15/10/2011

رجل السياسة .. دليل في الحكم الرشيد : عرض ونقد


عرض نقدي لكتاب  "رجل السياسة دليل في الحكم الرشيد" 
بقلم الاستاذ سلمان العيد


حينما طلب مني اخي الكبير محمد المحفوظ بأن اقدم مداخلة حول كتاب اخينا الأكبر واستاذنا الفاضل الدكتور توفيق السيف والذي حمل عنوان (رجل السياسة .. دليل في الحكم الرشيد)، وكنت قرأته من قبل، مما اضطرني للعودة الى الكتاب وقراءته مرة اخرى بغرض المداخلة، وهناك فرق كبير بين القراءة للمعلومة، وقراءة للمداخلة، خاصة وان الأحبة حددوا لي خمس دقائق لهذه المداخلة، وصادف انني ـ وبحكم العادة ـ وضعت بقلم الرصاص بعض الملاحظات المتفرقة يمكن عرضها كالتالي: 

اولا: لو جئت الى عنوان الكتاب (رجل السياسة .. دليل في الحكم الرشيد) تراه غامضا، بالنسبة لي على الأقل، فعلى ضوء هذا العنوان هل الكتاب موجه الى السياسيين، عليهم ان يلتزموا بالقانون ومبادي الحق والحرية والعقد الاجتماعي وما شابه ذلك، ام هو موجه للناس عليهم ان يعرفوا من هو الحكم الرشيد، فعلى ضوء معطيات الكتاب وفصوله التسعة نجد انه يتبنى التعريف والتوعية وقد قال في مقدمة الكتاب بأن هذا الكتاب هو "محاولة لتوضيح معالم الثقافة السياسية الجديدة، فهو يعرض ابرز قواعد التنظيم السياسي والاجتماعي الحديث، ويركز على مكانة الفرد وعلاقته بالجماعة، ومفهوم الدولة وعلاقتها بالمجتمع وآلية اتخاذ القرار وحل المشكلات" ص 12 
إن هذا العرض لايعني ان الكتاب دليل يحدد بعض المهام، بقدر ما يعرض بعض المعالم، وليس دليلا ذا بنود محددة.. فالعنوان لا ينطبق على المعنون بالكامل.
ثانيا: وحينما عرض المؤلف مبرراته في هذا البحث، والذي حددها بالتطور الحاصل في المجتمع والانتقال الى الحداثة، والتي وصفها بقوله ان الناس يبدأون "بتغيير حياتهم انطلاقا من مقارنات سطحية بين الطرق المعتادة ونظيرتها الجديدة، ثم يأخذون بالقيم الجديدة، كي تتناغم مع واقعهم الحياتي الجديد، او ربما كي تبرره. المسألة بطبيعة الحال اعقد من هذه العبارات المبسطة، اذ تشهد المرحلةالانتقالية تدهورا مستمرا لمنظومات القيم الموروثة التي يقوم على ارضيتها الاجماع الوطني وشرعية النظام الاجتماعي/ السياسي، وهذا يستدعي اعادة بناء الاجماع ومنظومات القيم التي تسنده والثقافة السياسية التي تشكل وعاءه الذهني، اهما هذا الجانب قد يطيل المرحلة الانتقالية التي تتسم بعدم اليقين وتكير فيها الخلافات كما تتسم بتساعد القلق الذي يعبر عن نفسه احسابة في صورة ازمة هوية" صـ 12
فتجد من هذه العبارة اولى علامات الارتباك والتناقض، قد تصدمك وانت تقرأ الكتاب من مقدمته، فالمقارنات السطحية تحدث تدهورا في القيم الموروثة، وهي سطحية ساهمت في احداث ازمة هوية. طبعا لم يورد المؤلف اي مثل يوضح لنا تلك المقارنات وكيف تحولت من سطحية الى معقدة، ثم الى قلق ادت الى أزمة هوية.. 

ثالثا: وحين تطرق الى اولى مشكلات البحث حددها في " ندرة البحوث ذات العلاقة بالتراث الاسلاميوان معظم الدراسات المنشورة هي إعادة انتاج لمناقشات في الاطار المعرفي الغربي، وكل باحث يواجه هذه الاشكالية" .. وهذه العبارة التي وردت في المقدمة (ص12) كررها في مطاوي البحث، واجد ان هناك شيئا من المبالغة، بدليل تجربة ابن خلدون والفارابي واخوان الصفا، وقبلهما الامام علي عليه السلام في عهده لمالك الاشتر، والامام السجاد في رسالة الحقوق، وقبلهما حكومة الرسول الاكرم، مرورا بمجموعة دراسات ونقاشات اوردها الكاتب نفسه في بعض فصول الكتاب، ومع هذا اعتبرها نادرة، بل لم يعتمد عليها، فلم يرد ـ على حد علمي ـ اية اشارة لتجربة ابن خلدون، ولا لرسالة الحقوق، واما عهد الاشتر فجاءت اشارة في الهامش. ولا يلام الكاتب فقد اوضح بأنه يبحث في الفكر السياسي الحديث، لكنه عاد وتحدث عن الفكر السياسي القديم مرة اخرى، لكن بصورة ناقدة وعابرة.

ولفت السيف الى ان التجربة الغربية في الحكم انتقلت من شخص الحاكم الى نظام علاقات واسع متعدد الابعاد له دينامياته وادوات عمله الخاصة والتي تمثل بمجموعها مؤسسة مستقلة عن شخص رئيسها ولا شك ان هذا التوصيف دقيق، ولا خلاف عليه، لكن المؤلف جزم بأن "الفكر السياسي المعاصر هو من دون شك ثمرة النقاشات الفلسفية التي شهدتها اوروبا في القرن السابع عشر" (ص14)، دون ان يكون هناك اي تأثر بتجربة المسلمين ولا حتى الاغريق، مستدلا على ان اول من فتح الجدل هو ميكافيلي في كتابه الامير، وهذا الأمر اظن ان عليه نقاشا طويلا، وتبلغ به المبالغة الى القول الى النقاشات الموجودة في المجتمعات التقليدية (ويقصد بها المجتمعات العربية والاسلامية) هي تكرار لما نوقش من قبل. ص15 على ضوء ذلك فالدكتور السيف لايرى في المجتمعات التقليدية اي مساهمة اضافية للفكر السياسي، لا من القديم ولا من الحديث.
ورغم اعلانه الصريح بأنه قد تعامل مع الفكر الانساني باعتباره انسانيا في المقام الأول، اي بغض النظر عن مصدره او جنسية منتجيه، الا انه كان عارضا للفكر الغربي بصورة تفصيلية، وقد نجد العذر له لو كان الحوار عن الواقع الحالي، لكننا لا نعذره اذا ناقش الفكر القديم وتغافل بعض المساهمين في الفكر الانساني على الصعيد السياسي، او تغافل عن تجارب شهدها الشرق في وقت سابق.

رابعا : في الفصل الأول الذي حمل عنوان (السؤال المحوري في علم السياسة) يتحدث المؤلف عن مفهوم الدولة، وتطرق الى اغراض الدولة، وتطرق الى العدالة كمحور اساس تتمحور حوله الدولة، لكن الذي حدث خلال العرض كله ان هناك ما يشبه التداخل اللفظي بين مصطلحي (الدولة والسلطة)، ولم يقدم تعريفا لمصطلح الدولة، ولا تعريفا لمفهوم العدالة الذي تنشده الدول، وهواهم وابرز اهدافها.

ورغم اعترافه بأن الدولة مثل "الكائنات الاجتماعية الاخرى في حال تغير مستمر" ص 41 لكنه لم يتطرق لصاحب النظرية وهو ابن خلدون، ورغم عرضه لتطورات مفهوم الدولة لم يتطرق الى العالم الاسلامي وحكومات البيعة والغلبة، الذي تطرق له في اكثر من مكان في البحث، وهي تجارب تنطوي على معطيات ايجابية وسلبية ايضا.

خامسا: وفي الفصل الثاني وحول (اشكالية المصدر الغربي في الفلسفة السياسية) يجيب المؤلف على السؤال معتمدا على مقولة المرحوم محمد عابد الجابري من اننا ندرس تجربة نعيشها، بعكس تجربة لا نعرف عنها الا ما رواه لنا الكتاب، لكنه وقع في تناقض اذ درس التجربة اليونانية وهو لم يعايشها، وانما اعتمد على مقولات وروايات الكتاب، كما انه أكد بأن الفلسفة السياسية بدأت من القرن السابع عشر ونحن الان في القرن الواحد والعشرين، هذا فضلا عن انه لم يقدم في الكتاب ككل دراسة لأي تجربة معاصرة قائمة، وانما كل دراسته رصد لتطورات الفكر السياسي الحديث، وما انتجه مفكرو السياسة المعاصرون مثل جاك روسو، وهوبز ولوك وغيرهم.

وفي الفصل نفسه تحدث عن صورة السلطة لدى قدامى الاسلاميين، لا بغرض رصد المعالم، مؤكدا بأن مؤسسة الدولة لم تنل كبير اهتمام عند فقهاء وفلاسفة المسلمين القدامي، بل يقرر:" إن مفهوم الدولة الذي نعرفه اليوم لم يكن موجودا في العصور التي شهدت معظم الكتابات الاسلامية حول السلطة" ص50 
الشاهد ان المؤلف يرفض ان يكون للمسلمين اي دور في التنظير للشأن السياسي، وذلك لثلاثة اسباب اوردها المؤلف (ص58) وهي:
1ـ الصفة الدينية للدولة والحكم 
2ـ قيام التنظيم الاجتماعي على اساس علاقات عمودية (قبيلة، عرق، مذهب)
3ـ شدة الصراع على السلطة وتحول الانتاج الفكري الى وسيلة للدعاية السياسية.

ويؤكد بأن الاسلاف لم يتركوا لنا شيئا مهما في الفلسفة السياسية والفكر المتعلق بالدولة والسلطة، بل ان القليل الذي تركوه متلصق بالظرف التارخي الخاص الذي ولد فيه، ولا يمكن التعويل عليه كمرجع نظري معياري لاي منظومة قيمية تتعلق بالشان السياسي في عصرنا الحاضر ...." صـ 59

ورغم عدم وضوح المبررات التي اوردها في تراجع التنظير لدى المسلمين حول الحكم فأجد ان هذا التراجع ـ اضافة الى ما قاله المؤلف ـ يعود الى قساوة الحكم العائلي (الأموي، العباسي، العثماني، الفاطمي)، وانشغال الامة بتخلفها بعد سقوط دولة الخلافة، وصار توجهها لتحقيق الاستقلال، في حين ان العالم توجه الى بناء الدولة الحديثة . ولا اظن ان الدولة الدينية في حال قامت تمنع من التنظير والبحث في شؤون الحكم بدليل ان دولة الامام علي عليه السلام كانت دولة دينية، ومع ذلك قام هو بنفسه بالتنظير لنظام الحكم من خلال عهده للاشتر النخعي، والحال نفسه بالنسبة لحكومة ايران الحالية وهي دولة دينية تجد ان التنظير لنظام الحكم خلال الثورة وما بعد الثورة كثير لعل ابرزها مساهمة الشيخ منتظري عن ولاية الفقيه.

خامسا: في الفصل الثالث تحدث عن مصطلح المؤلف عن الرابطة الاجتماعي ولا يعدو ان يكون الحديث اخلاقيا، عن الواجبات والحقوق، ورغم جمال وروعة العرض في هذا الفصل ـ كما هو في باقي الفصول ـ الا ان ثمة ملاحظة فنية وهي حالة اسهاب كبيرة في هذا الجانب 

سادسا: خصص الدكتور السيف الفصلين الرابع والخامس حول العقد الاجتماعي، وهو حديث طويل، تعرض فيه لكثير من القضايا في هذا الأمر، فالعقد الاجتماعي ـ كما نعرف ـ هو آلية معينة لتنظيم العلاقة بين الناس في المجتمع ويقوم على توافق وتعاقد بين الاعضاء، وبينهم وبين الحكومة، فهو بذلك ينسجم مع الفطرة الانسانية. فهو نظام حياة لا يحتمل ان يفسره البعض بأنه معارض لله . وقد تعرض الكاتب لمجمل الاراء التي تناولت المفهوم بالوفاق او الخلاف. واجرى مقاربة بين العقد الاجتماعي كمصطلح غربي ومقاصد الشريعة الاسلامية، واظن ان الاسلام يحتوى على جملة تعليمات يمكن الخروج بنظرية وصيغة للتعامل مع الحاكم والمحكوم دون الاعتماد على المقولات التي اوردها المؤلف لعدد من المفكرين الغربيين .. وأظن ان تجربة الشيخ محمد مهدي شمس الدين، و السيد محمد الشيرازي جيدة في هذا الشان. 

سابعا: خصص المؤلف الفصول الاخيرة لموضوعات الحرية والقانون والحق والشرعية وما يمكن قوله في هذا الشأن، وكما بدا لي من عرض المؤلف لهذه المفاهيم يتمثل ان وضوح مفهوم كمفهوم الحرية الحرية لدى الانسان ينقله الى تحقيق العدالة، والحق، فالعدالة لا تتحقق بدون حرية، والحق لا يمكن الوصول اليه اذا لم تكن هناك حرية. وكما عرفنا من بداية البحث فإن المؤلف اكد بأن اهم اغراض الدولة هي العدالة، فالحرية جزء من العدالة، وهي حق للانسان.

اما بالنسبة الى الشرعية والقانون، فالعديد من الدول تستمد شرعيتها من مصدر معين، فهناك مصدر الشارع اوالجمهور، وهناك مصدر الغلبة، وهناك مصادر اخرى .. هذه المصادر هي التي تحدد الموقف من النظام الحاكم هل بالقبول ام الرفض. والقبول قد يكون قسريا، لا يعني ان النظام الحاكم شرعيا، فشعوب العالم الثالث خاضعة لحكوماتها التي وصلت الى الحكم بالانقلاب، ولكن هذا لايعني شرعية الانقلاب.

واخيرا وجدتني في حديقة غناء مليئة بالورود والرياحين، والافكار الرائعة التي هي من روعة صاحبها، فهو في غنى عن مدحي، كما ان شهادتي فيه مجروحة، فماذا تتوقع ان يقول الابن عن والده، والتلميذ عن استاذه غير كلمة شكرا على ما قدمته لنا 
سلمان العيد
نقلا عن مركز افاق للدراسات والبحوث http://aafaqcenter.com/post/869

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...