لابد
ان كثيرا من الناس يشاركونني
الاعجاب بالاراء الجديدة والمثيرة للاهتمام التي
عبر عنها الشيخ سلمان العودة في برنامجه
الاسبوعي الذي
يبث ظهر الجمعة على قناة «ام.
بي. سي.».
هناك بالطبع من يرفض
هذه الاراء وربما يشتم
الشيخ بسببها، وهذه فئة لا تقدر على
استيعاب أي جديد او التعامل مع أي
تطور في الافكار
او في الواقع،
فهي ملتصقة
بقديمها ولو تخلى عنه كافة العقلاء واهل العلم. هناك
ايضا من يرفضها لانها في
نظره، «اقل
من المطلوب»،
لكننا نقدرها كآراء في غاية
الاهمية، بالنظر الى موقع
المتحدث والطبيعة الاشكالية للموضوع، فضلا
عن التوجهات السائدة في الاطار
الاجتماعي الذي
يمثله الشيخ ويخاطبه في المقام
الاول.
والعودة
فقيه ذو شعبية معتبرة في المملكة
العربية السعودية، وقد
ظهر تطور واضح في منهجه
خلال السنوات الاخيرة. حافظ
الرجل على المقولات الاساسية المتعارفة في اطار
التدين التقليدي، لكنه
عدل كثيرا من تطبيقاتها، ولا
سيما تلك التي لها علاقة مباشرة
بالموقف من منظومات القيم الحديثة والعلاقة بين الدين والسياسة.
وهذه التعديلات تكفي لاعتبار
آرائه متميزة، وان لم تصل الى مستوى
التبني الكامل لفكر الاصلاح
الديني المعاصر.
اريد الاشارة خاصة الى آرائه
الجديدة حول «الشيعة» والتي
تعد استثنائية في اهميتها،
سواء بالقياس الى ارائه السابقة المتحفظة او بالقياس الى
الاراء المتشددة لبقية المشايخ الذين يشتركون
معه في المنهج والبيئة
الاجتماعية. ما
يهمني في
حقيقة الامر نقطتان تشكلان كما اظن ارضية للتفاهم بين
التكوينات المذهبية والاجتماعية المختلفة في المجتمع
السعودي.
تتعلق النقطة الاولى بدعوة
الشيخ العودة الى جعل الوطن والمواطنة وليس الانتماء المذهبي
- اساسا للعلاقة بين السعوديين.
هذه الفكرة وان بدت بديهية
للكثير من الناس، لكنها
ليست كذلك بالنسبة للفقهاء والتيار الديني «ولا
سيما التقليدي منه».
فباستثناء الاقلية التي
قبلت بالعقل مصدرا مستقلا للتشريع،
واعتبرت المصلحة العامة «العرفية»
لجمهور المسلمين معيارا للمفاضلة بين الاحكام،
فان الاغلبية الساحقة من الفقهاء، من
السنة والشيعة، لا ترى في
المواطنة قيمة مستقلة او حاكمة على العلاقة بين ابناء
البلد الواحد، فالناس عندهم
يتفاضلون بحسب ايمانهم، وكل
منهم يفسر التقوى في
معنى الالتزام بالمذهب الفقهي او
الكلامي الذي
ينتمي اليه
«باعتباره حقا والحق احق ان يتبع».
وثمة
تنظيرات فقهية مطولة تستهدف في مجموعها
التأكيد على فكرة عدم المساواة بين الناس. وقبل
بضعة اشهر اثار احد القضاة جدلا لم ينته
حتى اليوم، حين مدد هذا المفهوم
الى النسب وقرر ان التكافؤ فيه شرط للمساواة بين الناس، وحكم
بالتفريق بين زوجين بالرغم منهما لان الزوجة تنتمي الى
قبيلة اعلى نسبا وارفع شأنا من قبيلة زوجها.
نفهم بطبيعة الحال ان هذه التنظيرات تنطوي على
تعسف شديد في استعمال النصوص
والقواعد الفقهية، وهي
لا تصلح كأساس للعلاقة بين الناس في
المجتمعات السياسية الحديثة.
تقوم الدول الحديثة على
قاعدة المساواة الكاملة بين ابناء الوطن الواحد بغض النظر عن دينهم او مذهبهم او
التزاماتهم الاخلاقية. وارضية
هذه المساواة هي الشراكة في
التراب الوطني وليس
الاشتراك في الدين او المذهب او
الولاء السياسي.
تحدث الشيخ العودة ايضا عن
نقطة اخرى لا تقل اهمية عن سابقتها وان كانت تقوم على قاعدة نظرية اخرى،
وهي ربط
تطبيق الاحكام بالمصالح العقلائية. وقد
استدل الشيخ بالسيرة النبوية في التعامل
مع اهل مكة عند الفتح، وبسيرة
قدامى المسلمين مع من يعيش
معهم من اتباع الديانات الاخرى، ليخلص
الى مقولة فحواها ان علاقة المسلمين من اتباع المذاهب المختلفة مع بعضهم البعض،
وعلاقتهم مع غيرهم
لا تبنى على الخلاف او الوفاق في العقائد
والاراء بل على اساس المصالح العقلائية. فمع
الاقرار بوجود الخلاف المذهبي بين
الشيعة والسنة، او بين المسلمين وغير
المسلمين، الا ان العلاقة بينهم
لا تقوم على التقارب او التباعد في هذا
الاطار، بل على المصالح العامة
والضرورات العقلائية.
هذه الاراء الجديدة للشيخ
العودة تمثل في ظني
نقلة هامة وسيكون لها اثر ملحوظ في
تحسين المزاج الاجتماعي، خاصة
فيما يتصل باعادة تكوين الاجماع
الوطني الذي
تضرر كثيرا في السنوات
الاخيرة بسبب هيمنة الجدل المذهبي على
ساحة السياسة، وتحول الفروقات
المذهبية الى مبررات للتمايز السياسي والاجتماعي.
اتمنى ان
يواصل الشيخ العودة طرح مثل هذه الافكار التي
تعزز سلامة المجتمع وأمنه، كما
تقطع الطريق على تجار الجدل والوصوليين الذين وجدوا في خلافات
اهل المذاهب سلما يتسلقون
عليه الى المراتب والمناصب والمال والشهرة.
صحيفة
الأيام البحرينية 14 / 11 / 2006م