في
هذه الايام لم يعد الناس مهتمين بالجدالات القديمة حول علاقة الدين بالعلم. لكن
هذا لم يكن الحال على الدوام. ولعل بعض القراء (كبار السن خاصة) يذكرون الحماسة
التي أثارها نشر كتب مثل "الإسلام يتحدى" لوحيد الدين خان ، و"العلم يدعو للايمان" لكريس
موريسون ، و "مع الله في السماء" لاحمد زكي ، و "الطب محراب الايمان" لخالص جلبي ، والعشرات من أمثالها ، خلال عقد السبعينات من القرن
العشرين. وكان جميعها يحاول اثبات ان الاسلام يحترم العلم ويقر بدوره في الحياة.
لكن
يبدو ان المسألة بقيت في حدود الدفاع والتبرير ، ولم تتجاوزه الى المرحلة التالية
، اي سؤال: اذا كان الدين يعطي للعلم هذا المكان الرفيع ، فهل يأخذ الدين نفسه
بنتائج البحث العلمي فيطبقها على نفسه؟.
والحقيقة
ان هذا السؤال بقي على الدوام موجها الى اهل الاسلام ، من عامة الناس والدعاة
والفقهاء. فثمة من يقول لهم: لو صح هذا الكلام الفخم ، لتحول العلم الحديث (ونتاج
العقل الانساني عموما) الى عنصر اساسي في تصنيع الفكرة الدينية ، اعني الفتوى
والسلوكيات والتوجهات والمتبنيات الحياتية ككل. ولو كان الكلام جادا لكان لأهل
العلوم (المصنفة خارج اطار الدين) ذات المكانة التي يحظى بها الفقيه ، ولكان لرأيهم
ذات القيمة ، ليس عند عامة الناس ، بل عند الفقهاء ، لان عالم الاقتصاد مثلا اعلم
من الفقيه في مجاله. ومن هنا توجب على الفقيه ان يرجع اليه ويطيعه ، بنفس الدليل
الذي يوجب رجوع عامة الناس الى الفقيه في المسائل الفقهية. لايوجد دليل يلزم عامة
الناس بالعودة للفقيه في امورهم الشرعية ، سوى الدليل العقلي القائل بلزوم
رجوع الجاهل الى العالم اذا احتاج الى العلم. اذا كنا نؤمن حقا بان للعلم مكانة
رفيعة في الدين ، فيجب ان تظهر آثارها هنا ، قبل اي مكان آخر.
أعلم
ان مدارس العلم الديني تقاوم "بشدة " فكرة تحديث المنهج الدارسي ، او
الاقرار بأي دور مركزي لغير العلوم التي جرى ، منذ زمن طويل ، تثبيتها كمقدمات
لفهم النص الشرعي والتأهل للاجتهاد والفتوى. وأبرز هذه العلوم هو التفسير وعلوم
القران واللغة العربية والمنطق والحديث (الدراية) والرجال (الجرح والتعديل). هذه
العلوم تعد مغذية وخادمة لعلم اصول الفقه الذي يمثل محور البحث العلمي في تلك
المدارس.
لقد
تطورت ادوات فهم النص ، بفضل تقدم نظرية المعرفة والتأويل الفلسفي ، فقد وفر كل
منهما مناهج جديدة ، تتيح التوصل الى رؤى مختلفة تماما عما توصل اليه الاسلاف ،
وتحقق المبدأ القائل بقابلية القرآن
لعبور الزمن.
نعلم
ايضا ان قضايا عديدة تعلقت بها أحكام واجماعات ، قد تغيرت في الواقع ، مع انها لا
زالت على حالها في كتب التراث ونصوصه. ومنها مثلا اعتبار المصارف ربوية ، بناء على
فهم قديم فحواه ان الفائدة المشروطة هي مناط الوصف والحكم. ومنها ايضا تحريم
التعاملات المصنفة ضمن السوق المستقبلية ،
لقولهم بجهالة اطراف البيع وموضوعه. ومنه كذلك تحريم تقلد النساء لوظائف الولايات
، وحرمة السفر الى بلاد الكفار والقانون الدولي. ومنه قضايا الدولة الوطنية وعلاقة
اهل الوطن ببعضهم ، فضلا عن اغفال مفهوم "الحق" بصورة عامة في البحث
الفقهي والفكر الديني ككل.
انني
مؤمن بان العلم ونتاج العقل الانساني عموما ، ينبغي ان يكون حاكما على حياة
الانسان. وعندي ان هذا يلبي امر الله بالتعلم والعودة الى اهل العلم. هذا واحد من
معاني دين النخبة ، مع انه يجعل مصدر العلم الديني واسعا جدا ، بل اقرب الى دين
العامة ، كما اشرنا في مقال الاسبوع المنصرم.
الشرق الاوسط الأربعاء - 15 ذو الحجة 1441 هـ - 05 أغسطس
2020 مـ رقم العدد [15226]
https://aawsat.com/node/2429906