03/10/2018

من القطيعة الى العيش المشترك


حوار الاديان او الحوار بين اتباع الاديان ليس من الشواغل البارزة للناس في هذه الايام. لكن الفكرة بذاتها كامنة في أعماق الغالبية العظمى من جمهور المؤمنين. نعلم طبعا ان بعض المؤمنين يستنكر الفكرة ويرفضها كليا ، لانه يرى في محاورة  الاخرين اقرارا بشرعية دينهم ، وهو ما لا يريده.
لكن هذا خطأ في التقدير. بديهي ان الحوار ينطوي بالضرورة على اقرار بحق الآخر المختلف في الاعتقاد. بديهي أيضا ان الاعتراف بحقوق الناس ، لا يساوي الاقرار بصحة افكارهم او افعالهم.
من يرفض الحوار مع الاديان الاخرى بناء على المبرر المذكور ، يرفض – للسبب ذاته – الحوار مع التيارات والمذاهب التي تشاركه نفس المعتقد ، على الاقل في اركانه الكبرى. ونسمع جميعا بالجدالات المزمنة بين المذاهب الاسلامية ، والجدالات المماثلة بين الكنائس المسيحية. ان كافة الاديان الكبرى منقسمة في داخلها ، تبعا لاختلاف الاجتهادات وتباين التكوينات الاجتماعية. وهذا ينطبق أيضا على المذاهب. فمن النادر ان تجد مذهبا يخلو من انقسامات.
قبل سنوات قليلة شهد العالم الاسلامي دعوات للتقارب بين المذاهب. وعارض فريق منهم هذا التوجه قائلا ان الممكن الوحيد هو التعايش. كنت قد ناقشت هذه المسألة مع المرحوم هاني فحص ، الذي تحل ذكرى رحيله هذه الايام. فاخبرني انه لا يتحدث عن التقارب (بالمعنى النظري المتداول) لانه بلا موضوع. ولا يتحدث عن التعايش ، لانه ينطوي على رسالة سلبية ، فحواها التسالم مع المتاركة. بدلا من ذلك ، يقترح فحص مبدأ العيش المشترك ، الذي يعني الاقرار بوجود مساحة للتعاون في أمور الدنيا. حين تعيش مع بقية خلق الله في بلد واحد او عالم واحد ، فسوف ينشأ بالضرورة مجال مشترك ، يمثل مصلحة لكل الاطراف. ان التعاون على انجاز هذه المصالح ، هو موضوع العيش المشترك. ولا اظن عاقلا ينكر هذه الحقيقة.
استطيع القول ان كل انسان على هذه الارض ، قد اقام في يوم ما مصالح مشتركة ، مع أشخاص من أديان او مذاهب مختلفة عن دينه أو مذهبه. الناس لا يسألون عن دين قائد الطائرة التي تحملهم في الاسفار ، ولا يسألون عن مذهب الطبيب الذي يعالج اطفالهم ، ولا عن البائع في السوبر ماركت الذي يتبضعون منه. كما لا يسألون بطبيعة الحال عن دين او مذهب صانع الاشياء التي يستهلكونها او يستعملونها في اعمالهم ومنازلهم.
ثمة في اعماق النفس الانسانية يقين مستقر ، فحواه ان الحياة لا تسير من دون القبول بهذا المفهوم. ولهذا فان أشد المتعصبين لا يتوانى عن التعامل مع مخالفيه في مثل تلك الامور.
الحقيقة ان كافة الناس يطبقون مبدأ الشراكة في المصالح الدنيوية. لكنهم في الوقت ذاته يتغافلون عن المحتوى الديني للعلاقة التي تقوم في اطاره. لهذا تجد العلاقات بين الناس اعتيادية ، قبل ان تشير الى اي دين او مذهب. فاذا ذكر الدين أو المذهب ، بدأ التعقيد وانفض الجمع بل ربما تحولوا من التعاون الى الخصام.
لدي تفسير لهذا التحول الغريب. ربما اعرضه في وقت آخر. لكني اضع امام القاريء سؤالا بسيطا: لو ارتدى كل منا حجاب الغفلة وفق تعريف جون رولز ، اي تناسى مخاوفه وانتماءه الخاص ، لدقيقة واحدة فقط ، وسأل نفسه: ايهما اقرب الى مراد الخالق سبحانه.. تعاون خلقه وتصافيهم ام تفارقهم وتنازعهم على امور الدنيا؟. وايهما أليق برسالة الدين: المحبة والتراضي بين كافة عباد الله ام الكراهية والخصام؟.  
الشرق الاوسط الأربعاء - 23 محرم 1440 هـ - 03 أكتوبر 2018 مـ رقم العدد [14554]

26/09/2018

أي دور للايمان في عالم اليوم

مركز الملك عبد الله للحوار بين الاديان في العاصمة النمساوية فيينا ، واحد من أهم المبادرات التي أطلقتها السعودية في السنوات الاخيرة  ، في سياق تجسير العلاقة بين اتباع الأديان على المستوى الدولي ، وتعزيز القبول بالتعددية الدينية ، والتصدي للتعصب وتبرير العنف والاضطهاد باسم الدين.

هذه المبادرة تستحق الاشادة. وكذا كل مبادرة هدفها تشجيع مجتمعات العالم ، على التلاقي والتعاون في اعمال الخير التي تعود على البشرية ككل.
خلال النصف الثاني من القرن العشرين ، شهد العالم مبادرات عديدة تتبنى مبدأ الخير المشترك للانسانية ككل. لكنها جميعا تلاشت ، مع انهيار النماذج الايديولوجية ذات الطابع الأممي ، في نهايات القرن. وحين تنامى النقاش حول فكرة "العولمة" في تلك الحقبة ، تخيلها بعضنا بديلا محتملا عن المعتقدات الأممية. لكننا نعلم الآن ان فكرة "العولمة" انصرفت بشكل شبه كلي الى دمج اقتصاديات العالم ، فيما يشبه سوقا كونية واحدة. ولعلها لهذا السبب أو غيره ، أهملت الجوانب التي ليس لها عائد تجاري مباشر. هذا على الأقل ما يبرر – مثلا - تعثر الاتفاقيات الدولية حول البيئة الكونية ، وابرزها اتفاقية باريس للمناخ العالمي سنة 2015.
الاصطفافات الحادة في السياسة المعاصرة ، تكشف ان عالمنا يشهد انبعاثا مستجدا للاتجاهات الانغلاقية والتعصب. من ذلك مثلا ان النفوذ السياسي لاحزاب اليمين المتطرف ، يزداد قوة في جميع الدول الاوربية. هذه الظاهرة تبرر أحيانا بالأزمات الاقتصادية. وربما – لهذا السبب – تعتبر ظرفا مؤقتا. لكننا لا نعرف المدى الزمني الذي يتوجب على العالم ان يتعايش خلاله مع هذه الاتجاهات. ولا نعلم مدى التاثير الذي ستتركه على سياسات بلدانها في المدى المتوسط والطويل.
في ظرف كهذا ، يتوجب على المهتمين بقيمة الخير المشترك للبشرية ، ان يبحثوا عن أي وسيلة تبقي هذه القيمة حية وفاعلة. ان مبادرات مثل الحد من التغير المناخي ، والوقاية من التعصب وتعزيز التفاهم بين الشعوب ، تحتاج بالتاكيد الى دعم حكومي ، حتى تقف على أقدامها. لكن من المستبعد ان تبلغ غاياتها ، من دون المشاركة الفاعلة والمخلصة للمجتمعات المحلية في كل بلد.
في هذه النقطة بالتحديد ، تبرز أهمية الشراكة بين أهل الأديان والقادة الروحيين على امتداد العالم. 
في اعتقادي ان كل واحد من هؤلاء قد واجه في يوم ما ، أسئلة من نوع: اي دور للايمان في عالم اليوم ، وما الذي يمكن للايمان ان يحققه للبشرية ككل ، وهل نستطيع العبور من حدود الشرائع الى فكرة "عباد الله" ، التي تعني كافة الخلق؟.
لازال الايمان عاملا مؤثرا في حياة غالبية سكان المعمورة. دعنا نفترض ان المؤمنين على امتداد العالم ، استوعبوا حقيقة ان تغير المناخ خطر على حياة اجيالهم الآتية. وانهم مطالبون – بمقتضى ايمانهم – بالمشاركة في الحيلولة دون الكارثة الكونية قبل ان تقع ، لا قدر الله. لو حصل هذا فان جميع الناس سيبادرون من تلقاء انفسهم ، كلا في موقعه ، لأداء دوره في درء هذا الخطر.
نفس هذا المثال قابل للتطبيق في قضايا مثل التعصب والانغلاق والصراعات الاهلية ومكافحة الفقر .. الخ.
هذه الأمثلة تكشف حقيقة ان نماذج مثل مركز الملك عبد الله للحوار بين الأديان ، لا ينبغي ان تبقى مقيدة بالاطارات الدبلوماسية وحدودها الضيقة. ثمة حاجة في العالم ، وثمة فرصة  كي يلعب المركز دورا رياديا في جعل الايمان جسرا للسلام والتقدم على المستوى الكوني.
الشرق الاوسط الأربعاء - 16 محرم 1440 هـ - 26 سبتمبر 2018 مـ رقم العدد [14547]

https://aawsat.com/node/1406871

مقالات ذات صلة

عكس العولمة : اليمين يتجه يسارا

على اعتاب الثورة الصناعية الرابعة

عن العولمة والبقالين والحمالين و السمكرية و

نادي الكبار ليس قيادة للعالم

اليوم التالي لزوال الغرب

19/09/2018

قادة الغرب يقولون دمروا الاسلام ابيدوا اهله


  ظهرت الطبعة الاولى من كتاب "قادة الغرب يقولون: دمروا الاسلام ابيدوا اهله" أوائل 1974 حين كانت مشاعر العرب تجيش بالحماس والتفاؤل ، اثر انتصارهم على الجيش الاسرائيلي في حرب رمضان المجيدة. وفي هذه الاجواء الساخنة ، حقق الكتاب انتشارا واسعا بين الشباب المتعطش لكل شيء يساعد في توكيد الذات.
بعد عقدين علمنا ان مؤلف الكتاب لم يكن "جلال العالم" كما يظهر على الغلاف ، بل عبد الودود يوسف. وهو كاتب سوري يرجح انه قتل في 1983. اشتهر الكتاب في النصف الثاني من الثمانينات ، حين وزع مجانا في المكتبات المدرسية والتجمعات الدينية ، واعتبر جزء من الخطاب الديني السائد يومئذ.
يتألف الكتاب من 60 صفحة ، مليئة بأقاصيص تشبه ما يتداول هذه الأيام في مجموعات الواتس أب. فمصادرها غير متخصصة وفقيرة من حيث المستوى العلمي والمنهجية. كما ان المنقول محور على نحو يخرجه تماما من سياقه الاصلي.
بيت القصيد ليس الكتاب نفسه. بل الوظيفة التي شغلها ضمن النسق العام للتوجيه الديني ، خلال العقدين التاليين لحرب اكتوبر 1973. وأخص بالذكر الجانب المتعلق باعادة تشكيل الهوية الدينية/القومية. شهدت هذه الحقبة تحولا عميقا في ذهنية الشباب العربي ، باتجاه نوع من الوعي الجمعي ، يلبس رداء الدين ، ويعبر عن نفسه على نحو شبيه باللغة المألوفة في التراث الديني.
نعرف من تاريخ المجتمعات ، ان جميع تحولاتها الكبرى دفعت الى السطح بسؤال: من نحن؟. وهو سؤال يستدعي بالضرورة تعريف الاخر المختلف ، وتحديد المسافة بين الطرفين ، اي طبيعة العلاقة القائمة بينهما فعليا ، والبدائل المقترحة. وفي هذا السياق فان علاقة المسلمين بالغرب كانت أبرز شواغل المثقفين والدعاة في تلك الحقبة. ونعلم ان الجواب الذي جرى اعتماده هو اعتبار الغرب عدوا تاريخيا على كل المستويات.
كان أبو الحسن الندوي ، وهو منظر بارز لثقافة تلك المرحلة ، قد بدأ بتأييد رؤية محمد اسد ، التي  تقترح الانفتاح على التيارات العلمية في الغرب. لكنه عاد في كتابه "الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية" للتأكيد على انه ليس لدى الغرب ما يستحق العناء. هذا التوجيه الذي عرض بلغة لينة نسبيا ، تراه ايضا عند الشيخ محمد الغزالي وآخرين.
جلال العالم (عبد الودود يوسف)
اما جلال العالم فاختصر الطريق ، مقتصرا على عرض صور مرعبة ، على شكل اقاصيص تجمع المتناقضات. منها مثلا ما ينسبه الى شاهد عيان عن تعذيب عالم دين مسلم ، على يد محقق الماني نازي ، في سجن يديره ضابط يهودي ، في بلد مسلم. ثم يعلق بان حكومة هذا البلد اطلقت يد الضابطين اليهودي والالماني ليفعلا ما يحلو لهما بعلماء المسلمين. الطريف في القصة ، ان اسم العالم المذكور لا يظهر في اي وثيقة تاريخية ، كما ان المؤلف أغفل اسم البلد الذي شهد الحادث. ومثل ذلك بقية القصص التي لا تختلف في السياق والرسالة.
تم تدوير مثل هذه القصص في عشرات المقالات والخطب. وكانت تلقى كحقائق مسلمة ، اعتقد انها ساهمت في صياغة الجواب على سؤال "من نحن" سيما عند الجيل الذي تشكل وعيه في تلك الحقبة.
يظهر لي ان الجيل الجديد يتخلص بالتدريج من هذه الاثقال. لكن المؤكد ان بعضها لازال عالقا في الاذهان. وهو ينبعث من جديد كلما حدثت قضية ذات علاقة ، الأمر الذي يؤكد حقيقة ان السؤال الأصلي ، اي سؤال العلاقة مع العالم ، مازال موضع جدل ولم يحظ بجواب أخير.
الشرق الاوسط الأربعاء - 9 محرم 1440 هـ - 19 سبتمبر 2018 مـ رقم العدد [14540]
https://aawsat.com/node/1399976

مقالات مماثلة

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...