04/04/2005

عن قضايا النشر وما بعدها



قضايا النشر التي نظرتها المحاكم في الاسابيع الماضية وما اثارته من جدل حول دخول النزاعات المتعلقة بحرية التعبير ضمن ولاية المحاكم ، تستدعي اعادة نظر في تعريف الموضوع من أساسه وطبيعة الاجراءات الادارية والقضائية المناسبة للتعامل مع الخروقات المفترضة للقانون.

لا شك ان ولاية المحكمة هو جوهر الموضوع ، ويبدو لي ان هذا من الامور البديهية . في وقت من الاوقات ، اليوم او غدا ، يجب ان تستقل السلطات العامة ، التشريعية والتنفيذية والقضائية ، فيمارس كل منها عمله في معزل عن تاثير الاخرى . ان استقلال السلطات هو الركن الاول من اركان التطور السياسي ، وهو - بالنسبة للقضاء على وجه الخصوص - الحجر الاساس لضمان العدالة. مهمة السلطة التنفيذية هي تطبيق القانون في الموارد التي لا تنطوي على نزاع . اما الفصل في الخصومات والمنازعات ، سواء على الولاية او على تعريف الموضوع ، او نوعية العقوبة ، فهو بلا شك مهمة القضاء دون غيره .


 لكن من ناحية اخرى ، فان القول بهذه الصلاحيات بشكل مطلق ، ينطوي على مشكلة عويصة ، سببها هو الخلاف القديم – الجديد على طبيعة عمل القاضي ومصدر ولايته . وهذه - بالمناسبة - مورد جدل دائم حتى في الاقطار التي تتمتع بنظام قضائي متطور.

يدور هذا الخلاف بين مفهومين : مفهوم يستند الى التراث الفقهي الاسلامي ، يعتبر القاضي مجتهدا ذا ولاية مطلقة في كل جزء من اجزاء الدعوى . وهي ولاية لا يحدها اي قانون او سابقة قضائية . ومفهوم مستحدث يذهب الى ان التغير الهائل في طبيعة الحياة المعاصرة اوجد مفاهيم جديدة واساليب جديدة للحياة والعمل ، وبالتالي موارد نزاع ، لم تكن منظورة في الموروث الفقهي . لقد تطور هذا الموروث ضمن اطار حيوي بسيط يسهل الاحاطة بتفاصيله .

لكن مع التعقيد الهائل للحياة المعاصرة وتشعب الاطراف والعلائق بين كل مسألة والاخرى ، اضافة الى تنوع الانعكاسات المترتبة على كل عمل ، قد اوجب الاتجاه الى التخصص على كل صعيد اداري ، او تنظيمي ، او قضائي . ومنذ ستينات القرن الماضي حاولت الدولة ايجاد منظومات شبه قضائية موازية للمنظومة الاساسية ، تتولى الحكم في النزاعات التجارية والعمالية والمالية ، وبعضها لا زال فعالا . وكان انشاء هذه المنظومات محاولة لاستيعاب مشكلة التنوع في الاختصاصات وضرورة التخصص في ممارسة القضاء .

وفي معظم دول العالم ، تنطوي منظومة القضاء الاساسية على تفرعات متخصصة ، فثمة محاكم خاصة للامور العائلية ، واخرى للنزاعات التجارية ، وثالثة لقضايا الامن الوطني وهكذا. ومع الاتجاه الى التخصص ، ظهر قضاة ومحامون متخصصون في جانب محدد ، فهذا مختص بقضايا الملكيات الثابتة كالعقار ، وذاك مختص في قضايا الملكية الفكرية والفنية ، وثالث في القضايا المالية ، واخر في العلاقات العائلية ، واخر في الترحيل .. الخ .

وامتد التطور ايضا الى تصنيف القضايا ذاتها ، فقسمت الى دعاوى جنائية واخرى مدنية . وفي معظم دول العالم تصنف قضايا الاساءة المعنوية او تشويه السمعة او القذف - ومن ضمنها قضايا النشر - ضمن النوع الثاني ، ولا تترتب عليها اي عقوبات بدنية او تعطيل الحريات الاساسية ، بل تتعلق بها غالبا غرامات مالية اضافة الى طلب اعتذار علني . كما  يشترط ان تجري المحاكمة بحضور هيئة محلفين يمثلون – معنويا على الاقل – الراي العام .

خلاصة الكلام ، ان تلك القضايا التي اغلق بابها عمليا بقرار من السلطة التنفيذية ، قد فتحت الباب على موضوع اوسع ، هو الحاجة الى تطوير اجراءات التقاضي بما يتناسب وتغير انماط ومجريات الحياة . وفي ظني ان ابرز ما ينبغي السعي فيه هو المزيد من التخصص واعادة تعريف موارد النزاع بالرجوع الى المفاهيم الجديدة والعلائق المختلفة التي اصبحت واقعا في حياتنا ، بقدر ما ازاحت وبشكل نهائي المفاهيم والعلائق التي ورثناها من اسلافنا الذين يسكنون القبور.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الانتقال الى الحداثة

بعد جدالات الاسبوعين الماضيين ، قد يسألني القاريء العزيز: لنفترض اننا اردنا التحرر من أسر التقاليد المعيقة للتقدم والتكيف مع روح العصر ومتط...