؛؛جدل الفاظ
اثاره قيام تفريعات في الامة الاسلامية تستقطب بعض مرجعية الامة ومحوريتها
؛؛
(الطابع الاسلامي هو ميزتنا) تستوقفك
هذه العبارة التي اختارتها احدى الشركات التجارية عنوانا لبرامجها الدعائية ،
وتتساءل هل ثمة تجارة اسلامية وأخرى غير اسلامية ؟ وعند متابعة اوسع ستجد ان وصف
الاسلامية يستعمل في موارد اخرى تزيد كثيرا عن هذا المورد ، فثمة جمعية للادب
الاسلامي ، وأخرى للطب الاسلامي ، وثمة شريط اسلامي ، وبنوك اسلامية ، وشركات
تامين اسلامية ، وكتاب اسلاميون وو .. وهلم جرا..
اذا شئت اختيار الراحة من عبء التامل
في معاني الوصف واسبابه ، فسيكون بوسعك اعتباره وسيلة للتمييز بين شركة تلتزم
المعايير الاسلامية في معاملاتها وبين سواها ممن لايلتزم ، وربما وجدت سببا مثل
استقطاب الزبائن الراغبين في التعامل مع شركات او بنوك موثوقة ، وثمة موصوفين
لايرجع وصفهم الى اي من هذه الاسباب بل لكونه مسلما وحسب ، مثلما كان العربي يسمى
تركيا في امريكا اللاتينية حتى العقد السادس من هذا القرن ، بالنظر الى تبعية
بلادهم السابقة للدولة العثمانية .
لم يكن وصف الاسلامية شديد الاثارة في
الماضي ، لكنه منذ نحو عقدين من الزمن
اتخذ معنى مميزا ، يشير عادة الى التزام شخصي معبر عنه بمتبنيات ايديولوجية
وتمحور اجتماعي خاص ، لا كما كان في السابق مجرد انتماء عائم ، وزاد من اسباب
الاثارة ، قيام محاولات في بعض الاحيان لصرف الوصف عمن هم خارج هذا الاطار المميز
، أو اشتراط ان يكون الموصوف معروفا بالصفاء في الظاهر والباطن ، حتى يصبح مستحقا
لهذا الوصف ، ولانريد عرض امثلة سياسية نظرا لكثرة المختلف فيه منها ، لكن حتى في
قضايا الحياة العامة فهناك من ينكر اسلامية العديد من الطروحات او الثقافات او
التيارات ، وحتى انتماء الاشخاص الى الجماعة المسلمة ، بناء على خلافهم له في
طروحات او اتجاهات فكرية أو اجتماعية .
وربما راى البعض في هذا النزاع مجرد
جدل لفظي لاقيمة له من الناحية الواقعية ، لكنه في تقديري احد اهم الموضوعات التي
ينبغي مقاربتها بحثا وتحليلا ، بالنظر الى التاثيرات المهمة التي تنطوي عليها
نتائج الجدل ، ان وصف موضوع ما بالاسلامية يعطيه قيمة اضافية ، تتأتى من ارتباطه
الشديد برغبة المسلم في تأكيد ذاته ، ووجود الشوق العام لرؤية التطبيقات الحياتية
للدين الحنيف ، مما يجعله مادة للاستثمار على مختلف الاصعدة ، فهو فرصة من جهة ،
ولكنه سبب للقلق من الجهة الاخرى .
هو فرصة اذ يساعد على اكتشاف فوائد
الالتزام الديني ، وفي الكويت ـ مثلا ـ نجح احدث بنوكها (بيت التمويل الكويتي) في
استقطاب اكبر عدد من المودعين بين البنوك الكويتية نظرا لتركيزه الاعلاني على
الالتزام بالمعاملات الشرعية .
وهو من الناحية الاخرى سبب مشروع للقلق
، حين يصبح الوصف سبيلا لعزل الاخرين أو اعتزالهم ، لفاعلية مايثيره من شعور
بالاكتفاء والاستغناء ، يقول لي احد الاساتذة ساخرا (نحن مثال للاكتفاء الذاتي ،
نؤلف الكتب ونطبعها ثم نقرأها ، لان خطابنا لايقنع الا من كان مقتنعا بنا اصلا) ،
وفي هذه الحالة فان الذات تتضخم وتختفي عيوبها تحت ركام من شعور التفوق المبالغ
فيه ، كما يجري تغطية حالات العجز بالبلاغة اللفظية او استعارة عناصر من هنا وهناك
وتلفيقها ضمن اطار منمق ، للخلاص من الاحساس الداخلي بالقصور.
ومنه يتضح ان وصف الاسلامية قد يستعمل
في التاكيد على الحاجة الى اعادة المضمون الديني في الحياة العامة ، كما قد يستعمل
كقشرة انيقة لموضوعات لاتختلف ـ في الحقيقة ـ عن اي من نظائرها الاخرى غير المميزة
بالوصف .
الفكرة والجماعة
يطلق وصف (الاسلامية) على الموضوعات
المختلفة في احدى حالتين : اما لكونها مؤسسة ومتشكلة وفق المعايير الشرعية ، او
لكونها قد تشكلت ضمن الاطار الاجتماعي للجماعة المسلمة ، ونجد امثلة على الحالة
الاولى في المحاولات الهادفة لتاسيس نظام مصرفي متحرر من الصور الربوية في انتقال
راس المال ، وفي تأسيس نمط أدبي ملتزم بالدعوة الى الدين الحنيف ، كما في المساعي
التي يبذلها مفكرون لاستنباط نظام للمعرفة متوافق مع الشريعة وقادر على استيعاب
متغيرات العصر ، فهذه توصف بالاسلامية نظرا لمضمونها .
وعند الحالة الثانية نجد أمثلة في وصف
العلوم ، سواء التجريبية او الانسانية فضلا عن الكثير من التطبيقات ، فثمة من
يتحدث اليوم عن الطب الاسلامي وفن العمارة الاسلامية وغيرها ، ويدافع عن اسسها
وتطبيقاتها كما يدافع عن الدين ، ان مرجع هذا الوصف هو الانتماء الاجتماعي وليس
الايديولوجي ، فالطب الاسلامي الذي اصبحت له جمعية خاصة يرعاها الوزير د. عبد
الرحمن العوضي ، يعني ـ في الغالب ـ انواع التشخيصات والاساليب العلاجية التي
ابتكرت او تم تطويرها في عصر الدولة الاسلامية القديمة ، ولم يكن سوى ابتكارات
للبشر الذين وجدوا في ذلك الزمن ، ولعل بعضها تطور على يد علماء غير مسلمين ، كما
ان بينها ما يرجع باصوله الى حضارات اخرى سابقة
، وقد انتقل الى العالم الاسلامي في اطار التفاعل الذي كان نشطا ، من خلال
الترجمة ، لاسيما في العصر العباسي ، او من خلال العلماء والاطباء الذين وفدوا الى
المدن الاسلامية الرئيسية ، فنسبته الى الاسلام لايعدو في الحقيقة النسبة الى
المسلمين ، ومثل هذا يقال في العمارة الاسلامية التي اصبحت عند المهندسين
المعاصرين مجرد فن للتشكيل الخارجي ، يعبر عنه بالاقواس وانواع الزخرفة التقليدية
والكتابة المنقوشة ، بينما كان في الاصل يعبر عن اساليب البناء المعتمدة على
المواد الاولية المتوفرة في البيئة ، والمناسبة للظروف المناخية ، اضافة الى
محددات الاستعمال الاجتماعي للمكان ، فهي نتاج لحاجات المجتمع ومتطلباته المعيشية
.
قد يقال ان تطبيقات هذه العلوم تعبر
بصورة او بأخرى عن المضمون الديني لحياة الجماعة ، فهي من هذه الزاوية تعبير عن
الفكرة ، والحقيقة ان هذا المضمون المزعوم ، ليس الا التشكيل الانساني للفكرة بعد
اخراجها من تجريدها الاولي ، فهي ليست امتدادا مباشرا لها ، بل للمجتمع الذي
استخدمها .
واذا كان التبادر علامة الوصف الحقيقي للمعنى ـ كما يقول اللغويون ـ فان
مايتبادر الى الذهن عند اطلاق وصف (الاسلامية) هو كلا المعنيين ، معنى انتماء
الموصوف الى الجماعة المسلمة ، ومعنى انتمائه الى الفكرة الاسلامية ، فكلا الاطلاقين صحيح تماما ، ولاينبغي ان يتخذ
احدهما كوسيلة للتعامل السلبي مع الغير.
انه في حقيقة الامر جدل الفاظ ، لكنه لاينطلق من
اسباب لفظية او قليلة الاهمية ، كما انه لاينتهي عند الحكم بعدم قيمته ، فهو
يتداخل بصورة كثيفة مع نظام القيم الخاص بالجماعة المسلمة ، لاسيما في الوقت
الراهن الذي يشهد تغيرا ملحوظا ومستمرا في القيم والاعتبارات ، ان اهميته ايضا
لاتتعلق بتقييم من يعتبرون أنفسهم مؤكدي الاسلامية لموضوعات او اعمال تجري خارج
اطاراتهم الخاصة ، فهو أيضا وثيق الصلة بالكثير مما يفعلونه هم انفسهم ، بل وما
يطرحونه من افكار ومن لغة خطاب .
وفي تقديرنا ان الخلاف حول تحديد
الاسلامية ، او صحة اطلاق وصف الاسلامية على الموضوعات الجديدة ـ خصوصا ـ ناشىء عن
تراخي أهمية الجماعة المسلمة الكبرى (الامة) بوصفها مرجع انتماء ومحور التقاء ، في
مقابل ارتفاع اسهم الجماعات الجانبية التي تشكلت في وسط الامة ، واستقطبت ـ
بالتدريج ـ المرجعية والمحورية ، فاصبحت مرجعية الامة عائمة وضبابية بينما ازداد
وضوح وتحديد مرجعية الجماعة الصغرى ، لتصبح هي الاصل ، وهذا يعني انه صار في وسع
الجماعة الصغرى وضع الامة على مائدة التقييم ليجري نقدها اعتمادا على ادوات
الجماعة الصغرى ، الثقافية والسياسية وغيرها ، بعكس المفترض ، حيث يعتبر استمرار
الامة ووحدتها وتقدمها ، ثابتا شرعيا وتاريخيا بالنسبة لابنائها ، مقدما على كل
تفريع اجتماعي او فكري جديد .
ولحسن الحظ فان مرجعية الجماعات الصغرى
، لم تصل الى درجة النظر في اسلامية عامة الامة ، مع ان بعضها قد حكم بالفعل بخروج
جماعات اخرى من الامة عن الدين ، او انحرافها عن خطه المستقيم ، لكن في مثل هذه
الاطارات الانعزالية ، ستجد غالبا ان الفرص مهيأة لولادة دعوات التكفير وامتهان
قيمة الوحدة .
نشر في اليوم 27-9-94
مقالات ذات علاقة
-------------------
التراث
الاسلامي بين البحث العلمي والخطاب الجماهيري