‏إظهار الرسائل ذات التسميات ايزايا برلين. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات ايزايا برلين. إظهار كافة الرسائل

07/06/2010

معنى ان تكون حرا ، اراء قديمة وجديدة


في ماضي الزمان تحدث الفلاسفة عن الحرية في معنى الانعتاق والتحرر من الميول النفسية والشهوات، او ما يسمى بالنفس السفلى، وصولا الى السيطرة التامة للعقل على حركة الانسان وافعاله. هذا النوع من التحرر او الانعتاق، لا يناله غير قليل من الناس. وتسبقه رياضة ذهنية وروحية غرضها تمكين النفس العليا، او العقل، من تكييف نوازع الانسان الداخلية ومراداته وطريقة عيشه حتى تنسجم تماما مع قواعد الاخلاق، وتجسد طبيعة الانسان النقية. يركز هذا المفهوم على سبل لتطور الروحي والمعنوي للانسان، وليس الظرف الاجتماعي او القانوني الذي يعيش الانسان في اطاره.

التفكير في الحرية يتناول في العادة علاقة بين ثلاثة عناصر: أ) الفرد، ب) شيء يريده الفرد، ج) عامل خارجي (او داخلي) يمنع التقاء الاثنين او يسمح به. ويتركز الجدل في الغالب حول العنصر الثالث، اي العامل الخارجي (او الداخلي). حين يقول الفرد بانه حر او غير حر، فانه يشير الى ان العوامل الخارجية تسمح بتحقيق ارادته او تعيقها. لكنه ايضا قد يصف مشاعره الداخلية في لحظة محددة، فهو يقول انه حر او غير حر، بمعنى ان رغباته متدفقة وقابلة للتحقيق، او انها مكبوتة او مقيدة. الحرية هنا وصف للذات، بينما هي في الحالة الاولى وصف للعلاقة بين الذات والخارج. او وصف للواقع الخارجي فقط. حول كل من العناصر الثلاثة دارت نقاشات كثيرة جعلت موضوع الحرية واحدا من اغنى حقول المعرفة الانسانية، وهي لاتزال – وربما ستبقى – جذابة للمزيد من الباحثين والنقاشات. وحسب ايزايا برلين الذي تحدث في خمسينات القرن الماضي فقد سجل تاريخ المعرفة نحو 200 معنى للحرية اقترحها باحثون في حقب التاريخ المختلفة، تدل بالتاكيد على اهمية موقع الحرية ضمن تطلعات الانسان والمسار التاريخي للانسانية ككل.

اقترح كارل دوتش تعريفا موسعا لمفهوم الحرية ينطلق من مقارنة بين وضع الانسان في حالات مختلفة، يمثل كل منها فرصة او قيدا، وينتهي بمساواة مفهوم الحرية مع توفر خيارات متنوعة قابلة للتحويل الى افعال. الحرية في هذا التعريف هي "شريحة الخيارات الفعالة المتاحة لفرد او جماعة من الافراد. قدرة الجماعة على اختيار الافعال او السياسات يمكن ان تترجم  عند الممارسة الى خيارات غير مباشرة للافراد". ينظر هذا التعريف الى اربعة ابعاد او شروط مسبقة :

1-       غياب المعوقات التي تقيد حركة الفرد.
2-       توفر الفرص الفعلية التي يجسد الفرد من خلال استثمارها ارادته ورغباته وطريقة العيش التي يطمح اليها.
      3-       قابلية الفرد الذاتية ، البدنية او الروحية او الذهنية، لفعل ما يريد.
      4-       وعي الفرد بالمحيط الذي يتعامل معه، بما فيها وعيه بحقوقه والفرص المتاحة له، وقدراته الشخصية.

تلخص هذه الابعاد معظم الاشكالات التي تعرضت لها التعريفات المختلفة للحرية. لكنها تكشف ايضا عن اشكالية هامة مصدرها هو التعارض المحتمل بين ما يريده الانسان وبين الوسائل المتاحة لتحقيق هذه الارادة. ينتمي بعض تلك التعارضات الى المجال السياسي كما في البعدين الاول والثاني، بينما تنتمي التعارضات في البعدين الثالث والرابع الى المجال النفسي والثقافي.

الجدل المعاصر حول مفهوم الحرية يدور في معظمه حول العوائق الخارجية. اي ضمن الدوائر الثلاث الاولى. الفرضية هنا ان الانسان له حق في اي يفعل شيئا، او انه يريد ان يفعل شيئا، لكن ثمة عائق خارجي يمنعه من انفاذ ارادته. هذا العائق قد يكون طبيعيا او ذاتيا مرتبطا بالفرد نفسه. وهذه ليست موضوعا للنقاش ، ولا تعتبر من نوع تقييد الحرية. بخلاف النوع الاخير من العوائق، اي تلك التي تتعلق خصوصا بذات الانسان (مثل الجهل والمرض) او بالامكانات المتوفرة في البيئة المحيطة (مثل الخدمات العامة الضرورية لتسهيل الحياة) ، والتي كانت موضوعا لنقاشات المفكرين الاشتراكيين الذين اعتقدوا ان اقرار القانون بحرية الافراد لا يجدي نفعا طالما لم يستطع الانسان استثمارها بسبب قصور ذاتي او بيئي. خلافا لهذا الاتجاه ركزت نقاشات الفلاسفة الليبراليين على العوامل الخارجية التي تقيد ارادة الفرد ، وبصورة محددة :

 أ) التدخل الاعتباطي من جانب الاخرين حين يريد الفرد التمتع بما يعتبره حقا له .
ب) تضييق الخيارات المتاحة للفرد بحيث لا يبقى امامه سوى سبيل واحد للتصرف او العمل او التفكير او التعبير عن الافكار.

عكاظ 7 يونيو 2010
  https://www.okaz.com.sa/article/336730

مقالات ذات علاقة 
ايزايا برلين

15/01/2009

الحرية وحدودها القانونية


نشر في نشرة مساواة – يناير 2009

شغل تعريف مفهوم "الحرية" جانبا عظيما من اهتمام الباحثين في علم السياسة . ولعل اكثرها انتشارا هو تعريف توماس هوبز الذي يقرن الحرية بعدم التدخل . فقد رأى هوبز واتباعه ان جميع القوانين تمثل قيودا على حرية الفرد . فالقانون بطبيعته اما محدد لحركة الانسان بمعنى انه يفرض عليه السير في طريق معين ، او كابح له من السير بحسب رغبته وارادته الخاصة[1]. ومال الى نفس الفكرة الفيلسوف الانجليزي جيريمي بنثام في القرن التاسع عشر فقرر ان كل حرية تعطى لفرد تنطوي ضرورة على تقييد لحرية غيره ، حتى القانون الذي تسنه الحكومة لحماية ملكي هو قيد عليك كما ان القانون الذي يحميك هو قيد علي ، بل ان القانون الذي تسنه الحكومة لحماية حريتي هو بشكل او بآخر قيد علي لما ينطوي فيه من الزامات ذاتية او متقابلة [2]. خلاصة هذه الرؤية اذن ان الحرية الحقيقية تكمن في صمت القانون.

اما جان جاك روسو فقد قرر ان جميع الناس يولدون احرارا متساوين ، لكن على الانسان ان يتخلى عن حريته الطبيعية لصالح الحرية المدنية . حرية الانسان في الحالة الطبيعية تكمن في قوته الجسدية التي تمكنه من فعل ما يشاء ، والاكثر حرية هو الاكثر قوة والعكس بالعكس . اما في المجتمع المدني فان حقوق الانسان وحريته محمية بالقانون والسلطة التي تنفذه نيابة عن المجموع . بعبارة اخرى فان ما يخسره الفرد حين ينضم الى المجتمع المدني هو حريته في استعمال قوته الجسدية لممارسة حرياته الاخرى ، وما يربحه هو اعتراف المجتمع بحريته المدنية وملكية ما يحوزه باعتبارها حقوقا ثابتة لا تحتاج الى قوة فردية تحميها. وحسب روسو فانه لا فرق بين الحريتين الطبيعية والمدنية من حيث الجوهر والمحتوى، انما  تختلفان في الارضية التي تقوم عليها والحدود النهائية لكل منهما . من هنا قد يمكن القول ان الحرية المدنية هي ذاتها الحرية الطبيعية لكن مع تاطيرها وتحديدها بالارادة العامة المتمثلة في القانون.

يقوم هذا المفهوم على التمييز بين الحرية والقدرة . "انا قادر على" هي شيء مختلف عن " انا حر في". يستطيع الانسان فعل ما يشاء حين تغيب الموانع التي تحول بينه وبين مقصوده او تزاحم فعله فيه . وما دام الفرد يعيش مع الاخرين فان تلك الموانع حاضرة ، ان الظرف الوحيد الذي تغيب فيه الموانع والمزاحمات للحرية الفردية تماما هو ظرف العزلة ، اي حين يعيش الفرد وحيدا وبعيدا عن اي فرد آخر ، لان مفهوم الحرية لا يكون له موضوع الا حين يوجد آخرون تتزاحم اراداتهم مع ارادات الفرد .

نستطيع اذن التمييز بين حرية خارج المجتمع المدني وحرية في المجتمع المدني ، او حرية طبيعية وحرية مدنية ، وابرز سمات الاخيرة هي كونها مضمونة ومحمية بالقانون الذي يمثل اجماع الجماعة وارادتهم العامة حسب تفسير جون لوك.

ترى .. هل يعني هذا ان القانون هو الذي يمنح الحرية ؟. اذا كان الامر كذلك فان القانون (اي ارادة الجماعة) اعلى من الحرية الفردية ؟.
اشرنا سابقا الى تقسيم الفلاسفة للحقوق الفردية الى صنفين : صنف ثابت للانسان بالولادة وهو ما يسمى الحقوق الطبيعية ، وصنف يثبت له بمقتضى العقد الاجتماعي ، اي كونه عضوا في المجتمع المدني . مرجع الصنف الاول هو قانون الفطرة وهو اعلى من كل قانون يضعه البشر ، بل هو مرجع كل قانون بشري وحاكم عليه . الحقوق الطبيعية - تبعا لهذا المبدأ - فوق القوانين الوضعية وحاكمة عليها ، بمعنى انه لا يجوز للمجتمع او الدولة اصدار قانون يخرق حقوق الافراد الطبيعية لانها جزء من جوهر انسانيتهم وضرورة لها . ولعل ابرز ما يدخل في تلك الحقوق هو حق الحياة ، اذ يحق لكل فرد فعل ما شاء للمحافظة على حياته ، بما فيها الهرب حين يحكم عليه القاضي العادل بالموت . ومنها المساواة مع الغير ، ويدخل فيها ايضا الحريات المرتبطة بالضمير مثل حرية الاعتقاد والدين ، وحرية التفكير والتعبير ، والحرية في اختيار نمط المعيشة واساليب العيش . كما يدخل فيها حق الملكية واستثمار الجهد الشخصي.

اما الصنف الثاني فيطلق عليه اسم الحقوق الدستورية او التعاقدية ، وهي حقوق يحددها القانون وترتبط بالوصف القانوني للفرد ، اي كونه مواطنا او عضوا في مجتمع مدني . من هذه الزاوية فان الصنف الاول سابق للقانون وحاكم عليه ، اما الصنف الثاني فهو تابع للقانون وخاضع له . وابرز ما يدخل ضمن هذا الصنف هو حق المشاركة المتساوية في الشؤون العامة للجماعة ، بما فيها حق الوصول الى المناصب العامة وانتخاب الغير لها . ومنها ايضا حق الاستفادة المتساوية من الموارد العامة المادية وغير المادية الخ . ويعتبر اعلان حقوق الانسان والمواطن الذي اصدره برلمان الثورة الفرنسية (1791) من بين الوثائق المبكرة التي حددت العلاقة بين الحقوق الطبيعية والدستورية التي يتمتع بها الفرد ، فقد اكد هذا الاعلان على تمايز النوعين لكنه اعتبر الحقوق الطبيعية ارضية واساسا للحقوق الدستورية للمواطنين ، واكد على الارتباط العضوي بين انسانية الفرد وتمتعه بالحقوق الطبيعية التي تشمل "حقه في الحرية ، الملكية ، الامان ، ومقاومة الظلم" ، انها حق له حيثما كان وفي اي ظرف عاش ، وليس للفرد التخلي عنها وليس لاحد حرمانه منها لان "الناس يولدون احرارا متساوين"[3]

من العسير في حقيقة الامر وضع خط فاصل يحدد بدقة اين تبدأ واين تنتهي الحقوق المنطوية في كل من الصنفين . ولعل اكثر صيغ التمييز بين الصنفين شهرة هي تلك التي توصل اليها ايزايا برلين في كتابه المعروف "مفهومان للحرية"[4] ، والذي يصف فيه النوع الاول كحريات سلبية والثاني كحريات ايجابية . طبقا لهذه الرؤية فان الحرية السلبية تساوي عدم التدخل من جانب الغير ، اي "الحرية من.." ، او المساحة التي يستطيع فيها شخص او جماعة ان يفعلوا ما يريدون دون تدخل من اي شخص اخر. بينما تساوي الحرية في معناها الايجابي القدرة على فعل شيء يتطلب مباشرة او مداورة موافقة الغير ، اي "الحرية في .." وينطوي هذا المعنى في جواب سؤال : من هو او ما هي الجهة التي يمكن ان تقرر ماذا يفعل شخص ما او كيف يكون على هذا النحو وليس سواه . اذا منعت من جانب الاخرين من فعل ما اشاء فاني الى ذلك القدر غير حر. واذا كانت المساحة التي استطيع التصرف فيها بحرية محددة من قبل اخرين فانه يمكن وصفي حينئذ بالمقهور coerced او يمكن ان اكون مستعبدا. القهر هو التدخل العمدي من جانب الافراد الاخرين في المساحة التي اريد ان اعمل فيها . انت محروم من حريتك فقط حين تمنع من الوصول الى غاياتك من جانب الغير. وليس مجرد العجز عن الوصول الى الغايات لاسباب تتعلق بعدم كفاية الانسان نفسه مثلا او لظروف طبيعية . بطبيعة الحال لا يمكن تصور هذه الحرية من دون حدود ، لان الحرية المطلقة تعني ايضا حرية الانسان في ان يخترق مساحات الاخرين ، وربما تقود الى فوضى اجتماعية ، تضيع معها فائدة الحرية ، ويستأثر بها الاقوياء على حساب الضعفاء[5]. المبرر الوحيد لهذا التقييد هو العدالة ، فالبديهي ان الحرية حق متساو لجميع الافراد ، وتقتضي العدالة ان يتمتع كل فرد بنفس القدر الذي يتمتع به غيره ، وهذا يؤدي بالضرورة الى تقييده.



[1] Pettit, Philip, Republicanism: A Theory of Freedom and Government, (Oxford, 1997), p. 41
[2] Pettit, Philip, ibid., p. 45
[3]  Macdonald,  M.,  “Natural Rights”, in Laslett, Peter (ed.),  Philosophy, Politics and Society, Basil Blackwell, 1970 , p. 40
[4] Berlin, Isaiah, Two Concepts of Liberty, Clarendon Press, 1958

13/08/2007

الحرية التي يحميها القانون والحرية التي يحددها القانون

يقال احيانا ان اعظم الافكار قد يكون اكثرها بساطة اذا قيل في الوقت المناسب. والوقت المناسب هو الظرف الذي يحتاج الناس فيه الى جواب عن سؤال محدد او حل لاشكالية محددة. واظن ان مفهوم الحرية الذي عرضه ايزايا برلين في منتصف الخمسينات من القرن العشرين ، هو واحد من هذا النوع من الافكار التي قدمت اجابة بسيطة عن سؤال اكثر بساطة ، لكنها حظيت باستقبال حافل بين اهل الفكر والسياسة على السواء.

 هتلر يخطب في حشد ضخم في 1933 

لا بد ان جميع القراء قد سمعوا بالعبارة التي يكثر تردادها، وفحواها انه لا توجد حرية مطلقة، وانه لا بد من تقييد الحريات الفردية بالقانون او الاخلاق.. الخ. هذه الفكرة بذاتها كانت موضع انشغال الناس في اوربا في السنوات القليلة التي تلت الحرب العالمية الثانية. قبل الحرب مال معظم مثقفي اوربا الى نموذج الدولة الليبرالية الكلاسيكية، التي لا تتدخل في حياة الناس ولا في السوق الا في اضيق الحدود. لكن هذه الفكرة تراجعت بعد الحرب الى حد كبير بالنظر الى عاملين:

 اولهما الدمار الهائل الذي شهدته مختلف البلدان، مما استوجب جهدا منظما وجمعيا لاعادة الاعمار، وهذا يستدعي بطبيعة الحال تخطيطا وادارة مركزية لتوزيع الموارد.

 اما السبب الثاني فهو تفاقم الاتجاه الى التخطيط المركزي في اوربا الشرقية والصين، وهو اتجاه حقق في تلك الحقبة المبكرة بعض النجاحات الملموسة على المستوى الاقتصادي لفتت أنظار الاوربيين. معظم المثقفين كان واعيا بجوهر المشكلة المطروحة. على احد الجانبين هناك بلد يحتاج الى اعادة بناء وبالتالي حكومة قوية وقادرة على التدخل.

 وعلى الجانب الثاني، كان ثمة قلق من ان القبول بتدخل الدولة في السوق وفي حياة الناس سوف يحولها الى «غول» عصري، يبتلع الحريات المدنية ويقيم نظاما تحكميا شديد الوطأة، شبيها بالغول السياسي الذي كتب عنه توماس هوبز في القرن السابع عشر.

ولم يكن كثير من هؤلاء المثقفين قلقا على حريته فقط، بل كان قلقا من ان منح الدولة سلطات غير محدودة، قد يدفعها الى الطغيان وربما الدخول في حروب جديدة، مثلما فعلت حكومة هتلر، التي استغلت سلطاتها المطلقة فورطت المانيا في حرب ضروس اكلت الاخضر واليابس. ولو لم يكن الامر على هذا النحو لاستطاع المجتمع الالماني معارضة اتجاه الحكومة العدواني واعاقة انزلاقها نحو الحرب. 

كان السؤال الذي شغل الناس يومئذ

هل نغامر بمنح الدولة سلطات مطلقة لاعادة تنظيم حياتنا وازالة آثار الحرب ؟. أي: هل نقدم المصلحة المادية الواضحة على الحريات المدنية، ام نحافظ على هذه الحريات ولو ادى الامر الى تعطيل الاعمار؟. من الواضح ان غالبية الناس سوف تميل الى الخيار الاول، لان ضغط حاجات الحياة اليومية اشد من ان يقاوم. لكن المثقفين وقادة الرأي نظروا الى نهاية المسألة وليس بدايتها. 

قدم ايزايا برلين حلا بسيطا، خلاصته التمييز بين مفهومين للحرية سلبي وايجابي. ينطبق المفهوم السلبي للحرية على المساحة الخاصة بالحياة الشخصية التي يتصرف الفرد فيها وفقا لقناعاته الخاصة ومن دون تدخل احد، سواء كان شخصيا او قانونيا. من ذلك مثلا حرية التفكير والتعبير والاعتقاد، وحرية الانسان في العيش والعمل كما شاء طالما لم يزاحم الغير. 

طبقا لرأي برلين فان هذا النوع هو التجسيد الابسط لمفهوم الانسانية، ويعد حرمان الانسان منه انتقاصا من انسانيته. ولهذا وجب ان يحمى بالقانون لا ان يحدد بالقانون. فلا يجوز اصدار قانون يحد من حريات الناس الشخصية التي اودعهم الله اياها يوم خلقهم. اما الحرية الايجابية فيتجلى تطبيقها في المساحة التي يشترك فيها الفرد مع غيره من ابناء المجتمع. 

بعبارة اخرى فهي منظومة الحقوق والحريات التي يحصل عليها الفرد بالاتفاق مع بقية اعضاء الجماعة، وهي لهذا السبب حرية يقررها القانون وتوضع حدودها بالتوافق والتراضي. قال برلين انه يمكن للمجتمع منح الحكومة حق التدخل في المجال الثاني شرط التزامها بحماية الاول والامتناع عن اختراقه. 

 قد يكون من العسير تحديد فاصل دقيق بين المساحتين، لكن ما يمكن قوله هنا هو ان لكل فرد شريحة من الحريات الاساسية التي ينبغي احترامها على الدوام وفي جميع الظروف، لانها شرط للانسانية. واظن ان هذا يوضح المجال الذي يجوز فيه تحديد الحرية من دون ان يعد التحديد طغيانا، وذلك الذي لا يجوز للمجتمع الاقتراب منه لانه حرم خاص للفرد يفعل فيه ما يشاء، ولا يخضع لغير رقابة ضميره ومن فوقه رب العالمين.

 عكاظ الإثنين 30/07/1428هـ ) 13/ أغسطس /2007  العدد : 2248

https://www.okaz.com.sa/article/124632              
مقالات ذات علاقة 

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...