين الى التعامل معهم كما لو انهم  كائنات اخرى اقل مرتبة وشأنا .

ان حاجتنا الى العامل الوافد تساوي حاجته الينا ، وعطاؤنا  له يساوي عطاءه لنا ، وما احسن ان يكون بعد عودته الى بلاده ، محملا بكل ما هو حسن من انطباعات وذكريات عنا وعن بلادنا ، بدل ان نحمله اثقالا من الكراهية والبغض .
عكاظ  22 اكتوبر 1996

18/03/1996

تلميذ يتعلم وزبون يشتري


يبدو لي انه قد حان الوقت للفراغ من الحديث الكثير عن مبدأ العلاقة مع الغرب ، والانتقال الى التفكير في كيفية هذه العلاقة ، ولعل بعض القراء قد شاهد -كما شاهدت - البرنامج الذي عرضه في الاسبوع المنصرم تلفزيون الشرق الاوسط ، عن تطور صناعة السيارات في اليابان ، فقد ادرك اليابانيون ان التقنيات التي يملكونها ، لن تمكنهم من انتاج سيارة تنافس ما ينتجه الامريكان والبريطانيون ، فارسلوا مهندسيهم الى هذين البلدين واستقدموا مهندسين منهما ، لكن عيونهم كانت مركزة على هدف محدد ، هو تطوير الامكانات الاولية التي يملكونها لتبلغ مستوى التقنيات الغربية .
 وفي الوقت الذي دعمت الحكومة فكرة استيراد بعض القطع الميكانيكية ، من فورد الامريكية واوستن البريطانية ، فقد حددت للصانعين المحليين مهلة خمس سنوات ، للانتقال من تجميع القطع الاجنبية الى تصنيعها محليا ، وتحدث احد مديري شركة تويوتا قائلا انه ذهب للعمل في ديترويت مع شركة فورد ، لكي يتعلم فنون الصناعة ، وحينما كان العمال يذهبون لتناول الغذاء او المرطبات ، كان يتجول في المصنع ، ليتعرف على عناصر الارتباط بين الاقسام المختلفة التي تمر بها السيارة ، منذ ان تبدأ عملية تصنيعها وحتى تخرج من بوابة المصنع سائرة على عجلاتها .
تلميذ يتعلم
تذكرت وانا اطالع هذا البرنامج مقولة لكاتب عربي (لقد بدأت مصر في النهوض قبل اليابان ، واعتمدنا مثلهم على النتائج التي توصل اليها الغرب ، لكنهم واصلوا التعامل مع الغرب كتلاميذ نشطين ، بينما تعاملنا كزبائن للسلع الجاهزة ، وفي النهاية فقد تعلم اليابانيون اسرار الصنعة واستقلوا عن معلمهم ، وبقينا نشتري السلع مرة بعد اخرى).
اظن الان ان العلاقة بين المسلمين ـ كمبدأ ـ ليست مورد نقاش ، اللهم الا عند هواة الجدل ، اما مورد النقاش الحقيقي والمفيد فهو الابعاد العملية لهذه العلاقة ، نوعيتها ومستواها واهدافها المحددة ، وحينما نبدأ في نقاش هذه الابعاد فسنصل الى بعض النتائج المفيدة ، لكننا بحاجة اولا الى تحديد الغرض من النقاش ، وتحديد اطاراته ومنهجه ، حتى لا نخلط بين ما هو ضروري وما هو ثانوي ، او بين ما هو استراتيجي لنا وما هو تكتيكي .
مسؤوليات جديدة
بديهي ان هذه العلاقة توجد مسؤوليات اضافية ، لابد لنا من حملها والوفاء بمتطلباتها ، لكي يكون سعينا مفيدا ، من ذلك مثلا تحديد السياق الذي نريد لهذه العلاقة ان تخدمه مباشرة وبالدرجة الاولى ، ثم تكريسه كمهمة تحظى بأهمية ضمن مجموع اعمالنا ، فاذا اردنا استثمار علاقاتنا مع الغرب في نقل التكنولوجيا على سبيل المثال ، فلا بد لنا من توفير الظروف اللازمة لاستقرارها ثم تطورها في بلادنا ، اي توفير القوى البشرية والامكانات المادية والخدمية وغيرها ، والا اصبحت عملية نقل التكنولوجيا مثل استيراد السلع الجاهزة ، التي ندفع ثمنها ثم ندفع ثمن غيرها عندما تستهلك ، دون ان نتدخل باي درجة في ادامتها او تطويرها ، ودون ان نستثمرها في السير نحو الاكتفاء والاستغناء .
ان تطوير التكنولوجيا يحتاج الى مدارس تخرج تقنيين ، ويحتاج الى سياسات دعم وحماية مناسبة ، تسندها حتى يشتد عودها وتصبح مؤهلة للوقوف على قدميها دون اسناد ، كما نحتاج الى دعم البحث العلمي الضروري لتطويرها ، واخيرا فاننا نحتاج الى مساعدتها في الحصول على حصة مناسبة من السوق ، وهذه وغيرها مسؤوليات مترتبة على تحديد هدف العلاقة وعلى اقامتها ، فاذا اجدنا اداءها فلربما استفدنا من علاقتنا في بلوغ مستوى العصر ، والا فقد تكون هذه العلاقة مجرد حبل جديد يزيد في توثيق تبعيتنا ، ويزيد في اعتمادنا على الغير .

عكاظ 18 – 3 – 1996

04/02/1996

افريقيا واحلامــها الضــائعة


اجتمع قادة الدول الافريقية في مقر منظمة الوحدة الافريقية ، التي ينطوي اسمها على حلم رومانسي ، اصبح تحققه اليوم ، اصعب كثيرا من اليوم الذي تاسست فيه هذه المنظمة .

فالقارة الافريقية التي عانت كثيرا من وطأة السيطرة الاجنبية ، اصبحت قبيل نهاية القرن العشرين ، وفي ظل النخب الوطنية ، ابعد ماتكون عن تحقيق اهداف قادة الاستقلال ، على صعيد السياسة كما على صعيد الاقتصاد.
في اوائل السبعينات الميلادية أثار أ . سيكوني جدلا واسعا بين المثقفين والسياسيين الافارقة ، حينما اصدر كتابه المسمى  افريقيا اساءت الانطلاق الى حد اعتبره بعضهم تدليلا على ان هذا المفكر المعروف بتعاطفه مع هموم العالم الثالث ، مايزال محملا بنزعة استعلائية مستمدة من انتمائه الى اوربا ، التي ينسب اليها اسباب التخلف المسيطر على الامم الافريقية .

سياسة التظاهر
والحق ان سيكوني لم يبد اي قدر من التعاطف ، وهو يوجه النقد الى المناهج والسياسات ، التي اتبعتها النخبة الافريقية ، في الفترة التي اعقبت زوال الاستعمار الاوربي المباشر ، بل انه اعتبر هذه النخبة مضللة او متواطئة ، في ابقاء اوضاع التخلف الاجتماعي والاقتصادي ، دون علاج جذري او طويل الامد

وقد نال التوجه التظاهري في السياسة والاقتصاد ، اكبر قدر من النقد في ابحاث سيكوني ، الذي لم يحظ بشهرة كبيرة رغم انه يعتبر احد الاوائل ، الذين اشاروا الى العلل الجوهرية في اقتصاديات العالم الثالث ، ولاسيما في جانب الارتباط الحرج ، بينها وبين التمويل الخارجي من جهة ، وبينها وبين السياسة من جهة اخرى .

ان قيمة ابحاثه تظهر الان بجلاء اكبر ، فقد اعتمد على تحليل اقتصاديات الدول النامية ، في الربع الثالث من القرن العشرين ، ليستنتج ان معظم الدول المعنية ، ستواجه قبل نهاية القرن اضطرابات اجتماعية وسياسية ، تطيح بمعظم ما اعتبره السياسيون في تلك المرحلة ، مكتسبات او انجازات تستحق الاشادة

تعليم يصنع التخلف
ومن ذلك على سبيل المثال السياسات التعليمية ، فبينما كانت الحكومات تعتبر التعليم الريفي ابرز مظاهر النهوض الحضاري ، فان سيكوني اعتبره مجرد قناة ، ترفد نهر البيروقراطية المدينية بالاعوان .

 ومن خلال البحث المستوعب للعلاقة بين سياسات التعليم في الريف ، وبين هجرة المتعلمين الى المدينة ، استنتج ان المدارس الريفية لاتفعل شيئا ، سوى امتصاص الطاقة البشرية من الجوهر الاقتصادي لتلك الدول ، اي الزراعة الريفية ، وراى ان  هذه الحركة  ستؤدي الى تدمير امكانات النمو الاقتصادي ، مما سيضطرها في مرحلة لاحقة الى العودة للاعتماد على المساعدات الخارجية ، على مستوى تمويل العجز ، او على مستوى العون المباشر ، الغذائي وغيره .

وخلاصة ما اراد سيكوني قوله هو ان معظم الدول الافريقية ، تستطيع النهوض اعتمادا على تطوير الاقتصاد الزراعي ،  لانها تملك الامكانات والفرص ، المادية البشرية ، التي تؤهلها للنهوض في هذا المجال .

جوهرية الريف
 وهذا يعني ان توجه الدولة جل اهتمامها الى الريف ، بل ان تعتمده كقاعدة لمشروعية عملها السياسي وشرعية بقائها ، خلافا للسياسات التي اتبعها الاستعماريون قبل ذك ، والتي تضمنت على المستوى الاقتصادي ، تعزيز اعتماد البلاد على تصدير المواد الخام ، وعلى المستوى السياسي مساعدة النخبة المدنية ، في السيطرة على خيوط السياسة والحياة العامة ، الامر الذي استتبع تهميش الريف واستثنائه ، ليس من المشاركة في صناعة السياسة الوطنية ، بل وحرمانه ايضا من نصيبه في الثروة الوطنية ، التي يشارك في توفيرها .

وفي الوقت الحاضر فان تنبؤات سيكوني وغيره من المفكرين ، الذي اهتموا منذ منتصف الستينات ، بدراسة واقع التنمية في العالم الثالث ، اصبحت اكثر قدرة على اثبات مصداقيتها ، فليس ثمة دولة افريقية ، بل ليس ثمة قطر من اقطار العالم الثالث ، الا وهو يعاني من الاضطراب الاجتماعي ، الذي لايصعب ملاحظة خلفياته الاقتصادية .

الفقر والانشقاق
ومع انه لايمكن نسبة كل تطور سلبي ، في العلاقة بين المجتمع والدولة الى خلل اقتصادي ، الا ان معظم اسباب عدم الرضى العام ، هي في حقيقتها شعور بالحرمان ، أو عجز عن تحقيق الرغبات ، ان الاكثرية الساحقة من الناس تلخص الرضا ، او تحقيق الذات ، في وجود وضع معيشي ملائم أو قابل للتطور ، وقدرة على تحقيق الامان الحياتي.
وثمة من ينكر هذه العلاقة الوثيقة بين الاقتصاد والاستقرار ، مدللا على رايه باوضاع البلدان التي تعاني من انشقاقات اجتماعية ، على رغم ما تتمتع به من اوضاع معيشية مريحة ، وهو اعتراض صحيح ، تدعمه ادلة كثيرة .
 لكن يبدو ان المعاناة الكبرى في افريقيا ، ترجع الى فشل الحكومات في تامين مستوى من المعيشة ، يليق بكرامة الاكثرية الساحقة من المواطنين .

ان الفشل على هذا الصعيد قد اثار الشك في مشروعية الدولة ، وعزز الانفصال بين النخبة والقاعدة العريضة من الشعب ، ذلك لان اكثر النخب السياسية في القارة السوداء ، لا تملك ايديولوجيا اخرى تبرر بها وجودها على راس السلطة ، سوى قيادة النهوض الاقتصادي ، او انها على الاقل لم تستطع اقناع الناس ، بان ثمة ايديولوجيا اخرى تستحق الرهان .
وفي بعض الحالات فان الانشقاق قد ارتدى ثوبا اخر ، لايوحي بان الفقر او عدم المساواة ، هو المحرك الرئيس ، لكن الذي لايشك فيه هو ان الجماعات الايديولوجية ، لم تستطع الحصول على الكثير من الأنصار المتحمسين ، خارج المناطق الفقيرة ، او التي تخضع للتمييز .

كما يمكن التاكد من ان الفقر هو السبب الرئيسي ، للانشقاق الاجتماعي الواسع النطاق ، من ملاحظة ان الدول التي تنعم بمستوى معقول من المعيشة ، تعتبر اقل عرضة للازمات الاجتماعية ، او على اقل التقادير فان الازمات التي تتعرض لها ، لاتكون خطيرة وشاملة ، بمثل ماهي عليه في البلدان التي تعاني عجزا على المستوى المعيشي ، او تمايزا شديدا بين قطاعات المجتمع .

  4 فبراير 1996  

05/06/1995

سياسة الامس وتاريخ اليوم



ماهو حدث سياسي اليوم سيصبح بعد ايام تاريخا ، ومانسميه اليوم تاريخا ، كان في زمنه وضمن ظروف تكونه ، حدثا سياسيا ، وطلب الى فيلسوف معاصر ان يعرف مهنة الصحافة فاكتفى بالقول ان ( الصحافي هو مؤرخ اللحظة ) وقد اصبحت هذه المقولة  تعريفا للعلاقة بين كاتب السياسة وكاتب التاريخ .
والتاريخ يفعل فعله في الاحداث كما يفعل في الاشخاص ، فهو يجردها من ظروفها ، ومن التفاصيل الصغيرة التي تحيط بها ، فيبقى على ما هو علم بارز منها ،كما الانسان اذ يجرده من تفاصيل حياته ، ويبقي منه اسمه وابرز ماكان في حياته ، فترى نصف قرن من حياة شخص ، ملخصة في صفحة او بضع صفحات ، بينما تسع حياته لو اردنا جرد تفاصيلها ، الاف الصفحات .

الرواية والتحليل
ومعظم الناس لايحبون التفاصيل الصغيرة والدقيقة ، في حياة الاشخاص كما في الاحداث ، الا بقدر ماتحتويه من اثارة للمشاعر الانسانية ، اي بمقدار ماتوجد هذه التفاصيل من علاقة عاطفية بين المتفرج ورجل الحدث ، أو بينه وبين المشاركين فيه ، ولو ان صحيفة كتبت عن حادثة حريق مثلا ، فوضعت الخبر التفصيلي عن مجرياته في جهة وعرضت تحليلا وشهادات فنية او هندسية في الجهة الاخرى ، فالمؤكد ان اكثر القراء سيكتفون بالخبر ويتركون التحليل  .

ويرجع ذلك في ظني الى اعراض عفوي ، عن التعامل التحليلي مع الصورة الكاملة للحدث ، وقد ورد في الاثر (اعقل الخبر عقل رعاية لاعقل رواية فان رواة العلم كثير ورعاته قليل) .  لهذا لايرغب الا القليل من الناس ، في مشاهدة البرامج الوثائقية التي يعرضها التلفزيون ، بينما ـ على العكس من ذلك ـ يقبلون على مشاهدة الاعمال الدرامية ، لاسيما تلك التي تنطوي على قدر من المبالغة او اثارة الخيال.
 لقد استطاع رجال السينما الامريكية ، ان يفرضوا انفسهم على حياة الناس ، في شتى بقاع العالم ، حينما قدموا ابطالا مثل ( رامبو ) الذي يمثل بالنسبة للمشاهد ، تعبيرا عن الرغبة العميقة للانسان في اختراق حدود المنطق ، مايتعلق منه بالقدرات الجسمانية والروحية للانسان الطبيعي ، او مايتعلق بالامكانات الموضوعية لمجال العمل المحيط بالانسان .

العالم سينما
ان جميع الذين يشاهدون ( رامبو ) يعرفون في قرارة انفسهم ، ان المسألة تمثيل في تمثيل ، وان مايرونه هو عبارة عن سلسلة من الخدع ، التي يجيد السينمائيون حبكها وترتيبها ، لكنهم في لحظة المشاهدة ، كما في لحظة التذكر ، لايرغبون في استذكار هذه المعرفة ، ويفضلون استعراضها في اذهانهم كما لو كانت حقيقة .  بل ان بعض الناس ولاسيما في سن الشباب ، يحتفظون بصور كبيرة لابطال مفترضين مثل ( رامبو ) تعبر عن علاقة الود التي قرروا اقامتها مع هذا البطل ، بالنظر لما تغذيه هذه العلاقة ، من قابلية للتعويض عن نزوع للبطولة الحقيقية ، لايستطيع صاحبه ايجاد الاسباب ، التي تحوله من امل الى حقيقة ، واذ ذاك فان الانسان يحاول الاحتفاظ به كحلم عزيز يحتل مكان الحقيقة ، فيخفف على صاحبه وجع فقد الامل او خيبته .

ويبدو لي اننا نقف من التاريخ (الذي كان سياسة في الماضي) ومع السياسة (التي ستصبح تاريخا في الغد) موقف المتفرج على عرض سينمائي ، تثيرنا البطولات ، ونتفاعل ـ عاطفيا ـ مع الاحداث التي تجري امامنا ، لكن القليل منا ، والقليل جدا فحسب ، هم الذين يغوصون في بحر الحدث محاولين قراءة ماوراء سطوره العريضة ، واذا قيض لنا ان نرتاح الى موقف ، او ان نعجب برجل من رجال الحدث ، فاننا لانجتهد في معرفة الظروف والاسباب ، التي جعلت منه بطلا يستحق الاعجاب ، وربما تخيل احدنا نفسه وقد اصبح مثل ذلك البطل ، لكن ليس الى الحد الذي نسعى معه لاكتساب صفاته وامكاناته ، انه تخيل تولد عن اعجاب واختلط بالحلم ، ثم تشكل في صورة ، حفظت في مكان ما من اروقة الذاكرة ، كما تستريح ملفات الارشيف ، يستدعيها الانسان ساعة اراد الاسترخاء ، ويعيدها الى ملفها ساعة انشغل  بحياته.


وراء المشـــــهد
ماتعرضه علينا وسائل الاعلام ـ وكتب التاريخ بالطبع ـ هو الصورة النهائية للحدث ، اي القشرة الخارجية للصورة ، ولعل التشكيل اللوني او الضوئي للصورة ، يوحي للعين بما ليس فيها حقيقة .
 لكن وراء هذه القشرة ، ثمة عالم من الحركة المتفاعلة ، وثمة نسيج ضخم من الخيوط ، تربط عشرات من الأجزاء المخنلفة الى بعضها ، حتى يتشكل المظهر الخارجي للحدث ، ان حدثا ما في ساعة وقوعه ، ليس الا نتيجة لتلك الحركة وتفاعل الاجزاء . كذلك الامر بالنسبة للرجال ، فظهورهم في الصورة التي تثير الاعجاب ليس وليد ساعته ، بل هو نتيجة مجموعة من الظروف والتفاعلات ، التي سبقت هذا الظهور ، ثمة عدد نادر من الاشخاص صنعوا ظرفهم ، وظهروا في نهاية المسار الذي قرروه ، وشكلوا اجزاءه بانفسهم ، ولهذا يعتبر امثال هؤلاء ، شخصيات تاريخية بكل المقاييس .

 اما غالبية الابطال الاخرين ، فقد ساهموا بقدر في بطولاتهم ، وساهم الاخرون بالقدر الاكبر ، لكن لان التاريخ لايحفظ ـ كما اسلفنا ـ الا المعالم البارزة من الاحداث ، فانه حفظ لنا اسم البطل وصور بطولته ، بينما غيب كل اجزاء الظرف الذي صنع البطولة ، ومكن شخصا من الظهور تحت عنوانها .

قدر قاهر
بالنسبة لعامة الناس فان التاريخ ( الذي كان سياسة بالامس ) والسياسة ( التي ستغدو تاريخا في المستقبل ) ليس خيارا يقبلونه ان رغبوا فيه او يرفضونه ، انه قدر ، وهو لازم لايستطيع منه المرء فكاكا ، ستراه امامك في ثقافتك ، وتراه امامك في معيشتك ، وتراه منتصبا يقرر نيابة عنك مستقبلك الذي ستصل اليه بعد حين.
العالم ميدان يلعب فيه بضعة افراد ويتفرج المئات ، وحينما تنتهي اللعبة يخرج الخاسرون كما الرابحون وقد نالوا شيئا ، قليلا او كثيرا ، عدا المتفرجين الذين دفعوا ثمن التذاكر، واتعبوا حناجرهم في الصراخ ، فهم لم ينالوا غير فرجة مدفوعة الثمن.
اذا كنت لاتستطيع المشاركة في اللعبة ، فانت قادر على ماهو ادنى ، وهو المعرفة بها وباسرارها ، فلعلك تستطيع تقدير مكانك ، حتى لاتفاجئك الايام .

29/05/1995

الناس والسياسة



ان قلة المعلومات المتاحة لعامة الناس حول مهنة السياسة ، هي السبب الرئيسي لشعورهم بغربتها وبعدها عن عالمهم ، وبالنظر الى الظروف المحيطة بالعمل السياسي في العالم الثالث ، ولاسيما عدم الاستقرار ، وماينشأ عنه من مشاحنات يطال شرارها بعض الناس احيانا ، فقد استقر العرف العام على تفضيل البعد عن السياسة ، باعتباره سبيلا للسلامة .
وينطوي تحت القرب من السياسة ممارستها ، كما ينطوي تحته مجرد الحديث فيها سلبا او ايجابا ، وفي بعض الازمنة ـ لاسيما في السنوات الماضية ـ كان الحديث في السياسة لايجري الا بين المقربين وأهل  الثقة ، حتى لو كان مضمونه غير مثير او غير معاد لجهة محددة ، فالحديث كان تدخلا ، و (التدخل في السياسة) كان تهمة خطيرة ، بغض النظر عن مضمون ومعاني ذلك التدخل .

الخوف والجهل
ويبدو لي ان الخوف من السياسة ـ وهو طبع تجده عند معظم العامة وكثير من المثففين في العالم العربي ـ قد ادى بهم الى تجاهل متعمد لما يجري في اروقتها ، تجاهلا ادى بالتدريج الى جهل حقيقي بها وبمضامينها واساليبها . وقد يبدو الجهل بالسياسة ، مريحا لبعض من يعنيهم امرها ، لكنه ـ بالنسبة للحكومات على وجه الخصوص ـ سبب للمتاعب ، ومعيق لمبادرات اصحاب القرار .

وفي ظني ان الكثير من مشروعات الاصلاح التي لم يجر تنفيذها ، انما اعيقت بسبب القلق من ردود الفعل السلبية ، من جانب الجمهور ، او على الاقل من جانب الاشخاص ، الذين يتمتعون بقوة تاثير على الجمهور ، على الرغم من ان تلك المشروعات ، لم تات الا بعد الدراسة والتمحيص ، وبعد ان دارت في اذهان الزعماء ورجال السياسة ، حتى اختمرت وتأكد صلاحها .

ان القلق من الاستقبال السلبي لمشروعات الاصلاح ، هو سبب مهم جدا لتعطيلها ، مع مايترتب على ذلك التعطيل من تفويت للمصالح العامة ، اذكر على سبيل المثال ان سياسات تحرير الاقتصاد التي اتجه اليها عدد من البلدان العربية منذ منتصف السبعينات ، لم تنطلق بالقوة المطلوبة ولا بالعمق الكافي بسبب معارضة الناس لها ، معارضة انطلقت من فهم غير دقيق لفوائد السياسات الجديدة وتاثيراتها على حياتهم وسبل عيشهم .

نتاج السنين
عدم الفهم الدقيق هذا لم يات من فراغ ، بل هو نتاج لسنوات طويلة من الجهل بحقائق مايجري في البلاد ، جهلا ادى بهم الى الريبة في كل مبادرة تقوم بها حكومتهم ، لاسيما اذا بدا انها ستكلفهم بعض العبء في البدايات .

وقد جرت عادة السياسيين العرب على اخفاء الحقائق عن جمهورهم ، او لنقل ـ على سبيل التحفظ ـ انهم لم يعتادوا اعلام الناس بحقيقة مايدور في بلادهم ، من نجاحات ومن اخفاقات .  وتبعت الصحافة ووسائل الاعلام هذه السيرة ، فهي لاتقول للناس الا ماسبق ان قاله اصحاب الشأن ، او ما رغبوا في قوله ، وهو في العادة قطر من بحر الحقيقة ، هذا اذا كان صحيحا .

وأذكر ـ على سبيل المثال ـ جدلا دار بين اثنين من الزملاء ، حول ظروف الاستثمار في بلد عربي كبير ، وكانت كبرى الصحف قد نشرت في ذلك اليوم ، تحقيقا على صفحة كاملة ، حول مصنع للتلفزيون والالكترونيات ، تابع لشركة حكومية قابضة ، وتحدث رئيس الشركة التي تنضوي تحتها مصانع اخرى حول طاقة المصنع ، والمستوى التقني الرفيع لعمله  ، واعتماده على اليد العاملة الوطنية (من الباب الى الباب) واعتبره مثالا ناجحا ، لجهود العرب في نقل التكنولوجيا وتوطينها . وأقسم احد الزميلين ان المقال كاذب (من الباب الى الباب) وقرر الاخر انه لابد ان يشتمل على شيء من الحقيقة ، اذا لم نقل كثيرا منها ، وفي النهاية فقد تحدثوا الى احد مهندسي المشروع ، الذي اخبرهم بان الكلام الذي نشرته الصحيفة ، هو نص كتيب دعائي ، كان المصنع قد وزعه لمناسبة افتتاحه قبل بضع سنوات ، اما رئيس الشركة الذي تحدث للصحيفة ، فهو برتبة وكيل وزارة ، لم يسبق له ان زار المصنع منذ ان تولى منصبه ، اما المصنع نفسه فهو مغلق منذ عامين ونصف ، بسبب نقص العملة الصعبة ، الضرورية لاستيراد المواد الخام وقطع الغيار .
وقد ضحكنا على انفسنا وعلى مجادلاتنا ، وعلى  تمنياتنا الساذجة .

مايقال في العادة
ولو تابعت تصريحات اهل السياسة أو الاعلام في بلد ، لظننت سكان الجنة يحسدون اهل هذا البلد ، على ماهم فيه من نعيم ، فلا مشكلات ولاصعوبات ، بل انتصارات وانجازات ومكاسب تتوالى كل يوم ، واذا وجدت مشاكل فهي تافهة ولاتستحق الذكر ، وهي معروفة ومحددة ، وهناك من يقوم بحلها ، بحيث لايستحق الامر حتى مجرد الالتفات اليه ، فضلا عن القلق  لاجله .

اما اذا اطلت الازمات برأسها فالتبرير موجود في الجيب الثاني ، فمن يتحدث عن ازمة كاذب ، ومن يشير الى مشكلة مغال ومبالغ ، وان مايقال مجرد اشاعات مسمومة يطلقها الاعداء والاجانب ، الذين يتآمرون على البلاد ومكاسبها ، الى آخر قاموس التبرير المعروف .
لقد مضى زمن كانت الاقطار العربية ، تتعرض بالفعل لحملات اعلامية ، تستهدف الضغط عليها لابتزاز مواقف سياسية ، لكن يبدو ان احدا لايصدق الان ان كل مايقال هو اشاعات مغرضة ، لان الناس اصبحوا غير قادرين على ابقاء عيونهم مغمضة واذانهم محشوة بالطين ، خاصة وان اصحاب الشأن من زعمائهم لايتكلمون ، واذا تكلموا فانهم يقيسون كلماتهم بالمثاقيل .

لهذا السبب نجد ان معظم العرب ، لايستمعون الى وسائل الاعلام الوطنية في بلادهم ، واذا استمعوا اليها فانهم لايصدقون ماتقول ، حتى يجري تكراره من مصادر اعلامية اخرى ، ولا أظنني مجافيا للحقيقة ، اذا قلت بان الاذاعة البريطانية ، هي الاذاعة التي تحظى باكبر عدد من المستمعين في العالم العربي ، لاسيما في اوقات الازمة ، حينما يشعر الناس بالحاجة الى المعلومات .
 هذا التطلع العام الى مصادر المعلومات في الخارج ، يستبطن اتهاما لصدقية وسائل الاعلام الوطنية ، وجدوى ماتقدمه للجمهور .

طير في السرب
والحقيقة ان الاذاعة والصحافة لاتستطيع ان تغرد خارج سربها ، فاذا كانت السياسة مغلقة في بلد ، فلابد ان تكون الصحافة والاذاعة كذلك ، واذا كانت مفتوحة وشفافة ، فان وسائل الاعلام مجرد تعبير عن حقيقة تجري ، قد توسع اطارها قليلا أو قد تضيقه قليلا ، لكنها لاتستطيع ان تكون غير ناقل لحقيقة تجري على ارض الواقع .

لو كان الناس يعرفون حقيقة مايجري في بلدهم ، اذن لاستطاعوا توقع ماسيأتي من أزمات ، واذن لبادروا في تقديم العذر لحكومتهم اذا واجهوا المشكلات ، بل ولعل بعضهم يبادر الى شد ازر الحكومة ومساعدتها في البحث عن علاج ، ولاشك ان بعض الجمهور قادر على تقديم العون اذا وجد الطريق مفتوحا وتلمس حرارة الترحيب .

والعمل في السياسة في أي بلد من البلدان العربية ، زراعة للهموم ووجع القلب ،  ويبدو لي ان معظم السياسيين العرب ، كثير منهم على الاقل ، يرغب في ان يشاركه الناس همومه ، لكنه يجد صعوبة في الانتقال من الانغلاق الكامل الى الانفتاح ، من الحجب الثقيلة الى الستائر الخفيفة الشفافة .

 وثمة من السياسيين من لايزال مسكونا بهاجس الانكشاف امام الاعداء ، او انكشاف العيوب امام الاصدقاء ، فهو بين اقدام واحجام ، يدفعه الى الصراحة رغبته في تخفيف اعبائه ، ويعيده الى محله خوف العواقب .
لكن من ناحية اخرى فان اغلاق الابواب لايحل المشاكل ، وان أخر انكشافها ، كما ان فتح الابواب لاياتي بالحلول السحرية ، انه وسيلة للتواصل بين اللاعبين وجمهورهم ، لجعل الميدان اكثر الفة واكثر دفئا .

وهو الى ذلك الوسيلة الوحيدة لجعل الجمهور سندا وعونا في المشكلات ، فضلا عن كونه سبيلا لتمكين السياسيين من انفاذ اراداتهم ، واطلاق ايديهم في طريق النجاح .


نشر في (اليوم) 29 مايو 1995

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...