رغم انشغال الناس بمتابعة
مباريات المونديال ، فان الوضع الاقتصادي يحظى بنصيب كبير من الأحاديث التي تدور
في المجالس والسوق ، لا سيما بعد القرارات التي اتخذت الشهر الماضي لخفض الانفاق
في ميزانية العام الجاري ، وقد غذى الوزير النعيمي الآمال بتحسن قريب في الاوضاع ،
حين بشر الناس بان اسعار البترول سوف ترتفع ، إذا التزمت الدول المنتجة باتفاقات
تحديد الانتاج الأخيرة ، وان هذا التحسن سوف يبدأ بالظهور في اوائل السنة القادمة .
ونود ان نحمل تصريحات وزير البترول على محمل الجد ، فلنا حاجة في التفاؤل ،
وانتظار الخير الآتي ، لكني آمل ان لا تؤدي هذه التصريحات الى اعتبار الامور
طبيعية تماما ، أي ان لا يقول المخططون بأن الانخفاض الحالي في اسعار البترول ،
طبيعي ويحدث في كل مكان .. الى آخر ما يقال عادة ، عندما يراد تطييب الخواطر
القلقة في الازمات ، نأمل حقا ان تتحسن اسعار البترول في اوائل السنة القادمة ،
لكن من جهة اخرى ، يصعب التصديق بانها سوف تتجاوز المعدلات التي سادت خلال السنوات
العشر الاخيرة ، خلافا للتفاؤل الذي ساد اواخر العام الماضي ، بان الاسعار سوف تقف
عند معدل 16 دولارا للبرميل .
كثير من الناس الذين يشغلهم
هذا الموضوع ، وانا منهم ، يسمعون تصريحات متفائلة مثل هذه ، كما يقرأون ما ينشر
ويسمعون ما يقال ، مما يخالف فحواها ، ويعلمون بان التطمينات وتطييب الخواطر لا
تعالج مشكلة ولا تغير حالا الى احسن منه ، وان خففت من القلق الوقتي لدى القلقين .
ما يهمنا الان هو النظر في المسألة ككل ، فالعاقل من يتعظ بتجارب غيره فضلا عن
تجاربه الخاصة .
بدأت انعكاسات الانخفاض الحالي في اسعار البترول ـ ومعها
الدخل الوطني ـ تظهر تدريحيا في السوق ، فانخفض مؤشر اسعار الاسهم المحلية مع
انخفاض الطلب ، كما تدور احاديث عن احتمال رفع اسعار الخدمات العامة مثل الكهرباء
والوقود ، وهي اجراءات سبق ان اتخذت عندما واجهت البلاد ازمة مماثلة قبل ثلاثة
اعوام ، ونجحت الى حد ما في اختصار عجز الميزانية ، لكن معالجة عجز الميزانية ليس
دواء طويل الامد لاقتصاد البلاد ، الا اذا اردنا التوقف في المستوى الابتدائي
للاقتصاد أي ابقاء الناس متكلين في حياتهم ومعايشهم على الانفاق الحكومي المباشر ،
وهو أمر لا يريده أحد ولا يستصوبه أحد .
يقول أهل الرأي في السوق بأن
ما نحتاجه اليوم ، هو حلول جذرية وسياسات واقعية واستراتيجيات طويلة الأمد ، تؤدي
الى تحرير الاقتصاد الوطني من الاعتماد الكلي والكامل على مبيعات البترول الخام ،
واذا كنا قد وجدنا انفسنا مضطرين في بدايات معركة النمو ، الى التعويل على عائدات
البترول ، والتساهل في ربط حياة الناس بصورة كاملة بالانفاق الحكومي ، فلا ينبغي
الاسترسال في هذا النهج الى النهاية ، فهو يتحول
مع مرور الزمن ، من حافز للنمو الى مثبط لامكاناته ، في الوقت الذي لا
تستغني البلاد عن مصادر جديدة لمواصلة نموها الاقتصادي والاجتماعي .
من ناحية أخرى فان رفع اسعار
الخدمات العامة ، ليس محبوبا ولا مبررا عند أكثرية الناس ، لا سيما من الطبقات
الوسطى والفقيرة ، صحيح ان الحكومة تدعم اسعار الكهرباء مثلا ، لكن من الصحيح ايضا
ان الناس ليسوا مسئولين عن السياسات التي تتسم بالتبذير من جانب شركات الكهرباء ،
والتي تتحول تاليا الى فواتير يتحمل عبئها المستهلك الذي لا ناقة له ولا جمل ،
والحق ان الاحتكار الشامل الذي تتمتع به الشركة السعودية الموحدة للكهرباء (سكيكو)
قد مكنها من فرض اراداتها الخاصة على جمهور المستهلكين ، وهناك من يدعي ان
بالامكان اختصار فواتير الكهرباء بصورة
ملموسة ، لو وجدت شركات منافسة لشركة سكيكو ، وهناك من جرب فعلا وتأكد من هذا
المدعى ، الامر نفسه يقال بالنسبة للوقود ، فنحن نعلم ان تكاليف انتاج البترول في
المملكة ، تعتبر الاقل على مستوى العالم ، وان الحكومة لا تدعم اسعار الوقود ، أي
ان ارامكو كانت تربح سابقا ، ولا تزال تربح من مبيعات الوقود ، والاحرى ان تخفض
اسعاره الآن ، تماشيا مع انخفاضه في السوق
العالمية ، لا ان ترفعه كما يتوقع المتشائمون . الغرض ان التفكير يجب ان ينصب على
سياسات اكثر واقعية ، وعدم رمي عباءة المسئولية على الحائط الواطئ للمستهلك البسيط .
منذ عدة أعوام يلح الخبراء
على تخصيص شركات القطاع العام وخفض النفقات الحكومية ، باعتبارهما عنصرين جوهريين
لتصحيح المسار الاقتصادي ، وقد بدأت أولى بشائر القبول بهذه الاقتراحات مع قرار
تخصيص خدمة الاتصالات ، والحديث عن تخصيص النقل الجوي ، لكن الواضح ان الامر بحاجة
إلى ما هو أكثر ، كما يحتاج إلى إزالة الصفة الاحتكارية التي تتمتع بها هذه
القطاعات ، مع تحولها من مفهوم الخدمة العامة إلى الخدمة التجارية المدفوعة الثمن
، إذ لا يعقل أن تحافظ شركة الهاتف على احتكارها لهذه الخدمة ، مع أن التزامها
الاول سيكون منصبا على مصالحها كشركة تجارية ، كما انه لن يكون منطقيا تمتع الخطوط
السعودية بميزة احتكار خدمة النقل الجوي بعد تخصيصها ، واجبار المستهلك على دفع
قيمة أعلى لما يشتريه من الخدمات ، اذا كان بالوسع ايجاد هذه الخدمة باسعار اقل .
ما أردت قوله ان تخصيص
الخدمات العامة ذات الطبيعة التجارية ، وهو الاجراء الذي اعتبره الخبراء ضروريا
لخفض النفقات الحكومية وتنشيط القطاع الخاص ، بحاجة الى أن يوضع ضمن مفهوم أوسع من
بيع اسهم الشركات المملوكة للحكومة ، لتوفير بضعة عشرات من الملايين ، ينبغي ان
يوضع ضمن مفهوم تطوير اهتمامات القطاع الخاص من الاستثمارات الجزئية والقصيرة
الامد ، الى الاعمال الاستراتيجية الطويلة الامد ، ولتحقيق هذا المفهوم ، فاننا
بحاجة الى تحرير السوق من الامتيازات الاحتكارية التي تتمتع بها بعض الشركات على
حساب البقية ، ولا سيما على حساب المستهلك النهائي ، كما ينبغي التأكيد على تضمين
مفهوم الخدمة العامة في الاستثمار ، والتخلص من عقلية الربح المادي الاقصى ،
السائدة في السوق ، والتي ترسخت في السنوات الماضية كنتاج للتدفق المفاجيء للثروة
والفرص ، وقصور المفاهيم والقيم التي يجري نشرها وتعليمها ، عن استيعاب الحقائق
الجديدة ، التي افرزها تطور الصراع بين المال والقيمة الاجتماعية ، بين العناصر
المادية وغير المادية في النمو الاقتصادي .
يقول الناس ايضا ان المحافظة
على المستوى المرتفع للمعيشة ، بحاجة الى ابتكار مداخل وأدوات واطارات استثمار
جديدة ، لا سيما في قطاع الاستثمارات الصغيرة والمتوسطة ، ويضربون مثلا على هذا
المدعى بقطاع البناء والاسكان ، الذي لا يمكن التساهل في اهميته وحيويته ، فمع
تراخي صندوق التنمية العقاري او توفقه احيانا عن الاقراض السكني ، فان هذا القطاع
قد انكمش الى حدود مقلقة ، وقد كان يمثل شريحة واسعة من اجمالي القطاع الخاص ،
ويمكن اعادة تنشيطه بتغيير سياسات الاقراض السائدة في البنوك المحلية .
ولنا في
تجارب الدول الاخرى درس وعبرة ، في بريطانيا مثلا يتم تمويل 60 بالمائة من عمليات
بناء وتملك البيوت السكنية بقروض شخصية ، ونظرا لاتساع هذا القطاع فقد تأسست ـ الى
جانب البنوك العادية ـ بنوك متخصصة في هذا المجال ، يطلق عليها (جمعيات البناء)
حيث يستطيع أي مواطن بغض النظر عن امكاناته المادية الفعلية ، اقتراض مبلغ لشراء
مسكن خاص ، كما ان شركات البناء تنظم اتفاقات مع تلك البنوك ، لاقراض من يرغب في
شراء المساكن التي تبنيها ، ان قطاع الاسكان من القطاعات المزدهرة في بريطانيا رغم
ان الحكومة لا تقدم قروضا ، بل تضع سياسات وتوجيهات لتعمل هيئات التمويل الخاصة
على ضوئها . ان تنشيط قطاع البناء يمكن ان يتوازى مع وضع توجيهات للاستثمار في
صناعة مواد البناء ، ومعظمها من نوع الاستثمارات المتوسطة ، من اجل رفع مستوى
التكامل الرأسي لهذه الصناعة ، وتمكين البلاد من انتاج كل ما يلزمها لبناء مساكن
ابنائها .
في نفس المجال نحن بحاجة الى
تغيير بعض مفاهيم الملكية السائدة في الانظمة ، والمفاهيم السائدة في المجتمع ايضا
، لتمكين المواطن من امتلاك شقة في عمارة او طابق في بيت ، يتشارك في ملكية ارضه
مع الغير ، والسماح بتأجير الارض لفترات طويلة ، مئة سنة مثلا ، بحيث تعامل
المنشآت المقامة فوقها معاملة الملك الحر طيلة فترة التاجير ، اضافة الى تشجيع
اقامة الجمعيات التعاونية للسكن ، ومنحها امتيازات مالية او قانونية ، لتخفيض كلفة
البناء او الاستملاك السكني ، مما سيؤدي الى تنشيط قطاع البناء والعقار والصناعات
المرتبطة بالبناء
.
الخلاصة ان الناس ـ معظمهم
على الاقل ـ ينظرون بقلق الى انعكاسات الانخفاض الراهن في الدخل الوطني على
معيشتهم ، لكنهم في المقابل ليسوا غافلين عن حقيقة ان هذا التطور السلبي لم يكن
اختياريا ، كما ان اعادة الوضع الى ما كان عليه في أوائل الثمانينات او بعيدها ،
ليس من الاحتمالات التي ينظر اليها غالبية الناس ، الاكثرية حسب ما أظن تعرف بعض
الحقائق او كلها رغم انها لا تعلن بصورة رسمية ، ولا تناقش في الصحافة المحلية ،
ما يطمح اليه الناس هو سياسات جديدة تتعامل مع الشأن الاقتصادي باعتباره قضية
مستقبلية ايضا ، وليس مشكلة وقتية محدودة ، ذلك يحتاج الى سياسات جديدة والى توجيه
جديد لمراكز الثقل ، وتعديل الانظمة السائدة لتكون عونا على هذا التوجيه ، فلعلنا
نعود الى وضع اقتصادي طبيعي ، لا يعتمد كليا وقطعيا على عدد براميل البترول التي
نبيعها وقيمة كل برميل .
عكاظ 9 يوليو 1998