‏إظهار الرسائل ذات التسميات الوحدة الوطنية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الوحدة الوطنية. إظهار كافة الرسائل

02/12/2011

المسالة الطائفية في المملكة :دعونا نتجاوز الفشل


ورقة نقاش قدمت لندوة "دور التنوع المذهبي في مستقبل الخليج العربي" التي اقامها منتدى العلاقات العربية والدولية – الدوحة 30 نوفمبر – 2 ديسمبر 2011

ملخص الورقة:
تستهدف هذه الورقة وضع اطار تحليلي للمسألة الطائفية في المملكة العربية السعودية. وتبدأ بتحديد الاطراف المشاركة في هذه المشكلة من خلال التمييز بين ثلاثة انواع من النزاع يلعب الدين دورا محركا فيها: وهي الخلاف العقيدي والفقهي ، والتنازع على النفوذ الاجتماعي ، والنزاع على مطالب سياسية. 
تصنف الورقة المسألة الشيعية ضمن النوع الثالث. وتعتبرها نزاعا حول مطالب سياسية بين الشيعة كمجتمع وبين الدولة ، فيما تعتبر مشاركة الاطراف الاخرى في هذا الصراع ثانويا او ملحقا باحد الطرفين الرئيسيين. تصف الورقة موقف الدولة كتعبير عن طائفية سياسية ، تتجلى في "استعمال الاجماع الديني الخاص بشريحة من المجتمع كارضية للولاء السياسي ، يبنى عليها ايضا نظام لتوزيع المصالح والمنافع ، بدلا من البناء على ارضية المواطنة".
تشدد الورقة على ان الخلافات العقيدية والفقهية لا تمثل تحديا جديا او تهديدا داهما. ولعل الانشغال بها ناتج عن غياب الاطارات المفتوحة والقانونية للجدل السياسي الصريح . التحدي اليومي الذي يواجه كل سعودي ليس تبني مواطنيه الاخرين عقيدة مختلفة او فقها مغايرا ، بل عدم تساوي الفرص ، والانتقائية في تطبيق القانون ، وكون حرياته غير مضمونة.
عالجت الورقة بعد ذلك حدود المسالة الطائفية في المملكة ومجالها من خلال المقارنة مع التصنيف العلمي لقضايا الاقليات الاثنية  التي تعتبر قابليتها للانفكاك عن المجتمع الوطني محددا لكيفية النقاش فيها. واوضحت في هذا السياق ان مشكلة الشيعة السعوديين تتمحور في التمييز الطائفي وحرمانهم من الحقوق المدنية التي يتمتع بها او يجب ان يحصل عليها بقية السعوديين.

 وتقترح لمعالجة مشكلة التمييز ثلاثة سيناريوهات : أ) اداري – قصير المدى ، يستهدف تخفيف الكراهية ، ومنع الاستغلال المبرر طائفيا. ب) قانوني – متوسط المدى يقر المساواة دون الحريات العامة والمشاركة السياسية. ج) دستوري – طويل المدى ينهي المسألة الطائفية جذريا.
وتدعو في الختام القوى الاهلية الى نقاش جدي للمسألة واعتبارها مشكلة وطنية متصلة عضويا بمسائل حرجة مثل الوحدة الوطنية والهوية الجامعة والاصلاح السياسي والسلم الاهلي.
يهمني جدا الاشارة الى ان بعض ماورد في المقالة قد يفهم كانحياز مسبق او ربما مناف للحيادية المفترضة. لا ينفي الكاتب ان جانبا من المادة ينطوي على دفاع ذي طبيعة سياسية عن حقوق الشيعة السعوديين ، لكن ليس بالضرورة دفاعا عن مذهبهم او انحيازا مضادا لغيرهم ، كما لا ينفي الكاتب انحيازه لتيار الاصلاح في المملكة ونقده للتيار المضاد للاصلاح.
------------------------------------------------------------------------------------

المسالة الطائفية في المملكة :

دعونا نتجاوز الفشل

توفيق السيف *
اشكر في البداية صديقى د. محمد الاحمري الذي اتاح لي شرف الحضور بينكم ، واشكر القائمين على منتدى العلاقات وداعميه والمشاركين في اعماله. 
نحن اليوم ابعد ما نكون عن ظروف العام 1991 حين وجه الشيخ سفر الحوالي رسالته المشهورة الى "هيئة كبار العلماء" محذرا اياهم مما وصفه بمؤامرة عالمية لاقامة قوس شيعي - مجوسي - نصراني يمتد من باكستان الى مصر ، هدفه اقامة دولة مجوسية تعيد الاستعمار الى بلاد المسلمين[1]. ونحن بالتاكيد ابعد مما كنا عليه في 2006 يوم وصف الرئيس المصري الوضع في العراق بانه حرب اهلية بين الشيعة والسنة[2]. اليوم صرنا نعرف ان قوس الحوالي لم يكن على طاولة اي من قادة العالم ، عدا الشيخ سفر نفسه، كما لم تكن الحرب الاهلية على طاولة احد غير الرئيس مبارك.
لعلنا اليوم اسعد حالا. او ينبغي ان نكون اسعد حالا. على الاقل لاننا نشهد انتصار الانسان على اوهام الايديولوجيا المتحجرة. جمهور الناس ، العامة منهم والنخبة ، الناشطون والمتفرجون ، المحافظون والحركيون ، ساهموا جميعا  في ابراز الوجه الاخر للانسانية ، الوجه الذي لم يلتفت اليه اولئك الذين صنعوا في خيالهم مستقبلا للعالم تصنعه حروب ايديولوجية وصراعات طائفية ، ثم قدموه لنا كاستراتيجيا منجزة يزعمون ان اقوياء العالم وضعفاءه قد انخرطوا – فعليا – في وضعها وتصميمها.
لا شك اننا اليوم اسعد حالا. لا شك اننا اليوم اقدر على مناقشة مشكلاتنا باذهان اكثر صفاء واقل توترا.

(  I  )

طبيعة النزاع الطائفي

يؤسفني القول ان الحدود الضيقة للحياة السياسية والتقييد الصارم لحرية التعبير اثمر عن بقاء الثقافة السياسية في المملكة ابتدائية وفقيرة ، حتى بالمقارنة مع اقل الدول نموا. وجدت هذا جليا في المناقشات التي ادارها بعض رجال الدين والناشطين في التيار الديني حول المسألة الشيعية. ففي جميع هذه الكتابات تجد خلطا مريعا بين تصورات عن واقع الشيعة السعوديين ، وبقية الشيعة ، وبين هذا الواقع المتصور ومعتقداتهم وارائهم ، بين قضايا قديمة ومعاصرة ، بين السياسي والفقهي والاجتماعي .. الخ.  وفي كل هذه الكتابات كان الشيعة يعرفون كاتباع لمذهب مخالف ، لا كمجتمع ومواطنين ، وكان المحور الرئيس: ماهو موقفنا كاصحاب مذهب من مخالفين مذهبيا. نادرا ما سأل احد هؤلاء الكتاب نفسه: ماهي حقيقة الموضوع ، ونادرا ما ناقش الشيعة انفسهم في تصورهم عن طبيعة المشكلة. وبطبيعة الحال فانه في الغالب لم يفكر في الموضوع من زاوية حقوق الانسان وشراكة الوطن ومبدأ المواطنة الخ.
هذا يدعوني للبدء بتحديد طبيعة المسألة الطائفية في المملكة ، لعلنا نستطيع تقديم نموذج مناسب للتحليل. كل نزاع في المجال العام هو – بالضرورة – تنافس بين فاعلين سياسيين حول مصالح قائمة او متخيلة، سواء ادرك كل طرف طبيعة وضعه ودوره ام لا ، وسواء كانت المصالح قابلة للتحديد المادي ام لا. من المهم عند مناقشة اي موضوع ، لا سيما الموضوعات المثيرة للجدل ، التاكيد على اطار النقاش وهدفه ونوعية المقاربة. ولهذا السبب فسوف اعرض تعريفات للمسالة الطائفية ، تليها المقاربات المعتادة في مناقشة الموضوع الطائفي ، ثم اقترح ما اظنه الاصلح لبحثنا الحاضر.
1-النزاع الطائفي باعتباره خلافا فكريا – مذهبيا :
ينطبق هذا التعريف على جدالات المدارس الدينية ، حيث يصنف اجتهاد معين في العقيدة او الفقه كموضوع رئيس للخلاف، وتصنف المدرسة القائمة على ذلك الاجتهاد ، كمحور لعلاقة اتباعها وصيرورتهم "جماعة" متمايزة عن الجماعات الاخرى. حين تتصارع جماعات دينية حول اجتهاداتها المتباينة ، فان الدينامو المحرك لها هو دافع فكري او ايماني بحت ، يتمثل في ايمان كل منها بأنها "الفرقة الناجية" ، اي ان مذهبها هو الحق ، وأن الجماعات  الاخرى خاطئة أو منحرفة عن الطريق المستقيم. ويترتب على هذه الفرضية اعتقاد بالمسؤولية عن هداية الطرف الثاني إلى ذلك "الحق" المتصور ، اوعزله عن المحيط العام لحجب تاثيراته السلبية .  طبيعة الفعل في هذه الحالة ثقافي - دعوي. ويتحمل مسؤوليته المباشرة في الغالب رجال دين أو حركيون نشطون في المجال الديني. دور الدولة هنا ثانوي ، او ربما معدوم.
يجري الصراع في هذا الحالة على شكل سجالات لفظية تؤكد حقانية المذهب وانسجامه مع اصول يفترض انها معيارية ، اي مقبولة عند الجميع. يجري التركيز عادة على نقاط التمايز ، اي تفارق الطرف الثاني عن الاصول المعيارية. المبدأ الضابط هنا هو واحدية الفهم والتفسير وانكار التعدد في الفهم والاجتهاد. الحق واحد فمن ابى دعي اليه او قسر عليه او عزل عنه.  وبعكس ذلك فان مقاربات الاصلاح تركز على الفصل بين الاصول المعيارية والمتبنيات المدرسية ، حيث تصنف هذه كاجتهادات. اي ان المبدأ الضابط هنا هو واحدية الاصل وتعدد الفهم والتفسير والاجتهاد.
2-النزاع الطائفي باعتباره منافسة اجتماعية :
ينطبق هذا التعريف على النزاع بين الجماعات التي تشكلت على اساس تفارق كلي او جزئي مع التيار السائد او الجماعات المماثلة. وهي قد تكون حركة دينية ، او تيارا يتبع شخصية بارزة ، او تجمعا يميز نفسه عن الاخرين بفكرة او خطاب خاص. هنا يعتبر وجود وحدود "الجماعة" محور النزاع ، كما ان عناصر التمايز في خطابها الداخلي او الاجتماعي هو جوهر الرابطة التي تجمع الاتباع وتميزهم عن سائر الناس.
الصراع على النفوذ الاجتماعي هو الدينامو المحرك للنزاع في هذه الحالة. تمدد الجماعة في المجال الاجتماعي العام ، يؤدي بالضرورة الى  تزاحم مع الجماعات الاخرى. كل مذهب او جماعة دينية هي دائرة مصالح خاصة باعضائها. ولا بد – بحسب منطق الحياة – ان تتداخل شيئا ما ، او تتزاحم شيئا ما ، مع دوائر المصالح الاخرى المجاورة. وابرز امثلته اختراق أحد الطرفين للمجال الاجتماعي الخاص بالطرف الثاني، من خلال التبشير أو الاستقطاب السياسي/ الثقافي. وأبرز مصاديق هذا التعريف هو تحول الأفراد الشيعة إلى سنة أو العكس، او انحياز مسيحي الى الاسلام او العكس. مما يثير القلق باحتمال تعرض البيئة الخاصة (أي دائرة النفوذ أو المصالح) للتآكل، وفي أقل الاحتمالات إثارة الشك حول كفاءة القادة المؤثرين في هذا الطرف أو شرعية نفوذه الاجتماعي. طبيعة الفعل في هذه الحالة دفاعي - سجالي يستهدف تسوير دائرة النفوذ من خلال المبالغة في المظلومية ، وتصوير الطرف المقابل كقوة طاغية ، بهدف التنبيه الى مخاطر العلاقة القائمة ، وتصويرها كغزو يستبطن نوايا سيطرة وتحكم. وتستعمل ادوات المقاربة الاولى (اللغة الدينية البحتة) لدعم الخطاب الدفاعي. يظهر هنا التركيز على دور الاشخاص والرموز الضالعين في الصراع ، بغض النظر عن قيمتها الفعلية في الجماعة. المبدأ الضابط هنا هو واحدية الانتماء الاجتماعي واولوية الحدود الفاصلة بين الاطياف الاجتماعية.
وبالعكس من هذا فان مقاربات الاصلاح تركز غالبا على اخلاقيات العلاقة بين المختلفين ، مثل فكرة التعايش والتلاقي ونبذ الصراع والوحدة الوطنية والسلم الاهلي الخ. اي ان المقاربة تقفز على الخلاف الديني الى ضرورات السلم الاجتماعي. المبدأ الضابط هنا هو التعددية وحق الاختيار الفردي.
وفي العادة فإن قوى اجتماعية عديدة تشارك في تحمل المسؤولية في هذه الحالة، منها رجال الدين، والزعماء الحركيون وقادة المجتمع. تدخل الدولة في مثل هذه الحالة ثانوي ، وقد لا يكون استراتيجية رسمية معتمدة ، بل استغلالا للسلطة والنفوذ من جانب بعض رجال الدولة مدفوعين بميول شخصية او تحالفات تكتيكية.
3- النزاع الطائفي باعتباره صراعا سياسيا
ينطبق هذا التعريف على النزاع حول مطالب سياسية ، بين طوائف متعارضة في المجتمع ، او بين الدولة وبعض تلك الطوائف التي تصنف – سياسيا – كاقليات. الطائفية هنا ليست مسالة دينية ولا تدور حول اشكاليات دينية. دعنا نستعير تعريف د. برهان غليون الذي يرى ان الطائفية السياسية هي استعمال الاجماع الديني الخاص بجماعة او شريحة من المجتمع كخلفية وارضية للولاء السياسي ، الذي ينتج نظاما لتوزيع المصالح والمنافع ، ياخذ بعين الاعتبار تحديد احدى الطوائف كطائفة مفضلة وموالية ، تتمتع بامتيازات اكبر من غيرها. اي بعبارة اخرى تحويل العصبية الدينية الى عصبية اجتماعية- سياسية[3]. الدين هنا شعار سياسي وليس ايمانا ، وهو يشبه تماما استعمال وصف "الديمقراطي المسيحي" في اسماء الاحزاب المحافظة الاوربية. من المفهوم ان الديمقراطيين المسيحيين في اوربا علمانيون ، لكنهم يمثلون – سياسيا – الشريحة المحافظة في المجتمع ويخاطبونها في المقام الاول.
في هذا التعريف لا يصنف الطرف المضاد/العدو طبقا لخلفيته الدينية ، بل تبعا لانتمائه الاجتماعي او الاثني ، الذي قد يكون طائفة دينية او جماعة عرقية او جنسا كالنساء مثلا . عزل النساء والسعوديين من اصل افريقي في بلادنا ، والصراع  بين الشماليين والجنوبيين في السودان ، وبين العرب والاكراد في سوريا والعراق ، والنزاع الطائفي في لبنان والعراق، هي امثلة على ما نسميه بالطائفية السياسية.
طبيعة الفعل في هذه الحالة سياسي بحت. ويتحمل مسؤوليته المباشرة في الغالب حركيون ورجال سياسة. دور الدولة في هذه الحالة محوري، فهي جزء من الصراع او طرف محرك فيه او مستفيد منه . اما المجموعات الاخرى – باستثناء العدو – فدورها وفعلها ثانوي او ملحق بفعل الدولة. يؤدي هذا النوع من النزاع الى فعل سياسي نشط يتجه الى بناء تحالفات ، حيث يسعى كل من الطرفين ، الى تشكيل جبهات تضم الاصدقاء والداعمين ، لمواجهة الفريق الاخر. وتتسع موضوعات النزاع في العادة تبعا للحجم السياسي لاطرافه ، وبحسب تكوينها الاجتماعي وتنوع همومها.  وينتج عنه تعدد وسائل التعبئة والتبرير ، فالاطراف المشاركة قد تستعمل اللغة الدينية لتبرير مطالبها ، او تقتصر على اللغة السياسية – المدنية. لكن في كلا الحالتين ، يبقى العامل السياسي بوصلة التوجيه الرئيس.
مقاربات الصراع هنا تركز على واحدية الولاء السياسي والوطني والحقوق المكتسبة.  والمبدأ الضابط لها هو محورية النظام ودمج المجالين: العام والخاص. ومثل ذلك فان مقاربات الاصلاح تركز على تمييز الولاء السياسي عن الوطني واعلاء معايير الحكم الصالح ولاسيما مبدا المواطنة. اي ان المبدأ الضابط لها هو التعدد والتنوع في اطار الوحدة.

ما الذي نسعى اليه وراء البحث في المسألة الطائفية:

التعريفات السابقة تكشف عن تنوع موارد النقاش في الموضوع. كل تعريف يكشف عن بعد خاص ويستدعي مسار نقاش خاص. تحديد غرض النقاش هو الذي يرجح واحدة من المقاربات الثلاث .
سوف ناخذ بالتعريف الاول لو كان همنا التقارب المذهبي او البحث العلمي المجرد في المذاهب وتطورها الفكري او الفقهي . وسوف نهتم بالتعريف الثاني لو كان غرضنا تعزيز السلم الاهلي او دراسة التيارات السياسية في مجتمع محدد او على المستوى الاسلامي العام. اما اذا كان الغرض هو المساهمة في الاصلاح السياسي فسوف ناخذ بالتعريف الثالث.
لماذا ناخذ بالتعريف الثالث وما الذي يترتب عليه
حين افكر في المسألة كشيعي سعودي. فما هو التحدي الثابت الذي يواجهني في حياتي اليومية العادية؟.
-          هل يواجهني الخلاف بين الشيعة والسنة حول مسألة الامامة والعصمة ، او الاشهاد في الزواج والطلاق؟ (عناصرالتعريف الاول).
-          ام يواجهني قلق تناقص عدد الشيعة بتحولهم الى سنة ، او احتلال السني لمسجدي وحسينيتي؟ (عناصر التعريف الثاني).
-     ام يواجهني العرف الذي يصنفني كمواطن من الدرجة الثانية ، والقانون الذي يحرمني من صوغ حياتي على النحو الذي اريد ، وغياب القانون الذي يحمي حقي في التعبير عن ذاتي ورايي ووجودي كفرد مستقل لديه القدرة وله الحق في ان يتوافق او يختلف مع غيره ، ويسمح لي باستثمار الفرص المتاحة في  المجال العام بالتساوي مع الاخرين. (عناصر التعريف الثالث).
انا كفرد ، او كصاحب راي ، او كفاعل في المجال العام ، لا اشعر بان اتخاذ الفقيه السني رايا مختلفا في العقيدة او الفقه يمثل تهديدا لقناعاتي ، لانني ببساطة اؤمن بحقه في ان يتخذ تلك الاراء مثلما آمنت بحقي في مخالفته ، ولأن رايه لا يؤثر على حياتي اليومية.
وبنفس القدر فاني لا اشعر بالقلق لان عدد الشيعة سيزيد او ينقص اذا تحول احدهم الى سني او انضم اليهم احد السنة. كما لا اشعر ان وجود او توسع الجماعات المنافسة يمثل خطرا داهما. لا اخشى ان يحتل احد مسجدي او حسينيتي ، لان كافة الجماعات الاهلية تفتقر الى القوة اللازمة لذلك حتى لو فكرت فيه. وحتى لو تصاعدت الاصوات المخالفة لي في الفضاء الاعلامي ، فسيبقى هذا الفضاء اوسع وارحب من ان يمتليء بعشرات الاصوات او حتى ملايين الاصوات. او لانني استطيع بسهولة اتقاء المخاطر المترتبة على تلك التهديدات المحتملة.
بعبارة اخرى فالذي يضيق خياراتي ويمنعني من اكون كما اريد ، هو ذلك الذي يملك قوة فعلية قادرة على السماح والمنع ، التسهيل او التقييد. اي الدولة التي تحتكر وسائل الجبر وتحتكر مصادر القوة (عناصر التعريف  الثالث).
لو جلس في مكاني سني سلفي او صوفي  او لامنتمي ، ونظر فيما يواجه من تحديات ومصادر تهديد، فهو على الاغلب سيصل الى نفس الاستنتاج. اراء الشيعة الفقهية والعقيدية لا تمثل ضغطا  يوميا عليه ، وهم – كجماعة او كافراد – لا يمثلون تهديدا جديا لمكانته او مكتسباته. لكنه - مثلي – يواجه اشكاليات يومية مثل عدم تساوي الفرص ، والانتقائية في تطبيق القانون ، وكون حرياته غير مضمونة او محمية ، وانه غير قادر على المشاركة في صوغ حياته ومستقبله.

الصراع الطائفي كموضوع للتجييش السياسي والاجتماعي

عند النظر في المسألة الطائفية في الخليج، سيما السعودية ، نجدها شاملة لجميع الاعتبارات الثلاثة السابقة، اي ان التعريفات الثلاثة تشكل تمظهرات مختلفة لنفس المشكلة . ثمة جدل عقيدي يغذي التصارع بين القوى الاهلية ، كما يبرر تعطيل الاصلاح السياسي. وثمة سياسات رسمية تتحكم – الى حد ما - في مستوى واتجاهات الصراع بين الاطراف الاهلية،  وتستدعي بعث التراث التاريخي للنزاع الطائفي. والى ذلك ، ثمة جماعات اهلية تحاول توسيع نفوذها او تخشى على وجودها ، فتسعى لاستدراج الدولة واستثمار مواردها ، او استثمار التراث التاريخي الذي يؤكد الفرقة.
هذه حقيقة واقعة ، لكن هناك ايضا حقيقة موازية فحواها اننا لسنا مضطرين الى الانخراط في كل بعد من ابعادها. انخراطي في الصراع هو قرار ارادي. لا يستطيع احد جبري على صراع لا ارى نفسي فيه او لا يعبر عن قناعاتي واولوياتي. لكننا مع ذلك نواجه ما يمكن وصفه بقهر العامة ، اي التفاعل الاجتماعي مع اثارات يستثمرها بعض القوى للتعبئة والتجييش ، فنجد انفسنا – قصدا او غفلة او اضطرارا – في غمرة موج يتجاوز تصورنا الاولى عن المشكلة.
سوف اضرب هنا ثلاثة مثالين متقابلين عن التصوير السياسي الكاذب للواقع ، وكيف يستثمره اشخاص او جماعات للتعبئة والتجييش ، وكيف يضطر الناس لاتخاذ موقف طائفي تحت ضغط الشارع:
 في اوائل التسعينات ثارت زوبعة هائلة بين شيعة المملكة بعدما نشر المرحوم عبد الله بن جبرين فتوى تدعو لمعالنة عامة الشيعة بالكراهية والاحتقار[4]. بعض التقليديين الشيعة اعتبر كلام بن جبرين تمثيلا دقيقا وكاملا للموقف السني في المملكة ، وشن حملة هائلة ضد السنة. نحن نعلم ان الامر ليس كذلك. الواقع السني ليس كذلك ، حتى لو تصوروه. وفي اوائل العقد الجاري نشر ياسر الحبيب كلاما مماثلا عن السنة ، صوره بعض السلفيين كتمثيل للراي العام الشيعي. وشنوا حملة مماثلة، لا تزال اصداؤها تتردد الى اليوم. يعلم كثير من اخوتنا ان الحبيب لا يمثل الواقع الشيعي ولا مواقفه الفعلية. نعلم ايضا ان ثمة اغراضا تعبوية - سياسية وراء تصوير هذا الراي او ذاك كتعبير عن التيار العام في الطرف الاخر.
من ناحية اخرى ، فاني – حين انظر الى مهماتي واولوياتي – اجد ان حريتي وقدرتي على المساهمة في صناعة مستقبل بلدي ، رهن بكوني حرا مشاركا وفاعلا في المجال العام ، قادرا على الاستفادة من الموارد العامة التي يشترك فيها جميع المواطنين. فما الذي احتاج لتحقيق هذا المطلب.. دعم "المايسترو" الذي يتحكم في حركتي وحركة غيري ويستعملني واياه لاغراضه السياسية؟ ، ام  تحرير المجال العام وجعله حرا ليتنافس فيه الجميع ويرتقون بحسب كفاءتهم واجتهادهم؟.
(   I I   )

حدود المسالة الطائفية في المملكة ومجالها:

مما يثير الدهشة، ان كلا من الشيعة والسنة في المملكة ، يعتبر الاخر مشكلة. لكن – باستثناء مساهمات ضئيلة جدا – فان ايا منهما لم يكلف نفسه عناء دراسة الموضوع ، لفهم اشكالياته الاساسية وفرص حلها او التخفيف من كلفها. هذا مثال واحد على اهمال السعوديين للبحث العلمي وعدم التعويل عليه في فهم واقعهم. كان الشيخ سفر الحوالي بين قلة من رجال الدين السعوديين الذين طرقوا الجانب السياسي للمسالة[5]. وتبعه الشيخ ناصر العمر[6] ، واخرون في السنوات التالية. واظن ان طروحات الرجلين قد ساهمت في تشكيل "الفهم السلفي" للمسألة الشيعية في المملكة. ولعل تاثير هذه الطروحات قد انعكس في مساحات اوسع ، نظرا لانها كانت - ربما - الوحيدة المتوفرة للسعوديين حول الموضوع في وقتها.
كلا الرجلين صنف الشيعة السعوديين كاقلية ينطبق عليها نمط عام فحواه ان الاقليات وسيط او راس جسر للتدخل الاجنبي: طبقا للحوالي فان "التحالف بين الأقليات وبين أعداء الأمة سنة متبعة ، فتاريخ الدروز مع الإنجليز ، والنصيرية مع الفرنسيين ، لا يختلف أبداً عن تاريخ الموارنة مع اليهود في لبنان ، أو اليهود مع الحلفاء في تركية ، والنتيجة في كل الأحوال تدمير عقيدة الأكثرية وكيانها ووجودها"[7]. وخلال السنوات القليلة الماضية ، ركز العديد من كتاب الصحف ورجال الدين في المملكة على ما يصفونه بولاء الشيعة لايران ، واجتهد بعضهم في تقسيم الشيعة الى فريقين ، صفوي يجوز اتهامه بالعمالة او هو عميل فعلا ، ومعتدل ، يمكن احتمال ان يكون وطنيا او مواليا لوطنه.
لن اناقش هذه الاراء. سأذهب بدل ذلك الى تحديد طبيعة المشكل الطائفي في المملكة ، على ضوء الابحاث العلمية حول الاقليات في العالم. هذا سيجيب على السؤال المحوري حول حدود المشكلة الطائفية ومطالب الشيعة السعوديين.
معظم الابحاث التي ناقشت قضايا الاقليات في العالم ، اهتمت بقابليتها للانفكاك عن المجتمع الوطني ، بالنظر الى العوامل الثابتة – الجيوبوليتيكية - في تشكيل هوية الاقلية ووجودها كجماعة منفصلة شعوريا وثقافيا. وفي هذا السياق ركز معظم تلك الدراسات على واحدة من ثلاث مقاربات:
أ‌)        الاثنية- الدينية ethno-religiousness :
وهي تعتبر الدين او المذهب جوهر الرابطة الاجتماعية ، وربما يدعمه وحدة الاصل العرقي والثقافة واللغة. فحوى العلاقة بين الدين والاثنية ، هي ان الاختلاف الديني يولد حاجة لاستقلال الجماعة ، كي تعبر حياتها عن ضميرها الديني دون مزاحمة. غالبا ما يقتصر هذا النوع من الاقليات على المطالبة بالحكم الذاتي (كما هو الحال في جنوب الفلبين مثلا)، لكنه قد يصل الى المطالبة بالانفصال كما حدث في الهند (1947) والبلقان (1992).
ب‌)    الاثنية – الاقليمية  ethno-regionalism :
وهي تعتبر الارض المشتركة "المملوكة للجماعة" العنصر المحوري في تكوين هوية الجماعة. وحدة الارض تتطابق هنا مع العوامل الاخرى مثل الثقافة واللغة والتاريخ المشترك ونظام المعيشة. وابرز الامثلة على هذا هو المسألة الكردية التي اثمرت في 2003 عن قيام اقليم فدرالي خاص بالكرد شمال العراق. التصور العام للجماعة الاثنية هنا انها تشكل امة فرعية ، او جماعة متمايزة في اطار امة اكبر. وتدور دعوتها غالبا حول فكرة حكم ذاتي او اتحاد فيدرالي.
ت‌)    الاثنية – الوطنية ethno-nationalism :
 وهي تشبه الاثنية الاقليمية، لكنها اوسع مدى. الجماعة هنا ليست فريقا في بلد، بل هي كل البلد. ويمثل الحيز الاقليمي ارضا للجماعة تطابق هويتها القومية. وابرز امثلة هذا الصنف الحركة الانفصالية في جنوب السودان، التي نجحت في اقامة دولتها المستقلة في يوليو2011. وقبلها جمهوريات اسيا الوسطى التي استقلت اثر تفكك الاتحاد السوفيتي في 1991. التصور العام للجماعة هنا يرتبط بتشكيل دولة قومية خاصة ضمن الاقليم الارضي الذي تعتبره موطنها الطبيعي.
مقارنة مع المقاربات الثلاث ، لا نجد المسألة الشيعية في المملكة قريبة من اي منها. رغم حيوية العامل الديني في تشكيل الهوية الخاصة للشيعة السعوديين ، ورغم تركزهم النسبي في اقاليم محددة، الا ان فكرة الاستقلال او الحكم الذاتي لم تظهر بينهم في الماضي او الحاضر. اي ان هويتهم السياسية لا تحوي فكرة عن مكان منفصل او وضع سياسي متمايز عن باقي السعوديين. انها اذن ليست مشكلة "اثنية" بالمعنى العلمي ، بقدر ما هي "حركة حقوق مدنية" في المعنى السياسي.
تعرف حركات الحقوق المدنية بانها مجموع الجهود الرامية لالغاء العزل او التمييز المفروض على جماعة محددة ، ومساواتها مع سائر المواطنين ، وفق قواعد قانونية عادلة تطبق على الجميع بصورة متساوية. يبرهن تاريخ الشيعة السعوديين ، منذ تاسيس الدولة قبل 80 عاما ، على ان همومهم ومطالبهم تمحورت دائما حول الدعوة للمساواة والغاء التمييز ، والاقرار بوجودهم كجماعة ذات تجربة ثقافية خاصة. هذا يجعل الحراك المطلبي "الشيعي" حركة حقوق مدنية ، متصلة بالضرورة بالحراك السياسي العام ، والاطياف الوطنية المختلفة التي تدعو للاصلاح السياسي والدستوري في المملكة. كما يجعل احتمالات نجاحها مرتبطة الى حد كبير بمسارات الاصلاح السياسي على المستوى الوطني.

(   I I I   )

اسئلة الفشل المجتمعي

فشل المجتمع السعودي في معالجة اشكالات الوحدة والهوية الوطنية ، يجعل الاستبداد قدرا وملاذا للجميع . لا اود العودة الى تواريخ بعيدة ، قد لا يتذكرها كثير من الناس. لكن الجميع يتذكر بالتاكيد ان الدعوة الى التظاهر في مارس 2011 رافقتها حملة واسعة في الصحف ومواقع الانترنت وخطب الجمعة واحاديث المشايخ تندد بالشيعة السعوديين وتتهمهم بالولاء لايران. هذا المثال تكرر بصورة اكثر تركيزا وسعة حين احتل الامريكيون بغداد في ربيع 2003 وحين سيطر انصار حزب الله على وسط بيروت في 2008 ، وحين قامت انتفاضة البحرين في العام 2011. وتكررت اخيرا بعد الصدامات التي جرت في مدينة العوامية في (اكتوبر 2011). بعبارة اخرى فانه كلما جرى صراع في خارج المملكة او داخلها، انتفضت المشاعر الطائفية داخل المملكة. اعني هنا بالتحديد الاهالي ، رجال الدين ، الكتاب ، وعامة الناس ، وليس الدولة. هذا يثير سؤالا جديا ، يولد – بدوره – العديد من الاسئلة ، السؤال المحوري: لماذا نجد انفسنا شركاء في صراعات الخارج او معنيين بها الى حد مصارعة اهل بلدنا؟. ولماذا – حين نحدد موقفنا مما يجري في بلدنا - نغفل كل العوامل المحركة للصراعات الداخلية سوى الاختلاف المذهبي ؟.
-     هل سببه غلبة الهوية الدينية- المذهبية على الهوية الوطنية في فهمنا لذواتنا؟. بعبارة اخرى: هل نفهم انفسنا كاتباع مذاهب قبل ان نكون مواطنين في بلد واحد؟.
-           ام لاننا نشعر – في اعماقنا – بان وحدتنا الوطنية حالة مؤقتة ، يمكن ان يجرحها او ينهيها اي تطور في المحيط؟.
-          ام لاننا لا نثق حقيقة في قدرتنا كمجتمع سياسي على التسالم والتعايش ، مع اختلافنا في المعتقدات والافكار ومصادر القوة؟.
-     ام لاننا نظن ان الصراعات القائمة في العالم هي حروب دينية. اي ان التحدي الرئيس لوجودنا هو الحرب الدينية وليس التخلف ولا الفساد ولا الاستبداد ولا هيمنة الاجنبي؟.
اذا صحت هذه الاسئلة ، فانها تشير الى فشلنا كمجتمع وطني ، في الانتقال من صورة الدولة الابتدائية ، التي قامت على الغلبة والغزو ، الى الدولة المستقرة ، التي يضمن سلامها ودوامها توافق اهلها وقبولهم بقانونها العام ، او دولة الامة ، التي يشعر جميع ابنائها بانهم أمة واحدة ، شركاء في وطن واحد ومستقبل واحد. اني لأشعر بالاسف لان السياسيين وقادة الفكر والراي في المملكة لا يجدون انفسهم معنيين بعلاج اشكالية الهوية الوطنية والوحدة والمواطنة ، على النحو الذي يكفل لبلادنا السلام والاستقرار والنمو على المدى البعيد. نحن حقا عاجزون ، وقد فشلنا في واحدة من اعظم المسؤوليات الملقاة على عاتقنا. فشل القوى الاهلية في هذا الامر المهم هو الذي جعل الاستبداد خيارا مرجحا. واذكر للمناسبة ما نقل عن الملك السابق فيصل حين جادلهم احدهم حول مجلس شورى منتخب ، فاجابه – كما تنقل الرواية – بانه لو اجريت الانتخابات فسياتي الى الحكم المطاوعة وشيوخ القبائل. لا ادري ان كانت هذه رواية صحيحة او مختلقة ، لكن كثيرا من الناس يشعر في داخله بان من العقل ان يتحمل الرمضاء ولا يستجير بعمرو عند كربته. هذه عاقبة الفشل المجتمعي: صيرورة الاستبداد ضرورة وملاذا للجميع.

ثلاثة سيناريوهات لمعالجة المشكل الطائفي

قلنا فيما سبق ان المسألة الشيعية في المملكة لا تشابه – في وقتها الحاضر - قضايا الاقليات الاثنية. وارى ان الفضل في هذا يرجع الى العائلة المالكة السعودية من جهة ، والى زعماء الشيعة التقليديين من جهة اخرى. فقد حافظ الطرفان على الصراعات البينية ضمن حدود معقولة ، حالت دون تبلور مشاعر انفصالية. انها حكمة الكبار التي لا تستطيع شرحها لكنك تشعر بها وترى اثارها. لا شك ان لاولئك فضل في جعلنا اليوم نناقش هذه المسألة في اطار المشكل الوطني العام وليس خارجه.
جوهر المسألة الشيعية في المملكة هو غياب الحقوق المدنية. الحراك القائم في هذا الاطار هو حركة حقوق مدنية.
-          لكن: هل يمكن انجاز او ضمان حقوق مدنية لطائفة او منطقة، بينما هي مغيبة على المستوى الوطني؟.
-           الجواب البديهي : لا .
-     حسنا . اذا كان الامر كذلك فلماذا كان وصف "الشيعي" سمة للحراك المطلبي في الاطار الشيعي؟. بعبارة اخرى: لماذا لم يركز الشيعة على المطالب الوطنية ، ويغفلوا – ولو مؤقتا – مطالبهم الخاصة؟.
 اود ان يوجه هذا السؤال الى جميع المطالبين بالاصلاح السياسي في المملكة . اني واثق ان لديهم ، او لدى بعضهم ، تفسير مناسب. مرة اخرى .. لا اريد العودة الى الماضي البعيد ، لكن هل نستطيع العثورعلى تفسيرات محتملة في حوادث الاعوام الاخيرة؟. وهل تشكل اسئلة الفشل المجتمعي ، التي عرضناها فيما سبق ، تفسيرا مناسبا؟.
دعنا نتجاوز هذه النقطة ، كي نعود الى النقطة الرئيسية ، وهي حل المشكل الطائفي. المطلب الجوهري للشيعة هو الغاء التمييز على اساس طائفي. وهو قابل للتحقيق ضمن سيناريوهات ثلاثة:
السيناريو الاول (اداري- قصير الامد): تحجيم التمييز الطائفي ضمن المساحات غير الحساسة سياسيا، او غير المشروطة باصلاحات سياسية في النظام. هذا يساعد على تنقية الاجواء العامة وتخفيف الكراهية ، ومنع اتخاذ الفوارق الطائفية وسيلة للاستغلال. يمكن ان يتحقق هذا بوضع قانون يجرم اثارة الكراهية الدينية ، ويعاقب على التمييز فيما دون المستوى السياسي. اظن ان هذا السيناريو قابل للتنفيذ فورا وضمن المعطيات الحالية.
السيناريو الثاني (قانوني- متوسط الامد): اقرار مبدأ سيادة القانون – من دون تغيير جوهري في فلسفة الحكم. سيادة القانون تجعل الناس سواسية في الفرص والمسؤوليات. هذا سيجعل الشيعة متساوين مع بقية السعوديين ، لكنه لن يعطيهم الحرية ، ولن يجعلهم شركاء كاملين. بعبارة اخرى سيتحول الشيعي من وضع مواطن الدرجة الثانية الى وضع المواطن العادي ، ضمن المعطيات الراهنة. هذا قابل للتحقق اذا وافقت النخبة السياسية على تطوير النظام من ملكية مطلقة الى ملكية مقيدة ، حتى مع بقاء النظام غير ديمقراطي.
السيناريو الثالث (دستوري- طويل الامد): تغيير جوهري في فلسفة الحكم ، يعيد صوغ النظام السياسي بما يجعل علاقة المجتمع والدولة تعاقدية منظمة في اطار دستور. حينها سيكون رضا الجمهور مصدرا للشرعية السياسية ، ويتساوى المواطنون في الحقوق والاعباء. ولا يعود للمسألة الطائفية اي وجود سياسي ، ولا للمطالب الخاصة اي مبرر.
الفرضية المسبقة في هذه السيناريوهات جميعا ، هي ان علاج المسألة الطائفية يبدأ بقرار رسمي ، ويطبق اولا ضمن الاطار الرسمي.  لكني اظن ان قرارا كهذا هو بداية العلاج فقط . اما العلاج الكامل فينبغي ان يجري ضمن مفهوم "الاندماج الوطني" ، وهو المبدأ الذي يقترحه علماء السياسة لبناء الدولة الوطنية او دولة الامة.

الاندماج الوطني

 "الاندماج الوطني" مفهوم سياسي – فلسفي فحواه ان المجتمع السياسي نظام تعاقدي بين اعضائه . فهو مبني اذن على ثلاثة اركان: شراكة التراب ، نظام تعددي ، مواطنة متساوية.
الركن الاول (الفلسفة): شراكة التراب: وخلاصته ان حقوق المواطنين والتزاماتهم منبثقة من كونهم ملاكا لارض الوطن، ما فوقها وماتحتها وماينتج عنها او فيها. هذه الملكية مادية حقيقية ، لكنها صلبة ، فهي غير قابلة للنقل او العزل او التحوير الا باتفاق الجميع. يعالج هذا المفهوم اشكالية جدية مصدرها قناعات دينية او ايديولوجية او تقاليد ، تسمح بالتمييز في الحقوق والاعباء على اساس الدين او المذهب او النسب او الجنس او سواه. كل المواطنين في بلد واحد يملكون كل البلد ، ملكا مشاعا متساويا. ولا يستطيع احدهم او بعضهم اقصاء الاخرين لانه يعتبر عدوانا على ملك غيره.
الركن الثاني (الواقع): التعددية : لا توجد اليوم مجتمعات احادية او صافية من حيث العرق او اللغة او غيرها. ولذا فان الميل السائد في العالم كله ينحو الى الفصل بين الهوية الوطنية التي تجمع كل المواطنين ، ومادونها من هويات فرعيات تضم شريحة او شرائح محددة ، سواء كان مصدرها عرقيا او ثقافيا او غيره ، موروثا او مستحدثا. الرابطة الوطنية – وفق هذا المفهوم – ليست اللغة او الدين او العرق ، بل التراب الوطني+القانون. وبناء عليه فان مجموع المواطنين في هذه الارض يعتبرون امة واحدة ، ويحملون هوية واحدة ، هي الهوية الوطنية.  يعالج هذا المفهوم اشكالية التفارق بين مطالب الاكثرية والاقلية واحتمالات اسئثار طرف او استقوائه على بقية الاطراف.
الركن الثالث (القانون): المواطنة المتساوية : المواطنة مبدأ دستوري فوق السياسات والقوانين. وهو عنوان لمنظومة من الحقوق والامتيازات والمسؤوليات التي يتمتع بها ويحمل عبئها كل مواطن، فهي نظام لعلاقته مع مواطنيه الاخرين، وعلاقته بمؤسسة الحكم. ويعالج هذا المبدأ مشكلة التباين بين الزامات السياسة والنظام وحقوق الافراد. ومنها الالزامات الناشئة عن ندرة  الموارد ، مثل تبنيها لمعتقد خاص ، او تحالفاتها الداخلية والدولية، وتباين حجم الفرص وحجم الطلب عليها. ومقتضاها انه لا يجوز للدولة تبني سياسة او قانون او السكوت عن ممارسة، تخرق مبدأ المواطنة المتساوية ، بما فيها ضمان الحريات الاساسية ، الطبيعية والمدنية ، وحق التمتع بالموارد والفرص المتاحة في المجال العام.

دور القوى الاهلية:

حين استعرض تاريخ الحراك السياسي الاهلي خلال العقدين الماضيين ، لا أجد القوى الاهلية ، التقليدية منها والاصلاحية ، قدمت مساهمة واضحة في مسألة بمثل اهمية الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي. أشعر بالامتنان للعديد من كتاب الراي في الصحافة المحلية ، وللقليل من رجال الدين ، وبالطبع دعاة الاصلاح السياسي ، الذين رفضوا المواقف الطائفية والتنميط السلبي للشيعة ، ولا سيما في الفترات التي تصاعدت فيها امواج الكراهية الطائفية والتهجم المهين. هذه مواقف مشكورة ومحمودة. لكنها اقرب الى عمل الاطفائي الذي يقاوم الحريق. نحن اليوم اقل اهتماما بمثل تلك الموجات واكثر قدرة على العبور فوقها. لكننا ما نزال بحاجة الى تقديم حلول لقضايانا الحرجة والاساسية.
اشرت في مقالات سابقة الى تحاشي الاصلاحيين في التيار الديني الاشارة الى مشكلة التمييز الطائفي ، توقيا لنقد التقليديين والطائفيين في هذا التيار ، وتحاشي الاصلاحيين الاخرين للمسالة تلافيا لتحفظات الفريق الاول. هذا يذكرني بما اسمعه من كبار مسؤولي الدولة ، الذين يؤكدون في اجتماعاتنا الخاصة معهم ، على انهم ضد التمييز وانهم لا يفرقون بين مواطن وآخر. لكنهم جميعا ، من اعلى الهرم حتى ادناه ، تحاشوا طوال سنوات ان يذكروا اسم الشيعة علنا ، او يشيروا الى وجودهم في البلد او الى احترام الحكومة لحقوقهم.
لقد حان الوقت كي يتحمل السعوديون جميعا مسؤولية الخلاص من التمييز الطائفي. صحيح ان اجتثاثه ينتظر اصلاحا على المستوى الوطني ، وصحيح ان التحولات الاساسية في هذا الملف متوقفة على قرار النخبة الحاكمة. لكننا نستطيع المساهمة في درء الاستقطاب والانقسام والكراهية ، ونستطيع الحيلولة دون استخدام العامل الطائفي في اعاقة الاصلاح ، او استخدامه كسلاح ضد الاصلاحيين.

خلاصة وتوصيات

1- دارت المناقشة حول المسالة الطائفية في  المملكة العربية السعودية ، وركزت على المسألة الشيعية باعتبارها اكثر قضايا الاقليات والصراعات الطائفية بروزا. وتستهدف المقالة تقديم نموذج تحليل يراه الكاتب ادق تعبيرا عن الواقع القائم. من هنا فهي تدعو لمقاربات سوسيولوجية – سياسية ، وتستبعد المقاربات الايديولوجية التي تنظر للمسألة الطائفية كصراع حتمي مرتبط بوجود المذاهب.
2- يعتقد الكاتب ان المسألة الشيعية في المملكة لا تقع ضمن التصنيف العلمي لقضايا الاثنيات الذي يضع فكرة الانفصال كمؤشر ثابت لتقييم علاقة الاقلية بالاكثرية. بل هي – تحديدا- قضية حقوق مدنية تدورحول المساواة والغاء التمييز على اساس المذهب والطائفة. وهي في هذا تسير بالتوازي مع تيار الاصلاح السياسي على المستوى الوطني.
3- في هذا السياق لا تغفل الورقة حقيقة ان المملكة تنطوي على نزاع مذهبي-طائفي متعدد التعبيرات. لكنها تميل الى اعتبار ان العامل السياسي وخصوصا موقف الدولة هو الجوهري في المشكلة. بقية التعبيرات لا تمثل تهديدا فعليا او داهما ، او انها ملحقة بالوضع السياسي العام وليست جزء اساسيا من تكوينه.
4- لاحظت المقالة ان مساهمة السعوديين في النقاش حول المسألة الطائفية ، وفي قضايا الوحدة والهوية الوطنية ، محدودة جدا ، رغم اهمية الموضوع وخطورته. كما لاحظت شدة انعكاس النزاعات الاقليمية على علاقات المواطنين داخل البلد ، الامر الذي يشير – ربما – الى ضمور الجامع الوطني وبروز العامل المذهبي في تحديد المواقف. هذا سيؤدي بالطبع الى استقطاب داخلي على اساس طائفي لا وطني.
5- تقترح المقالة ثلاثة سيناريوهات لمعالجة المشكل الطائفي ، أ) اداري – على المدى القصير، يستهدف تنقية الاجواء العامة وتخفيف الكراهية ، ومنع الاستغلال المبرر طائفيا. ب) قانوني – على المدى المتوسط ، يقر المساواة دون الحريات العامة والمشاركة السياسية. ج) دستوري – على المدى البعيد ينهي المسألة الطائفية جذريا.
6- بالنظر للتحفظات وموارد النقد التي ذكرتها المقالة، فاني ادعو لمناقشة المسألة بجميع ابعادها وتفصيح المخاوف والاشكالات لدى جميع الاطراف الوطنية. ادعو لمناقشتها نقاشا علميا ، وعدم الاكتفاء بالنصائح الاخلاقية او الجمود على الهواجس المذهبية والايديولوجية. اذا وضعنا كل شيء في اطار العلم ، فسيكون قابلا للنقاش بلا حدود.





[1] سفر الحوالي : كشف الغمة عن علماء الامة، ونشرت الرسالة في كتاب تحت اسم "وعد كيسنجر والاهداف الامريكية في الخليج". ن.إ: http://saaid.net/book/open.php?cat=84&book=540
[2] قناة العربية www.alarabiya.net/articles/2006/04/08/22686.html

[3] برهان غليون : نظام الطائفية ، المركز الثقافي العربي (بيروت 1995)، ص 21
[4]  عبد الله بن جبرين ، جواب على سؤال في درس العدة في جامع الراجحي 23/8/1421 هــ. موقع الدفاع عن السنة  http://www.dd-sunnah.net/forum/showthread.php?t=1925
[5] سفر الحوالي : المصدر السابق. ويلاحظ ان الحوالي لم يذكر الاقليات المسلمة ضمن هذا التنميط ، اما لانه لايراها داخلة فيه ، او لانه  لايعتبر الشيعة بين الاقليات المسلمة.
[6] النص الكامل للرسالة على موقع شبكة الدفاع عن السنة http://www.dd-sunnah.net/forum/showthread.php?t=3834. جدير بالذكر ان الرسالة غير منشورة في الموقع الخاص للعمر (http://almoslim.net) رغم انه يذكرها في خطبه بين حين واخر ، كما ان مواقع الانترنت الحليفة حذفت التوصيات من النص المنشور. وهي جميعا غريبة ومثيرة.
[7] سفر الحوالي : الأقلية حين تتحكم في الأكثرية (جواب عما قدمته الطائفة الشيعية من مطالب لولي العهد) 13/4/1424هـ.  موقع صيد الفوائد http://www.saaid.net/Warathah/safar/6.htm





* مقالات اخرى للكاتب في نفس السياق :
الشيعة السعوديون : مشكلات المواطنة في ظروف التحول (2010) http://talsaif.blogspot.com/2011/04/blog-post_22.html
الهوية السياسية للشيعة: من الانكفاء الى البراغماتية (2008) http://talsaif.blogspot.com/2011/09/blog-post_25.html
الوطن ، الهوية الوطنية ، والمواطنة: تفصيح للاشكاليات (2011)    http://talsaif.blogspot.com/2011/07/blog-post_290.html
الاقليات والهوية : كيف تتحول عوامل التنوع الى خطوط انقسام في المجتمع الوطني (2011)
دور الدولة في اطلاق او تثبيط التوتر الطائفي (2011) http://talsaif.blogspot.com/2011/08/blog-post.html
المسألة الطائفية: بحثاً عن تفسير خارج الصندوق المذهبي (2007) http://talsaif.blogspot.com/2011/04/blog-post_15.html

07/07/2011

الوطن ، الهوية الوطنية ، والمواطنة: تفصيح للاشكاليات



محاضرة في منتدى د. راشد المبارك – الرياض 2 يناير 2011
د. توفيق السيف

ملخص الوقة

الوطن ، المواطن ، المواطنة ، الوطنية ، تعبيرات  شائعة يختلط في معناها الوصف بالقيمة. لكنها جميعا تنطوي على اشكاليات اساسية ، مصدرها كما اظن هو تطورها خارج الاطار المعرفي العربي ، وتطبيقها على نحو متغاير مع حاجات الناس في العصر الجديد.
تحاول هذه المقالة تفصيح وتوضيح ابرز الاشكاليات المتعلقة بالمفاهيم المذكورة ، وتنظر خصوصا الى تطبيقاتها في الاطار الاجتماعي/السياسي للمملكة.  وقد بدات بمقارنة التصور السائد عن الوطن والشعور الوطني ، ثم عرضت عناصر التفارق بين هذا التصور ومفهوم الوطن والمواطنة المعروف في العالم وفي علم السياسة المعاصر. ثم اقترحت ثلاثة اسباب محتملة لتاخر مفهوم الوطن عندنا عن نظيره الحديث. وفي الاخير اعدت تحديد الاشكالات ضمن الاطار المحلي وطريق المعالجة التي تنطوي على ستة محاور ، فكرية وقانونية وسياسية وتربوية واقتصادية.

الوطن بين صورتين: مادية ورومانسية

 يشير مفهوم المواطنة المتداول الان الى منظومة من الحقوق الدستورية يتمتع بها الفرد مقابل ولائه لوطنه . وتعتبر الثورتان الفرنسية (1789) والامريكية (1775) محطات حاسمة في تطور المفهوم، الذي قصد من صياغته تمييز المواطن ذي الحقوق عن المفهوم السابق الذي يعتبر الخاضعين لسلطة الامبراطور رعايا او اتباعا يتوجب عليهم طاعته دون مناقشة[1]. عرف ارسطو المواطن بانه (الرجل المؤهل لتولي المناصب العامة)، وهذا مفهوم اساسي في الفكر الدستوري المعاصر فهو ينطوي على جانب كبير من فكرة المسؤوليات المتبادلة بين الدولة والافراد [2].

الوطن بالمفهوم السابق ليس عميق الجذور في الثقافة العربية. فقد انتقل اليها من الاطار المعرفي الاوربي ، ولم يتحول الى جزء نشط ومتطور في النسيج الثقافي العربي. واظن ان السبب يرجع الى ضآلة الانتاج الفكري الجديد في اللغة العربية خلال القرن العشرين ، وهذا الفقر اظهر ما يكون في حقول الفلسفة السياسية وعلم الاجتماع والقانون ، وهي الحقول العلمية التي عولجت في اطارها فكرة الوطن والدولة في صورتهما الحديثة.
اقول ان المفهوم جديد كتمهيد للاشارة الى اشكالية مهمة في تصورنا لفكرة الوطن ولانفسنا كمواطنين. تحدثت في العام الماضي في ندوة اقامها النادي الادبي بالدمام لمناسبة اليوم الوطني عن صورتين متقابلتين : صورة الوطن الرومانسي وصورة الوطن المادي او اليومي.
في الاذاعة والتلفزيون والصحافة والمدارس يتحدثون عن الوطن الذي نحبه ونفديه ونعظمه ونفخر به ونشتاق اليه. الوطن الذي نحمله في قلوبنا ونتغنى به في اشعارنا . هذا وطن مكثف في لوحة ذهنية تملؤها جماليات متخيلة لان الانسان يريده كذلك. انه تطلع رومانسي لشيء محبوب ، والحب لا يحاكم ولا يجادل.

اما الوطن المادي الواقعي فهو الذي تقابله حين تخرج صباحا الى المدرسة او العمل ، تراه مجسدا في الطريق وفي شرطي المرور ، وفي موقع العمل ، وفي مكافاة العمل وفي العلاقة مع رب العمل وزملاء العمل ، تقابله حين تقرا اخبار اليوم في الصحيفة ، وتقابله حين تصادفك مشكلة او تسمع عن مشكلة. وتقابله حين تريد التعبير عن رايك او تختارك مكانتك ودورك وحصتك في الفرص وفي كلف المواطنة ، وفي القانون الذي تخضع لمتطلباته ، وفي العلاقة مع الذين ينفذون هذا القانون.

بعبارة اخرى فان الوطن الرومانسي هو الوطن الذي نحمله ونحميه ونفديه ، اما الوطن المادي فهو الوطن الذي يحملنا ويحمينا ويفدينا. هذا الوطن ليس مجرد ارض حتى لو كانت مقدسة ، بل هو شراكة في المغانم والمغارم ونظام للتكافل الجمعي يتساوى فيه صغيرالقوم مع كبيرهم ، قريبهم وبعيدهم.

الوطن الذي نعرفه

الوطن في الثقافة العربية القديمة هو القرية ومسقط راس الانسان ، يقول ابن الرومي:
وحبب أوطان الرجال إليهم     مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم      عهود الصبا فيها فحنو لذلكا

"الاهل" هو جوهر الرابطة الاجتماعية في الوطن القديم ، يقول قيس بن الملوح:
امر على الديار ديار ليلى        اقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي    ولكن حب من سكن الديارا

خلال دراستي للايديولوجيا السياسية للتيار المحافظ في ايران ، اتيحت لي الفرصة لدراسة شريحة واسعة جدا من الكتابات القديمة والجديدة حول مفهوم "الجماعة" و"الوطن" و"الامة" في الفكر الديني[3]. ولاحظت حينذاك اشكالات جوهرية في مقاربة المفاهيم الثلاثة. والحق اني لم اجد دراسة واحدة معمقة حول المفهوم المعاصر للوطن. معظم الكتابات تحاول التقريب بين مفهوم "الجماعة المؤمنة" والامة المسلمة والوطن في معناه الجغرافي او السياسي. مفهوم الوطن الذي نتحدث عنه اليوم هو مفهوم فلسفي ، يدرس في اطار الفلسفة السياسية ، وقانوني ، يدرس في اطار القانون الدستوري. هذا المفهوم بعيد الى حد كبير عن صورة الجماعة السائدة في التراث الفقهي ، او صورة "المدينة" المعروفة في التراث الفلسفي الاسلامي (كما عند الفارابي في "اراء اهل المدينة الفاضلة" مثلا).

مقابل هذا المفهوم ، يتكون مفهوم الوطن في الفكر الحديث من ثلاثة عناصر : الارض (السيادة على اقليم محدد) وعقد اجتماعي ينشيء نظاما سياسيا ذا ملامح محددة،  ومشاركة نشطة من جانب كل مواطن في تقرير او تسيير امور البلاد.
ثمة عناصر اساسية يتفارق عندها مفهوم الوطن الجديد عن المفاهيم الثلاثة السابقة:

1- مفهوم الجماعة يركز على عنصر الايمان باعتباره ارضية العلاقة بين اعضاء الجماعة ، وصورة الايمان في التراث الديني الموروث يتمحور حول "التكليف". المفهوم القديم للجماعة يساوي "جماعة المكلفين المؤمنين". في المقابل فان مبدأ "المواطنة" الجديد يركز على الهوية السياسية/القانونية كقاعدة للعلاقة بين اعضاء المجتمع السياسي الذي نسميه الوطن. ويتضمن هذا المبدأ منظومة حقوق وتكاليف متقابلة ، من بينها الضمان القانوني للحريات الطبيعية والمدنية وتساوي الفرص والمشاركة في الشان العام.

2- مفهوم الامة يقارب الى حد كبير مفهوم "الاثنية" اي الرابطة القائمة على مشتركات ثقافية او عرقية. وهو لا يعد في العلوم السياسية الحديثة اساسا لعلاقات دستورية او سياسية.

3- مفهوم "الوطن" في التراث الاسلامي ينطبق على القرية او مسقط راس الانسان. ويتردد هذا المفهوم بوضوح في احكام السفر مثل قصر الصلاة والافطارفي رمضان . وواضح اختلاف هذا المفهوم عن نظيره المعاصر.


ظهور وتطور مفهوم الوطن المعاصر

قلنا اعلاه ان مفهوم الوطن الجديد يتالف من ثلاثة عناصر اساسية : ارض وعقد ومشاركة نشطة.  تبلورهذا المفهوم وتطور خلال ثلاث مراحل :
المرحلة الاولى : ظهور الدولة القومية او دولة الامة nation-state ، التي ربطت السيادة بالارض والاعتراف المتبادل ويرجعها معظم الباحثين الى معاهدة وستفاليا سنة 1648.
أنهت هذه المعاهدات حرب الأعوام الثلاثين في الإمبراطورية الرومانية المقدسة ، وحرب الأعوام الثمانين بين إسبانيا وجمهورية الأراضي الواطئة السبع المتحدة. ووقعها مندوبون عن الإمبراطورية الرومانية المقدسة ، والإمارات البروتستانتية التابعة، وممالك فرنسا، إسبانيا والسويد، والجمهورية الهولندية.

تعتبر معاهدة وستفاليا أول اشارة الى ظهور نظام العلاقات الدولية الذي نعرفه اليوم، وهو نظام يوفر حماية قانونية لحدود كل دولة من خلال اعتراف الجيران بسيادتها ضمن هذه الحدود. قبل هذه المعاهدة كان النظام الامبراطوري هو السائد في العالم. الامبراطورية ليس لها حدود نهائية فهي تتقلص او تتوسع بحسب قوة جيش الامبراطور. وينتقل الناس من تبعية هذه الدولة الى تلك اذا سقطت اراضيهم تحت الاحتلال. اقرت معاهدة وستفاليا الحدود القائمة يومئذ كحدود نهائية للدول المتعاهدة ، يحرم تجاوزها او العدوان عليها. ومن هنا اصبحت حدود كل دولة محمية باعتراف دولي . بعبارة اخرى فقد اصبح اعتراف الدول الاخرى بالاقليم جزء من مكونات السيادة الاقليمية للدولة.

بموجب معاهدة وستفاليا ، لم يعد للتكوين الديمغرافي او الانتماء الديني او القومي قيمة سياسية خارجية . في داخل كل دولة هناك مجتمعات ترتبط قوميا او دينيا او تاريخيا بمجتمعات في دول اخرى ، لكنها اصبحت الان منفصلة سياسيا. لم تعد رابطة الدين او القومية ذات معنى سياسي.

في الوطن الجديد ، المانيا مثلا ، يرتبط الكاثوليكي والبروتستنتي ، الذي ينحدر من اصول جرمانية او فرنسية او سكوتلاندية او بروسية او خلافها ، اصبحوا جميعا مواطنين واعضاء في مجتمع سياسي واحد ، يربطهم نظام علائقي واحد وتجعهم هوية وطنية واحدة.
مع الدولة القومية اصبح لكل قطر حدود نهائية ولحكومته سيادة عليها ، واصبح جميع سكان القطر تابعين سياسيا وقانونيا لحكومتهم فقط ، بغض النظر عن اديانهم او قومياتهم او علائقهم السابقة.

المرحلة الثانية : ظهور مبدا العقد الاجتماعي : ينسب مبدأ العقد الاجتماعي الى الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو (1712-1778)  الذي قدم الصيغة الاكثر نضجا لفكرة العقد ، وكان لاخذ اباء الاستقلال الامريكي بافكاره في دستور الولايات المتحدة (1784) اعظم الاثر في ذيوعها وارتدائها صفة المرجعية. لكن روسو لم يبتكر الفكرة كليا فقد اعتمد على تنظيرات الفيلسوف الانجليزي توماس هوبز (1588-1679)  ثم جون لوك (1632-1704)[4]. تصور الفلاسفة الثلاثة المجتمع السياسي او الدولة كنظام تعاقدي بين افراد احرار وعقلاء انتج اتفاقهم ارادة عامة تمثل مصدر السلطة التي تمارسها الحكومة . وطور روسو نظرية الارادة العامة التي تعتبر اليوم الاساس الذي سيادة القانون واحتكار الدولة لسلطة الالزام الجبري.

بناء على مبدأ "العقد الاجتماعي" فان جميع اعضاء المجتمع السياسي متساوون وشركاء في ملكية ارض وطنهم وموارده، شركاء في القرارات المتعلقة بمجموعهم. كما رأوا ان الفرد حر في افعاله الا اذا نص القانون على خلافه وان المهمة الرئيسية للقانون والدولة هي ضمان حريات الافراد وحقوقهم ، وان المجتمع فوق الدولة وسيد لها.
المرحلة الثالثة: ظهور دولة المنفعة العامة : وكانت احد ابرز التحولات التي اعقبت الحرب العالمية الاولى، وبدأت الفكرة في بريطانيا . ويقال ان من بين اسبابها ما ظهر وسط الطبقات الفقيرة من اراء فحواها ان الحرب كانت صراعا بين النخب الغنية على حساب الفقراء الذين لا نصيب لهم في خيرات البلد. وقد سهلت اجواء الحرب على حكومة حزب العمال تاميم قطاعات الخدمة العامة وتبني برامج للرعاية الاجتماعية ، بناء على مبدأ ان لكل مواطن حق في حد متوسط من الرعاية وان المجتمع ممثلا في الدولة كفيل باولئك الذين لا يستطيعون الاعتماد على انفسهم مثل الاطفال والمرضى وكبار السن والعاجزين والعاطلين عن العمل. وفي الحقيقة فقد شهدت الحقبة الواقعة بين الحربين الاولى والثانية (1918-1937) تحولا عاما في اوربا باتجاه دولة المنفعة العامة Welfare state.

ساهمت سيادة هذا المبدأ في اغناء مفهوم المواطنة التي اصبحت تتضمن بالاضافة الى الحقوق السياسية ، حقوقا اقتصادية واجتماعية ما كانت منظورة في ظل الليبرالية الكلاسيكية . في الحقيقة فان تطبيق هذا المبدا الذي ينسب الى الاقتصادي الانكليزي جون مينارد كينز (1883-1946) كان ابرز التعديلات التي ادخلت على النظرية الليبرالية. رغم ان جوهر المبدا الجديد اقتصادي ، الا انه اقلع على ناقلة سياسية فحواها ضرورة اشراك الطبقات الدنيا في دورة الانتاج الوطني واعتبارها شريكا كاملا في الحياة العامة ، مثل هذا المبدأ كان ورقة قوة لحزب العمال الذي يستمد قوته السياسية من دعم الطبقات الوسطى والفقيرة.  مع تبلور دولة المنفعة العامة اكتمل مبدأ المواطنة، بانضمام العنصر الثالث اي مشاركة جميع المواطنين في الشان العام.

لماذا لم تتطور فكرة الوطن ومبدأ المواطنة في بلادنا

هذا سؤال يفترض سلفا ان فكرة الوطن والمواطنة ليست ناضجة في بلادنا، وهي دعوى قد تحتاج الى اثبات، لكني اظن ان معظم الناس يقبلون بها. على اي حال لو نظرنا الى العناصر  الثلاثة التي قلنا انها تشكل فكرة الوطن وتؤسس لمبدأ المواطنة فسوف نجد ان المتوفر منها بشكل صريح وواضح هو الاول فقط. اما الثاني والثالث ففيهما نقاش وقد يقال انهما - بنسبة ما – متوفران لشريحة من المواطنين. هذا التحفظ يسنده ما نراه من محاولات خلال العقد الاخير للتاكيد على الفكرة بدءا من ادخال "التربية الوطنية" في المنهج المدرسي، الى ملتقيات الحوار (واخرها مؤتمر الحوار في جدة الاسبوع المنصرم) ، فضلا عن اهتمام الاعلام بالمسالة بشكل يومي تقريبا ، رغم انه لا توجد مشكلة جديدة ذات علاقة بالموضوع ، الامر  الذي يكشف عن ان الموضوع بمجمله هو المشكلة.

على اي حال نستطيع القول دون مجازفة بان فكرة الوطن لازالت محل جدل ، وان مبدأ المواطنة لازال غير مستقر ثقافيا ودستوريا. وسوف اعرض ثلاثة اسباب محتملة لهذا الحال ،  لا تشكل تفسيرا كاملا ، لكنها تشير الى طبيعة المشكلة التي نحن بصددها:

1-  ثقافتنا الموروثة تدور حول محور "التكليف" او الواجب وليس "الحق". حين نربي اولادنا فاننا – في العادة - لا نعلمهم حقوقهم وواجباتهم ، بل الاخير فقط ، ونعتبر الولد الفاضل والمهذب هو الذي يلتزم بالتكاليف التي عليه. كذلك الامر في المدارس والاعلام والمنابر الدينية . نحن نتحدث كثيرا عما يجب علينا وما لا يجب ، لكننا لانتكلم الا نادرا عن حقوقنا وحقوق الاخرين. هذا سائد في اللغة والادب والتعليم والاعلام والتربية والعلاقات الاجتماعية والاجتماع الديني. ومن تبعات ذلك ان قيمة عظيمة مثل قيمة الحرية لازالت محل جدل بين الناس ، ولاحظت ان اعمق ما كتب في الادبيات الدينية حول الموضوع ينظر الى الحرية في المعنى المناظر للرق ، او في معنى الانعتاق من الشهوات وسيطرة النفس العليا (او العقل) على النفس السفلي (ميول القلب) . اما حرية التفكير والتعبير والعمل واختيار الوطن الخ فهي موضوعات ينظر اليها بارتياب وتوجس.

من جانب اخر فان فكرة السلطة السائدة في ثقافتنا، تشير عادة الى النخبة العليا. وليس عندنا شيء متين حول كون المجتمع وعاء للسلطة وان جميع الافراد شركاء في القرار. ثمة نصوص مرجعية يمكن اعتبارها قواعد تقوم عليها منظورات جديدة مثل "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" لكن هذه ينظر اليها بطريقتين مختلفتين: الراعي الفعلي او الحاكم يعتبر ذا سلطة تامة على رعيته والرعية الفعلية اي عامة الناس يتلخص دورهم في طاعة الراعي الفعلي والنصح له. وهذا المعنى يختلف عن المعنى المنطوي في مفهوم المشاركة وكونها حقا للافراد.

يلحق بهذا السبب حقيقة ان العلوم التي تدرس فكرة الوطن في اطارها ، ليست رائجة في بلادنا ، واشير خصوصا الى الفلسفة السياسية ، علم السياسة ، والقانون.

2- قبل ثمانية عقود تاسست المملكة كمجتمع سياسي جديد اندمجت فيها مجتمعات تنتمي الى خلفيات اقتصادية وتاريخية متنوعة ، وفي بعض الحالات متباينة. يتحدث علماء السياسة عن مرحلة وسيطة بين قيام الدولة واكتمالها ، يجري خلالها بناء الدولة (اي النظام السياسي) وبناء الامة اي (المجتمع السياسي). عملية بناء الامة تستهدف تسكين الهويات السابقة للدولة في اطار يتفق عليه الجميع هو الهوية الوطنية الجامعة التي تقر الهويات الاصلية لكن تنزلها من الاطار السياسي الى الاجتماعي-الثقافي. تتطلب هذه العملية استراتيجية ادماج واسعة لربط اقتصادات المناطق وتوحيد القوانين المطبقة فيها وكشفها ثقافيا واجتماعيا. من العناصر الرئيسية في استراتيجية الادماج نذكر في الجانب الاقتصادي مثلا التنمية المتوازنة جغرافيا وتوزيع المنافع وتساوي الفرص ، وفي الجانب السياسي نذكر التمثيل المنصف في الادارة العامة ، وفي الجانب الاجتماعي والثقافي تشجيع التعبير عن التراث الثقافي والفني الخاص بكل منطقة وعرضه في بقية المناطق .

اما عملية بناء الدولة فتركز على المؤسسات القانونية التي تنظم العلاقة بين المجتمع والحكومة وابرزها الدستور او القانون الاساسي والمؤسسات التي يشارك من خلالها المواطنون في القرار المتعلق بمصالح ، وكذلك القنوات التي يعبرون من خلالها عن رايهم وتطلعاتهم. وفي كلا المجالين فاننا نعاني فقرا شديدا.

من الواضح ان استراتيجية شاملة ومقصودة لبناء الدولة وبناء الامة لم تطرح ابدا . على انه في السنوات الخمس الماضية اتخذت الحكومة بعض الخطوات التي ستخدم هذه الغاية ، لعل ابرزها فتح جامعات جديدة خارج المدن الكبرى واقامة مراكز جذب اقتصادي في المناطق البعيدة اضافة الى تحسين شبكات الطرق والاتصالات. وعلى مستوى بناء الدولة نشير الى اقامة المجالس البلدية وتخفيف القيود على الصحافة في السنوات الاخيرة .
3- الاتجاه الديني ينطوي على ارتياب في الفكرة دفع الحكومة والنخبة الى الاغماض عنها. لا شك لدي ان شريحة واسعة من النخبة العليا في المملكة متأثرة بالثقافة الدينية السائدة. لكن الاهم من ذلك هو تاثير الاعراف السائدة في المجتمع الديني على النخبة وجزء مهم من الطبقة الوسطى. الفارق بين الاثنين هو ان الاول يعتبر نوعا من التدين اما الثاني فهو اقرب الى مجاراة اعراف اجتماعية لان الطبقة التي تحتضنها ذات نفوذ وتاثير.

            بالقدر الذي اطلعت عليه من كتابات علماء الدين السعوديين فان فكرة الوطن ومبدا المواطنة لم تكن ضمن انشغالاتهم الفكرية في اي وقت من الاوقات. وجميع ما كتبوه – مما اطلعت عليه – يدور تقريبا حول محورين: القلق من تقديم الرابطة الوطنية على الرابطة الدينية والقلق من اتخاذ الاحتفاء الرمزي بالوطن صفة العيد. 
ولفت نظري ملاحظة وردت على لسان الشيخ صالح الحصين رئيس مركز الحوار الوطني تنطوي على ارتياب في مشروعية الرابطة الوطنية ، فهو يرى ان الرابطة السليمة هي تلك التي تقوم على اساس مفهوم "الجماعة في الإسلام بكل مضامينها من الولاء لبعضهم، وأوسع بكثير من فكرة الوحدة الوطنية" ولتاكيد الفارق يقول الحصين أن فكرة الوطنية أنشأت سلبيات غير إنسانية وغير حضارية، وبالنسبة لنا غير إسلامية[5].

افهم ان السياق العام لكلام الحصين يشير الى التمييز ضد المسلمين غير السعوديين ، وهو توجه لا غبار عليه. لكن القاعدة التي انطلق منها ، اي مفهوم "الجماعة المسلمة" تنطوي على مشكلات نظرية وتطبيقية كثيرة ، واعتقد انها غير صحيحة لجهة التاسيس الشرعي ولجهة المصالح التي هي مدار الاحكام. اثار اهتمامي راي الشيخ الحصين لسبب بسيط هو كونه رئيسا لمركز الحوار الوطني الذي يستهدف تعميق فكرة المواطنة وتعزيز الرابطة الوطنية ، ولكونه ينسب الى النخبة السياسية والدينية في آن.
على اي حال فان الارتياب في مبدأ المواطنة كاساس للرابطة الوطنية واضح في الادبيات المعبرة عن التيار الديني التقليدي ، وصدرت فتاوى تحرم الاحتقال باليوم الوطني وتكريم الرموز والممارسات الرمزية الخاصة مثل تحية العلم والنشيد الوطني وامثالها.  وقدم الاستاذ احمد بن باز ثلاثة اسباب تفسر ارتياب التيار التقليدي :

أولها: عدم اقراره بالمفهوم الحديث للوطن ، اي المفهوم القائم على مبدأ سيادة الدولة ضمن اطار جغرافي/سياسي متوافق مع نظام العلاقات الدولية الحديث.

ثانيها : اعتقاده بأن الرابطة الوطنية ربما تشكل بديلا عن الرابطة الدينية أو مزاحمة لها. وهذا متفرع عن الاول.



ثالثها: رفضه المسبق للمفاهيم التي تطورت في الاطار المعرفي الغربي نظرا لان الاخذ بها يعبر عن استلاب ثقافي وانهزام فكري واستبدال للدين بالذي هو أدنى منه[6].


ويتضح السبب الثالث في البيان الذي اصدره عشرة من المشايخ في 2008 ووصف الاحتفاء باليوم الوطني بانه تشبه بالكفار"الاحتفاء بهذا اليوم وتعظيمه وإظهار الفرح به وفيه، وتخصيصه بأعمال ولباس وتفريغ للناس من أعمالهم كذلك بجعله إجازة وفرض ذلك على الناس بما في ذلك المؤسسات والشركات الخاصة، ومعاقبة من لم يلتزم به. كل ذلك من التشبه الظاهر بالكفار، الذي دلت نصوص الشرع وأصوله ومقاصده على تحريمه". كما نددوا بالعلماء الذين اجازوه او اعتبروا المصالح التي ينطوي عليها، ووصفوهم بالتساهل "لما تغيّرت الأحوال نشأ في الأمة مُفتون يُعرفون بالتساهل وتسويغ ما لم يرد نص بتحريمه، ولا يرعون الأصول والمقاصد الشرعية"[7]. و نقل الشيخ ال عبد اللطيف اراء عدد من العلماء التي تصف الاحتفاء بالمناسبات الوطنية بالبدعة المحدثة التي حرمها الشارع[8].
يتضح السبب الثاني في اعتبار المشايخ مبدأ الولاء للوطن مزاحما او متعارضا مع قاعدة الولاء والبراء التي هي من اصول العقيدة . وقال المرحوم الشيخ بن باز ردا على سؤال في الموضوع :

 "الواجب الولاء لله ولرسوله بمعنى أن يوالي العبد في الله ويعادي في الله وقد يكون وطنه ليس بإسلامي فكيف يوالي وطنه، أما إن كان وطنه إسلامياً فعليه أن يحب له الخير ويسعى إليه، لكن الولاء لله؛ لأن من كان من المسلمين مطيعا لله فهو وليه، ومن كان مخالفا لدين الله فهو عدوه وإن كان من أهل وطنه وإن كان أخاه أو عمه أو أباه أو نحو ذلك، فالموالاة في الله والمعاداة في الله".
 وواضح ان قلق الشيخ المفتي يتمحور حول ما يراه من تزاحم بين ولائين ، ولاء للدين وولاء للوطن.

كانت هذه الفكرة ايضا محور اهتمام الشيخ ناصر العمر ، الذي قال ان الرابطة الوطنية  تتعارض مع قيم الاسلام: "التمييز والتفرقة بين المسلمين على أساس الوطن والانتماء إليه، هو من دعاوى الجاهلية  التي وضعها الإسلام وقضى عليها، فالعبرة في شرع الله ليست بالجنسية أو الوطن إنما هي بالإيمان" وعقب بان هذا " تمييع لمبدأ الولاء والبراء الذي هو من أوثق عرى الإيمان!"[9].

استراتيجية التصحيح:

اشرت في السطور السابقة الى ان كثرة تناول المسألة في الاعلام المحلي ، وعلى السنة المسؤولين ، وهو ما يكشف عن جدلية الموضوع ومحوريته في اهتمامات المثقفين خصوصا والمجتمع السعودي بشكل عام. هذا يدعونا الى تجاوز المقاربات الانشائية والوجدانية للمسألة ، والتركيز على المقاربة العلمية ، للانتقال من التعبير عن المشكلة الى التفكير في حلها.
الانطلاق في المعالجة يمكن ان يكون رؤية عامة مستقلة عن اي ظرف خاص ، ويمكن ان يكون محاكيا لمشكلة محددة في ظرف محدد.  تتبع الاولى في البحث النظري في العلوم السياسية وتتبع الثانية في البحوث التطبيقية او ما يسمى بصناعة السياسة=policy making. وسوف اعالج الموضوع من الزاوية الثانية.


تحديد المشكلة: 
معظم الحديث الذي دار خلال السنوات العشر الاخيرة انطلق من الدوافع الاتية:

1- الجدل حول اولوية الرابطة الدينية على الوطنية، وتبعا لها السياسات المبنية على مصالح وطنية مقابل تلك المبنية على اراء فقهية. وظهر هذا في الانشقاق الكبير الذي شهدته البلاد بعد قرار الحكومة السماح للقوات الاجنبية بالمرابطة في الاراضي السعودية بعد الاجتياح العراقي للكويت اواخر 1990.

2- الجدل حول النموذج الديني القابل للتواؤم مع حاجات الدولة ومصالح الجمهور في هذا العصر. وشهدنا في هذا الاطار انشقاقات واسعة في التيار الديني السلفي بين من يميل للتعاون مع الحكومة وبين من يعارض توجهاتها التحديثية.  وتفرع عنه جدل حول وعاء السلطة (او مكان الولاية الشرعية الواجبة الطاعة) هل هو الفقيه ام السياسي الحاكم. الكلام حول الرابطة الدينية يسند التصور الاول ، بينما الكلام حول الوطن يسند الثاني. هذا الجدل اسبق من الاول في الترتيب النظري ، لكنه جاء متفرعا عنه في هذا الظرف على وجه الخصوص.

3- الجدل حول عدم التوازن والانصاف في توزيع الثروة الوطنية. وظهر هذا ابتداء في منتصف الثمانينات حين انخفضت مداخيل البترول وتفاقمت مشكلة البطالة. فقد ظهران المناطق الريفية والنائية بقيت على هامش الاقتصاد الوطني ولم تحصل على غير الفتات. وتواصل الجدل خلال عقد التسعينات بكامله، سيما بعد نزوع اداريين لاستغلال سلطاتهم في محاباة ابناء قبائلهم ومناطقهم في توزيع الفرص والخيرات التي كانت نادرة خلال حقبة التراجع الاقتصادي التي استمرت حتى نهاية الثمانينات. ووصل الجدل الى ذروته مع انفجار وباء حمى الوادي المتصدع ، حيث قام الملك عبد الله – ولي العهد يومئذ – بزيارة الى جيزان (اكتوبر 2000) التي كشفت له مدى القصور في الخدمات العامة في المنطقة. وبعد عامين قام بجولته الشهيرة بين بيوت الفقراء في الشميسي (نوفمبر 2002) والتي شكلت اول اقرار رسمي بان مشكلة الفقر في المملكة هي اكثر بكثير مما هو معلن.

4- الجدل حول حقوق المرأة والاقليات ، وهي من المشكلات القديمة لكنها تفاقمت في الثمانينات على خلفية تصاعد المد الديني وما رافقه من تعصب ، ثم تفاقم النزعات القبلية في نفس الفترة. وقد ترافقت محاولات الحكومة الاولى لعلاج المشكلة في 1993 بمعارضة من جانب جهات دينية كان اجلاها تعبيرا رسالة الشيخ ناصر العمر المعنونة "واقع الرافضة في بلاد التوحيد- مايو 1993" . وقد تكرر الامر عندما بدأت الحكومة بتحسين وضع المرأة السعودية ، وهو جدل مستمرحتى اليوم ، وتفاصيله معروفة للجميع.
هذه الدوافع الاربعة تشير من جهة الى نوعية الهموم التي يراد علاجها من خلال النقاش حول فكرة الوطن ومبدأ المواطنة ، وتشير من جهة ثانية الى الشريحة المهتمة بالنقاش ، والاهداف المتوخاة من ورائه. وانطلاقا من طبيعة المشكلة فان تنسيج مفهوم "الوطن" في الثقافة العامة وتعزيز قيمة الهوية الوطنية كاطار للهويات الفرعية يتوقف على وضع تصور صحيح لمبدا "المواطنة" كعنوان لمنظومة حقوق تقابلها واجبات متناسبة معها نوعا ومساحة. بعبارة اخر فاننا بحاجة الى :

1- عمل فكري يرسم مفهوم "الوطن" وطبيعة العلاقة التي ينبغي ان تقوم بين اعضاء المجتمع السياسي (المواطنين) ، والقيم المعيارية التي نرجع اليها كناظم ومفسر عند الاختلاف. اقترح مفهوم "شراكة التراب" كقاعدة فلسفية لفكرة الوطن التي نريد تصميمها.

2- عمل دستوري- قانوني يحدد الحقوق والواجبات المتقابلة بين افراد المجتمع من جهة والدولة من جهة ثانية. ويمكن ان يوضع في صيغة وثيقة وطنية او اعلان ملكي بحقوق المواطن يكون له صفة دستورية تفوق القوانين العادية.

3- عمل قانوني- سياسي يتمثل في انشاء المؤسسات التي تستوعب وتنظم تطبيق البند السابق ، اضافة الى تنظيم المشاركة الشعبية في القرار والشأن العام.

4- عمل اعلامي وتربوي- تعليمي يستهدف ايصال المفهوم الجديد الى المواطن كما يسعى لاقناع المواطنين بالمشاركة الفاعلة في استراتيجية التصحيح.

5- استراتيجية للانماء الاقتصادي يستهدف ربط مناطق الاطراف بالدورة الاقتصادية الوطنية ، ويعزز جاذبيتها للاستثمار ، ويسهم في انهاء وضعها الحالي الطارد للقوى العاملة المؤهلة.

6- الانفتاح الاعلامي والثقافي وتمكين جميع المواطنين من التعبير عن انفسهم وثقافاتهم الخاصة وارائهم في اطار الجدل السلمي الحر والمحمي بالقانون. وهذا يتطلب التعجيل في اصدار نظام الجمعيات التطوعية وجعله مرنا واسع الاستيعاب ، وتغيير فلسفة الرقابة على النشر.

هذه العناصر الستة تمثل محاور لاستراتيجية واسعة يمكن ان نطلق عليها استراتيجية الاندماج الوطني او اعادة بناء الهوية الوطنية او اعادة صناعة الاجماع الوطني. ويمكن ان تطلق كبرنامج من مرحلتين ، خمس سنوات لكل منهما ، تبدأ برسم الصورة التي نريد الوصول اليها في نهاية المدة ، وتفاصيل الخطوات التي يجب القيام بها لقطع المسافة والبرنامج الزمني والمتطلبات المادية والعملية.




[1] For a brief discussion on the topic, see Held, David, Models of Democracy (Cambridge, 1997), p. 78
[2] Scruton, R., A Dictionary of Political Thought, (London, 1996), p. 71.
[3] انظر توفيق السيف : حدود الديمقراطية الدينية ، الفصل الرابع.
[4] هناك من يعتبر القانوني الالماني (1583-1645) Hugo Grotius احد المساهمين في بلورة مبدأ "العقد الاجتماعي" من خلال كتابته المبكرة عن نظرية "الحقوق الطبيعية للفرد" ، وهي من الاسس التي قامت عليها فكرة العقد فيما بعد.
[5] جريدة الحياة 8 اكتوبر 2009. http://ksa.daralhayat.com/ksaarticle/63912
[6] احمد بن باز – الوطن – 2- ابريل 2010
[7] موقع اهل الحديث (25شوال 1429) www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=152353
[8] د. عبدالعزيز آل العبداللطيف  مسألة الاحتفال بالأعياد البدعية ونحوها ، موقع المسلم ، (6/9/1428 هـ ) http://almoslim.net/node/84113
[9] ناصر العمر : درس في الوطنية ، موقع المسلم 6 شوال 1429. http://almoslim.net/node/100213



مقالات ذات علاقة 

شراكة التراب" كتطبيق لمبدأ العدالة الاجتماعية



شراكة التراب وجدل المذاهب

http://talsaif.blogspot.com/2011/04/blog-post_16.html

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...