‏إظهار الرسائل ذات التسميات عرض كتاب. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات عرض كتاب. إظهار كافة الرسائل

01/11/2009

حدود الديمقراطية الدينية - عرض كتاب

عرض كتاب
 حدود الديمقراطية الدينية: دراسة في تجربة إيران منذ ١٩٧٩
تأليف : توفيق السيف
عدد الصفحات: ٤٠٧
الطبعة: الأولى/ ٢٠٠٨
تشرين الثاني  2009
 شغلت إشكالية العلاقة بين الظاهرة الدينية والظاهرة السياسية أذهان المفكرين على مدار تطور الفكر  السياسي. ومن أهم تجليات هذه الإشكالية في العصر الحديث علاقة الدين أو الإسلام تحديدا بالديمقراطية، وما يرتبط بها أو يتفرع عنها من إشكاليات فرعية نظرية وتطبيقية، والتي لا يكاد الجدل يخمد بشأنها حتى يثور من جديد.
وفي العقود الأخيرة، ولاسيما بعد أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١ ، احتدمت المناظرة حول مدى الانسجام والتنافر بين الإسلام والديمقراطية، وافترق المتناظرون إلى عدة تيارات. فهناك من يقطع بالتناقض المتأصل بين الإسلام والديمقراطية؛ كون الأول يمثل عقبة كؤودا أمام القيم والممارسة الديمقراطية. وثمة من يبشر  بديمقراطية الإسلام؛ على أساس أن جوهر الديمقراطية من صميم الشريعة الإسلامية، وأن ادعاء التنافي بينهما خطيئة. أما التيار الثالث، فيركز على البعد الإجرائي للديمقراطية ويعطيها الأولوية على باقي الأبعاد الفكرية، ويحاجج تبعا لذلك أن التقاليد السياسية الديمقراطية ليست غريبة عن التاريخ السياسي الإسلامي. وأخيرا، هناك من يجادل أن في الإسلام ديمقراطية خاصة؛ تخالف غيرها في نشأتها ومرجعيتها وغايتها ونطاقها...إلخ. 
ومن هنا تنبع أهمية الكتاب الذي بين أيدينا، والذي يبحث في إمكانية تطوير نموذج مختلف للعلاقة بين الدين والدولة الحديثة يعزز المشاركة السياسية، أو تصميم "نموذج ديمقراطي محلي" قادر على التفاعل مع الهوية والقيم الدينية للمجتمعات الإسلامية. ومن النظرية إلى التطبيق، يستقرئ مؤلفه الدكتور توفيق السيف- الباحث والكاتب المتخصص في العلوم السياسية والفقه الشيعي- تجربة إيران بعد الثورة، وبصفة خاصة التجربة الاصلاحية (1997-2004)، التي شهدت اشتغالا جزئيا أو كليا للدين في الحياة السياسية والاجتماعية، لاختبار فرضياته.
وليس ثمة أفضل من هذا التوقيت لمراجعة كتاب حول حدود الديمقراطية الدينية في إيران؛ فالانتخابات الرئاسية الإيرانية (يونيو ٢٠٠٩ ) على بعد أسابيع عدة، حيث يتصاعد التنافس والصراع بين المحافظين،    وعلى رأسهم الرئيس أحمدي نجاد، والإصلاحيين، ويمثلهم رئيس الوزراء الأسبق مير حسين موسوي، لكسب أصوات الناخبين، وينخرطون في نفس المناظرات المسطرة على صفحات هذا الكتاب. كما أن تجربة إيران توفر للقارئ فهما أفضل لإمكانات عملية التحول الديمقراطي في الدول الإسلامية وصعوباتها وحدودها، وفرصة فريدة لمراقبة تطبيقات الإسلام السياسي واختبارها.
وقبل الولوج في أغوار التجربة الإيرانية، يقدم د. السيف تحليلا لتطور إشكالية السلطة في الفكر السياسي الشيعي منذ القرن الثامن حتى المرحلة المعاصرة. ثم يناقش دور آية الله الخميني في تجسير الفجوة بين التشيع التاريخي والفكر السياسي المعاصر، وذلك بفضل التعديلات التي أدخلها على المعتقدات الشيعية الخاصة بالإمامة والسلطة، والصيغة التي قدمها للتوفيق بين مصدري الشرعية السياسية الديني والشعبي، والولاية العامة للفقيه في نظام جمهوري.
بعد ذلك، يدلف الكاتب إلى مناقشة التحولات في البنية الاجتماعية في إيران، وانعكاساتها على الخطاب الديني. ومن ثم، ينشغل بقراءة أبعاد التغير في الاقتصاد والعلاقات الاجتماعية في السنوات التي أعقبت قيام الجمهورية الإسلامية، وتأثيرها في الثقافة السياسية والتنظيم الاجتماعي والمفاهيم الناظمة للعلاقة بين الدولة والمجتمع.
وفي فصلين متتابعين، يُقدم د. السيف صورة مقارنة عن أيديولوجية التيار الديني المحافظ ونظيرتها الإصلاحية، ويعرض لأبعاد التباينات الحادة بينهما، ولاسيما فيما يتعلق بمفاهيم الجمهورية، ومصدر الشرعية السياسية، ودور الشعب، وسيادة القانون، وعلاقة الدين بالدولة، ونموذج التنمية الأفضل ، وغيرها. كما يناقش الأطر المرجعية التي يستند إليها كل من التيارين المحافظ والإصلاحي في أطروحاته، وكذلك التفسيرات الجديدة التي يعرضها الإصلاحيون للعلمانية. يتلو ذلك عرض للأحزاب الرئيسة الفاعلة في إيران؛ بغرض استقراء واقع القوى السياسية التي تدعم كلا من الخطاب المحافظ ونظيره الإصلاحي، ومدى فاعليتها في استمرار زخمه. ويختتم الكاتب مناقشته بتحليل ظاهرة المحافظين الجدد في السياسة الإيرانية، وتفسيرها تفسيرا بنيويا.
في محاولته تطوير نموذج ديمقراطي محلي أو إسلامي، أثبت د. السيف صحة الفرضية المتعلقة بقابلية القيم وقواعد العمل الدينية، ولاسيما المتعلقة منها بالشأن العام، للتكيف مع متطلبات الحياة المتغيرة. فضلا على ذلك، اتضح من دراسة خبرة المجتمع الشيعي أن انفتاح الفكر الديني على التطورات السياسية، أو انغلاقه دونها، ارتبط دائما بدرجة انخراط المجتمع في السياسة. لكن الأهم، يجادل السيف، هو أن انخراط الدين في العملية السياسية يمثل عاملا حاسما في تطور الفكر السياسي الديني؛ بمعنى أن هذا الانخراط من شأنه أن يجعل الفكر الديني أكثر تقبلا لضرورات الدولة الحديثة ومتطلباتها، الأمر الذي سيقود، بالضرورة، إلى تخليه  عن المفاهيم التي ظهرت أو تطورت في ظل الدولة ما قبل الحديثة، وبقيت جزءا من التراث الديني حتى اليوم. أما اتجاه هذا التطور (دعم الديمقراطية أو تسويغ الاستبداد)، فإنه يتحدد في ضوء عوامل أخرى، ولاسيما توازنات القوة في البيئة الاجتماعية، الثقافة السياسية السائدة، إضافة إلى الاتجاه العام في النظام الدولي بالنسبة لعملية التحول الديمقراطي.
في هذا الخصوص، أكدت الخبرة الإيرانية، كما يبرهن الكاتب، أن الدين يمكن أن يلعب دورا محوريا في تشكيل إجماع وطني على النظام السياسي، وتجسير الهوة التي تفصل المجتمع عن الدولة، وبالتالي تشجيع مشاركة المواطنين في الحياة العامة. ومن ثم، فإن العلمانية، برأي د. السيف، ليست جوابا مفيدا لمشكلة العلاقة بين الدين والديمقراطية، ولن تكون عاملا مساعدا على التحول الديمقراطي في إيران، بل قد تعوق ظهور ثقافة سياسية محلية جديدة قادرة على تسويغ المشاركة الشعبية.
يُقسم الكاتب مسار المصالحة بين الإسلام والديمقراطية في الخبرة الإيرانية إلى مرحلتين: المرحلة الأولى التي أعقبت انتصار الثورة، واستهدفت في المقام الأول إدماج الدين في مؤسسة الدولة، وإلغاء التباين بين الاثنين. وقد أثمر ذلك فتح الطريق أمام تعديل مواز في الأحكام وقواعد العمل الخاصة بكل من الدين والدولة؛ لجهة إزالة التعارضات وتسهيل استجابة كل من الطرفين لضرورات الآخر. واستهدفت المرحلة الثانية، أو مرحلة ما بعد الخميني، مصالحة الدين مع الديمقراطية، من خلال تعديلات واسعة في المفاهيم الدينية المتعلقة بدور الشعب وحاكمية القانون من جهة، وتعديل مفهوم الدولة المركزية من جهة ثانية.
يرى د. السيف أن صعود التيار الإصلاحي كان ثمرة فشل النموذج الثوري-التقليدي في التعامل مع التغيرات الجذرية التي شهدتها إيران والعالم، في تسعينيات القرن المنصرم؛ لدرجة أن هناك من وصف انتصار محمد خاتمي في انتخابات ١٩٩٧ الرئاسية بأنه ثورة ثانية. ومن خلال الفحص الموضوعي لتجربة الإصلاحيين في الحكم وأيديولوجيتهم، يلخص الكاتب خصائص الخطاب الإصلاحي بأنه خطاب يجمع بين الأساس الديني والمفاهيم الديمقراطية-الليبرالية واقتصاد السوق الحر، ويتبنى عددا من المعالجات النظرية التي تمثل اختراقات في جدل الدين-الحداثة، وتتعلق بمسائل جوهرية مثل الطبيعة الدينية للدولة، ومصدر السلطة والسيادة، ودور الشعب وغيرها. وقد عالج المفكرون الإصلاحيون هذه المسائل من منطلقات دينية أصيلة، لكن تفسيراتهم الجديدة مكنتهم من التوصل إلى صياغات قريبة جدا من تلك المعروفة في الأدبيات السياسية الحديثة.
يستنتج الكاتب أنه في حين فشل التيار الإصلاحي في إحداث تغيير كبير في بنية السلطة أو المحافظة على دوره السياسي، فقد نجح في تغيير البيئة السياسية في إيران، وإرساء حزمة مهمة من الإصلاحات في البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبصفة خاصة في علاقة الدولة بالمجتمع. ولا شك في أنها، ضمن هذه الحدود على الأقل، يزعم الكاتب، جعلت إيران أقرب إلى الديمقراطية مما كانت عليه قبل عشر سنوات.
بعبارة أخرى، تمثل تجربة الإصلاحيين الفكرية والسياسية نموذجا يثير الاهتمام في تجسير الفجوة بين الدين والديمقراطية، ويقدم مفكرو هذا التيار حلولا جديدة للكثير من المسائل التي ما زالت تثير الجدل في الشرق الأوسط حول إمكان التوصل إلى نموذج ديمقراطي محلي.
يستحق د. السيف الإشادة على تحليله لظاهرة المحافظين الجدد، وهم جيل جديد من المحافظين (تحالف التنمية "آباد كران")، يتمثل في الرئيس احمدي نجاد ومعاونيه؛ فهو موضوع لم ينل حقه من اهتمام الباحثين في المناظرة الدولية الراهنة حول الوضع الإيراني. وينطوي هذا التطور، في رأي الكاتب، على تحول هيكلي في النخبة السياسية الإيرانية، المحافظة بخاصة، يتجسد في انتقال السلطة الروحية، وتبعا السياسية، من كبار الروحانيين والجيل التقليدي بشكل عام، إلى جيل جديد ينتمي إلى الطبقة الوسطى الحديثة، ويتكون أساسا من الشباب والتكنوقراط. أما دلالات صعود المحافظين الجدد، فيشير الكاتب إلى تزايد الاتجاه نحو التشدد في إيران، وتمكن مرشد الجمهورية من استكمال سيطرته على خيوط السلطة (حيث يقف شخصيا وراء هذا التحول)، وتصاعد دور العسكريين في العملية السياسية.
ينحو خطاب النخبة المحافظة الجديدة، كما يشرح الكاتب، منحى تقليديا في الأمور المتعلقة بالدين والممارسة السياسية، ويتخذ في الوقت نفسه مسلكا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا يميل إلى تدخل الدولة في شؤون المجتمع، ويحبذ، بصفة خاصة، النموذج الصيني في التنمية من دون أن يكون جاهزا تماما للتعامل مع متطلباته وتحدياته، ويميل إلى تشديد الانقسام في الساحة الداخلية. وينظم التصور الخارجي للمحافظين الجدد مبدأ "أمة قوية تفرض احترامها"، لكنه في التطبيق العملي أفضى إلى وضع يقترب من العزلة الدولية.
ويخلص الكاتب إلى أن سياسات الرئيس نجاد أثمرت عددا من النتائج السلبية اقتصاديا وسياسيا، داخليا وخارجيا.
وبعد، فإن الكتاب يقدم مساهمة معتبرة إلى المناظرة الراهنة حول العلاقة بين الإسلام والديمقراطية في النظرية
 والتطبيق. في هذا المجال، يستخلص الكاتب أن تطور الفكر السياسي الشيعي في الخبرة الإيرانية بعد الثورة يشير إلى أن قيام نظام ديمقراطي على أرضية دينية هو احتمال واقعي وقابل للتحقيق. ويمكن لمثل هذا النموذج أن يوفر بديلا عمليا للمحاولات المتعثرة للتحول الديمقراطي في العديد من المجتمعات الإسلامية، ولاسيما تلك التي يرتبط تعثرها بالعجز عن ترسيخ الديمقراطية في الثقافة المحلية، واستنهاض المواطنين للمشاركة في التغيير.
كما يوفر هذا التحليل نافذة جديدة تطل بنا على الفكر السياسي الشيعي، والمسائل الكبرى التي انشغل بها مفكروه، مثل الإمامة أو الخلافة، والشورى، والسلطة، سواء من حيث مصدرها وطبيعتها ووظائفها، أو من حيث شرعيتها وحدودها، ومن ثم العلاقة بين الحاكم والمحكوم.
علاوة على ذلك، يتميز الكتاب بمصادره الغنية العديدة والمتنوعة بين مصادر أولية وأخرى ثانوية وبحوث ميدانية. وقد وظف الدكتور توفيق السيف إطارا نظريا ملائما، استقاه من عدة نظريات سوسيولوجية (ماكس فيبر، ألموند  ، كون ، وجون رولز) لتفسير العلاقة بين الدولة والمجتمع، وفهم مدى التغيير الممكن في الفكر الديني كنتيجة لانخراط الدين في السياسة. كما استفاد من نظريات الثقافة السياسية لتفسير الحراك الديمقراطي في إيران. وعلى الرغم من بعض الهنات هنا وهناك، وبصفة خاصة ما يبدو أنه بعض التحيز ضد المحافظين، فإننا بصدد تحليل متميز ومبتكر لعلاقة الدين بالسياسة، ولمفهوم الديمقراطية الدينية أو الثيوقراطية وحدوده، وللخبرة الإيرانية بعد الثورة، وهو يشكل إضافة للمكتبة العربية.

16/06/2009

هل تتلاءم الثقافة الإسلامية مع الديموقراطية؟


بقلم توفيق المديني
جريدة المستقبل  - الثلاثاء 16 حزيران 2009 - العدد 3335 - ثقافة و فنون - صفحة 18

الكل في العالم العربي، وفي العالم الغربي، تساءل في نهاية عقد السبعينيات من القرن الماضي، عن التطورات السياسية والإسقاطات السياسية، على ضوء انتصار الثورةالإسلامية في إيران، ومدى تفاعل مجموعة من التغيرات الإيرانية مع المعطيات الإقليمية والدولية في منطقة الشرق الأوسط.
الرئيس السابق محمد خاتمي 
وهناك تساؤل ألقى بثقله على الساحة العربية، منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران، ويتمثل ماهو الأفضل للعالم العربي، أن ينخرط في تجربة الديمقراطية الغربية، حتى وإن عبدت هذه الديمقراطية الطريق لوصول الحركات الإسلامية الأصولية إلى السلطة، أم أن الأمرعلى عكس من ذلك يتطلب الإبقاء على الأنظمة التسلطية عن طريق إجهاض الفوز الانتخابي للإسلاميين بحجة حماية المسار الديمقراطي، والمثل الديمقراطية؟ وفي سؤال جامع، هل حالة الديمقراطية حالة شر تام أم حالة خير للعالم العربي؟

لاتزال ظاهرة الإسلام السياسي على تنوع حركاته وتياراته في العالمين العربي والإسلامي تشغل اهتمام الباحثين والمفكرين العرب. فقد عقدت في السنوات الأخيرة ندوات فكرية عدة، شارك فيها باحثون ومفكرون لهم تجربة غنية بالفكر وخبرة سياسية عملية ومساع ديموقراطية معروفة، ومتحفظون ومعترضون على الديموقراطية، لتقديم مقاربات حول إشكاليات الديموقراطية، بهدف نقل الحوار حول الديموقراطية في البلاد العربية خطوة إلى الأمام على طريق تأسيس أرضية فكرية سياسية مشتركة لتأصيل الديموقراطية في الحياة السياسية العربية دون تعد على ضوابط نظام الحكم الديموقراطي ومبادئه العامة المشتركة، ودون تضحية بثوابت الأمة ومصالحها الحيوية.

وغالباً ما يتساءل بعض الباحثين والمنظرين العرب والأجانب عن العلاقة بين الإسلام والديموقراطية، وهل تتلاءم أو تتعارض الثقافة الإسلامية مع بعض التجربة "الديموقراطية الغربية" أو"الليبرالية"؟.

يقدم لنا الدكتور توفيق السيف في كتابه الجديد "حدود الديمقراطية الدينية" تحليلا سوسيولوجيا معمقا عن النقاش المستجد في منطقة الشرق الأوسط حول العلاقة بين الدين والديمقراطية، متخذا من دراسته لتجربة السلطة في إيران ما بعد الثورة الإسلامية موضوعا لاختبار فرضياته حول إيجاد بناء نموذج ديمقراطي قادر على التفاعل مع الهوية الدينية للمجتمعات المحلية.

ويتألف الكتاب من سبعة فصول وخاتمة، حيث يناقش الفصل الأول: المسار التاريخي الذي تطوّرت خلاله نظرية السلطة الشيعية منذ القرن الثامن الميلادي حتى قيام الثورة الإسلامية في عام 1979. ويناقش الفصل الثاني التعديلات المهمة التي أدخلها آية الله الخميني على نظرية السلطة الشيعية التقليدية، والتي بلغت المقوّمات الأساسية والوظيفية لنموذج السلطة التقليدية. ويناقش الفصل الثالث نموذج السلطة الثوري الذي قام على أرضية النظرية الدينية التقليدية، ويستعرض مكوّناته ومبرّرات قيامه. ويقدّم الفصل الرابع تحليلاً للإيديولوجيا السياسية للتيار المحافظ، بما فيها رؤيته للدولة الاسلامية وموقفه من القضايا موضع الجدل في إيران، مثل مسألة المواطنة وما يتعلق بها من الحقوق السياسية، والشرعية وسيادة القانون، والجمهورية ودور الشعب، فضلاً عن الأساس النظري لتلك الايديولوجيا.

ينطلق توفيق السيف في تحليله لصعود التيار الإصلاحي في السياسة الإيرانية، من نظرية الانقلاب البراديمي (المنظومي) التي طورها الفيلسوف الأميركي توماس كون لتفسير ذلك التطور، ومعانيه بالنسبة إلى التجربة الإيرانية. فهو يقول: "أظهرت المناقشة أن العيوب التي أدت إلى إطاحة الباراديم الثوري تكمن في الأسس التي قام عليها، ولا سيما الافتقار إلى أيديولوجيا سياسية متينة وعدم الانسجام عند النخبة التي اشتركت في إقامة النظام السياسي. واسهم هذان العاملان في تسهيل قيام حكومة شمولية شديدة التخلف. وأظهرت تجربة العقد الأول من عمر النظام فشل البراديم الثوري في احتواء مشكلات البلاد، لا سيما في ظروف الحرب والضغوط الاقتصادية الخارجية" (ص 145).

وقد توسعت جبهة الإصلاحيين مع انتخاب حجة الإسلام الإصلاحي محمد خاتمي رئيساً للجمهورية في أيار/ مايو 1997، الداعي إلى إرساء دولة القانون، والحريات العامة، وحقوق الفرد، والتعددية، والسماح بنشاط جميع الأحزاب شرط موالاتها للدستور حتى لو اعترضت على بعض تدابيره مثل آلية عمل نظام ولاية الفقيه "ويبقى شخص الفقيه خارج دائرة النقد".
ومن خلال الفحص الموضوعي لتجربة الإصلاحيين في الحكم وأيديولوجيتهم، يلخص الكاتب خصائص الخطاب الإصلاحي بأنه خطاب يجمع بين الأساس الديني والمفاهيم الديمقراطية ـ الليبرالية واقتصاد السوق الحر، ويتبنى عدداً من المعالجات النظرية التي تمثل اختراقات في جدل الدين ـ الحداثة، وتتعلق بمسائل جوهرية مثل الطبيعة الدينية للدولة، ومصدر السلطة والسيادة، ودور الشعب وغيرها. وقد عالج المفكرون الإصلاحيون هذه المسائل من منطلقات دينية أصيلة، لكن تفسيراتهم الجديدة مكنتهم من التوصل إلى صياغات قريبة جداً من تلك المعروفة في الأدبيات السياسية الحديثة.

يستنتج الكاتب أنه في حين فشل التيار الإصلاحي في إحداث تغيير كبير في بنية السلطة أو المحافظة على دوره السياسي، فقد نجح في تغيير البيئة السياسية في إيران، وإرساء حزمة مهمة من الإصلاحات في البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبصفة خاصة في علاقة الدولة بالمجتمع.

وتتمثل المحاور الرئيسة للخطاب الإصلاحي في نقد الأيديولوجيا الرسمية، ولاسيما أرضيتها النظرية (الفقه التقليدي)، والدفاع عن الحداثة، والديمقراطية، والتعددية، وتحديد السلطة. ويقترب المفهوم الإصلاحي للديمقراطية إلى حد كبير من المفهوم الليبرالي. لكنه يخالفه في الموقف من العلمانية، إذ يرفض الإصلاحيون العلمانية كأيديولوجيا لكنهم يعتبرون التحول العلماني (أو المعرفي) نتيجة حتمية لاندماج الدين في الدولة والتحولات الاجتماعية.
ويقدم الخطاب الإصلاحي مثالا قويا على إمكانية المصالحة بين الإسلام والحداثة، لا سيما في الجانب السياسي. فهو يوفر أرضية لتفاعل نشيط بين المعرفة الدينية من جهة والفكر الفلسفي الاجتماعي الحديث من جهة أخرى.

ويعتقد الكاتب أن تجربة الإصلاحيين في السلطة، جعلت إيران أقرب إلى الديمقراطية، إذ تمثل تجربتهم الفكرية والسياسية نموذجاً يثير الاهتمام في تجسير الفجوة بين الدين والديمقراطية، ويقدم المفكرون الإصلاحيون حلولاً جديدة للكثير من المسائل التي ما زالت تثير الجدل في الشرق الأوسط حول إمكان التوصل إلى نموذج ديمقراطي محلي قادر على التفاعل مع الهوية والقيم الدينية للمجتمعات الإسلامية..

ولما جاءت حكومة الرئيس أحمدي نجاد، الممثل القوي للتيار المحافظ المتشدد، فقد كانت مبنيّةٌ على تحالفٍ بين عدّة مجموعات سياسية وعسكرية: أوّلاً فريقٌ دينيّ مُتشدّد يلعب فيه آية الله مصباح يزدي دوراً هامّاً، ويدعو إلى تطبيقٍ كاملٍ لمبدأ "ولاية الفقيه"، بالتحالف مع مرشد الثورة؛ وفصيلٌ من "حرّاس الثورة" يتطلّع إلى جعل إيران قوّةً مُهيمنةً في المنطقة - وقد تمّت مكافأة قادة هذا الفصيل بمناصب اقتصادية وسياسية هامّة. أمّا القسم الآخر من "الباسدران" فقد التحق باللّواء محمد باقر قاليباف، ممثّل الشريحة المُحدّثة، وهو رئيس بلديّة طهران، ومرشّحٌ للإنتخابات الرئاسية.
الشيء المؤكد في إيران، أن التيار المحافظ المتشدد ما زال يتمسك بالمفاصل الأساسية للنظام ويعمل من مواقعه المحصنة على كبح أي إصلاح أو تغيير أو إطلاق حرية التعبير ولو من داخل النظام، نفسه، والقيم نفسها التي انفصلت من أجل الثورة الإسلامية. فالطلاب الذين كانوا رأس الحربة في إسقاط شاه إيران، يوم كان رمزاً للظلم والاستبداد، وناصروا الجمهورية الإسلامية، أصبحوا اليوم يطالبون بالتخلي عن نظرية ولاية الفقيه، التي باتت تفتقر إلى المساندة سواء وسط الطلاب أو أساتذتهم. وهذا بحد ذاته يعتبر تطوراً سياسياً مهماً وخطيراً، بل إنه أهم وأخطر تطور منذ استلام رجال الدين السلطة العام 1979.

ويعتقد بعض المحللين الغربيين أن تبلور التيار الإصلاحي في إيران هي "بداية النهاية" لنظام حكم آيات الله الذي نشأ عام 1979، وتذهب دومينيك برومبرجر، الخبيرة الفرنسية البارزة في الشؤون الدولية إلى الجزم بأن "الثورة الخمينية انتهت في طهران.." بعد أن كسر التيار الإصلاحي "المساكنة على الطريقة الإيرانية" المتميزة بانعدام التوازن البنيوي في المواجهة بين "الفقيه" المطلق مع الشرعية الشعبية.

مرة أخرى، يجد التيار الإصلاحي نفسه في صراع مع الزمن وأن المبادرة التي دخلها في سبيل تحديث النظام السياسي، وخوض معركة الحداثة في إيران، هي في غاية التعقيد، بعد أن ضيع الفرصة الأخيرة عندما كان خاتمي في السلطة، حيث أن هزيمته أدت إلى انحساره، ولو مؤقتا.
ولاشك أن انحسار وفقدان التيار الإصلاحي زمام المبادرة، يخدمان موضوعياً البيروقراطية المحافظة والمتشددة، التي انقضت على المكاسب التي حققها التيار الإصلاحي خلال السنوات القليلة الماضية. ذلك إن نجاح التيار المحافظ المتشدد كان له تأثير كبير في كل العالم الإسلامي.

الكتاب: حدود الديموقراطية الدينية
 الكاتب: توفيق السيف
دار الساقي، بيروت 2009، 407 صفحات من القطع الكبير

جريدة المستقبل  - الثلاثاء 16 حزيران 2009 - العدد 3335 - ثقافة و فنون - صفحة 18
http://almustaqbal.com/storiesprintpreview.aspx?storyid=352688

مقالات مماثلة




24/12/2008

الحداثة كحاجة دينية


بقلم: د. عبد الحميد الأنصاري


هذا عنوان لكتاب قيّم ظهر قبل سنتين ولم يأخذ حظه من الاهتمام، للكاتب السعودي الدكتور توفيق السيف، وهو مُفكر إسلامي مُستنير له العديد من المؤلفات التي تضيء أوجه العقلانية في التراث والفكر الإسلامي، وتجتهد في تجسير الفجوة المصطنعة بين الفكرين الديني والحداثي. تذكرت هذا الكتاب صغير الحجم وعظيم الفائدة وأنا في احتفالية التنوير بالكويت، على هامش الاحتفالية العالمية لعصر التنوير الإنساني، بمناسبة مرور قرنين على انطلاق عصر "الأنوار" في العالم، تلك الأنوار التي أيقظت أوروبا من سباتها الطويل وأخرجتها من ظلمات القرون الوسطى، فانطلق العقل ليكتشف ويبدع ويخترع، ويصنع المعجزات العلمية والتقنية التي غيّرت حياة البشر، وأزالت الحواجز بين شعوب الأرض.
 د. عبدالحميد-الأنصاري
هذه الاحتفالية التي حملت عنواناً جذاباً "التنوير... إرث المستقبل" واجتذبت جمعاً حاشداً من المفكرين والمهتمين بقضايا التحديث والتنوير من الجنسين كانت أشبه بتظاهرة جماهيرية متعطشة إلى عصر التنوير الكويتي الذهبي الذي انحسر بفعل هيمنة طروحات دينية سياسية أو متشددة هادفة إلى قطع جسور التواصل مع الفكر الحداثي عبر تغذية روح الممانعة ورفع لواء المواجهة بدلاً من التفاعل العقلاني النقدي مع الفكر الحداثي. كان منظم هذه الاحتفالية، مركز الحوار للثقافة (تنوير) بالتعاون مع الجمعية الثقافية الاجتماعية النسائية، وهو مركز ثقافي تنويري، أسسته مجموعة من المثقفين الكويتيين المهتمين بحقوق الإنسان وحريات الفكر والتعبير وثقافة المجتمع المدني، وقد استضافوا المفكر الإسلامي الدكتور محمد أركون، صاحب المشروع الفكري الكبير المعني بإعادة قراءة التراث العربي لإبراز النزعة الإنسانية في هذا التراث العظيم، وقد صكّ أركون مصطلح "الأنسنة" لأول مرة عام 1997 فشاع وانتشر بين الباحثين. يقول أركون: "أردت لفت الانتباه إلى ضرورة إعادة التفكير في النزعة الإنسانية الدينية المشتقة من الانتروبولوجيا الروحانية القرآنية"، ويقصد بمصطلح الانتربولوجيا القرآنية "الصورة السائدة عن الإنسان في القرآن، وهي صورة رفيعة مليئة بالقيم الروحية، لكنها لم تكن وحدها السائدة في العصر الكلاسيكي، وإنما انضافت إليها صورة أخرى عن الإنسان نفسه مشتقة من التراث الفلسفي اليوناني والتجارب الثقافية الدينية الخاصة بالهنود والمانوية والزرادشتية وغيرها من تيارات ثقافية متفاعلة (طبقاً لهاشم صالح).
لقد أسِر أركون الحضور بحديثه عن عصر الأنوار، وكيف كان عالم القرون الوسطى في أوروبا. "كان عالماً قلقاً مخيفاً، ينبغي أن نذهب إلى أفغانستان أو بلاد "الطالبان" لكي نفهم ذلك، كان الحزن القائم يغلّف المناخ العام للأشياء بغلالة السواد، والناس كانوا ينتظرون نهاية العالم بين يوم وليلة! ولذلك كانوا ينوحون ويبكون ويتحسرون على ما فات، يخشون لقاء ربهم في الدار الآخرة، وكانوا يعتبرون الفرح حالة غير طبيعية" (هاشم صالح في مقالته عن مارتن لوثر). ما هو التنوير؟ هو الاستخدام الحر للعقل واسترداد الإنسان لنوره الخاص، والخروج الشجاع من آلية إشراف الغير إلى إشراق الذات، من آلية الطائفة والمذهب والحزب والمرجعيات (كلمة وزيرة الثقافة البحرينية (الشيخة مي آل خليفة). إنّ هدف التنوير الأسمى كما يقول أركون، هو منح العقل البشري جميع الحمايات والأسباب التي تمكنه من مواصلة الإنتاج المعرفي والثقافي لنفع الإنسانية جمعاء، لا أمة معينة.
وقال: إن الوظيفة الأولى للعقل، هي نقد العقل نفسه فإذا تخلى عنها وتورط في تأييد مواقف أيديولوجية، اعتبر فاشلاً، وأضاف أن هذه النقطة هي المأزق الذي يُعاني منه الفكر العربي. حلّق أركون بالحضور وطاف بهم شرقاً وغرباً، لكن أهم ما أضافه هو مقارنته بين المسيرتين: الإسلامية والأوروبية، فمع سبق المسلمين في الاعتماد على العقلانية في إنتاج معارف علمية دعمت الإيمان الديني وأعطت الوسائل اللازمة للتفاعل مع العقل الفلسفي والذي أثمر كماً معرفياً هائلاً على امتداد القرون الستة الهجرية الأولى، فإن هذه المسيرة توقفت بسبب التدخل السياسي للسلطة في الفكر الإسلامي، وكان كتاب "فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة" للغزالي، إيذاناً بأفول عصر التنوير الإسلامي لتبدأ أوروبا التي كانت غارقة في ظلمات القرون الوسطى حمل راية "التنوير" ومواصلة المسيرة بدون انقطاع إلى يومنا هذا.
كانت لي مداخلة وضّحتُ فيها أن "العامل السياسي" لا يكفي وحده في تفسير انقطاع التنوير الإسلامي، هناك عوامل عديدة، وأتصور أن "العامل الاجتماعي" وأعني به حجب المرأة وعزلها عن مجريات الحياة العامة وفرض الوصاية عليها، هو العامل الأهم في انحسار الفكر التنويري وتدهور حضارة المسلمين. أركون وخلافاً لبعض الظنون في أنه يجترئ على المقدسات، هو من أكثر المفكرين الذين لا يرون "الحداثة" بمعزل عن القيم الدينية، بل ينعى على التنوير الأوروبي في مرحلته الثالثة، أي بعد الحرب الثانية والمرحلة الاستعمارية، تنكره لقيم الأنوار تحت تأثير ما سماه "المخيال الاجتماعي".
وعودة إلى كتاب الدكتور توفيق السيف فإن المؤلف معني بوصل ما انقطع في مسيرة الفكر الإسلامي التنويري، وهو يطرح في الكتاب تساؤلات مهمة، كانت مطروحة بين الحضور في الاحتفالية مثل: هل يمكن لأمة أن تصل إلى الحضارة بدون الدين؟ وإذا كان "التراث الإسلامي" كائنا حيا يعيش فينا ونعيش فيه، ولا فكاك منه، بحسب تعبير أحمد البغدادي، فما مقدار التراث الذي يُشكل حاجة حقيقية لمسلم العصر؟ هذه التساؤلات تأتي على خلفية إشكالية العلاقة بين النهضة والدين والتراث والحداثة، فهُناك من يرى أن شرط النهضة والحداثة، التخلي عن الدين والتراث، بينما يرى آخرون أن الطريق الوحيد للنهضة هو الدين والتمسك بالتراث. يقول الكاتب: إن هذا الربط فيه تكلّف، إذ يمكن لأمة أن تصل إلى الحضارة والتحديث بدون الدين كما حصل في أزمان سابقة وفي زماننا، كما يمكن لأمة أن تحافظ على دينها وتراثها سواء تحضرت أو لم تتحضر، المشكلة الحقيقية عند الكاتب هي قابلية نمط معين من الفهم الديني لإعاقة النهوض الحضاري، ويؤكد: يمكننا إثبات أن نمط التدين السائد في عالمنا الإسلامي اليوم معيق للنهضة والحداثة، لكن هذا التدين مُلتبس بالعادات والتقاليد والتجربة التاريخية بأكثر من انتسابه إلى الوحي، وهذا ما يحاول الكتاب تفكيكه وهو ما ينبغي على الإسلاميين التنويريين العمل على فرزه وتوضيحه.
"الحداثة" ليست مجرد تقدم تقني بل هي أيضاً "نظام قيمي" ونحن بحاجة إلى الأمرين وإذا كان "الدين" بحاجة إلى "الحداثة" لتجديده فإن في تجديد الإسلام، تجديداً لحياة المسلمين وتحويله من مجرد "هوية: مختلفة إلى فاعل في تطوير حياة البشرية كلها.
  جريدة "الاتحاد" الإماراتية
 2008/12/24

28/10/2008

حدود الديمقراطية الدينية : عرض كتاب


حدود الديمقراطية الدينية : عرض بقلم عمر كوش 
تأليف: توفيق السيف
الناشر: دار الساقي، بيروت، 2008

أضحت العلاقة بين الدين والديمقراطية موضوع دراسات ونقاشات عدَّة في البلدان العربية، نظراً لأن الديمقراطية باتت تشكل استحقاقاً لا يحتمل التأجيل، وتفرض نفسها على مختلف البلدان الإسلامية والعربية، إضافة إلى تأثير تيارات وحركات الإسلام السياسي في مجرى الأحداث الراهنة في العالم. وفي هذا السياق ينطلق مؤلف الكتاب من النقاش المستجد في منطقة الشرق الأوسط حول العلاقة بين الدين والديمقراطية، وإمكانية إيجاد نموذج ديمقراطي قادر على التفاعل مع الهوية الدينية للمجتمعات المحلية. ويحدد هدف كتابه في اختبار إمكان تطوير خطاب سياسي من هذا النوع، من خلال اتخاذ مدخل سوسيولوجي يركِّز على مدى التغيير الممكن في الفكر الديني كنتيجة لانخراط الدين في السياسة. ويتخذ من تجربة إيران بعد الثورة الإسلامية كموضوع اختبار لفرضياته، مع التركيز على التجربة السياسية للتيار الإصلاحي بين عامي 1997 و2004، بغية تحديد المبررات الموضوعية لفشل النموذج الديني التقليدي في الحكم، وظهور التيار الإصلاحي الداعي إلى الديمقراطية في السياسة، ونظام السوق الحرة في الاقتصاد.

ويقدم الكتاب كذلك صورة مقارنة عن الأيديولوجيا السياسية للتيار الديني المحافظ، ونظيرتها الإصلاحية التي تجمع بين الأساس الديني والمفاهيم الديمقراطية- الليبرالية. كما يقدم تحليلاً مفصلاً للأسباب التي أدت إلى فشل النموذج الديني التقليدي ومهَّدت لظهور منافسه الإصلاحي، ومحاولة معرفة المواضع التي يمكن للإسلاميين أن ينجحوا في ممارسة السلطة فيها، والمواضع التي يفشلون فيها أيضاً، وذلك من خلال دراسة حالة محددة، تتجسد في كيفية تطبيق مفهوم العدالة الاجتماعية على المستوى الاقتصادي، والعلاقة بين الدولة والمجتمع.

ويعرض الكتاب موجزاً للعوامل التاريخية التي أثرت في تكوين الفكر السياسي الشيعي، ثم يناقش دور الخميني في تجسير الفجوة بين التشيع التاريخي والفكر السياسي المعاصر. كما يقدم صورة عن التحولات في بنية النظام والمجتمع الإيراني وانعكاسها على الثقافة والفكر الديني في السنوات اللاحقة للثورة الإسلامية. ثم يناقش التباينات الأيديولوجية الحادة بين التيارين المتنافسين على السلطة، الإصلاحي والمحافظ، وخلفيتها الاجتماعية والثقافية، وانعكاسها على مفهوم الدولة وممارسة السلطة عند كل منهما. ويعرض كذلك بعض المفاهيم الأساسية التي يدور حولها الجدل بين الفريقين، مثل مفاهيم الجمهورية، ومصادر الشرعية السياسية، ودور الشعب، سيادة القانون، وعلاقة الدين بالدولة. إلى جانب مناقشة التفسيرات التي يعرضها الإصلاحيون للعلمانية، والأرضية المرجعية التي يستند إليها كل من التيارين في أطروحاته، مع تقديم صورة عن الأحزاب الرئيسة الفاعلة في السياسة الإيرانية، بغية الإحاطة بالوضع الإيراني وتقديم قراءة دقيقة للقوة الشعبية التي تدعم الخطابين الإصلاحي والمحافظ، ومدى فاعليتها في المحافظة على زخمه.

ويهتم المدخل السوسيولوجي بالتمظهرات الاجتماعية للأفكار، ويسعى إلى اكتشاف العوامل البنيوية وراء تغيرها وتطورها، انطلاقاً من فرضية مسبقة، تعتبر أن فهم الإطار الاجتماعي الذي ظهرت فيه الفكرة وتطورت ضروري لفهم الفكرة نفسها وتقدير أهميتها ومدى تأثيرها، ذلك أن الأفكار، مثل جميع عناصر الحياة الاجتماعية الأخرى، هي كائنات متفاعلة مع محيطها، تتطور وتتغير بتأثير من مختلف العوامل التي تسهم في تشكيل منظومة الحياة، كما أنها تؤثر في تلك العوامل. ثم يجري الانتقال إلى تطور الفكر السياسي الشيعي، لاسيَّما نظرية السلطة الدينية في إيران خلال ربع القرن الماضي، أي منذ قيام الثورة الإسلامية في العام 1979 حتى العام 2005، والظروف الاجتماعية والسياسية التي جرى في ظلها ذلك التطور، بهدف اختبار العوامل الكامنة وراءه، وما إذا كان ممكناً في ضوئها تطوير خطاب سياسي ديمقراطي على أرضية دينية.

ويرى المؤلف أنه خلافاً للفرضية السائدة التي تقول إن الدين بذاته معوق للديمقراطية، تدلّ الملاحظة الميدانية لتجربة إيران خلال القرن العشرين على أن الدين يمكن أن يلعب هذا الدور أو يلعب نقيضه، حيث يتحدد دور الدين كمساعد للديمقراطية أو معوق لها، بتأثير عوامل خارج إطار الدين نفسه.
وهنالك معادلة خاطئة تجعل من الديمقراطية نداً منافساً للدين وهذا غير صحيح، إنه يشبه أن نسأل: هل نختار الدين أم مكارم الأخلاق؟ لقد بذل كثير من الكتاب المسلمين جهودا كبيرة ليقنعوا الناس أن الديمقراطية ليست من الدين بل هي كفر.. وهذا في الحقيقة ظلم للديمقراطية وتجنٍّ عليها، إن الديمقراطية هي الحل الأمثل للمجتمعات متعددة الأديان والمذاهب والاتجاهات، وهي حال معظم الدول في عصرنا هذا، وهي تشابه حال الدولة التي نشأت في المدينة المنورة بعد هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إليها، فقد أصبح في المدينة أكثرية مسلمة وأقلية يهودية، وكان الحل هو إبرام عقد اجتماعي واقعي عادل ولكي تتم المصالحة بين الدين والديمقراطية، يجب أن يجرى تعديل في الرؤية الدينية وتعديل مواز في مبادئ الديمقراطية. وهذا التعديل المتوازي ضروري للتوصل إلى نموذج حكم يلبي في وقت واحد المعايير الأساسية للديمقراطية والقيم الدينية التي يؤمن بها المجتمع. وليست هذه العملية سهلة أو سريعة بطبيعة الحال، إذ ثمة تعقيدات نظرية وتعقيدات اجتماعية لابد من التعامل معها بأعلى قدر من الحساسية والالتزام كي نصل بالعملية إلى نهايتها السعيدة.

 وبالنسبة إلى التجربة الإيرانية، ورغم ما تنطوي عليه الجدالات الراهنة من وعود وما حققته فعلياً من تقدم على أكثر من صعيد، فإنه من الواضح أنه ما زال على الإيرانيين التوصل إلى حل للعديد من القضايا الإشكالية العسيرة قبل بلوغ الغاية المنشودة، أي صوغ معادلة تحقق التناغم والانسجام الكلي بين الديمقراطية والدين. وتبقى مسائل مثل مصدر السيادة، ووظيفة الدولة فيما يتعلق بالدين، والحقوق الدستورية، وما إلى ذلك، هي جميعاً مسائل جديدة في الفكر الديني.

ويعتبر المؤلف هيمنة الروحانيين على الحياة السياسية والاجتماعية معوقاً رئيساً للتحول الديمقراطي في الجمهورية الإسلامية، لأن الروحانيين يعتبرون أنفسهم أصحاب النظام وأولى الناس باحتلال المناصب الرئيسة في الدولة. وهم لا يكتفون بممارسة الأعمال التي تدخل ضمن نطاق اختصاصهم كطلاب شريعة، بل يتدخلون في كل أمر بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وفي بعض الأوقات، يشير بعضهم إلى ضرورة بقاء رئاسة الجمهورية في يد الروحانيين لنصف قرن على الأقل.

وتنطوي هذه المسألة على نوع من التمييز ضد عامة المواطنين، كما تؤسس لمبدأ خاطئ يتمثل في تقديم المكانة على الكفاية. لكن أخطر ما فيها هو إلقاء نوع من العصمة على الحاكمين باعتبارهم متحدثين باسم الله وممثلين رمزيين للإمام المعصوم. وأصبح من الصعب، من الناحية الواقعية، إخضاع الروحانيين للمراقبة والمحاسبة أو تحدي سلطتهم بالوسائل الديمقراطية. أما الديمقراطية فتتجسد أولاً وأخيراً في تحديد سلطات الحاكمين وتمكين الشعب أو ممثليه من مراقبة أعمالهم ومحاسبتهم عليها.
وقد عرفت إيران صعود حركة إصلاحية، تُوِّجت بوصول محمد خاتمي إلى كرسي الرئاسة، ثم ما لبث التيار المحافظ أن عاد إلى تسلم السلطة من جديد.

وهناك أسباب عدَّة أفضت إلى عودة المحافظين بخلفياتهم السياسية والاقتصادية والأيديولوجية. ومن الصعب الحديث عن الديمقراطية في إيران في ظل نظام لا يسمح بالتعددية وحرية التعبير والرأي، مع أن الديمقراطية بالإضافة إلى أنها تقتضي الاحتكام إلى صناديق الاقتراع، فإنها تقوم أيضا على مجموعة من المبادئ السياسية والاقتصادية والأخلاقية والاجتماعية التي تصلح لأن تجتمع عليها أصوات ثلثي الأمة أو أكثر، وهو المقدار الذي يلزم لإجراء تعديل دستوري في أغلب الأنظمة الديمقراطية.
ويحاول بعض المفكرين الإيرانيين البحث عن إمكانية تركيب مفهومي بين الدين والديمقراطية، وفي المجال نفسه يجادل مؤلف الكتاب مفترضاً أن الديمقراطية، بوصفها حكم الشعب، هي نظام ممكن من الناحية الدينية، بل هي نظام أفضل من الناحية الدينية، فيجري توافقاً وتطابقاً بين القبول التوافقي وإجماع الأمة، معتبراً أن القبول التوافقي بالقيم الديمقراطية والحكومة التي تجسدها سوف يوفر ظرفاً أفضل للاعتقاد الحر والممارسة الحرة لمقتضيات الإيمان، وعليه فإن النظام الديمقراطي أكثر إنسانية، كما أنه أكثر دينية من أي نظام استبدادي.

جريدة العرب القطرية 2008-10-26

مقالات ذات صلة:

24/02/2007

الحداثة باعتبارها حاجة دينيّة وواجباً أخلاقياً "عرض لكتاب الحداثة كحاجة دينية"



بقلم  علي ال طالب
ليس ثمّة أدنى شكّ بأن الأبحاث والدراسات التي جعلت من الثنائيّات «حقيقة المعرفة ومعرفة الحقيقة / الثابت والمتحوّل / الدين وفهم الدين... أغلبها – إن لم يكن كلها – ترنو إلى أهداف تقترب من الواقع كنظام حياة وتطوّر بغض النظر عن ماهوياتها الأيديولوجية والنظامية، والدكتور توفيق السيّف من خلال هذا الكتاب «الحداثة كحاجة دينية» «الدار العربية للعلوم، ناشرون، مركز آفاق للدراسات والأبحاث، 2006»، أراد أن يجعل من الإنسان محوراً مهماً في عملية البحث عن نظم التقدم وفق معايير مدروسة تنتظم وحداثات الواقع «اللحظي» من دون أن يغيب عن ذهنه مدى تجاذب العلاقة بين «النص وفهم النص» وبين «الدين وفهم الدين» أو بين الإسلام والعلمانيّة أو العولمة والهوية... أو أن تهرب منه العادات والتقاليد والتطوّر الاجتماعي بين الأمس واليوم، وبين الأصيل والحديث. إذ يدفع الأمور باتجاه صياغة جديدة تتغذّى على الواقع المتغيّر وتضع الإنسان وعقله ووجدانه في محور مهمّ من هذه العملية الإنتاجية، وكما يبدو هذا هو الرهان المرجو من الباحث والكاتب.

ومن اللافت اعتماده على توصيل الأفكار بطريقة سهلة وطيّعة فضلاً عن الأسلوب الحواري الذي أضفى حالة من التشويق والتجاذب، عبر ضخّ أكبر كمية من الأسئلة التي اقتضت صناعة حوار بين اثنين «الكاتب وصاحبه» في عملية أشبه ما تُوصف بالماراثون الفكري، وهو بذلك يعكس حالة المونولوج بينه وبين ذاته، وبينه والواقع من جهة أخرى.

«أقول إنها مرافعة وليست بحثاً علمياً، فهي سلسلة من التساؤلات يتلو كل منها ما يشبه الجواب، لكنه جواب موقت، إذ لا يلبث أن يثير سؤالاً آخر يتلوه جواب أوّلي وهكذا. فالغرض إذن ليس تقديم أجوبة نهائية»ّ هكذا جاءت صناعة الأفكار وتسلسلها الدرامي عبر المثير من التساؤلات حتى لو لم يكن ثمّة نهاية جلية جراء هذا العصف الذهني الهائل والتي دار رحاها حول محور الثنائية «التقدم والتخلّف» وهو سؤال تصدّر مقدمة الكتاب «كيف ينهض المسلمون من سباتهم المزمن، وكيف يعودون إلى قطار الحضارة بعدما نزلوا أو أُنزلوا منه»؟ وعلى رغم نزعة السؤال التقليدية إلا أن تدافع الإجابات تلو الأخرى أكسب هذه المرافعة – بحسب قوله – حالة بعث جديدة للتراكم الفكري ازاء اجابات متعددة الجوانب والأبعاد ساهم في شكل أو آخر في سدّ مناطق الفراغ اثر التصدّع المستمر والمتلاحق في جدار الأمّة الإسلامية والعربية.

لقد صرف الذين كتبوا أو تحدثوا في هذه المسألة جل جهدهم لعلاج هاتين الإشكاليتين: دور الدين في النهوض الحضاري، والعلاقة مع الغرب... إذ يحدد السيّف، مدى تجاذب العلاقة بين الدين والنهضة من جهة، والارتباك بالقوة والاستطاعة من جهة أخرى، وهذا ما يظل محل جدل في الأوساط الفكرية ما برح المفكرون يجترّونه مع كل الحوادث الواقعة المتولدة عن تلاحق الواقع باطراد، ويبقى الجدل سارٍ حتى يتمكن المسلمون من لحاق قطار التطوّر والنهضة.

وعلى رغم الجهد المبذول في هذا الصدد سواء من جانب الباحثين الغرب أو من الإسلاميين، فإنها «لم تنجح في تقديم حل عملي لمشكلة النهضة في العالم الثالث، كما لم تنجح في تقديم اطار قابل للتفعيل للعلاقات بين الغرب والعالم الإسلامي» نظراً لاختلاف المنطلقات والأهداف ما بين الجهتين إلا أن ذلك لا يلغي مدى حاجة أحدهما للآخر، فالغرب لا يخفي براغماتيته من خلال هذه العلاقة، كما أن المسلمين تحكمهم الايديولوجيا التي تدفع باتجاه «الإصرار على فكرة الأصالة لم يؤد أبداً إلى توضيح طبيعتها أو مكانها من مشروع النهضة على رغم الجهد الذي بذله كثيرون في هذا السبيل. بل انّ التأكيد على هذا المعنى تحوّل فعلياً إلى إعادة إنتاج فكرة الأصالة في معنى المحافظة على التقاليد والبحث عن حلول لمشكلات العصر في التراث، بدل أن تخدم – كما هو مفترض – معنى المعاصرة، أي إنتاج الفكر والثقافة الإسلامية وفق حاجات العصر وحقائقه وما استجد فيه».

إذ يُثير الكاتب مدى الحاجة الحقيقية إلى هذا التراث، فالمسلمون لديهم خصوصية في علاقتهم بتراثهم مغايرة لما هو عليه سائر الأمم مع تراثها، حيث يظل المسلمون على صلة وثيقة به – والكلام للدكتور السيّف – على رغم ان معظمه قد مات بشخوصه ورموزه وأسئلته والأجوبة التي يقدّمها. «ولقد أصبحنا بسبب هذه العلاقة المعقدة مع التراث مثل حرّاس المتاحف أو المقابر الذين يعتمدون في معيشتهم على مرافقة الأموات أو تركه الأموات من متاع».

  الدين والنهضة
بهذا الاتساق أسس لمعايير جلية ترمي لإحداث الفرق بين «الدين والتراث» إلا أنه لم يكن داعياً للفصل بينهما بقدر ما كان يدفع باتجاه التراث الجيّد بحسب تعبيره وهو «التراث الذي نسخّره وليس الذي يسخّرنا، التراث الجيد هو المعلم الذي يساعدنا على تجاوزه وليس الذي يبقينا أسرى لحدوده» وبذلك جعل من هذا التلازم المقنن بين الدين والتراث منطلقاً إلى علاقة تمتاز بالديناميكية وهي علاقة الدين والنهضة، والجدل الدائر في أيهما يقود الآخر!؟ وبصياغة أخرى: أيهما يسبق الآخر!؟ فمعظم الأبحاث والدراسات التي تناولت سؤال النهضة والتقدّم في شكل مباشر كان محورها مدى التجاذب أو التنافر بينهما، فإن كان الدكتور محمد أركون قد انطلق من السؤال عن امكان انسجام الإسلام والحداثة أو تطوير العالم الإسلامي لحداثة خاصة به سؤالاً مشروعاً وممكناً إلا أن الدكتور السيّف يقف موقفاً مختلفاً، إذ يعتقد بأن الربط بين الدين والنهضة فيه تكلّف غير مستساغ. ويرى بأنه لا رابط موضوعياً بين الاثنين، مع الاعتبار بماهوية مفهوم الحداثة «النهضة» ما بين الطرفين.

ومن هذه الناشئة يؤسّس الدكتور السيّف من خلالها بألاّ ضرورة مع قيام الحضارة بتلازمها مع الدين وأن واقع الحياة يثبت ذلك، هذا لا يعني بأن الدين بصيغه الأصلية قد فشل طيلة التجارب التاريخية في عملية النهوض الحضاري بقدر ما يكون المقصد الفهم المتغاير لهذا الدين، بكلام آخر انّ التديّن السائد في العالم الإسلامي اليوم هو المسؤول عن إعاقة طريق النهضة، التديّن الذي ينتسب إلى العادات والتقاليد والتجارب التاريخية أكثر منه إلى الوحي. ومن هنا انطلق المؤلف ليؤسّس بذلك لمرافعة تضع الملامح الأولية لعملية الفصل بين الدين والثقافة، بين الدين والتراث، بين الأحياء والأموات، إذ لا رهان على الماضي بالواقع المتغيّر، ولا حاكمية للتراث بغثه وسمينه على الواقع المتلاحق وتقرير حق المصير الإنساني من الحضارة والحداثة والنهضة المعاصرة.

يحتوي الكتاب على مقدمة يليها أربعة فصول، الفصل الأول بعنوان «الدين والذات»، والفصل الثاني عنوانه «الإسلام والنهضة: السؤال الخطأ»، أما الفصل الثالث فقد جاء عنوانه «البداية: نقد الذات»، والفصل الرابع والأخير بعنوان «سؤال الحداثة» ليكون بمثابة الخاتمة.

بدأ المؤلف حواره مع صاحبه بسؤال تقليدي دارج: هل هنالك علاقة بين حال المسلمين الراهن وبين إسلامهم!؟ ليستدعي بهذا التساؤل ثنائية الإسلام والحداثة، ومدى ارتباط هذه الأخيرة بالغرب، إذن، كيف نتّصل كمسلمين بقوّة التطوّر المتوافرة لدى الغرب من دون أن نفقد القيمة الروحية والنظام الحياتي الكريم، كل ذلك وفق متطلبات تحكيم الإسلام في كافة الشؤون الحياتية المختلفة بدلاً من أن يكون في مستودع محدّد تحكمه تأويلات امتلاك الحقيقة المطلقة!.

هذا التساؤل كان وليد شعور المسلمين بالفارق الهائل بينهم وبين الغرب على كافة المجالات العلمية والمدنية هذا ما قاله صاحبه في تجاذب ساحر مع الفكرة التي يؤسّس إليها المؤلف، ولعلّ ذلك يتضح في رؤيته تجاه الأسباب التي تقدم من خلالها الغرب على سائر الأمم، فهو للتو – في فترة بزوغ العلمانية – يطلق كافة قوى التقدم والتي أثمرت عن إقامة المدنية الغربية الحاضرة، وهذه النظرة ما فتئ منظّرو التنمية في الغرب يرونها كضرورة إذا ما أراد الإنسان – بالمفهوم الشامل – تحقيق التقدم والأخذ بأسباب الحداثة والتطوّر!. وقد يكون أبرز مَن كتب في مثل هذه الرؤية المنظّران الأميركيان بيتر بيرجر و هارفي كوكس اللذين يُعتبران من الآباء الروحيون لمقولة سيادة العلمانية ولو أنهما استدركا في الأخير عدم دقة هذه الأطروحة وقد كتب بيرجر بعدها «إن العالم ما زال متديناً».
وتأتي المناقشة بينه وبين صاحبه على مناطق أكثر عمقاً من سابقتها نتيجة التطارح الاستفهامي المكثف لتتوالد التساؤلات تلو الأخرى وفق تسلسل منطقي إضافة للغة السهلة والطيعة التي اعتمدها المؤلف بصورة جاذبة وأنيقة، واللافت في الأمر عدم انتصاره لطرف دون الآخر، بل هو وصاحبه يلعبان دوراً تكاملياً عبر تنادي منسجم وفي شكل انسيابي، ولو أمعنا النظر فقد تختفي لدينا هوية المتحاورين حين التعمّق في القراءة ليقودنا بقوة إلى ما يريده الكاتب بكل سلاسة، وأراني ضحية هذا الأسلوب المتميّز.

  الاعتراف بالتخلف
وتتدحرج الأفكار لتصل بالمؤلف لأن يدفع باتجاه الاعتراف بحجم التخلف الذي يعيشه المسلمون والذي لا يمكن التخلص منه دفعة واحدة، وبالقناعة بأننا متخلفون! مما يحفزنا لعقد الصلة مع الواقع ومحاولة فرز كوامن القوة من الضعف معززين بالتالي دور الحوار مع الذات، فـ «المناقشة العلمية هي السبيل الوحيد للاقتراب من الحقيقة، وهي الوسيلة الوحيدة لاكتشاف دواء لعلتنا الكبرى، أعني التخلف عن قطار المدنية الذي انضمت إليه أكثر أمم الأرض وبقينا وحدنا من دونهم، لا راضين بما نحن فيه ولا عازمين على الخلاص منه». ليتصدّر قائمة المناقشة السؤال الحرج: هل الإسلام مسؤول عن تخلفنا أم لا...؟ وإن لم يكن مسؤولاً... فمَن هو المسؤول إذن!؟

وأعتقد بأن صاحبه الذي يحاوره أبرأ ساحة الإسلام من مسؤولية التخلّف حين دعا إلى التجديد معززاً ذلك برواية تنسب إلى النبي الأكرم «صلّى الله عليه وسلّم» حيث قال: «إن الله يبعث لهذه الأمّة على رأس كل مئة سنة، مَن يجدّد لها دينها». فلا غرو من إذكاء عنوان التجديد والمتكرر على مرّ العصور وليس في ذلك جدة بتاتاً؛ إنما كان الغرض الإشارة إلى لازمة الارتباط ما بين التجديد والأشخاص على مرّ العصور الماضية، حيث من النادر تناوله حسب علاقته بالزمن، «فموضوع التجديد وعلاقته بالزمن لم تطرق إلا لماماً وبصورة سطحية إلى حد كبير، بينما تركز الجدل حول الأشخاص الذين يدعى انطباق صفة المجدّد عليهم والعمل الذي أوجب لهم هذا الاعتبار» ولربما الظرف التاريخي ساهم في شكل أو آخر في تسليط الضوء على الشخوص مما أدّى إلى انصرافهم عن الموضوعات وإخراجها عن اطارها الواقعي، والإسلام لم يخرج يوماً من نفوس المسلمين بقدر ما كان قد فَقَدَ جذوته الاجتماعية عندهم حتى أصبح الدين شأناً فردياً مقتصراً على العبادات والنظم الأخلاقية الشخصية، وبالتأكيد مثل هذا النمط من الدّين لا ينفع به أن يكون مصدر فاعلية مع الواقع ومتغيّراته الحياتيّة، فهو بهذا الحد أدنى من أن يساهم في دفع عجلة التطوّر المدني، لأن دعوات التجديد وبحسب التجربة التاريخية كانت مرتكزة على إصلاح العقيدة أو العبادات بدعوى أنها جوهر الدين، لكن التجديد – والكلام للمؤلف – في هذه الجوانب حتى لو قبلنا بالحاجة إليه لا يغيّر شيئاً في الجانب الحرج من حال المسلمين اليوم، أعني تخلفهم في الاقتصاد والعلم والسياسة وغير ذلك من جوانب الحياة الحديثة.

واستطراداً للحديث المتعلقة بالفاصلة ما بين الدين والفهم البشري إليه، أفرد الكاتب عنواناً فرعياً يتعلق بهذا الأمر «ما لحق بالإسلام من مفاهيم وتقاليد خلال التأريخ» حتى أصبحت هذه المفاهيم والتقاليد تتماهى إلى حد كبير مع الأصول الدينية، هذا إن لم يعتبرها الخاصة من الناس قبل العامة بأنها هي الدين ولا مناص من التنصّل منها في الوقت الذي تثبت سيرورة التأريخ بأن ثمّة ما ألحق بالدين وهو لا يرقى إلى قداسته، وبالضرورة بأن الثقافة التي يحملها المسلمون – اليوم – ليست على طرفي نقيض مع المعتقدات الدينية، وتجدر الإشارة إلى كيفية التعاطي معها من قِبَل الأمانة العامة من الناس على وجه التحديد، إذ لا تمايز بين أهل العلم وبينهم بقدر ما هي المسؤولية وتحمّل عبئها، فصلاح العامة مقرون بصلاح الخاصة إلا أن رباط العلاقة يظل براغماتياً حسب مقتضى الحال ومسارات الحياة، فـ «حقيقة الأمر أن المثقفين والعامة متواطئون على مواصلة هذا الطريق بعضهم لأنه يصعد في مسارات الحياة فهو صاحب مصلحة في بقاء الحال السائد، وبعضهم لأنه لا يحتمل الأعباء النفسية والاجتماعية للتغيير، فهو الآخر صاحب مصلحة في الحيلولة دون تغيير يؤدي إلى المشاكل أو يوقعه في مواقع الأذى» بالتالي نحن أمام أزمة خطاب ذاتيّة، فلسنا على وفاق اجتماعي يساهم في تصالحنا مع فهم الدين ولسنا على استعداد لذلك أيضاً طالما بقي الفهم مرهوناً بالماضي.

وقد استشهد الكاتب بشواهد حيّة وردت في تقارير فهمي هويدي أثناء رحلته إلى افغانستان في فترة حكومة طالبان ساهمت بقدر كبير في توضيح ما كان يرمي إليه في العنوان الفرعي المذكور آنفاً، حيث تطرّق إلى نظرة الثقافة الإنسانية للمرأة عن طريق بلدين متجاورين، ففي بلاد افغانستان كان المسلمون يحرِّمون على المرأة الخروج للعمل مطلقاً يعللون ذلك استناداً للآية الكريمة: «وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ» بينما يقبل جيرانهم في ايران بأن تتأبط المرأة مكانة مرموقة في مهام العمل، فتصبح قاضية ووزيرة ونائبة للرئيس ومستشارة استناداً للآية المباركة: «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاُت بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ». فالذي جعل أولئك مختلفين عن هؤلاء، ليس الإسلام في صيغته النظرية المجرّدة، بل الفهم الحاصل من تفاعل المسبقات الثقافية التي يحملها كل منهم مع الصيغة النظرية للإسلام.

ثم انطلق المؤلف من خلال عنوان فرعي على صيغة سؤال «كيف تتحوّل الرغبات إلى مسلّمات مقيّدة للعقل» من أجل عقد صلة البحث المتعلق بثنائية «النص وفهم النص» «الدين والمعرفة الدينية» فهو بهذا السؤال يسلّط الضوء باتجاه مدى تأثر المعرفة «الدينية / فهم النصّ / التفكير...» بالواقع المتغيّر، بمعنى آخر أن التخلّف الذي يضرب المجتمع الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه هو نتاج انفصال معرفتنا الدينية – الحديث للمؤلف – عن عصرنا؟... ولماذا غفل معظم الناس عن الحاجة إلى إصلاح ثقافتهم وبالتالي تجديد حياتهم بما فيها الجانب الديني؟

يراهن الدكتور السيّف من خلال هذه التساؤلات على قـدرة العقـل المتـحرّر من قيود الرغبات على كشـف الحقيـقـة، وتشخيـص أماكـن الداء العـضال في الأمّة، متى ما أدرك هذا الإنـسان من إحداث عملية التوازن ما بين الذات والعقل، هذا التماهـي لا بـد له من التعـامـل معـه بحـذر ليتمكن هذا العقل من الانـفـكاك من قيود الذات والتي قـد تـصل بالإنسان إلى مرحلة من الرضا الكاذب على النفــس، فهذه قدرة عجيبة تستفرد بها الــذات لتمرير ما يخـدع العين فإذا بالمسلمات الحياتية والأعراف والتقاليد تكون في مصاف الثوابت الراسخة وبالتالي تتـعاظم الأنا العليا ليصل الأمر إلى حد لا يستطيع هذا الكائن أن يجد عيباً في ذاته عنـدها تـتـحوّل هذه القناعة الداخلية إلى دين خاص يعيش في داخله ويجده مكتملاً في نموه، من هنا يكون التفكير وتجلياته خارج نـطاق التغطية بالنسبـة لرحـلة البحـث عـن الحقـيقـة وسبل التقـدم والتـطور.
و«المشكلة إذن ليست في مجرد الانفصال بين مسار الذات ومسار الدين، بل في احتلال أحدهما المساحة الخاصة بالمسار الآخر الذي في أنفسنا هو ما أردناه أن يكون. لقد انتـخبـنا منـه ما ينـاسبـنـا ومـا ينسجم مع التقاليد والأعراف والتوازنـات التي نريد العـيـش في ظلها، وصنـعـنا من هذا الخليـط صـورة هي أقـرب ما تكون إلى صورتــنا، ثم أحطنــاها بهـالة من الافتراضات والاعتبارات حتى تحوّلت إلى صنـدوق مغـلق يحـوي بعـض الحـقـيـقـة وبعـض الوهم وكثـيـراً من الرغبة».
على هذا لا يجد الكاتب بأن عقل الإنسان على قدرة كافية لنقد ذاته!، ويعزى السبب إلى وقت إطلاق عنان التفكير تجاه ذاته فإنه في الحقيقة يدور حولها كما الفراشة التي تدور حول شعلة نور لتنصرف بالانشغال بهالة النور عن مصدره، والكاتب يجد في هالة الضوء هي بمثابة الحجاب عن بلوغ الحقيقة، كما الثقافة الحياتية التي يحملها الإنسان فتصبح كما الحجاب الذي يحول بين عقله ومكنون ذاته. ولو جاء النعت لهذه الذات بالمتخلّفة فإن العقل بالتالي يكون عاجزاً عن رؤية التخلّف، ولو نعتناها بالمتقدّمة يصبح العقل أيضاً غير قادر على التمييز بينها وبين الغير!.

ثم يعلّق صاحبه على استنتاجاته بتساؤل جديد حيث يقول: لو لم يكن عقل الإنسان قادراً على نقد ذاته لما كان قادراً على التطوّر أصلاً، ليضعنا الكاتب في موجة عارمة من العصف الذهني الهائل والتي ليس غرضها هو الإجابة فحسب بقدر ما يكون الهدف خلق دافعيّة محفزة لانطلاقة التفكير بكل قوة حيال مقاصد التطوّر والنهضة، ولا فصل ما بين عقل الفرد وعقل الجماعة في هذا المقام إن لم يكن هو مرآة للآخر، ولا يخفى عليكم بأن عقل الإنسان لا يعمل من فراغ ولا يشتغل من دون مقدمات ورضيات وتراكم معرفي ضخم، وهذا ما تسالم عليه الكاتب وفكرة المفكر مالك بن نبي حين قال: «إن عقل الفرد – حين يفكر وينظر – ليس عقلاً فردياً بل هو عقل الجماعة الذي اتخذ له موضعاً في رأس فرد معين، فجعل شخصيته وسلوكه العفوي وردود فعله، نموذجاً لما يناظرها عند كل فرد آخر في نفس الجماعة».

وبالتالي تتكوّن العادات والتقاليد برؤية جماعية لتصبح ديناً دونما شعور، ونصاً ثابتاً دون أدنى مناقشة، فيتم تكيّف التديّن للفرد والجماعة بما لا يتناقض والمسلمات الاجتماعية والتي إما أن تكون صنيعة المجتمع نفسه أو أفكاراً تتبناها في لحظة من لحظات ما، ومثل هذا القول يقترب إلى حد ما مع فكرة «الدين المدني» والتي ابتكرها جان جاك روسو، وفكرة «الدين» التي ناقشها اميل دوركهايم، مع الاعتبار للفارق الجوهري ما بين الفكرتين، فروسو فكرته معززة للفرد، بينما دوركهايم متعلقة بالجماعة على رغم كونها تكليفاً للفرد في الوقت نفسه.
صحيفة الحياة اللندنيّة
 24/02/2007م

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...