استمعت البارحة إلى متحدث
يقترح أنماطا بديلة للمعيشة ، تبدأ من موارد العيش ، إلى نظام البناء والتعليم
ومصادر الثقافة ، وغيرها من حقول الحياة ، وقد انطلق المتحدث من زاويتين محددتين ،
الأولى هي الحاجة إلى التكيف مع دورة اقتصادية مختلفة ، يتوقع أن تبدأ في الظهور
والتبلور قبل نهاية العقد الأول من القرن الجديد ، أما الثانية فهي الحاجة إلى
استيعاب مناسب للجيل الجديد ، الذي سيدخل ميدان الحياة العامة خلال السنوات العشر
القادمة .
قلت للمتحدث ان التغير في
طبيعة المعيشة وفي حقول الحياة الأخرى ليس حدثا جديدا ، فحلـقاته تتوالى وتتسع ،
ولا سيما في الربع الأخير من القرن العشرين ، فما السر في تحديد العقد الأول من
القرن الواحد والعشرين على وجه الخصوص ؟ .
قال الرجل ان العالم العربي
خرج بحصيلة طيبة من تطورات الربع الثاني من هذا القرن ، لكن النتائج الكاملة
للمواجهة بين تحدي التغيير والاستجابة للتغيير ، أو التكيف مع ضروراته ، لم تتبلور
تماما ، وحين يمضي ربع قرن أو ما يعادل قفزة جيلية واحدة ، سيكون لدينا رجال ولدوا
وترعرعوا وانضموا إلى الحياة العامة ، في ظل نمط الحياة الجديد ، وسيكون لدينا جيل
فتح عيونه على عالم تنفتح آفاقه بسعة ، وتنكمش المسافات بين أطرافه بسرعة ، عالم
يشترك سكان الكوكب كلهم في صناعته ، بعد ان كان عالم الانسان الشرقي شرقيا بالدرجة
الأولى ، كما للناس في الغرب وفي كل بقعة أخرى عوالمهم الخاصة المنفصلة .
سيكون الجيل الجديد قادرا ،
بل راغبا أيضا ، في استقبال التيارات الثـقافية من شتى الأنواع والألوان ، وسيكون
قادرا على التفاعل معها عبر شبكات الاتصال التي لا تحدها القوميات ولا الحدود
الاقليمية ، ولا سيما شبكة المعلومات الدولية (الانترنت).
يتميز هذا الجيل عن جيلنا
الحاضر بميزتين أساسيتين : الأولى انه لم يعاصر أبدا فترة النهوض الاقتصادي التي
شهدتها بلداننا خلال الربع الأخير من القرن ، ولم يعرف كيف عاش الناس قبل هذه
الفترة ، اللهم إلا ان يقرأ عنها في الكتب أو يسمعها في حكايات المتحدثين ، كما
نقرأ اليوم عن أجدادنا وكيف كانوا يعيشون ، لكننا لا ندرك عمق الفارق بين أحوالنا
وأحوالهم ، وإن تخيلناه (فما راء كما
سمعا) كل ما نعرف هو الظرف الذي عاصرناه
فعلا ، نحن اليوم نتـقبل ونتفهم الضرورات التي نتجت عن الارتباط الوثيق بين ظرفنا
الراهن والظرف الذي سبقه ، قد لا نرتاح لكثير مما نراه ، لكننا نحتمل بصبر ، هو
نتيجة للمقارنة بين ما كنا عليه في سالف أيامنا ، وما نحن فيه اليوم ، أما الجيل
الآتي فلم يعرف ولم ير ، ولهذا فهو لا يتقبل ولا يتفهم تلك الضرورات ، بل ربما عجب
لقبولنا بها أو سكوتنا عنها .
جيلنا متنازع بين هوية تنتمي
إلى ماض لم نستطع الفكاك منه ، وحاضر لا نريد التفريط فيه ، أما هوية الجيل الآتي
فهي تنتمي إلى الحاضر والمستقبل ، وإن بقيت فيها خيوط أو آثار من ماض
، لا يستطيع مزاحمة الايقاع السريع للحياة الجديدة والزاماتها ،
بكلمة أخرى فاننا ننتمي إلى مجتمع توسط حقبتين ، ولهذا فهو يتلقى تحديات الحقبة
الجديدة ، ولديه من وثاق قديمه ما يخفف من سرعة التغيير وشدة التباين ، بين ماض
ذهب وحاضر يأتي ، أما الجيل الآتي فهو ينتمي إلى حقبة جديدة ، تقود إلى ما هو أكثر
منها جدة واختلافا ، وليس لديه وثاق ، سوى ما يتلقاه اليوم من مصادر المعلومات
والثقافة ، التي هي في مجملها نتاج الحاضر وسلم المستقبل ، وهذا يعني أن الكثير
مما نقبله اليوم وما نعتبره محتملا أو طيبا ، سيكون غير محتمل عند أبنائنا .
أما الميزة الثانية التي
تميز الجيل الجديد ، فهي دخوله الحياة
العامة بعد انكماش الموارد ، التي كفلت لجيلنا رغدا من العيش وسهولة في
مصادر الرزق ، قل أن يجود بمثلها الزمان ، في وقت من الأوقات كان يكفي الانسان
القليل من الكفاءة والتعليم ، حتى يحصل على وظيفة مرموقة أو تجارة عظيمة المردود ،
أما اليوم فنحن نرى رأي العين كيف يخرج
تجار الأمس من السوق ، واحدا بعد الآخر ، وكيف تضيق الأبواب والطرق على غير
الأكفاء والمتعلمين ، بل حتى على بعض
المتعلمين ، ممن بارت سوق اختصاصاتهم ولم يعد لها طالب .
ونقرأ اليوم في
الصحف ونسمع في المجالس ، عن عشرات من خريجي الجامعات يقضون شهورا في البحث عن
وظيفة فلا يجدون ، فيقبلون أي وظيفة دون
شروط ، وأمامي قصص كثيرة عن مثل حامل الدكتوراه الذي انتظر عاما ونيف حتى عثر على
وظيفة ، وقد كان معروضا عليه أن يعمل بشهادة البكالوريوس ، والمهندس الذي قبل فعلا
بالعمل بشهادة الثانوية ، بعد أن بقي بضعة أشهر في انتظار وظيفة تناسب كفاءته ،
ويسمع كل واحد منا كثيرا من هذه الأمثلة ، مما كان مستحيلا قبل عقد ونصف من الزمان .
في ذلك الوقت كان المواطن
قادرا على بناء بيت بتحرير ورقتين فقط ،
واحدة يطلب فيها منحة ارض ، وأخرى يطلب فيها قرضا ، أما اليوم فلا هذا
يتيسر ولا تلك ، وهذه طبيعة الحياة التي تدور إلى الأعلى ثم تنحني ، ولعل الأقدار
تعيدها دورتها من جديد ، رغم ان طبائع الأمور تأبى تكرر القفزات في الأزمان
المتقاربة .
أمام الجيل الآتي حياة
صعبة المراس ، طرقها ضيقة ، مواردها قليلة
، والتزاحم فيها شديد ، ولهذا سيجد نفسه مضطرا للكفاح الدؤوب من أجل القبض على
فرصة لائقة ، وسيكون مضطرا للاعتماد الكامل على ذاته ، دون اتكال على سياسة الدعم
أو سياسة الارضاء
.
في مثل تلك الظروف يتطلب
التكيف مع مقتضيات الحياة استجابة واسعة وجدية ، بقدر ما تحدي التغيير شامل
ونتائجه قاسية ، ولكي يتمكن أبناؤنا من النجاح في مواجهة هذا التحدي ، ينبغي أن
نكون جادين في إعدادهم وتجهيزهم بما يلزم من العتاد ، وأهم عناصره الكفاءة العلمية
، وتناسب الاختصاص العلمي مع حاجات السوق المتوقعة يوم يدخلون ، ومن عناصره أيضا
تجهيزهم بالعتاد المعنوي ، والقيم الأخلاقية التي تحميهم من الانجراف وراء دواعي
الرغبة والغضب ، حين يجدون أنفسهم محصورين في مضايق العيش ، من بينها خصوصا قيم
التواصل مع الغير ، مثل الملاينة ، والتعاون والمشاركة ، وتحمل المسؤولية عن
الأعمال والمبادرات الشخصية والأخطاء .
وإذا أردنا الحديث عن مجموع
الجيل الجديد من أبناء الوطن فقد لا يكفي
توجيه النصيحة للآباء ، فليس كل أب قادرا على استيعاب حقائق المستقبل ، وليس كل أب
قادرا على إدراك الخيط الذي يصل بين يوم أبنائه وغدهم يوم يصبحون رجالا ، فلعله
يكتفي بمواعظ إجمالية ، تفيد في الجملة ، دون أن تطابق المطلوب على وجه التحديد .
التخطيط العام لحياة الجيل
الآتي يتطلب دراسات مستفيضة ، يستهدف كل منها رسم جزء من الصورة الكاملة ، في كل
حقل من حقول الحياة ، نحن الآن لا نعرف على وجه الدقة ، كيف سيكون وضعنا الاقتصادي
بعد عشر سنوات ، هل سيبقى البترول محورا أول للنشاط الاقتصادي ، أم سيكون لدينا
غيره ، في كل يوم تقذفنا وسائل الاعلام بكل نقيض فهذه تعد بالمن والسلوى وتعد
الأخرى بعظائم الأمور ، نحن لا نعرف أيضا مدى تأثر أوضاع مجتمعنا بانتشار التعليم
، وسرعة تدفق المعلومات و التواصل مع العالم ، والتغيرات الاقتصادية ، كما لا نعرف
كيف سيكون محيطنا الاقليمي وانعكاساته علينا في ذلك الوقت ، اننا ـ بصورة عامة ـ
لا نعرف الوجهة التي تسير نحوها مراكبنا ، ولهذا فقد لا نستطيع أعداد أبنائنا
للرسو الآمن على الشاطيء المقصود .
عكاظ 29 اكتوبر 1998