08/11/2017

قصة "كائنا من كان"



معظم الاخبار تثير التشاؤم. لكن اصدقاء كثيرين اخبروني انهم سهروا طيلة ليل الاحد الماضي "لأن الأخبار السارة تحلو طازجة". مساء الرابع من نوفمبر2017 لم يكن اعتياديا في المملكة. القرارت الملكية الخاصة بمكافحة الفساد ، اطاحت بالسد العالي الذي ظننا ان بلوغه مستحيل. دعنا نعود قليلا الى الوراء ، الى العام 2011 حين أعلن المرحوم الملك عبد الله عن تأسيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد "نزاهة". يومها قال الملك ان الهيئة ستراجع شبهات الفساد في كل القطاعات الحكومية ، ولن تستثني من ذلك احدا "كائنا من كان".
يعرف السعوديون "كائنا من كان" ويعرفون ان الامساك به ليس سهلا كالحديث عنه. لكن السعوديين متفائلون بطبعهم ، ولذا ظنوا ان الأمر لم يعد في عداد المستحيلات.

في العام 2013 رافقت عددا من رجالات البلد الى اجتماع برئيس "نزاهة" الاستاذ محمد الشريف ، غرضه البحث في دعم المجتمع لجهود الهيئة. وجدت الشريف متفائلا ومشجعا ، وطرح العديد من الافكار القيمة. لكن رفاقي شعروا في نهاية الاجتماع ان "كائنا من كان" لا زال بعيد المنال. وتساءلنا: هل يمكن تنظيف السلم من أسفله؟.
مرت الأيام ، وبدأنا نرى ما يشير الى ان "كائنا من كان" لم يعد محميا بشكل مطلق. لكن الاشارات تبقى اشارات ، تخبرك عن اتجاه الطريق ولا تذهب اليه. ليلة الرابع من نوفمبر علمنا ان "كائنا من كان" بات خبرا. تذكرت وقتها قصة الاسكندر المقدوني ، الذي طلب من مساعديه تفكيك العقد الكثيرة في حمائل سيفه. فقضوا ساعات يحاولون من دون نتيجة. عندها أخذ الاسكندر خنجرا وضرب العقدة ، فشقها وانهى المهمة التي أعجزت الآخرين.
لم تكن المهمة اذن مستحيلة كما ظننا. لكنها – على أي حال – احتاجت الى مبادرة من فوق. وهذا ما حصل في تلك الليلة التي لن تنسى.
حسنا.. لقد بدانا في المسار الصحيح ، اي تنظيف السلم من فوق. لكن الفساد ليس حالة ساكنة ولا حدثا معزولا. نعرف من الابحاث ومن التجربة الفعلية في بلادنا وغيرها ، ان الفساد لا ينتهي بقرار ، وان الفاسدين لن يموتوا فجأة. ولهذا فالقوانين والاجراءات والمؤسسات التي تستهدف الفساد لا تدعي انها ستنهيه تماما. بل تركز على تضييق سبله وجعله مكلفا جدا لأصحابه ، كما تسعى لاشراك المجتمع في الحرب عليه.
المنظور الحديث لمكافحة الفساد جزء من مفهوم "الحكم الرشيد" الذي يهتم بالاجراءات المعيقة للفساد ، وليس الوعظ والتوجيه. وتندرج هذه الاجراءات تحت العناوين التالية:
1-     الحاكمية المطلقة للقانون ، حيث لا يمكن لموظف رسمي ان يفعل شيئا دون الاستناد لقانون معلن. وحيث يتساوى الناس جميعا في الخضوع لنفس القانون. إضافة الى الحماية القانونية للموظفين والاشخاص الذين يأبون المشاركة فيما يظنونه فسادا او يكشفون عن شبهات الفساد.
2-     الشفافية ، حيث يجب السماح دائما بالاطلاع على البيانات الخاصة بالتعاملات الرسمية لفحص احتمالات الفساد.
3-     اعتبار الفساد جريمة شخصية ومحاسبة كل موظف للتستر او الاهمال المؤدي للفساد.
4-     مشاركة المجتمع ولاسيما الصحافة في مراجعة التعاملات التي تجريها الهيئات الرسمية ، وحمايتها من المساءلة او الايذاء او التمييز السلبي حين تكشف عن شبهات الفساد.
زبدة القول اننا نسير الآن في الطريق الصحيح. لكن مكافحة الفساد ليست مهمة مقطوعة ، بل عمل متواصل ، يتوقف انجازه على ترسيخ القواعد القانونية والمؤسسية التي تجعل الطريق اليه ضيقا ومكلفا ومكشوفا أمام الجميع.
الشرق الاوسط الأربعاء - 19 صفر 1439 هـ - 08 نوفمبر 2017 مـ رقم العدد [14225]

مقالات ذات علاقة


01/11/2017

حين تكره الدنيا: طريق البشر من الخرافة الى العلم


|| تاريخ التقدم الانساني هو مسار الخلاص من الخرافة ، ونفي الحتميات الموهومة والمسلمات الجامدة ، وتكريس حاكمية العقل وفوقية العلم ، انه قصة الانتقال من رهبة الطبيعة الى استثمارها والتحكم فيها.||

اراد القاضي البريطاني دينيس لويد (1915-1992) تقديم شرح موجز لتطور القانون. لكن كتابه القيم "فكرة القانون" قدم ما هو أكثر من ذلك. فقد فسر بذكاء العامل المشترك في كل تقرير تاريخي عن المعرفة والانسان ، اعني به: تراجع الاسطورة وتقدم العلم.

في كل خطوة على طريق التاريخ الطويل ، يظهر واضحا ان تحرر الانسان ارتبط بازدهار الاتجاهات العقلية. يتسع دور العقل فيتطور العلم ، فيزداد فهم البشر للطبيعة ، فترتفع قدرتهم على استثمارها ، فيتقدمون ماديا ، فتبرز انعكاسات التقدم المادي على علاقة الناس ببعضهم ، فيعودون الى ذات المعايير العقلية ليضعوا قواعد اكثر تقدما للعلاقة فيما بينهم. وهكذا يتطور المجتمع ماديا واخلاقيا ، ويتسع فهم الانسان لنفسه وعالمه الكبير.

ولفت انتباهي في دراسة لويد اشارته الى دور الرسالات السماوية في اغناء هذا المفهوم ، واسهامها – من خلاله - في تفكيك الاساطير الخاصة بالكون وعلاقة الانسان بالطبيعة.

المسألة على النحو التالي: في قديم الزمان ظن البشر ان الاعاصير والعواصف والسيول وبقية الظواهر الطبيعية المخيفة ، علامات على غضب الآلهة التي تتحكم فيها. اذا غضب اله النار حرك البراكين الخامدة ، واذا نازعه اله المطر حرك السيول الجارفة. لم يجد البشر الضعفاء حيلة للنجاة من غضب الالهة المزعومة ، سوى منحها القرابين والاعطيات. ويحكي القرآن الكريم قصة النبي يونس ، الذي القى به ركاب السفينة قربانا لإله البحر الغاضب ، كي لا يغرق سفينتهم.

زبدة القول ان القلق على الوجود شكل المؤثر الابرز في حياة الانسان القديم. ونعلم ان الانسان القلق على وجوده لا يفكر في شيء سوى النجاة بنفسه.

ركزت رسالات السماء على ان الكون يعمل وفق نظام دقيق ، منطقي وقابل للادراك ، كما ركزت على وحدانية الله ، خالق الكون الرحيم الذي لا يعبث ولا ينتقم من خلقه. مع هذا الفهم الجديد اضافة الى مجموعة الشرائع والقيم الاخلاقية ، تخلص الانسان من قلق الفناء والخوف من طغيان الطبيعة وآلهتها المزعومة ، وبدأيفكر في السيطرة عليها واستثمارها. ومن هذه النقطة بالتحديد تحرك قطار العلم والتقدم في مختلف الاتجاهات.

تاريخ التقدم الانساني إذن هو تاريخ الخلاص من الخرافة ، ونفي الحتميات الموهومة والمسلمات الجامدة ، وتكريس حاكمية العقل وفوقية العلم ، انه قصة الانتقال من رهبة الطبيعة الى استثمارها والتحكم فيها.

لا يخلو العالم من بواعث القلق ، ولن يستريح الانسان من التوتر. لكن الفارق بعيد وجذري بين قلق سببه العجز ازاء الطبيعة القاهرة ، وقلق منشؤه تمرد الانسان على واقعه ، وسعيه للتحكم في حياته وعالمه. القلق الاول يحيل الانسان الى الهروب نحو الوراء ، اي الخرافة وتغييب العقل ، بينما يحيله القلق الثاني للهروب نحو الامام ، اي الهجوم على المشكلة والبحث في عقله وعالمه عن حلها.

مثل بقية الاديان السماوية ، اراد الاسلام تفكيك الخرافة وعقلنة الفهم البشري للعالم ، وأكد على استثمار الطبيعة. لكن – لسبب ما – فان المسلمين قرروا في ازمان الانحطاط ، ان الطبيعة والدنيا كلها لا تستحق العناء. قرر جمهورهم ان الحياة الدنيا ظرف مؤقت ومهلة قصيرة في انتظار الحياة الاخرة. لم يعد المسلم قلقا من بؤس الحياة وتخلفها ، وهو لا يرى نفسه شريكا في بناء حضارة العالم. فكل همه هو النجاة من النار في الحياة التالية.

ترى.. هل يمكن للاسلام ان يسهم في تقدم الدنيا ، واتباعه منصرفون عنها ، مشغولون بما بعدها؟.

 الشرق الاوسط الأربعاء - 12 صفر 1439 هـ - 01 نوفمبر 2017 مـ رقم العدد [14218]

http://aawsat.com/node/1069596

25/10/2017

الخلاص هنا والخلاص هناك


في 2005حلت الذكرى المئوية لصدور كتاب ماكس فيبر "الاخلاق البروتستانتية". ولهذه المناسبة ، كتب المفكر الامريكي فرانسيس فوكاياما ان ذلك الكتاب جعل كارل ماركس يقف على رأسه غضبا. نعلم طبعا ان ماركس لم يكن حيا يومها كي يقف على رأسه. لكن طروحات فيبر  كانت نقيضة لموقفه من الدين ، سيما مقولته الشهيرة "الدين أفيون الشعوب" وقد خدمت الاتجاه المتشكك في الفلسفة الماركسية بمجملها.
جادل ماركس بان غرض الاديان هو تبرير الوضع الراهن للطبقات الدنيا التي هي – في الوقت نفسه - أكثر الطبقات تدينا. ومن هنا فهو يخدم الاثرياء والنافذين ، الذين يضاعفون قوتهم وثرواتهم ، باستغلال جهل الفقراء وقناعتهم بما هم فيه. 
 خلافا لهذا فقد ميز فيبر بين رؤيتين للعالم ، رؤية انسحابية تميل الى تضخيم قيمة الحياة الآخرة وانكار قيمة الحياة الدنيا ، وأخرى تعتبر الآخرة امتدادا للدنيا: من ينجح هنا يفوز هناك ، ومن يفشل هنا يخسر هناك. اطلق فيبر على الرؤية الأولى اسم "النمط الكاثوليكي" ، بينما رأى الثانية متجسدة في العقيدة البروتستنتية، سيما في النسخة المنسوبة للقسيس الاصلاحي جون كالفين.
 جوهر المسألة الدينية في راي فيير هو "الخلاص". الأكثرية الساحقة من المؤمنين ، ان لم نقل جميعهم ، يؤمنون لأنهم يريدون الفوز بالجنة والخلاص من النار. في "النمط الكاثوليكي" بحسب رؤية فيبر ، يتحرك المؤمن بين الخطيئة والندم على ارتكابها ، ثم التوبة منها ، ثم الاعتقاد بنيل الغفران ، ثم تكرار الخطيئة وهكذا. من شأن هذا المسار ان يشحن الانسان بقلق دائم على مصيره. وحين يسائل نفسه عن سبب ارتكابه للاثم ، يخبره التراث المقدس انه الاغترار بالمال وزينة الدنيا او السعي للقوة والنفوذ. وهي من العناصر الرئيسية المحركة لحياة البشر. وهنا تتحول الدنيا  في ذهنه الى رمز للفساد والانحطاط الاخلاقي ، ويظهر الساعون للتفوق فيها كمن يسعى وراء السراب في صحراء لا متناهية.
تقدم البروتستنتية الكالفينية – في المقابل – تصويرا مختلفا ، يربط الخلاص في الآخرة بالنجاح الدنيوي. من أراد الجنة فعليه ان يستحقها بالنجاح في دنياه. من يتعلمون كي يتقنوا عملهم ، ومن يتعلمون كي يكسبوا المال ، يسهمون مباشرة في الارتقاء بمستوى حياة المجتمع ككل. العلماء والباحثون يعلمون الناس كيف يستثمرون الطبيعة التي سخرها الله لهم. والاثرياء يستثمرون أموالهم فيولدون وظائف جديدة تنقذ الناس من ذل الفاقة. اولئك وهؤلاء يسعون لمنفعتهم الخاصة ، لكنهم أيضا يجعلون حياة خلق الله أيسر واكثر نفعا لبعضهم البعض.  العمل في رأي كالفين عبادة ، ولو كان هدفه جمع المال. واتقان العمل سبب لمرضاة الله ، وانتفاع الاخرين بنتائج العمل وسيلة لضمان الجنة.
يعتقد فيبر ان المباديء البروتستنتية لعبت دورا هاما في تعزيز الراسمالية والنمو الاقتصادي. وقد رحب كثيرون بهذا الاستنتاج. لكن باحثين آخرين عارضوه بشدة. ما هو مهم في المسألة – وهذا أيضا رأي فوكوياما – ليس تصوير فيبر للفارق بين نموذجي الايمان ، بل تسليطه الضوء على دور الثقافة الدينية الشعبية في تعزيز العقلانية الجمعية وتمهيد طريق التقدم ، او العكس ، أي ترسيخ صورة اسطورية للعالم ، تحيل قضاياه جميعا الى الاخرة وتضع المؤمن في موقف المنفعل القلق على مصيره.
اظن ان هذا التصوير الفيبري صالح للتطبيق على كل النماذج الدينية. فهو يقدم جوابا مبدئيا على السؤال الأزلي: هل نؤمن بالدين كي نحضى بحياة كريمة ، ام لمجرد الحصول على حياة أفضل بعد الموت. 
الشرق الاوسط الأربعاء - 5 صفر 1439 هـ - 25 أكتوبر 2017 مـ رقم العدد [14211]
http://aawsat.com/node/1062506

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...