اذا
لم يكن توماس هوبز
ابرز صناع الفكر السياسي المعاصر على الاطلاق ، فلا شك انه اكثرهم تاثيرا على
مختلف المذاهب السياسية ، والى حد كبير على الاتجاهات الفلسفية الجارية في عالم
اليوم. ولد هوبز في ويلتشير جنوب بريطانيا ، في 1588 وتوفي في 1679 ، وسجل نظريته السياسية في كتابه الاشهر "لفياثان"
وهو اسم يلخص جوهر فلسفته السياسية . ورد مصطلح لفياثان في التوراة كوصف لحيوان
بحري خيالي هائل القوة قادر على ابتلاع الناس والمراكب. وورد في نصوص اخرى كرمز
للامبراطورية البابلية في العراق القديم التي كانت يومها اعظم الدول على وجه
الارض.
اظن ان قرب المصطلحات العربية الى هذا المعنى هو "الغول"
وهو ايضا رمز لكائن خيالي ذي هيمنة لا تقاوم ، لكنه – مثل اللفياثان – غير موجود
في الحقيقة ، بل هو رمز يصنعه الانسان لوصف القوى التي لها وجود بشكل او باخر ،
لكنه لا يعرف حقيقتها ولا يستطيع مقاومتها. انه من هذه الزاوية مثل الجن الذين
يرمزون لخوف الانسان اللاواعي من المجهولات. انها اذن كائنات اعتبارية ، وجودها
المادي الموضوعي مشروط باعتبار الناس وليس مستقلا بذاته .
هذه الفكرة تلخص تصور هوبز للدولة التي يراها ضرورة للحياة
الاجتماعية التي لا تستقيم بدون مصدر للخوف ، اي عامل ردع للافراط في استعمال
الحقوق الطبيعية من جانب بعض الناس. الدولة في نظر هوبز هي كائن اعتباري ، قوتها
وقابليتها للردع ليست نابعة من ذاتها بل من رغبة الناس في ان تكون كذلك . لقد
ارادها الناس رمزا للقوة المطلقة فاصبحت كذلك . ولولا هذا الاعتبار لما كانت كذلك ،
لانها في نهاية المطاف تتكون من افراد يمكن ان يختلفوا او يتفقوا ، يمكن للناس ان
يقبلوهم او يرفضوهم ، ويستطيعون استعمال القوة المادية لفرض مراداتهم وقد يعجزوا .
بكلمة اخرى يمكن للدولة ان تكون القوة المطلقة في مجتمع معين ويمكن ان تكون مجرد
واحدة من قوى كثيرة تتصارع على السلطان.
رأى هوبز المجتمع الانساني قبل الدولة ميدانا للصراع بين المصالح
المتنافسة المتاتية من نزعة طبيعية في الانسان للتملك والسيطرة والاستمتاع . وهو
يصف هذا النوع من الحياة بالحالة الطبيعية ، حيث يلقي كل شخص على مراداته صفة الحق
وما دونها صفة الباطل . الحق والباطل في راي هوبز هي اوصاف لغوية للارادات ، انها
بكلمة اخرى فن بلاغي وقدرة على رسم صورة لما يريده المدعي وما لا يريده . ان قدرة
هذا الشخص على استعمال فنون اللغة في اقناع الغير او دحض حجتهم هو ما يحول ارادته
الى حق وارادة الاخرين الى باطل .
بهذا الوصف
المتطرف لفكرة الحق (والمقصود بطبيعة الحال الحقوق الدنيوية) اراد هوبز اضعاف حجة
الكنيسة التي تزعم ان الحق هو كلمة البابا ، وان هذه الكلمة لها قدسية ذاتية نابعة
من اتصالها بالسماء. اراد هوبز التشديد على ان المجادلات السياسية كلها تقوم على
اعتبارات دنيوية ، وتستهدف بصورة او باخرى الحصول على قدر اكبر من القوة المادية
او السلطة . السعي للسلطة ، ضمن اطار الدولة او ضمن اطار المجتمع ، هو المجال الذي
لا يتعب الناس منه ولا يملون ، وهو الامل المحرك لآمالهم وفاعليتهم في الحياة حتى
ياتيهم الموت.
اراد هوبز من
تشديده على الطبيعة الدنيوية للسلطة ، معالجة الاشكال الرئيسي في جدل الدولة
والسياسة ، اي الطاعة ، وفي الحقيقة فقد اراد القول انه في مجتمع معين ، لا يمكن
ان تتعدد الطاعة والا فسد النظام ، يجب – في رايه – ان تكون الطاعة العامة مختصة
بالدولة خلافا للاعتقاد الذي روجته الكنيسة بان طاعة البابا مقدمة على طاعة الدولة
. كان هذا التشديد ضروريا بالنظر الى الظرف الخاص الذي طرح فيه هوبز نظريته ، حيث
كانت السيادة ، او ما يسمى اليوم الحاكمية العامة ، موزعة بين الدولة والامارات
شبه المستقلة والكنيسة ، فقد رأى ان قيام نظام اجتماعي متين وفاعل ، مستحيل في ظل
هذا التعدد .
اعتبر هوبز ان
قيام الدولة هو نتاج لعقد اجتماعي فرضته الضرورة لكنه قام باراداة عقلانية من جانب
كل افراد المجتمع . الناس توصلوا الى استحالة الحياة في ظل تصارع الارادات
والمصالح ، فقرروا ان ضرورة النظام تقتضي حصر السيادة والسلطة والطاعة في جهة
واحدة هي الدولة . من هذه الناحية فان السلطة والدولة والسياسة ، كلها كائنات
اعتبارية ارضية ، اوجدها الناس لتنظيم امورهم ، وهم شركاء فيها شراكة اصلية بمقتضى
الطبع الاولي ، وهي لم تقم الا على هذا الاساس ولا تستمر الا به.
استقطبت
طروحات هوبز الكثير من النقد ، ولا زالت دراسات في نقد "لفياثان" تظهر
بين حين واخر. لكنه مع ذلك لا زال ينظر اليه باعتباره مؤسس الفلسفة السياسية
الحديثة ، والرجل الذي اضعف مرجعية الفلسفة اليونانية القديمة ، فحولها – في نظر الباحثين - من مصدر
وحيد للتفكير في السياسة الى مجرد تاملات خيالية ، اقرب الى الاخلاقيات الرومانسية
منها الى تصوير السلوك الطبيعي للانسان.
اواخر مارس 2005