‏إظهار الرسائل ذات التسميات القانون. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات القانون. إظهار كافة الرسائل

10/04/2012

الواعظ السياسي


كاننا نعيد اكتشاف العجلة ، وكاننا نحاول تفسير معنى الماء. الثورة الشعبية في سوريا ، استهدفت – فقط وفقط – اصلاح نظام سياسي عجز عن اصلاح نفسه. لكن شريحة من الوعاظ والحركيين في بلادنا اختزلوا انتفاضة الشعب السوري وتضحياته في الفارق المذهبي- الطائفي بين الحاكم واغلبية المحكومين.
كأن السوريين لم ينتفضوا من اجل الحرية ، ولا ضحوا بانفسهم من اجل كرامة العيش ، ولا دفعوا  الغالي والنفيس من اجل العودة ببلادهم الى مصاف البلاد المتحضرة. المسألة عند اولئك الوعاظ ابسط كثيرا من الحرية وتقرير الشعب مساره ومصيره ، ابسط من التنمية الشاملة واجتثاث الفساد. المسألة عندهم لا تتعدى نزاعا شخصيا او شبه شخصي بين طرفين يختلفان في المذهب. لكأن الصراع الدامي في سورية مجلس درس فقهي يجادل حضاره في العقائد ، وكأن الصراع الدامي في حمص ودرعا وادلب محاورة شعرية بين ممثلي قبائل يتبادلون الفخر باحسابهم وانسابهم. كأن الذين يتصارعون على الارض السورية جرير والفرزدق ، كل منهما يهجو الاخر بذكر معايب اهله.

الثورة السورية ، مثل نظيرتها في تونس وليبيا ومصر واليمن ، حركة شعبية همها الاول والاخير هو تمكين اهل البلد من اصلاح بلدهم وتقويم اقتصاده وادارته ، وتحريك عجلة النمو التي توقفت او تعثرت بسبب الفساد واستئثار اقلية صغيرة بالقرار والثروة ومصادر القوة. بعبارة اخرى فان الشعب السوري يحاول الانفلات من تاريخ القهر والتفرد والاستبداد. اما وعاظنا الذين ا كتشفوا السياسة من فوق  المنابر ، فان تلك الهموم والاهداف لا تعني لهم شيئا ولا تهمهم. الحرية عندهم انفلات ، ومشاركة المجتمع في تقرير حاضره وغده اقحام للعوام في شغل اهل الحل والعقد. اما مكافحة الفساد فعلاجها خطبة او خطبتين ، وكفى الله المؤمنين القتال.

لا اجد ضرورة للتحفظ حين ادعو الوعاظ والخطباء الى ترك السياسة والحديث فيها ، لانني اجد معظمهم غير مدرك لما يجري ، بسيطا وسطحيا الى حد السذاجة. ولهذا السبب – ربما – يستبدل التوجيه العقلائي للمستمعين بالشحن المذهبي وكيل الشتائم للاشخاص والطوائف ، والمبالغة في اللغة الخشنة والكلام الذي ينبغي ان يعف الانسان عن قوله ، سيما في بيوت الله.

جهل هؤلاء بالسياسة والكلام السياسي هو الذي يؤدي الى تحويل الخطاب الديني من مناصرة الشعب السوري الى اعلان العداوة والكراهية ضد كل من وقف على الحياد او تردد في هذا الموقف او جمعه مع اهل الحكم هناك مذهب او نسب.
العارفون في السياسة يفهمون ان اول الحرب استمالة حلفاء العدو او تحييدهم لتفكيك جبهته واضعافها. اما وعاظنا فاول حربهم هو تقسيم العالم الى فسطاطين: من لا يقف معنا في كل موقف فهو هدف لحربنا. لا مجال عندهم لتدوير الزوايا الحادة، ولا مجال للتفصيل ، لانهم في الاساس ليسوا مشغولين بالسياسة قدر انشغالهم بتدبيج الخطب العصماء وقصائد الفخر والهجاء.

هؤلاء الوعاظ لا ينصرون شعب سوريا ، بل يزرعون الكراهية في اوطانهم ، وهم لا يفهمون الاهداف السامية التي يضحي من اجلها السوريون ، فشغلهم الشاغل هو اعلاء الجدار الفاصل بين الفسطاطين.

جريدة الاقتصادية  11 ابريل 2012

03/08/2009

مجتمع الاحرار



في يوم بارد من شتاء 1984 وصلت الى مدينة الباسو غرب ولاية تكساس الامريكية ، التي تحاذي مدينة اخرى كانت تحمل الاسم نفسه لكنها تتبع جمهورية المكسيك. تقع الاولى على مرتفع من الارض وتقع الثانية في الوادي. وقفت وزملائي على حافة المرتفع ونظرنا الى الباسو المكسيكية .

 لا ادري اذا كان حال هذه المدينة البائسة قد تغير اليوم ، لكني شعرت في ذلك اليوم بالفارق الهائل بين المجتمعات التي تنعم بالحرية وتلك المحرومة منها . تجد اثار ذلك على الناس كما في الاشجار والمباني والطريق ، وفي كل شيء تقريبا .

اذا كان احد سيجادل في صحة استنتاجات العلماء طوال التاريخ حول العلاقة الوثيقة – واحيانا السببية - بين تحرر الانسان وتقدمه ، فان تجارب الانسانية في مختلف عصورها ولا سيما في عصرنا الحاضر دليل قاطع على ان تقدم الانسان وازدهاره مشروط بتحرره من القيود الداخلية التي تكبل روحه وعقله ، ومن القيود الخارجية التي تكبل حركته ومبادراته .

قارن بين حال المجتمعات التي حصلت على الحرية ، كما هو الحال في الدول الصناعية ، وتلك التي لا زالت سجينة قيودها الداخلية والخارجية مثل مجتمعات العالم الثالث . واذا كان احد سيحتج بوجود عوامل اخرى لتخلف هذه عن تلك ، وهو احتجاج لا نختلف فيه ، فان مقارنة الدول الاوربية نفسها ، تلك التي تحررت ثقافيا وسياسيا منذ زمن طويل ، وتلك التي لا زالت حديثة العهد بالحرية ، تكشف بالتاكيد عن العلاقة الوثيقة بين الحرية والتقدم. 

ثلاث دول يمكن ان تضرب مثلا على هذا: فرنسا التي تحرر شعبها منذ زمن طويل ، والبرتغال الاحدث عهدا بالحرية واسبانيا التي تقع في منتصف المسافة بين الاثنتين. هذه ثلاث دول تعيش ضمن محيط اقليمي واحد ، وتدين شعوبها بدين واحد لكن الفرق شاسع بين مكانة كل منهما في تقدم العلم والثقافة والتقنية وفي القوة والتاثير على المستوى الدولي .

قارن ايضا بين دولتين متماثلتين في كل شيء تقريبا عدا النظام السياسي : كوريا الشمالية واختها الجنوبية . يعاني الشماليون من الجوع والفاقة ، بينما المنتجات التقنية لاخوتهم في الجنوب تملا الاسواق في شرق العالم وغربه.

قارن ايضا بين شرق المانيا وغربها قبل اتحادهما وبعد الاتحاد. شعب واحد مقسم بين نظامين سياسيين ، احدهما يحمي الحريات الفردية والمدنية والاخر يحجبها او يحددها . بين قيام الدولتين قبيل منتصف القرن العشرين واتحادهما في اوائل التسعينات من القرن نفسه تحولت المانيا الغربية الى ثاني اقوى اقتصاد في العالم وارتفع انتاج التقنية ومعه مستوى المعيشة الى الصف الاول على المستوى العالمي ، بينما بقيت المانيا الشرقية دون المستوى المتوسط في معيشة شعبها وفي انتاجها العلمي والتقني وفي دورها على المستوى الدولي .

الفرق الوحيد بين شطري المانيا هو احترام الحريات في شطرها الغربي وهيمنة الاستبداد في شرقها ، الى ان قرر الشرقيون ان لا حل سوى اعادة توحيد البلد المقسم ، اي – في حقيقة الامر – الغاء النظام الشرقي والانضواء تحت لواء النظام القائم في الشطر الغربي.

يتقدم المجتمع اذا اصبح افراده احرارا . ان تكون حرا يعنى ان تملك حق الاختيار بين بدائل عديدة لحياتك وتفكيرك وعملك وسلوكك الشخصي ، ان تكون آمنا حين تعبر عن رايك ونتاج عقلك حتى لو خالف المعتاد والسائد ، وان تكون قادرا على تحقيق ذاتك من خلال خياراتك الخاصة. يفقد الانسان حريته حين يفرض عليه الاخرون نمطا من الثقافة او السلوك او العمل او المعيشة ، او حين يتدخل الاخرون بشكل اعتباطي في خياراته الخاصة.

من الناحية الواقعية فان معظم خيارات الانسان تخضع لقانون البلد. ما هو ممكن او ممتوع يتبع غالبا معايير محددة . لكن الصحيح ايضا ان القانون قد يكون ضيقا الى درجة استعباد الناس ، والصحيح ايضا ان الاخرين قد يتجاوزون القانون ويفرضون عليك مراداتهم خارج اطاره.

القانون ليس كلمة القوي ، بل القواعد التي جرى اقرارها سلفا وصدرت بشكل رسمي واعلنت من جانب الجهة التي لها وحدها الحق في وضع القانون.

12/01/2009

كيف يضمن القانون حرية المواطن ؟


قلنا في مقال سابق إن عدالة النظام الاجتماعي رهن بتوفر الضمان القانوني للحريات الفردية. وهذا يتعارض إلى حد كبير مع النظريات التي ترى أن القانون بطبعه قيد على الحرية. من المفهوم أن القانون ضروري لسلامة الحياة الاجتماعية مثلما الحرية ضرورية لانسانية الانسان. الاشكالية اذن تكمن في الموازنة بين متطلبات هذه ومتطلبات ذاك. وهذا يقودنا بالضرورة إلى التساؤل عن كيفية ضمان القانون للحرية.
Image result for "the spirit of the law" montesquieu
في الحقيقة فإن العدو الأول للحريات الفردية هو التدخل الشخصي والاعتباطي في خصوصيات الناس ومصالحهم وإرادتهم.
في المقابل يتميز القانون بالثبات وعدم التمييز بين شخص وآخر أو بين حالة وأخرى. وحسب تعبير مونتسكيو الفيلسوف الفرنسي الذي اشتهر بكتابه «روح الشرائع» فان الحرية هي أن «لاتكون مجبرا على فعل شيء لم يأمر به القانون، وأن لا تمنع من شيء لم يمنعه القانون. ذلك لان القانون هو الحاكم، نحن أحرار لاننا نعيش تحت قانون مدني».
في أي نظام اجتماعي ثمة فرص لتدخل الأقوياء في حياتك. وفي غياب القانون فأنت مضطر لاستخدام قوتك الجسدية أو المال أو العلاقات الشخصية لتحييد أو اعاقة التدخلات الاعتباطية والشخصية. لكن كم من الناس ياترى يملك المال أو القوة أو العلاقات، أو يستطيع استخدامها لضمان مصالحه ؟. في الحقيقة لا يمكن الاعتماد على هذه الوسائل في إقامة نظام اجتماعي سليم. وجود القانون هو الضمان الوحيد لمصالح الجميع بغض النظر عن قوتهم الشخصية.
عمومية القانون هي أبرز الفوارق بينه وبين التدخلات الشخصية التي تصاغ عادة في صورة أوامر ادارية. تصدر هذه الأوامر لمعالجة حالة خاصة، أما القانون فهو يقوم على مبدأ عام ويتوجه للجميع دون النظر إلى أشخاص بعينهم أو حالات بعينها. ولهذا فان القانون يبقى ساريا إلى أن يلغى بقانون مماثل، بينما ينتهي مفعول الأوامر الادارية فور انتهاء موضوعها الخاص.
من ناحية أخرى فان القانون هو تقرير للأغراض المستهدفة. فهو يصدر بعد دراسة متأنية ويشرح في ديباجته العلل التي اوجبت صدوره. ولهذا قيل إن القانون لا يطاع إلا إذا كان معلنا ومعروف المبررات. أما الامر الاداري فيعبر عن إرادة المدير، وربما يصدر في لحظات انفعال ومن دون دراسة متانية أو من دون أن تكون متوقعة من قبل عامة الناس. كما لا يتضمن تعليلا قانونيا مفتوحا لنقد العامة وتدقيقها.
وقد تقرر في نظام أثينا القديمة أن فهم الناس للقانون هو ما يوجب طاعتهم له. وكما يقول هانز- جورج غادامر الفيلسوف الألماني، فإن أحد الأركان الكبرى في فكرة النظام القانوني هو أن أحكام القاضي قابلة للتنبؤ مسبقا لأنها تقوم على مبررات وقواعد قانونية معروفة للجميع. وهذا هو الذي يجعل القانون علة للاستقرار. كل محام أو مستشار قادر من حيث المبدأ على إعطاء مشورة صحيحة، أي أنه قادر على التنبؤ بشكل صحيح بقرار القاضي بناء على القوانين الموجودة.
يتميز القانون أيضاً بأنه ضامن للحقوق والالتزامات التي أنشئت في ظله حتى بعد إلغائه. ذلك لأن القوانين العادلة لا تكون رجعية، بمعنى أن مفعولها يسري منذ لحظة إعلانها، فلا تلغي حقا جرى اقراره في ظل قانون سابق. فاذا حصل مواطن على حقوق أو مصالح أو التزامات في إطار القانون، فإنها تبقى قائمة محترمة حتى لو صدر قانون جديد مختلف. ومن هنا يستطيع الناس التخطيط لمستقبلهم بثقة واطمئنان، لأن أحداً لن يستطيع نقض مكتسباتهم.
عكاظ 12/ يناير /2009  العدد : 2766

مقالات ذات علاقة 

05/01/2009

حدود الحرية .. حدود القانون

؛؛ دعوة التيار الديني الى "حرية منضبطة" لا تنطلق من الاقرار بالحرية كقيمة عليا. ولو قبلنا بها ، فقد ننتهي الى تهميش قيمة الحرية ؛؛

يتفق العقلاء جميعا على ضرورة الحرية للانسان لانها شرط لكمال انسانيته . كما يتفقون على ضرورة القانون والنظام العام لانه شرط لسلامة الحياة الاجتماعية . من دون الحرية سيكون الانسان عبدا او شبه عبد ومن دون القانون سيكون المجتمع غابة او شبه غابة يأكل القوي فيها الضعيف.

المشكلة لا تكمن في الاقرار بالضرورتين ، بل في الحدود الفاصلة بينهما. وتظهر اهمية هذا الاشكال في ظروف الازمة بشكل خاص. 

فالدولة والمجتمع يميلان في مثل هذه الحالات الى توسيع مجالات اشتغال القانون ، مما يؤدي بالضرورة الى تضييق نطاق الحريات الفردية . بل قد يحدث هذا في الحالات الاعتيادية ايضا . ثمة حكومات تميل بطبعها الى التضحية بالحريات الفردية تحت مبررات مختلفة من السلامة الوطنية الى الارتقاء بمستوى المعيشة الخ .. ونذكر مثلا ان الحكومات الشيوعية كانت تسخر من قيمة الحرية الفردية وتصفها بالبرجوازية بناء على ان مهمة الدولة هي ضمان العدل الاجتماعي وتامين حاجات المواطن الاساسية . ونعلم ان تلك التجربة تحولت الى رمز لفشل النظرية الماركسية لانها ببساطة حرمت الانسان من بعض شروط انسانيته مثل حرية الاعتقاد والتفكير والتعبير والعمل والانتقال . وهو الامر الذي جعل معظم الماركسيين يعيدون النظر في عدد من مسلماتهم الايديولوجية الاساسية ، ولا سيما بعد سقوط الاتحاد السوفيتي في 1991 .

لا يمكن الموافقة اطلاقا على المقولة الشائعة التي تصف الحرية السليمة بالمنضبطة . لانها في نهاية المطاف لا تحدد المعايير الحاكمة ولا تنطلق من الاقرار بالحرية كقيمة عليا. ولو قبلنا بها ، حتى على المستوى النظري ، فقد ننتهي الى تهميش قيمة الحرية . بدلا من ذلك فاننا نتحدث عن الحقوق المدنية التي تعني :

1-       الضمان القانوني لشريحة من الحقوق والحريات الطبيعية الضرورية لانسانية الفرد .
2-       الحقوق التي يحصل عليها الفرد بسبب انتمائه الى مجتمع سياسي يحكمه قانون.

ترجع الشريحة الاولى الى فطرة الانسان التي يعتبرها الفلاسفة اعلى من كل قانون يضعه البشر. وابرز تمثيلاتها حق الحياة ، اذ يحق لكل فرد فعل ما شاء للمحافظة على حياته. ومنها المساواة مع الغير ، ويدخل فيها ايضا الحريات المرتبطة بالضمير مثل حرية الاعتقاد والدين ، وحرية التفكير والتعبير ، والحرية في اختيار نمط المعيشة واساليب العيش وحق الملكية واستثمار الجهد الشخصي .
اما الصنف الثاني فيطلق عليه اسم الحقوق الدستورية او التعاقدية ، وهي حقوق يحددها القانون وترتبط بالوصف القانوني للفرد ، اي كونه مواطنا او عضوا في مجتمع مدني . من هذه الزاوية فان الصنف الاول سابق للقانون وحاكم عليه ، اما الصنف الثاني فهو تابع للقانون وخاضع له . وابرز ما يدخل ضمن هذا الصنف هو حق المشاركة المتساوية في الشؤون العامة للجماعة ، بما فيها حق الوصول الى المناصب العامة. ومنها ايضا حق الاستفادة المتساوية من الموارد العامة المادية وغير المادية الخ . 

بطبيعة الحال لا يمكن التمتع بالحرية ما لم يكن ثمة قانون يحمي ممارستها . كما لا يمكن تصور حرية من دون قانون يضع حدودا لما هو مقبول وما هو ممنوع ، لان الحرية المطلقة تعني ايضا حرية الانسان في ان يخترق مساحات الاخرين ، وربما تقود الى فوضى اجتماعية ، تضيع معها فائدة الحرية ، ويستأثر بها الاقوياء على حساب الضعفاء. المبرر الوحيد لهذا التقييد هو العدالة ، فالبديهي ان الحرية حق متساو لجميع الافراد ، وتقتضي العدالة ان يتمتع كل فرد بنفس القدر الذي يتمتع به غيره ، وهذا يؤدي بالضرورة الى تقييده. الطريق المتبع في المجتمعات المتقدمة هو تقسيم الحياة الى مجالين : مجال شخصي يتمتع فيه الفرد بالحرية المطلقة ، ومجال عام يطبق فيه القانون . وقد وجدت في التراث الاسلامي نظائر كثيرة لهذا التقسيم ، حتى في تطبيق الاحكام الشرعية من جانب الدولة . واظن انه يشكل مدخلا مناسبا للنقاش في الحدود الفاصلة بين ولاية القانون ونطاق اشتغاله وبين حرية الفرد في ان يفعل ما يشاء .

26/09/2006

الحرية والنظام العام

|| الحرية حق للمواطن لانه شريك في ملكية ارض وطنه. من الناحية الاخلاقية والدستورية لا تملك الدولة اي حق في "منح" الحرية او حجبها. الحرية الفردية والحريات العامة ليست ملكا للرئيس كي يمنحها ، وليست ضمن حدود صلاحياته الدستورية كي يحجبها ||

يطالب دعاة الاصلاح بالحرية ، لانها حق لهم ولكل مواطن. ومن دون الحريات الفردية والعامة فان المواطنة تصبح كلمة فارغة من اي مضمون. في ماضي الزمن كان اعضاء القبيلة او سكان القرية اتباعا لرئيسهم. وامتد هذا المفهوم بعد قيام الامبراطوريات الكبرى ، فاصبح عامة افراد المجتمع اتباعا للامبراطور او الحاكم.
 وبقي هذا المفهوم سائدا في دول العالم حتى 1789 ، حين اصدر برلمان الثورة الفرنسية وثيقة حقوق الانسان والمواطن التي مثلت اول تقرير رسمي لشريحتين من الحريات ، تقرر الاولى ما هو حق للانسان باعتباره انسانا ، بينما تعالج الثانية الحقوق التي يتمتع بها المواطن بسبب انتمائه للمجتمع وشراكته فيه. 
التمييز بين الحقوق الطبيعية ، اي تلك المرتبطة بانسانية الانسان ، والمدنية او الدستورية المرتبطة بشراكته في المجتمع السياسي ، هو ثمرة للنقاشات الفلسفية والفكرية التي شهدتها اوربا منذ منتصف القرن 17 ، والتي انتهت الى تاسيس ما نعرفه اليوم من فلسفة سياسية حديثة تهتدي بها جميع الدول المتقدمة. في حقيقة الامر فان تطور هذا المفهوم كان حجر الزاوية ، في النهضة العلمية التي قامت على ارضيتها وفي اطارها الحضارة المعاصرة.
ثمة فارق جوهري بين مفهوم الحرية الذي تطور في هذا السياق ، وذلك المفهوم الذي يتبناه التقليديون. هذا الفارق يكمن في فكرة الشراكة في الوطن. ففي الازمان الغابرة لم يكن الانتماء الوطني او الاجتماعي اساسا لحقوق معينة يتمتع بها الافراد. في بعض الحالات كان ثمة امراء صالحون "يتفضلون" على رعاياهم بحقوق او حريات معينة ويفضلون لين المعاملة على التشدد ، وربما استشاروا بعض اهل الراي او نخبة القوم قبل اتخاذ القرارات الرئيسية.
والواضح ان مفهوم الحرية الذي يتبناه التقليديون لا يختلف كثيرا عن هذا السياق ، فهم يفضلون الملاينة على التخاشن والمشورة على الانفراد بالراي. كما يفضلون حل التعارضات بالمعروف بدل استعمال القوة. 
ولا شك ان هذه الميول تستحق التقدير. لكن هذا المفهوم لا يقود – في نهاية المطاف – الى الحريات الفردية والمدنية التي يطالب بها عامة سكان الارض في هذا الزمان. بل هو اقرب الى فكرة التسامح التي تتماثل مع الحرية في بعض الجوانب ، لكنها تختلف عنها في الارضية الفلسفية التي تنبعث منها ، كما تختلف عنها في الاطار القانوني الذي تعالج ضمنه قضاياها ومترتباتها. انها اقرب الى قرار "من فوق" مثل ميل الاب الى استعمال اللين مع ابنائه ، او قرار رئيس شركة بمداراة موظفيه. وهذا يختلف اختلافا بينا عن مفهوم الحرية الذي اطلق النهضة العلمية والصناعية التي يعرفها عالم اليوم .
المفهوم الجديد يعتبر الحرية "حقا للمواطن" يتمتع به لانه شريك في ملكية الارض التي نطلق عليها اسم الوطن. وسواء كان الرئيس كريما او بخيلا ، لينا او خشنا ، متفضلا او ممسكا ، فانه لا يملك من الناحية الاخلاقية او من الناحية الدستورية "منح" الحرية او حجبها. بعبارة اخرى فان الحرية الفردية والحريات العامة ليست ملكا للرئيس كي يمنحها ، وليست ضمن حدود صلاحياته الدستورية كي يحجبها. بل ان وجوده على مقعد الرئاسة وتمتعه بالصلاحيات والامتيازات التي يتفوق بها على غيره ، مشروط بحمايته لحقوق مواطنيه وحرياتهم وتكريس جهده للدفاع عنها ومنع الاضرار بها او تعطيلها من جانب اي هيئة اخرى حكومية او غير حكومية.
لهذا السبب فان دساتير الدول المتقدمة ، تنص صراحة على بطلان اي قانون او قرار او اجراء حكومي يؤدي بصورة من الصور الى تعطيل حريات المواطنين. ولحسن الحظ فان واضعي الدستور العراقي الجديد قد توصلوا الى صيغة مبتكرة ، تمثل حلا لاشكالية العلاقة بين الدين والحرية. اذ تنص معظم دساتير الدول العربية كما هو معروف على ان الاسلام مصدر اساسي للتشريع والقانون. لكن كان ثمة خشية من ان يستثمر بعض المتشددين واصحاب العقول العسيرة هذه المادة في اصدار قوانين او سياسات تعطل الحريات الفردية ، كما هو مشهود في عدد من الدول العربية التي تصدر فيها بين الحين والاخر قرارات حكومية او احكام قضائية تعطل حريات التعبير او العقيدة او العمل تحت مبررات تلبس ثوب الدين او التقاليد.
 الحل الذي توصل اليه المشرعون العراقيون ، هو اضافة مادة تنص صراحة على الغاء اي قانون يعارض المتفق عليه من الدين الحنيف او يضيق حرية المواطن (المادة 2). وهكذا ربطت بين الالتزام باحكام الدين وحماية الحريات الفردية. ومن المأمول ان يسهم هذا التاسيس الدستوري في اطلاق حركة فكرية واجتماعية نشطة بعد ان تستقر الاوضاع في العراق في قادم الايام.
من المفهوم بطبيعة الحال ان مفاد الحرية لا يتحقق على ارض الواقع ما لم يكن الامن والنظام العام مستقرا. ولذا قيل بان الحرية لا توجد الا في مجتمع يحكمه القانون. لكن شتان بين قانون يسعى لحماية الحرية وقانون يسعى لتعطيلها بحجة الامن والاستقرار. ومن المؤسف ان هذا هو الميل الغالب عند الكثير من الحكومات العربية. واذا كان للعلم من فائدة ، فان العديد من الدراسات الجديدة المدعومة باستنتاجات عن تجارب فعلية ، قد توصلت الى ان تعطيل الحريات لم يؤد ابدا الى سيادة الاستقرار ، بل ادت في كثير من الاحيان الى نقل التوتر الاجتماعي من السطح الى تحت الارض وانتجت حالات التمرد والانشقاق التي نعرفها في العالم العربي اليوم. 




مقالات ذات علاقة

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...