خلال الأيام الماضية تعرض
عدد من الكتاب في الصحافة المحلية إلى المسؤولية الاجتماعية لقطاع الأعمال. أي
الدعم الذي تقدمه الشركات والأثرياء للخدمات العامة في مختلف جوانبها. يعرف الجميع
أن عددا قليلا نسبيا من رجال الأعمال يخصص نسبة من إيراداته السنوية لأعمال الخير،
فغالبيتهم مشغول بجمع المال والرفاهية الشخصية. ولهذا فقد أصبح هؤلاء وغيرهم
موضوعا ثابتا للتقريع على يد الصحف وكتابها، وقد نسمع في بعض الأحيان مسؤولين
رسميين وقادة مجتمع يتحدثون في الاتجاه نفسه.
ويبدو لي أن الموضوع بجملته
غير واضح المعالم. فالانطباع السائد هو أن الناس جميعا، الأغنياء والفقراء، يقدمون
صدقاتهم بصورة شخصية إلى المحتاجين أو إلى من يوصلها للمحتاجين، أما الخدمات
العامة التي يستفيد منها عامة الناس، بمن فيهم المقتدرون، فهي مهمة الدولة.
"المسؤولية الاجتماعية لقطاع الأعمال"
ليست من المفاهيم الموروثة في ثقافتنا المحلية، بل جاءتنا مع الانفتاح الثقافي
والاقتصادي على العالم ولا سيما السوق الأمريكية التي يعتبر قطاعها التجاري أكبر
ممول غير حكومي للأعمال التطوعية والخدمات الخيرية على مستوى العالم. لا أدري كيف
ظهر هذا المفهوم ومن الذي طوره على النحو الذي نعرفه اليوم.
لكنه دخل بحوث الفكر
السياسي في منتصف السبعينيات في سياق الجدل حول العدالة الاجتماعية ومعايير
قياسها، ولا سيما بحوث العدالة التوزيعية، أي معايير التوزيع العادل للثروة
والموارد العامة وفرص النمو. العدالة التوزيعية مفهوم سياسي يتعلق بنظام العلاقة
بين المجتمع والدولة وإدارة المال العام والقوانين التي تضمن تكافؤ الفرص.
في أول الأمر كان مبدأ
العدالة يناقش في الإطار الفلسفي، لكنه انتقل من ثم إلى الفكر السياسي، ولا سيما
ضمن التفكير في دور الدولة كضامن لأملاك الناس وأموالهم. نظر قدامى الليبراليين
إلى التملك كحق مطلق لا يجوز حجبه أو تحديده واعتبروا حماية الحكومة لهذا الحق
وسيلة لتعاظم الثروة العامة وازدهار البلد.
لكن القرن العشرين شهد تحولا عن هذا
التفكير بعدما ساد الاعتقاد بأن التملك المطلق يؤدي بالضرورة إلى استغلال الضعفاء
وتدمير قيمة الإنسان. وينسب الفضل في هذا التحول إلى المفكرين اليساريين الذين
قدموا مجادلات قوية ضد مبدأ السوق الحرة والملكية الفردية وبقية أركان التفكير
الرأسمالي. تركزت هذه المجادلات حول فكرة العدالة والاستغلال.
الأكثر ثراء هو
الأقدر على التأثير في السوق وفي النظام العام، وهو قد لا يتوانى عن استغلال
السلطة والمال والبشر من أجل المزيد من السلطة والمال. رأى اليساريون أن الاستغلال
هو جزء من بنية السوق الحرة. لأن كسب المال هو المعيار الوحيد للنجاح فيها. كلما
تضخمت ثروة شخص اعتبر ناجحا والعكس بالعكس. من الناحية الواقعية فإن أقلية صغيرة
في كل مجتمع تستطيع مراكمة ثروات كبيرة، وهذا سيأتي بالضرورة على حساب الأكثرية.
فما تحصل عليه من مال يخسره شخص آخر، ولا يمكن للجميع أن يربحوا دون أن يخسر أحد.
بدلا من ذلك اقترح اليساريون نظاما للتوزيع المركزي للخيرات العامة، على شكل
منظومة موحدة تتكفل بسد الحاجات الأساسية لجميع الناس من السكن إلى التعليم والصحة
العامة والمواصلات والوظائف.
تبدو حجة اليساريين معقولة
إلى حد كبير فالثروة التي يجمعها شخص لم تتخلق في فراغ، بل هي ثمرة لاستثمار موارد
كانت في الأصل ملكا لجميع الناس. هذا يثير بطبيعة الحال سؤالا جديا فحواه: هل
للمجتمع حق في الثروة التي انتقلت من ملكية الجميع إلى يد شخص واحد؟ . صحيح أن ذلك
الفرد بذل جهدا استثنائيا حتى جمع ثروته.. لكن ما هي حصة الجهد الذهني والبدني في
تكوين الناتج، وما هي حصة رأس المال الأصلي، أي الموارد المشتركة في تكوينه؟
هذا السؤال والكثير من
الأسئلة المماثلة مطروحة بشكل جدي على طاولة النقاش. في ما يخص مفهوم «المسؤولية
الاجتماعية لقطاع الاعمال» فإن هذه المناقشة تمثل مدخلا ضروريا لتعريف طبيعة تلك
المسؤولية، ما إذا كانت تشكل إحسانا من دون التزام، أو التزاما برد جزء من الفضل
للمجتمع الذي خلق الإمكانية والفرصة للإثراء.
صحيفة عكاظ - 13 / 7 / 2009م