17/10/2024

اخلاقيات السياسة

 

أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء السياسة وبعض رجالاتها. اما اتفاق الناس على خلو السياسة من الاخلاق ، فمرجعه عاملان فيما أظن. أولهما ان السياسة ناد مغلق ، عضويته حكر للنخبة العليا في المجتمع. اما العامل الثاني فهو ان الموضوع اليومي في مهنة السياسة ، هو استعمال مصادر القوة وتوجيه نتائجها ، بحسب ما يراه اهل هذه المهنة دون بقية الناس.

قد يقال ان النادي السياسي مفتوح لمن يطرق أبوابه ، وليس لكل عابر ، وأن السياسة كأي حرفة أخرى ، تتطلب مؤهلات ربما لا تتوفر لكل راغب فيها. لكني أجد ان انغلاق النادي معناه قلة الفرص المتاحة فيه. وأذكر هنا رأي المفكر الايطالي القديم نيقولو ماكيافيلي ، الذي قدمه في سياق تفسيـره لرغبة الناس في الحرية ، حيث يقول ان الناس لا يطمعون في السلطة ، لأنهم يدركون ان "مهنة الحكم" متاحة لعدد محدود جدا من الأفراد ، وهم يشكون في ان أحدهم سينال الفرصة ، دون عشرات الآلاف من الراغبين في دخول ناديها.

كون النادي السياسي مغلقا ، يعني ان معظم ما يجري بين جدرانه ، مكتوم عن عامة الناس. مكتوم قصدا ، او بحكم اختلاف مجالات الاهتمام ، وامكانية الوصول الى مصادر المعلومات ، وخاصة الحساسة منها. وطالما بقي عمل السياسيين سرا ، فسوف يثير الارتياب ، لا سيما بالنظر للعامل الثاني اي كون موضوع عمل السياسي هو تحريك مصادر القوة وثمراتها بين الاتجاهات المختلفة ، كما يدير السائق سيارته بين مسار وآخر ، أو بين وجهة وأخرى. وكانت العرب تقول فيما مضى ان "المرء عدو ما جهل" بمعنى انه أقرب الى تفهم الاشياء التي يعرفها. والتفهم يعني تقبل مبرراتها حتى لو بدت – في ظاهرها – بغيضة او ثقيلة على النفس.

-         لكن يبقى السؤال قائما: الى اي حد يلتزم الفاعلون السياسيون بمعايير الاخلاق؟.

هذا السؤال ينقسم – بالضرورة – الى جزئين: الاول ما هو المقصود بالاخلاق ، هل هي طرق العمل المطابقة لما يمليه العقل السليم ، ام هي – كما هو شائع بين عامة الناس – لين المعاملة والاحسان للناس وصدق القول والترفع عن الصغائر ، وأمثال هذه؟.

اما الثاني فيتناول موضوع العمل في النادي السياسي ، الذي سنسميه اختصارا "استعمال مصادر القوة" ، لأن هذا التحديد يستدعي لزوما سؤال: ماهي مصادر القوة التي نتحدث عنها ، ولماذا نستعملها او نحركها؟.

سوف ابدأ بالثاني لانه يوضح معنى الأول. ان "قانون الندرة" هو المبرر الجوهري لوجود السياسة والحكومة. يقول هذا القانون ان الموارد المتاحة لتسيير حياة الناس محدودة ، بينما حاجات الناس متزايدة ، ويمكن وصفها باللامحدودة ، بمعنى انها لا تتوقف عند حد ولا تنحصر في إطار. توزيع الموارد المحدودة يعني ان كل فرد من الجمهور سينال حصة أصغر مما يطمح اليه. ولكي لا يعتدي على حصص غيره ، احتجنا الى القوة ، اي اظهار العنف او استعماله احيانا ، كي يرتدع المعتدي.

نحتاج طبعا لتطوير الموارد كي تسد الحاجات المتزايدة. وهذا يتطلب استثمارات جديدة في الزراعة والصناعة والتجارة وغيرها. من هنا نعتبر المال والسلاح ابرز مصادر القوة ، وهما محور العمل في مهنة السياسة. نحن نريد ان يلتزم رجال السياسة بالانصاف والمساواة بين الناس ، ان يعملوا كممثلين لمصالح المجتمع ، وان لا يفرطوا في الأمانة التي وضعت في ايديهم. وهذا هو جوهر المضمون الاخلاقي للسياسة.

-         هل يستلزم هذا لينا في الكلام او التعامل؟.

 ارى انه لا يستلزم. وان كان من مكارم الاخلاق ، ومن علامات الكمال عند اي انسان ، سياسيا او غيره. عالم السياسة مختلف عن العلاقات الاجتماعية العادية ، ولذا فاخلاقياتها مختلفة ايضا. أي ان لها اخلاقياتها ومعاييرها وإن خالفت توقعاتنا بعض الشيئ.

الشرق الاوسط الخميس - 14 ربيع الثاني 1446 هـ - 17 أكتوبر 2024 م

 https://aawsat.com/node/5071868/

10/10/2024

هويات متزاحمة


ليس معتادا أن يتنازل الناس عن هوياتهم الفرعية ، مهما كانت قليلة الاهمية عند الآخرين. بعد الحرب العالمية الثانية ، تبنى الاتحاد السوفييتي ودول المعسكر الشرقي ، استراتيجية موسعة لتفكيك الهويات الدينية والقومية والاقليمية ، واستبدالها بما أسموه "هوية سوفييتية واحدة". بعد اربعة عقود فحسب ، رأينا كيف تحولت تلك الهويات المقهورة ، الى عوامل هدم للهوية الكبرى. هذه التجربة المريرة تكررت في دول اخرى ، وثبت عيانا ان القهر الايديولوجي او القومي والديني ، لايفلح أبدا في تفكيك الهويات الصغرى او  قتل ثقافتها.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يحتضن نسخة من القرآن الكريم، في مسجد النبي عيسى - غروزني، الشيشان

معرفتنا بهذه النتيجة ، لا تكفي لحل المشكل الواقعي ، اي الارتياب القائم بين المجموعات الاثنية المختلفة ، وهو ارتياب يتحول الى قلق مزمن ، وخوف عند كل طرف من نوايا الآخر.  

لهذا السبب ، نحتاج لفهم ظاهرة التنوع والتعدد في الهوية ، سواء كان تنوعا عموديا كالاختلاف الديني والعرقي والجندري ، أو كان أفقيا كالاختلاف الطبقي والثقافي والسياسي ، الخ. كما نحتاج لوضع الظاهرة في إطارها الصحيح ، كي نشخص المشكلات بدقة ، بدل ان نغرق في انفعالات اللحظة.

تلافيا للتعقيد الذي يلازم هذه المسائل ، سأخصص هذه الكتابة لايضاح ان  التنوع قد يتحول الى تضاد وتنافر بين الهويات ، لكنه في غالب الحالات مجرد تزاحم ، سببه مادي او ثقافي ، وقد يكون مؤقتا. هذه نقطة مهمة لأن كثيرا من الناس يغفلون الفارق الكبير بين الاثنين. سوف اعرض في مقالات قادمة جوانب اخرى ، إذا وفق الله.

هنا ثلاثة امثلة واقعية على التضاد والتنافر بين الهويات. المثال الاول سياسي من ايرلندا الشمالية ، كان يتحدث للتلفزيون قائلا: انا ايرلندي ولست بريطانيا. فقال له المذيع: انت عضو في البرلمان البريطاني وتحمل جواز السفر البريطاني ، فيرد ذاك مرة اخرى "انا ايرلندي". وقد سمعت تكرارا لهذه القصة بنفس التفاصيل تقريبا من أديب كردي – تركي ، أكد خلال حديثه مرة بعد أخرى انه كردي وليس تركيا. وسمعت شبيها لهذا من شخص مصري ، يقول انا اتحدث اللغة العربية لكني لست عربيا ، ولا اريد الانتساب الى العروبة. فالواضح ان هؤلاء الاشخاص ينظرون للهوية الأوسع كضد لهويتهم الخاصة ، وان الزامهم بالاولى يؤدي بالضرورة الى الغاء الهوية الاخرى. الايرلندي لا يرى بريطانيا وطنا له ، ولو حمل جوازها ، وكذلك الكردي في تركيا.

وفقا لابحاث أجريتها في سنوات ماضية ، فان الشعور بالتنافر والتضاد محدود جدا ، ومحصور بين فئات صغيرة متطرفة. وهذا يشمل حتى المجتمعات التي تتعرض لقهر شديد ، ولعل اقرب مثال على هذا هو العلاقة الحالية بين الروس والمسلمين ، من سكان الجمهوريات التابعة للاتحاد الروسي او الجمهوريات التي كانت متحدة معه ثم استقلت. فرغم التاريخ الطويل للصراع ، الا ان الميل السائد حاليا ينحو للتسالم والتعايش وتناسي ذلك التاريخ. بل نجد هذا حتى في الدول التي شهدت صراعات أهلية كحال الشيشان ورواند ونيجريا وايرلندا وسيريلانكا ، على سبيل المثال.

تبدأ المشكلات حين يسعى أحد الاطراف للاستئثار بما هو مشترك بين المواطنين. واوضحها الفرص المتاحة في المجال العام ، كفرص الاثراء والوظائف والتعبير الحر عن الذات. ونعلم ان هذا حصل للاكراد في تركيا ، حين حظرت طيلة 40 عاما استعمال اللغة الكردية في المدارس والمؤسسات الرسمية والصحافة والاجتماعات العامة. وحصل شيء قريب من هذا في العراق وسوريا وايران ، الأمر الذي أدى لتفاقم التنافر بين الهويتين الوطنية والقومية ، وتبرير الحديث عن كردستان كوطن قومي.

بعبارة اخرى ، فان الوضع الطبيعي لعلاقة الناس مع بعضهم هو التعايش والتسالم. وهو وضع سيبقى قائما لأمد طويل ، طالما لم يتعرض اي طرف لعدوان يتصل خصوصا بمكونات الهوية. ولهذا فان أبرز عوامل ترسيخ الوحدة الوطنية ، هو تبني الحكومات لسياسة عليا تحول دون امتهان الهويات الصغرى او محاولة تفكيكها ، أيا كان المبرر.

الخميس - 07 ربيع الثاني 1446 هـ - 10 أكتوبر 2024 م

https://aawsat.com/node/5069567

مقالات ذات صلة

الارضية النظرية لمفهوم المواطنة

اشكالية الهوية والتضاد الداخلي
الاقليات والهوية : كيف تتحول عوامل التنوع الى خطوط انقسام في المجتمع الوطني

أمين معلوف... الهويات القاتلة

تأملات في حدود الفردانية

تكون الهوية الفردية

حزب الطائفة وحزب القبيلة

حول أزمة الهوية

حول الانقسام الاجتماعي

حول المضمون القومي للصحوة الدينية

حول نظام حماية الوحدة الوطنية

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

عن الهوية والمجتمع

"عيش الحسين"

قانون حماية الوحدة الوطنية

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

 كيف تشكلت الهوية الوطنية

كيف تولد الجماعة

مسيرة الهويات القاتلة

المواطن "الممتاز" والمواطن "العادي"

الهوية المتأزمة

الوحدة الوطنية والسلم الاهلي هو الغاية

الوطن ، الهوية الوطنية ، والمواطنةتفصيح للاشكاليات

الوطن شراكة في المغانم والمغارم

03/10/2024

المواطن "الممتاز" والمواطن "العادي"

سألتني السيدة ميره ، وهي مثقفة من دولة الامارات الشقيقة ، عن علاقة المواطنين ببعضهم وعلاقتهم بوطنهم: هل نكتفي بمضمونها القانوني ، ام نحتاج أيضا للرابطة الشعورية ، اي الشعور بالتضامن والتكافل والانتماء الواحد ، كي تكون مواطنة صحية وبناءة؟.

لقد واجهت مثل هذا السؤال في واقع الحياة. كما سمعته موجها لأشخاص اعرفهم ، من مواطنين يقولون: كيف تكون مواطنا مثلنا ، وانت تنكر كثيرا مما نؤمن به. وسمعت شخصا كان مشهورا في زمن سابق ، يقول في حديث تلفزيوني: لو التقيت ب "فلان" لتفلت في وجهه. ثم شرح قائلا: اننا لا ننتمي لذات المكان والمرجع. واعلم ان كثيرين قد شاهدوا تلك المقابلة التي أثارت جدلا واسعا في وقتها. والحمد لله ان تلك الصفحة قد طويت ، وارتاحت بلادنا من اثقالها.

يشير سؤال السيدة ميرة الى رغبة في الارتقاء بمفهوم المواطنة الى مستوى الهوية الكاملة ، بمعنى تحقيق التماثل التام بين المواطنين ، في القناعات السياسية والدينية والعاطفية والثقافية. ولا أظن هذا ممكنا في الواقع. ولو قلنا انه ممكن ، فهو عسير المنال جدا. ولذا لا أرى داعيا للسعي اليه أو المطالبة به ، خشية تكليف الناس ما لايطيقون.

على اني سأطالع الموضوع من زاوية أخرى ، تركز على معنى الهوية والمواطنة ومضمونها الثقافي. وسبب اهتمامي بهذه المسألة ، هو ما أراه من خلط بين الهويات المختلفة ، ولا سيما تحميلها على الهوية الوطنية وخلطها بالاعراف الدينية/المذهبية ، من دون داع.

في الوضع الطبيعي يحمل الانسان هويات متعددة ، بدءا من انتمائه العرقي/القومي الى العائلي والقبلي والاقليمي ، وصولا لهويته المهنية والطبقية وميوله السياسية ، ودينه ومذهبه ولغته ، والتاريخ الثقافي لبيئته الاجتماعية ، الى الوطن الذي يحمل جنسيته. كل من هذه الانتماءات العديدة يمثل خيطا يشده الى مكان ويؤثر في ثقافته وتصوره للعالم ، اي في تشكيل ذهنيته. وبهذا المعنى فان هوية الانسان توليف معقد ومتداخل من هويات متنوعة. وكلما تزايدت ، كانت شخصية صاحبها اعمق تفكيرا وأوسع أفقا.

أزعم انه لا يوجد شخص واحد ، أحادي الهوية ، في العالم كله ، بمعنى ان ذهنيته تشكلت في اطار هوية واحدة ، او انتماء واحد فقط. ان شخصا كهذا ينبغي ان يكون منعزلا عن العالم كله طوال حياته. وهذا – في ظني – مستحيل بحسب ما نعرف عن عالم اليوم.

حسنا. دعنا نتخيل صورة الهويات التي نحملها على شكل دوائر متداخلة. بعضها يقع في الوسط وبعضها في الاطراف ، وبعضها فوق بعض ، وهكذا. افضل الحالات هي حالة التفاعل والتلاقي بين تلك الهويات ، اي حين يكون الانسان قادرا على التعبير عن نفسه وثقافته ودينه وانتمائه العائلي والقبلي والسياسي في اطار القانون الوطني. هنا يلتقي الجميع على ارض واحدة ، وتمثل الهوية الوطنية دائرة واسعة جامعة ، او مظلة حامية لكافة الانتماءات والهويات الاخرى.

في حالة كهذه لا يكون المجتمع الوطني حشدا هائلا من الأفراد المستقلين ، بل مئات من الدوائر التي لكل منها لون وعلامة ، لكن جميعها يقع في داخل الدائرة الكبرى ، اي الهوية الوطنية. هذا ما نسميه "التنوع في اطار الوحدة". وهو ارقى التعبيرات عن فكرة الوطن في هذا العصر.

ربما توجد حكومة فائقة القوة ، تسعى لتذويب كافة الهويات ، عدا واحدة. وهو أمر لا يمكن تحقيقه الا بالقوة الغاشمة. ونعرف من السجلات التاريخية ان بعض الطغاة قد فكر في هذا او حاول فعله.  ونعلم ان تلك المشروعات فشلت في اول خطواتها ، لانها ضد المنطق وضد المسار الطبيعي للحياة. خلاصة القول ان المواطنة الكاملة متحققة فعلا لكل من يحمل جنسية البلد ، مهما اختلف مع بقية المواطنين. هذا كاف تماما. فان حاولنا فيما يزيد ، فقد نتحول من بناء الوطن الى هدمه. التنوع إثراء للوطن ، والوطن لكل أهله ، مهما اختلفت مصادرهم أو مشاربهم وغاياتهم.  

الشرق الاوسط الخميس - 30 ربيع الأول 1446 هـ - 3 أكتوبر 2024 م

https://aawsat.com/node/5067178

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...