28/11/2024

تعقيب على استاذنا البليهي


هذا تعقيب على مقالة قصيرة لأستاذنا إبراهيم البليهي ، نشرها ضمن مجموعة فيها محبوه وقراؤه ، وتعالج ما اعتبره السر العميق لنهضة اليابان خلال عهد الامبراطور ميجي ، الذي تولى الحكم في 1852 حتى وفاته في 1912. والبليهي واحد من القلة الذين تثير كتاباتهم عواصف الجدل الذهني ، بين القناعات المستقرة والشكوك التي تولدها المعرفة الجديدة ، شكوك تؤكد حقيقة ان عقل الانسان يأبى التقاعد والسكون.

قبل عهد الميجي ، كان المجتمع الياباني أسيرا لمنظومة من التقاليد المتخشبة ، التي لا تقيد العقول فحسب ، بل تحرم أي تطلع خارج اطار الثقافة الموروثة والأعراف السائدة وطرائق الحياة التي قدسها الأجداد.

اندريه لالاند

ليس سهلا ان تتصور المعنى الدقيق لما اسميناه "تحريم التطلع". لكني سأضرب مثالا يوضح الفكرة: تخيل انك قررت الزواج من خارج قبيلتك ، فاذا بأبيك يحذرك: سوف انتحر لو فعلت ذلك!. او تخيل ان رئيس القرية غير طريقته في اللبس ، فاذا بكبار القرية يعلنون انهم سيهجرونها غاضبين. او يقتني أحد الناس آلة للمطبخ ، فيجتمع جيرانه للبحث عن سبيل لطرد الأرواح الشريرة التي جلبتها تلك الآلة.

بطبيعة الحال ، لم تحدث هذه الحالات كل يوم. لكني أردت إيضاح المعنى النهائي لمقاومة التغيير ، من خلال حالات شديدة التطرف ، حالات ربما وردت في قصص الرواة فحسب ، لكنها تشير أيضا الى جوهر الفكرة ، أي تصلب التقاليد والأعراف ، والرفض الشديد لأي فكرة جديدة أو عرف مختلف.

-         حسنا. ما الذي يدعونا لهذا الحديث؟

يثير مقال البليهي سؤالين متعارضين ، اظن ان كثيرا منا قد تأمل فيهما:

-         السؤال الأول: التقاليد المشار اليها ، لم تولد دفعة واحدة ، بل اتسعت وترسخت على مدى زمني طويل ، ربما يبلغ قرونا. فكيف تقبلها الناس جيلا بعد جيل ، ولم يتخلوا عنها رغم انها تجعل حياتهم ضيقة عسيرة؟.

كثير من المفكرين سيجيبون عن هذا السؤال بالعبارة التي اشتهرت على لسان البليهي: "العقل يحتله الأسبق اليه". بمعنى ان الانسان يجد نفسه ، لحظة ولادته ، وسط بيئة ثقافية – اجتماعية أحادية الاتجاه ، تعرض نفسها في صورة الحق الوحيد ، فتنبني ذاكرة الانسان وهويته ، ويتحدد تفكيره ، في ذات الاتجاه المعتاد في مجتمعه. وبهذا سيكون جزءا من العقل الجمعي وامتدادا له. قد ينزعج الانسان من نمط المعيشة السائد. لكنه – في الوقت ذاته – يراه حقا وحيدا ، او لازما أخلاقيا ، او ضرورة للعيش مع الجماعة. فهذه الأفكار تلعب دور السور الذي يحمي قلعة التقاليد من المساءلة والتحدي.

-         السؤال الثاني: اذا كان الجواب المذكور صحيحا ، أي كانت الثقافة الموروثة حاكمة على ذاكرة الانسان وتفكيره ، فلا يرى الا ما تعرضه هذه الثقافة ، فكيف – إذن – امكن للناس ان يتحرروا من هذه الثقافة ، على النحو الذي جربته اليابان في عصر الامبراطور ميجي ، كما ذكرنا آنفا؟.

سوف نستعير الجواب من الفيلسوف الفرنسي اندريه لالاند (1876-1963) الذي اقترح مستويين لعمل العقل ، أولهما "العقل المنشأ" بضم الميم ، أي الذي تكون وبني تحت تأثير العوامل السائدة في المجتمع المحيط ، من لغة وثقافة ونظام حياة. وثانيهما "العقل المنشيء" أي الذي يصنع الأفكار وينتجها ، مستفيدا من العوامل السابقة ، او مستقلا عنها ، بل ومتمردا عليها. وهذا العقل هو الذي كسر قلعة التقاليد وتجاوزها.

لم يكن لالاند أول من قال بهذا. لكنه قدم رؤية متينة ، وعالج الإشكالات المحيطة بالفكرة. ولذا جرت العادة على نسبتها اليه. ان قابلية العقل لتجاوز قناعاته المسبقة والتمرد عليها ، وقدرته على إعادة بناء الأفكار من دون أساس سابق ، بل خلق أفكار جديدة ، لم يسبقه اليها أحد ، هي ما يميز الانسان عن الآلات الذكية. وهي التي تجعل كل قديم في معرض التحول والاندثار. على ان تفصيل القول في هذا يحتاج لمقالة أخرى قريبا ان شاء الله.

الشرق الأوسط الخميس - 27 جمادي الأول 1446 هـ - 28 نوفمبر 2024

https://aawsat.com/node/5086127

مقالات ذات صلة:

الانشغال بالعلم والانشغال بالجن

لماذا يرفضون دور العقل؟

اليد الخفية التي تدير العالم

اصلاح العقل الجمعي

مشكلة الثقافة الدولتية

الثقافة كصنعة حكومية

العقل المساير والعقل المتمرد

 

21/11/2024

حق الفرد وحق المجتمع: مشكل أخلاقي

اعلم ان بعض القراء الاعزاء يطمع في جواب للسؤال المحير الذي أثارته مقالة الاسبوع الماضي. أما أنا فلازلت آمل ان يتحمس الاصدقاء للتأمل في جوهر السؤال واحتمالاته.

احدى المسائل الهامة التي أثارتها القصة الواردة في هذا المقال ، هي القيمة النسبية لحقوق الفرد مقارنة بالجماعة. بيان ذلك: افترض انك وجهت السؤال التالي لجمع من الناس: إذا تعارضت حقوق شخص واحد مع حقوق 100 شخص.. فأي الطرفين أولى بالرعاية؟.

أتوقع ان معظم الناس سيميل لترجيح مطالب الجماعة على حقوق الفرد. هذا أمر متعارف في كافة الثقافات ، لكنه سائد بدرجة اكبر في المجتمعات التقليدية ، التي تميل لاعلاء الرابطة الاجتماعية ، ولو ادى الى خرق حقوق الافراد.

كان ايمانويل كانط ، الذي يعتبر أبرز آباء الفلسفة المعاصرة ، قد طالب كثيرا باحترام كرامة الانسان الفرد ، وعدم اتخاذه أداة او وسيلة. الانسان - وفقا لهذه الرؤية - غاية في ذاته. وكل ما يفعله هو أو غيره ، ينبغي ان يستهدف اسعاد هذا الكائن العاقل ورفعته. يمكن للفرد أن يعمل على إسعاد غيره ، في الوقت الذي يعمل لسعادته الخاصة أيضا. لكن لا يصح استغلاله أو التضحية به في سبيل اسعاد الغير.

حسنا ما هو الميزان الذي يعيننا على التمييز بين الافعال التي لا تتعدى التفاعل العادي مع الناس ، وتلك التي تنطوي على علاقة استغلال؟.

يجيب كانط بأن ملاحظة انعكاس الفعل – ولو بصورة افتراضية - على الذات ، هو الذي يكشف لنا عن حقيقته. فان اردت التحقق من سلامة فعل ما ، فافترض انك تريد جعله قانونا لكل الناس ، ومنهم أنت. وهو هنا يشير الى الجانب الآخر ، اي كيف يكون الوضع لو انتقلت انت من جانب الفاعل الى جانب المتأثر بفعل الغير. دعنا نفترض مثلا ، انك تعطي رأيا في استحقاق شريحة من الناس لقروض بنكية او منحة حكومية أو وظيفة ما ، أو ربما كنت قاضيا يصدر حكما في واقعة. تخيل لو أن حكمك هذا أو رأيك ذاك سيتحول الى قانون لكل الناس ، وان غيرك سيستخدمه مستقبلا ضدك ، اي حين تطلب قرضا او منحة او وظيفة او حين تقف امام محكمة. لو فكرت في هذا الاحتمال بجدية ، فهل ستتريث قبل اتخاذ القرار ام لا ، هل ستفضل اتخاذ الجانب اللين ام ستختار الجانب الخشن؟.

تذكرت الآن حادثة واقعية رواها ضابط عراقي سابق ، وخلاصتها انه طلب من مدير الامن العام تزويد عنابر السجناء بمراوح هواء للتخفيف من شدة الحر ، أو السماح بتدبيرها من متبرعين. فغضب المدير وهدده بالعزل لو سمعه مرة اخرى يجامل من اسماهم بالمجرمين. ومرت الايام ، فاذا بالمدير سجينا في تلك العنابر ، وكان طلبه اليومي ، هو السماح له بتركيب مروحة هواء. يقول الضابط انه ذكر المدير السابق – السجين حاليا بطلبه القديم ، فاعتذر ايما اعتذار ، لكن فرصة الاحسان فاتته ووقع أسيرا لقراره. هذا معنى ان تفكر في رأيك او قرارك ، كما لو انه سيمسي قانونا لكل الناس.

 يذكرنا هذا بوصية الامام علي بن ابي طالب لولده الحسن: "يا بني اجعل نفسك ميزانا فيما بينك وبين غيرك فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، وأكره له ما تكره لها، ... واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك". ورسالة هذا النص تطابق تماما فكرة كانط "قانون لكل الناس".

خلاصة ما يقال إذن ، ان الميل العام لترجيح مصالح وحقوق الجماعة على مصالح الفرد وحقوقه ، قد ينطلق من مبررات معقولة ، في حالات كثيرة. لكنه ينطوي على مشكلة اخلاقية واضحة. فالمسألة هنا لا تتعلق بعدد المستفيدين ، بل بالفعل نفسه: اذا قبلنا بفعل خطأ ، لأنه يخدم أكثرية الناس ، فقد وضعنا تشريعا يجعل الخطأ مقبولا وقابلا للتطبيق. واذا كان ضحيته اليوم شخص واحد ، فقد يكون ضحيته غدا آلاف الناس. المسألة اذن تتعلق بالفعل نفسه وليس بعدد الذين يقع عليهم.

الشرق الأوسط الخميس - 20 جمادي الأول 1446 هـ - 21 نوفمبر 2024

https://aawsat.com/node/5083812

14/11/2024

الفعل السياسي: مشكلة الأيدي القذرة

في مجادلته للفلسفة النفعية ، روى برنارد ويليامز ، الفيلسوف الانكليزي ، قصة رجل اسمه "جيم" ، حط رحاله فجأة في قرية صغيرة في الجنوب الأمريكي. في الساحة الرئيسية للقرية ، كان ثمة كتيبة من الجنود تستعد لاعدام 20 هنديا ، اتهموا بالتمرد على الحكومة الفيدرالية. توجه جيم لتحية قائد الكتيبة ، الذي رحب به كأجنبي شريف ، وعرض عليه ان ينقذ حياة 19 من الهنود الأسرى ، شرط ان يقتل أحدهم بنفسه. أكد الضابط انه سيعدم الجميع لو رفض جيم العرض.

طبقا للمفهوم المبسط للفعل الخير في الفلسفة النفعية ، يتوجب على "جيم" ان يقتل أي شخص فيهم ، كي يحافظ على حياة التسعة عشر الباقين. لأن قيمة الفعل في هذا التيار الفلسفي ، رهن بحجم المنافع التي ينجزها لاكبر عدد من الناس ، حتى لو تضرر احدهم او عدد قليل منهم.

مايكل والزر

أورد ويليامز هذا المثال ، كي يوضح النهايات المنطقية للتبرير النفعي. وهو تبرير يتبناه كثير من الناس ، من دون تأمل او قراءة نقدية في معانيه ومآلاته. تتجلى المعضلة التي تواجه جيم ، في شعوره العميق بالمسؤولية عن موت 20 شخصا ، فيما لو تمسك باخلاقياته الاساسية ، ورفض الانخراط في هذه اللعبة القبيحة. لكنه – في المقابل – يسأل نفسه: هل من الصواب ان يقتل شخصا لايعرفه او ربما لايستحق القتل؟.

هذا سؤال قد يطرح بمفرده ، أو كجزء من الحدث. وقد يوجه لشخص الفاعل ، أو يوجه للأسرى العشرين.

-         حسنا ، ما هو موقفك عزيزي القاريء ، لو كنت في موقع "جيم"؟.

 تأمل في موقف الطرف المتضرر ، باعتباره إنسانا مثلك ، واسأل نفسك: ماذا لو كنت أنا في هذا الجانب ، وكان على شخص آخر ان يتخذ القرار: هل يتوجب علي القبول بالموت كي يحيا بقية الاشخاص؟.

دعنا نأخذ مثالا أكثر قسوة: افترض انك دخلت المستشفى ، فوجدت 10 أشخاص في غرف العمليات ينتظرون متبرعين بأعضائهم كي يعيشوا ، والا فسوف يموتون. انت سليم الجسد ، ولديك هذه الاعضاء جميعا: هل سترضى بأن توضع على طاولة العمليات ، كي يؤخذ قلبك وكبدك وعينك ورئتك وبقية اجزاء جسمك ، لتزرع في اجسام المرضى الآخرين؟.

هذا السؤال يحمل نفس مبررات السؤال الأول: اذا كان بقاء العشرة أشخاص اولى من بقاء شخص واحد ، فانه يتوجب على طاقم المستشفى ان يأخذوك فورا الى غرفة العمليات ، كما يجب عليك ان تقبلها بطيب خاطر. اما لو اعتبرت هذا الفعل غير اخلاقي ، فعليك ان تتحمل وفاة العشرة أشخاص ، دون أن تشعر بالذنب.

هذه المعضلة عالجها مايكل والزر ، الفيلسوف الامريكي الذي نشر في (1973) مقالا عنوانه "الفعل السياسي: مشكلة الأيدي القذرة". وتبنى موقفا مقاربا للموقف النفعي ، لكنه قدم تصويرا مختلفا.

أثارت مقالة والزر جدلا كثيرا ، وتحولت الى نص مرجعي في اخلاقيات الفعل السياسي ، لأنها عالجت تجارب فعلية يمارسها السياسيون كل يوم. ويقول والزر انه أراد العثور على خط معقول بين من يريدون التمسك بمعايير اخلاقية صارمة ، صحيحة ، لكنها غير مفيدة في ميدان العمل ، مقابل أولئك الذين لا يتورعون عن تبني افعال مفزعة ، يبررونها بما يترتب عليها من انجازات ضرورية وكبيرة.

هذه الرؤية تطرح سؤالا ضروريا:

-         هل من الاخلاقي استعمال وسائل سيئة لتحقيق غايات عظيمة ، وهل من الاخلاقي ان نقتصر على الوسائل الحسنة مع علمنا بانها لا توصلنا لأي نتيجة ، او ربما تكلفنا خسائر باهضة؟.

 نفهم طبعا ان الغاية لا تبرر الوسيلة. لكن ماذا لو كانت الوسيلة القبيحة طريقا ضروريا لمنع الكارثة؟.

ما يميز رؤية والزر عن المقاربة النفعية ، هو اعتباره فعل السياسي خطأ ، وان كان الاقدام عليه ضروريا لتفادي الكارثة. بينما ينظر النفعيون الى هذا الفعل باعتباره صحيحا ، ولو كان – خارج هذا الاطار – خطأ وقبيحا.

أعلم اني قد أوصلت القاريء الى نقطة تثير الحيرة. لكني أفهم أيضا ان ما سبق ، قد يحفز بعضنا لاعادة التفكير في بعض قناعاته المستقرة.

الخميس - 13 جمادي الأول 1446 هـ - 14 نوفمبر 2024     https://aawsat.com/node/5081472 

تعقيب على استاذنا البليهي

هذا تعقيب على مقالة قصيرة لأستاذنا إبراهيم البليهي ، نشرها ضمن مجموعة فيها محبوه وقراؤه ، وتعالج ما اعتبره السر العميق لنهضة اليابان خلال...