التفكير في قضايا الهوية الفردية ونظيرتها
الجمعية/الوطنية ليس جديدا. وقد وردت تعبيرات عن المسألة ، ومعالجات لبعض
اشكالياتها في التراث القديم للعديد من الأمم ، ومنها الإسلام. لكن دراستها بشكل
معمق ومتخصص ، ترجع الى النصف الثاني من القرن العشرين فحسب.
ومع كل حديث عن مسألة الهوية ، يقفز الى ذهني
ثلاثة مفكرين ، اشعر انهم رسموا خريطة هذا الحقل.
سوف اتحدث اليوم عن اثنين ، واترك الثالث ، وهو بنديكت اندرسون ، لمقال آخر. أما
الأول فهو إريك اريكسون ، الطبيب النفسي
الذي اعتقد انه وضع الأساس العلمي لبحوث الهوية الفردية في الاطار السيكولوجي ،
وحدد مسارات تشكلها والعوامل المؤثرة فيها. وقد اتخذ من حياته الشخصية ، بين
المانيا والدانمرك والولايات المتحدة ، مادة لدراسة تحولات الهوية لدى شخص مختلف
عن المحيط (يهودي بين البروتستانت/علماني بين متدينين). درس اريكسون الكيفية التي
تتشكل فيها ذهنية الشخص ، ورؤيته للعالم ، من خلال تفاعله مع المحيط: كيف يتأثر
بارادات الناس في محيطه وبطريقة تعبيرهم عنها ، وكيف يستجيب لهذه الإرادات ، التي
لا يصرح بها أحد ، لكنها واضحة جدا في التعاملات اليومية.اريك اريكسون (1902-1994)
اما الثاني فهو امين معلوف ، الاديب اللبناني
الذي هاجر الى فرنسا فرارا من الحرب الأهلية ، فاستعاد في
سلامها نفسه التي أرادت مصالحة المختلفين ، من خلال تخيل احوالهم وادراك معنى
الحياة في عيونهم وعقولهم. اختار معلوف اسم "الهويات القاتلة" لكتابه
المتعلق بمسألة الهوية ، وهو رسالة صغيرة الحجم عظيمة القيمة ، بل استطيع القول
انها نادرة في بابها. وأظن ان أبرز العناصر التي أوضحت قدراته التحليلية الباهرة ،
هو تفسيره لتحول الهويات العادية ، الى هويات صلبة ، ثم تحولها من مظاهر تنوع
واختلاف عادي ، الى متراس لحماية الذات ومصارعة الآخرين. لم تكن الحرب الطائفية
ممكنة – وفق تصوير معلوف – لولا نجاح امراء الطوائف في تحويل الفارق الطائفي الى
حدود سياسية واجتماعية ، تشدد على خصوصية "الجماعة" وتبالغ في استذكار حقوقها
، والتشديد على اغتصاب هذه الحقوق من قبل الآخرين.
تصليب الهوية هذا يبدأ مساره بإعادة تعرف الفرد
على نفسه ، من خلال انتمائه الأكثر عرضة للتهديد. لو كان الانتماء القبلي هو الذي
يتعرض للتحدي ، فسوف يجري تصليب الانتماء الى القبيلة ، وتتحول الهوية القبلية الى
مزاحم لكافة الهويات الأخرى. ولو كان التحدي متجها للانتماء الديني او المذهبي او
القومي او العرقي ، فسوف تنطلق عملية تصليب لهذا الانتماء ، حتى يتحول الى هوية
حاكمة.
تولد الهوية القاتلة – وفقا لهذا التصوير – حين يتحول
التحدي الى خطر فعلي ، له آثار مادية ملموسة. ففيها يتحول الدفاع عن الهوية الى
دفاع عن الوجود. وينطلق سياق جديد يركز على تضخيم الذات ، وتسقيط الطرف الآخر ونفي
فضائله ، بحيث تتحول مواجهته بالعنف المادي او اللفظي ، الى عمل مشروع او مقبول
أخلاقيا.
الواقع ان معظم الصراعات العنيفة ، يجري تبريرها
بهذه الطريقة: تضخيم صورة الخطر الذي يتهدد الجماعة ، واستخدام الرموز الثقافية ،
سواء كانت قومية او دينية او حتى أدبية وفولكلورية ، في اقناع افراد الجماعة بأن
كلا منهم مستهدف في شخصه وفي عائلته ، وان الدفاع عن الانتماء الجمعي هو دفاع عن
الذات الفردية. ولو رجعت الى الادبيات المستعملة في الصراع ، لوجدتها تركز على
تضخيم الذات ، وتضخيم الخطر الخارجي ، وتحقير الطرف المقابل وتسويغ العدوان عليه.
هذه ببساطة مسيرة الهويات القاتلة.
الشرق
الاوسط الأربعاء - 11 صفر 1444
هـ - 07 سبتمبر 2022 مـ رقم العدد [15989]
https://aawsat.com/node/3859316