‏إظهار الرسائل ذات التسميات التحولات الاجتماعية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات التحولات الاجتماعية. إظهار كافة الرسائل

29/10/1998

وعي المستقبل



استمعت البارحة إلى متحدث يقترح أنماطا بديلة للمعيشة ، تبدأ من موارد العيش ، إلى نظام البناء والتعليم ومصادر الثقافة ، وغيرها من حقول الحياة ، وقد انطلق المتحدث من زاويتين محددتين ، الأولى هي الحاجة إلى التكيف مع دورة اقتصادية مختلفة ، يتوقع أن تبدأ في الظهور والتبلور قبل نهاية العقد الأول من القرن الجديد ، أما الثانية فهي الحاجة إلى استيعاب مناسب للجيل الجديد ، الذي سيدخل ميدان الحياة العامة خلال السنوات العشر القادمة .

قلت للمتحدث ان التغير في طبيعة المعيشة وفي حقول الحياة الأخرى ليس حدثا جديدا ، فحلـقاته تتوالى وتتسع ، ولا سيما في الربع الأخير من القرن العشرين ، فما السر في تحديد العقد الأول من القرن الواحد والعشرين على وجه الخصوص ؟ .

قال الرجل ان العالم العربي خرج بحصيلة طيبة من تطورات الربع الثاني من هذا القرن ، لكن النتائج الكاملة للمواجهة بين تحدي التغيير والاستجابة للتغيير ، أو التكيف مع ضروراته ، لم تتبلور تماما ، وحين يمضي ربع قرن أو ما يعادل قفزة جيلية واحدة ، سيكون لدينا رجال ولدوا وترعرعوا وانضموا إلى الحياة العامة ، في ظل نمط الحياة الجديد ، وسيكون لدينا جيل فتح عيونه على عالم تنفتح آفاقه بسعة ، وتنكمش المسافات بين أطرافه بسرعة ، عالم يشترك سكان الكوكب كلهم في صناعته ، بعد ان كان عالم الانسان الشرقي شرقيا بالدرجة الأولى ، كما للناس في الغرب وفي كل بقعة أخرى عوالمهم الخاصة المنفصلة .
سيكون الجيل الجديد قادرا ، بل راغبا أيضا ، في استقبال التيارات الثـقافية من شتى الأنواع والألوان ، وسيكون قادرا على التفاعل معها عبر شبكات الاتصال التي لا تحدها القوميات ولا الحدود الاقليمية ، ولا سيما شبكة المعلومات الدولية (الانترنت).
يتميز هذا الجيل عن جيلنا الحاضر بميزتين أساسيتين : الأولى انه لم يعاصر أبدا فترة النهوض الاقتصادي التي شهدتها بلداننا خلال الربع الأخير من القرن ، ولم يعرف كيف عاش الناس قبل هذه الفترة ، اللهم إلا ان يقرأ عنها في الكتب أو يسمعها في حكايات المتحدثين ، كما نقرأ اليوم عن أجدادنا وكيف كانوا يعيشون ، لكننا لا ندرك عمق الفارق بين أحوالنا وأحوالهم ، وإن تخيلناه  (فما راء كما سمعا)  كل ما نعرف هو الظرف الذي عاصرناه فعلا ، نحن اليوم نتـقبل ونتفهم الضرورات التي نتجت عن الارتباط الوثيق بين ظرفنا الراهن والظرف الذي سبقه ، قد لا نرتاح لكثير مما نراه ، لكننا نحتمل بصبر ، هو نتيجة للمقارنة بين ما كنا عليه في سالف أيامنا ، وما نحن فيه اليوم ، أما الجيل الآتي فلم يعرف ولم ير ، ولهذا فهو لا يتقبل ولا يتفهم تلك الضرورات ، بل ربما عجب لقبولنا بها أو سكوتنا عنها .

جيلنا متنازع بين هوية تنتمي إلى ماض لم نستطع الفكاك منه ، وحاضر لا نريد التفريط فيه ، أما هوية الجيل الآتي فهي تنتمي إلى الحاضر والمستقبل ، وإن بقيت فيها خيوط أو آثار من ماض

، لا يستطيع مزاحمة الايقاع السريع للحياة الجديدة والزاماتها ، بكلمة أخرى فاننا ننتمي إلى مجتمع توسط حقبتين ، ولهذا فهو يتلقى تحديات الحقبة الجديدة ، ولديه من وثاق قديمه ما يخفف من سرعة التغيير وشدة التباين ، بين ماض ذهب وحاضر يأتي ، أما الجيل الآتي فهو ينتمي إلى حقبة جديدة ، تقود إلى ما هو أكثر منها جدة واختلافا ، وليس لديه وثاق ، سوى ما يتلقاه اليوم من مصادر المعلومات والثقافة ، التي هي في مجملها نتاج الحاضر وسلم المستقبل ، وهذا يعني أن الكثير مما نقبله اليوم وما نعتبره محتملا أو طيبا ، سيكون غير محتمل عند أبنائنا .

أما الميزة الثانية التي تميز الجيل الجديد ، فهي دخوله الحياة  العامة بعد انكماش الموارد ، التي كفلت لجيلنا رغدا من العيش وسهولة في مصادر الرزق ، قل أن يجود بمثلها الزمان ، في وقت من الأوقات كان يكفي الانسان القليل من الكفاءة والتعليم ، حتى يحصل على وظيفة مرموقة أو تجارة عظيمة المردود ، أما اليوم فنحن نرى رأي  العين كيف يخرج تجار الأمس من السوق ، واحدا بعد الآخر ، وكيف تضيق الأبواب والطرق على غير الأكفاء والمتعلمين ، بل حتى على بعض  المتعلمين ، ممن بارت سوق اختصاصاتهم ولم يعد لها طالب .

 ونقرأ اليوم في الصحف ونسمع في المجالس ، عن عشرات من خريجي الجامعات يقضون شهورا في البحث عن وظيفة فلا يجدون ، فيقبلون  أي وظيفة دون شروط ، وأمامي قصص كثيرة عن مثل حامل الدكتوراه الذي انتظر عاما ونيف حتى عثر على وظيفة ، وقد كان معروضا عليه أن يعمل بشهادة البكالوريوس ، والمهندس الذي قبل فعلا بالعمل بشهادة الثانوية ، بعد أن بقي بضعة أشهر في انتظار وظيفة تناسب كفاءته ، ويسمع كل واحد منا كثيرا من هذه الأمثلة ، مما كان مستحيلا قبل عقد ونصف من الزمان .

في ذلك الوقت كان المواطن قادرا على بناء بيت بتحرير ورقتين فقط ،  واحدة يطلب فيها منحة ارض ، وأخرى يطلب فيها قرضا ، أما اليوم فلا هذا يتيسر ولا تلك ، وهذه طبيعة الحياة التي تدور إلى الأعلى ثم تنحني ، ولعل الأقدار تعيدها دورتها من جديد ، رغم ان طبائع الأمور تأبى تكرر القفزات في الأزمان المتقاربة .

أمام الجيل الآتي حياة صعبة  المراس ، طرقها ضيقة ، مواردها قليلة ، والتزاحم فيها شديد ، ولهذا سيجد نفسه مضطرا للكفاح الدؤوب من أجل القبض على فرصة لائقة ، وسيكون مضطرا للاعتماد الكامل على ذاته ، دون اتكال على سياسة الدعم أو سياسة الارضاء .

في مثل تلك الظروف يتطلب التكيف مع مقتضيات الحياة استجابة واسعة وجدية ، بقدر ما تحدي التغيير شامل ونتائجه قاسية ، ولكي يتمكن أبناؤنا من النجاح في مواجهة هذا التحدي ، ينبغي أن نكون جادين في إعدادهم وتجهيزهم بما يلزم من العتاد ، وأهم عناصره الكفاءة العلمية ، وتناسب الاختصاص العلمي مع حاجات السوق المتوقعة يوم يدخلون ، ومن عناصره أيضا تجهيزهم بالعتاد المعنوي ، والقيم الأخلاقية التي تحميهم من الانجراف وراء دواعي الرغبة والغضب ، حين يجدون أنفسهم محصورين في مضايق العيش ، من بينها خصوصا قيم التواصل مع الغير ، مثل الملاينة ، والتعاون والمشاركة ، وتحمل المسؤولية عن الأعمال والمبادرات الشخصية والأخطاء .

وإذا أردنا الحديث عن مجموع الجيل  الجديد من أبناء الوطن فقد لا يكفي توجيه النصيحة للآباء ، فليس كل أب قادرا على استيعاب حقائق المستقبل ، وليس كل أب قادرا على إدراك الخيط الذي يصل بين يوم أبنائه وغدهم يوم يصبحون رجالا ، فلعله يكتفي بمواعظ إجمالية ، تفيد في الجملة ، دون أن تطابق  المطلوب على وجه التحديد .

التخطيط العام لحياة الجيل الآتي يتطلب دراسات مستفيضة ، يستهدف كل منها رسم جزء من الصورة الكاملة ، في كل حقل من حقول الحياة ، نحن الآن لا نعرف على وجه الدقة ، كيف سيكون وضعنا الاقتصادي بعد عشر سنوات ، هل سيبقى البترول محورا أول للنشاط الاقتصادي ، أم سيكون لدينا غيره ، في كل يوم تقذفنا وسائل الاعلام بكل نقيض فهذه تعد بالمن والسلوى وتعد الأخرى بعظائم الأمور ، نحن لا نعرف أيضا مدى تأثر أوضاع مجتمعنا بانتشار التعليم ، وسرعة تدفق المعلومات و التواصل مع العالم ، والتغيرات الاقتصادية ، كما لا نعرف كيف سيكون محيطنا الاقليمي وانعكاساته علينا في ذلك الوقت ، اننا ـ بصورة عامة ـ لا نعرف الوجهة التي تسير نحوها مراكبنا ، ولهذا فقد لا نستطيع أعداد أبنائنا للرسو الآمن على الشاطيء المقصود .
عكاظ 29 اكتوبر 1998

28/11/1994

فضائل القـرية وحقائق المدينة


في منتصف السبعينات دعا الرئيس المصري الراحل انور السادات الى ما اسماه بالعودة الى اخلاق القرية ، وعزز هذه الدعوة بوضع عدد من التنظيمات التي تحقق هذا الغرض ، من ضمنها القانون المشهور باسم (قانون العيب) الذي الغي قبل اسابيع ، وقد قيل في تبرير هذه الدعوة ، بانه ثمة حاجة الى التصدي للتراجع المتفاقم في الاخلاقيات العامة ، الناتج عن انهيار الضوابط الاجتماعية التي يتمتع بها مجتمع القرية .

وتكشف هذه الدعوة والكثير من المقالات ، التي تنشرها الصحف حول فضائل القرية وفضائل الماضي ، عن الفزع الذي ينتاب كثيرا من الناس ، ازاء شيوع النزعة المادية وثقافة الاستهلاك في المجتمع المديني ، حيث اصبحت المعنويات والفضائل المتفق عليها ، مجرد حكايات للتفاخر او الذكرى ، تكافح ببسالة للحفاظ على ما تبقى لها من مواقع  في ميدان الحياة العملية .

لكن ـ مع هذا ـ لم يتوقع احد ان تحظى هذه الدعوة بنصيب من النجاح ، بل وصمت بانها مجرد تغطية لموقف غير عادل تجاه القوى الاجتماعية المدينية المعارضة لسياسات الرئيس .

اتجاه الهجرة
 والحق ان قليلا جدا من الناس في العالم العربي ـ ممن عاشوا حياة المدينة ـ يرغب في العودة الى القرية ـ كمكان او كأسلوب حياة ـ على الرغم من توافق الاكثرية على ان اخلاقياتها ، ماتزال اكثر استقامة من اخلاقيات المدينة ، وعلاقاتها الاجتماعية ماتزال اكثر دفئا .

ويمكن الاستدلال على هذا الاتجاه بالتضخم المضطرد ، في عدد المهاجرين القرويين الى المدن في معظم الاقطار العربية ، مما ادى الى تضخم مواز في حجم معظم المدن الرئيسية ، يقابله انكماش للريف ، وصل في بعض الحالات الى تفريغ قرى بأكملها من السكان ، وفي مثال ملفت للنظر نشرت صحيفة محلية في الاسبوع المنصرم ، اعلانا اصدرته بلدية احدى القرى ، يطلب من بعض الاشخاص ازالة بيوت لهم مهددة بالانهيار ، بعد تركها خالية لسنين طويلة ، الملفت في هذا الاعلان هو قول البلدية بان مناشدتها لهؤلاء الاشخاص على وجه التحديد ، اعتمد على شهادة اهل الخبرة بانهم يملكون تلك البيوت ، وتضمن الاعلان قائمة باسماء الملاك المشهود لهم ، اضافة الى مساكن وصفت بانها مجهولة المالك ، ويشير هذا الى التغير الكبير الذي طرأ على وضع القرية ، بسبب هجرة معظم سكانها ، بحيث اصبحوا منسيين من جانب الاخرين الذين فضلوا البقاء فيها ، الامر الذي ينطوي على مفارقة مثيرة .

وراء الدفء
ان عدم الرغبة في العودة الى القرية ، مبرر عند معظم المهاجرين ، بان المقارنة بينها وبين المدينة  ـ كموضوع اجتماعي ـ يتجاوز موضوع الاخلاقيات ، ويتجاوز العلاقات الدافئة الى فلسفة الاخلاق وارضية العلاقات الاجتماعية ، التي فيها من الفضائل بقدر مافيها من المعوقات ، بحيث يمكن القول ان النهوض الذي شهده العالم العربي في النصف الثاني من القرن العشرين ، ترافق مع نقلة في الحياة الاجتماعية لمعظم العرب ، ابرز عناوينها هو التحول من حياة القرية ـ كظرف اجتماعي وثقافة ـ الى حياة المدينة ، بكل ماتتضمنه هذه من عناصر افتراق عن سابقتها .

ويبدو لي ان معظم الذين انتقلوا بين المكانين ، انما كانوا يسعون الى القبض على فرصتهم في الحياة ، فرصتهم الفردية التي تتيحها لهم كفاءتهم وطموحاتهم الى حياة ارقى واكمل ، ان سعة افق المدينة وتنوع مجتمعها ، وما يستتبعه من تعدد الفرص فيها ، هو المبرر الرئيسي لصيرورتها محلا لتحقيق الآمال .

الفرد والجماعة
ان مكانة الفرد هي ابرز الامثلة التي تجسد الفارق بين القرية والمدينة ، فالفرد في القرية منسوب ـ في اغلب الحالات ـ الى عائلته أو قبيلته ، اي الى هوية يرثها ، وعليها يتقرر مكانه الاجتماعي ، بخلاف المدينة التي تقيم الاعتبار الاكبر لانجاز الفرد ذاته ، ويعني ذلك ان الفرصة الحقيقية للتعبير عن الطموح عند عامة الناس ، انما توجد في المدينة ، حيث يتاح للفرد ـ بغض النظر عن موروثه ـ ان يعبر عن نفسه وكفاءته ، وحيث يكون هذا سبيلا لنيل المكانة التي يطمح الى تحقيقها على الصعيد الاجتماعي .
ان دفء العلاقات القروية ، وقوة النظام الاخلاقي فيها ، يعبر ـ ضمنيا ـ عن صورة من صور السلطة الاجتماعية ، التي تستثمر في احيان كثيرة للتسلط على الفرد ، ويتجسد هذا التسلط على صورة (العيب) الذي يقابل كل خروج ـ ولو جزئي ومحدود ـ على مجموعة الاعراف والتقاليد ، التي يتسالم عليها المجتمع القروي.

وتلعب الاعراف والعادات دور الاطار الذي يطبق ضمنه هذا النظام ، وفي ظروف التطور الاجتماعي ، فان هذه العادات تلعب دورا فعالا ، في اعاقة محاولات التكيف الفردي مع متطلبات التطور ، ذلك ان بعضها ، بل جلها في الحقيقة ، تبلور كاستجابة لظروف مرت على المجتمع في وقت من الاوقات ، ظروف تتعلق بمعيشته او بأمنه الداخلي ، لكن تلك الاعراف  تجردت ـ بمرور الزمن ـ عن الظروف التي نشأت في ظلها ، واصبحت مطلقة تطبق باعتبارها قيمة مستقلة ولازمة من لوازم الحياة الاجتماعية ، تقوم بدور المنظم  والضابط لسلوك الافراد واختياراتهم .

مكان الجماعة
مجتمع القرية اذن هو مكان الجماعة ، وهو تجسيد لحاكمية الجماعة على الفرد ، حيث فرصته للتعبير عن ذاته ، مرهونة بتوافقه التام مع ارادة الجماعة ، وحيث ارادته ذائبة فيها والا فهي مقموعة ، بخلاف المدينة التي لاتوجد فيها جماعة  ـ بالمعنى القروي ـ لكي تكون فيها ارادة جماعية حاكمة ، اي ان الفرد متحرر من الضوابط الاجتماعية غير المحمية بالقانون ، فالطريق مفتوح امامه للكفاح في سبيل فرصة الحياة ، التي يتمناها ويطمح الى نيلها .

على ان لهذا التباين بين قوة الجماعة وقوة الفرد ، في مجتمع القرية فضيلة ليست قليلة الاهمية ، هي التكافل والتضامن بين ابناء المجتمع الواحد او القبيلة الواحدة ، حيث يشعر الفرد بانه ـ في صراعه مع متطلبات الحياة ـ ليس نبتا صحروايا يجاهد وحيدا للبقاء منتصب القامة ، فثمة من اهله وعشيرته من يستطيع دعمه واسناده عندما يحتاج .

 وقد جرى تطوير هذه الفضيلة على يد المهاجرين الى المدن ، على صورة عرف يقضي بان كلا منهم مسئول بدرجة او بأخرى ، عن مساعدة ابناء جماعته على النجاح في حياتهم الجديدة .
على ان لهذه الممارسة الفاضلة وجهها السلبي ، اذا استعملت كوسيلة للاستئثار ، شأنها في ذلك  شأن معظم الممارسات الاجتماعية ، التي هي في الاساس فضائل ، لكنها لاتخلو ـ اذا استعملت في غير محلها ـ من الاشكالات ، لكن دعنا نوكل الحديث عن هذا الجانب الى مقالة أخرى قادمة .
نشر في (اليوم ) 28نوفمبر 1994

مقالات ذات علاقة 
المحافظة على التقاليد .. اي تقاليد ؟
اعادة بناء القرية .. وسط المدينة

21/11/1994

اعادة بناء القرية .. وسط المدينة



خلال تجربتها الانمائية الحديثة حصدت بلادنا الكثير من ثمار النمو الاقتصادي ، على اصعدة عديدة منها اتساع القاعدة الانتاجية للاقتصاد الوطني ، وارتفاع مستوى المعيشة ، فضلا عن تكامل الحد الادنى المطلوب من الخدمات المدنية ، وقد تغيرت صورة البلاد  بسرعة كبيرة ، قياسا الى التجارب المماثلة في بلدان أخرى ، فخلال السنوات القليلة الفاصلة بين أواخر الستينات ومنتصف الثمانينات ، تحولت من دولة يغلب عليها الطابع الصحراوي الخشن ، الى دولة حديثة المظهر حيوية الاقتصاد .
كان لهذا النمو السريع والشامل ، تكاليفه على الصعيد الاجتماعي كما كان له ثماره ، وتلك معادلة في الحياة الاجتماعية لايمكن التنكر لها او تغافلها .
على اي حال ، لانحتاج للوم انفسنا على الانعكاسات السلبية للنمو الاقتصادي. ثمة انعكاسات هي ناتج قسري عن تغير طبيعة العمل ومستوى المعيشة ، واخرى ناتجة عن اغفال المعالجة الضرورية ، للتطورات الاجتماعية المحتملة خلال مرحلة الانماء وما يليها ، فلننظر الى بعض الامثلة.

اعوام العزلة

حتى منتصف الثلاثينات الميلادية كانت معظم اقاليم المملكة ـ باستثناء المدن الثلاث الرئيسية في الحجاز ، التي ياتيها الناس مرة او مرات قليلة في العمر ـ منعزلة عن الاخرى على المستوى الاجتماعي ، فلا طرق معبدة ولا وسائل انتقال ، ولا وسائل اتصال ميسرة ليجول الناس بين هذا الاقليم وذاك ، أو يعرف اهل هذا الاقليم عن جيرانهم في الاقليم الاخر ، ولهذا فقد كانت المجتمعات المتعددة التي تألفت منها المملكة ، غريبة عن بعضها ، مختلفة في وسائل تدبير لقمة عيشها ، وبالتالي في العديد من وسائل تعبيرها عن ذاتها ، وتقرير خياراتها الحياتية .
لكن وصول بعثات  التنقيب الاجنبية الاولى ، ثم تدفق البترول وما اوجده من فرص عمل غير متوقعة ، وما جاء به من ثروة ومكانة ، غير هذه الصورة  ،  فقد بدأ الالاف من الناس من مناطق مختلفة يتحركون صوب منطقة البترول ، التي يوفر العمل فيها عائدا مجزيا ومريحا ، بالقياس الى مصادر  العيش الضيقة المعتادة ، أو صوب المدن الرئيسية التي استقبلت ثمار الدفعات الاولى من عوائد البترول ، على شكل زيادة في الطلب على الخدمات والسلع ، مما ادى الى تنشيط سوق العمل.

توسع المدينة

 لعلها من المفارقات ان المئات من اهل بلادنا ، الذين غادروها في الربع الاول من القرن العشرين ، الى الهند والبحرين والعراق والشام بحثا عن الرزق ، اصبحوا الان قادرين على استقدام اعداد متزايدة من اهل تلك البلاد للعمل هنا ، فلقمة العيش كبرت واصبحت قريبة .

في الرياض ـ على سبيل المثال ـ لم يستطع الاستاذ محمد المانع (1903-1987) كما يخبرنا في بعض كتاباته ، العثور على سكن خاص له ولموظفين آخرين ، عملوا في الديوان الملكي في ثلاثينات القرن ، الا بعد جهد جهيد ، فلم تكن المدينة لتستقبل من الاغراب الا قليلا ، يحلون ضيوفا على اهلها ، ولم يتوقع احد ان احدا من خارج اقليمها بحاجة الى السكن الدائم فيها ، اما الاستاذ سعيد الغامدي الذي درس تطور المجتمع القروي في قرى بلحمر الجنوبية ، فيروي ان واحدا من اهلها استقدم عاملا يمانيا لمساعدته ، فكانت هذه الخطوة موضوع حديث المجالس لعدة اشهر ، وعقدت لاجلها اجتماعات ودارت مناقشات بين شيوخ القرية ، انتهت الى (قرار) بان يقيم الرجل سكنا خاصا لأجيره على اطراف القرية ، لان القرية لاتحتمل رؤية (اجنبي) بل وتخشى منه .

اما اليوم فهذه القرية ، كما هو الحال في الرياض ، تضم بين جنباتها من غير سكانها ، مايوازي عدد هؤلاء او ربما يزيد ، لقد تغير التركيب السكاني في مدن المملكة وقراها خلال العقود الثلاثة الماضية ، بحيث اصبحت قادرا على ان ترى في كل مدينة ، نماذج اجتماعية لكل اقليم من اقاليم المملكة .

تأثير الهجرة

يؤدي خروج عدد كبير من الناس من مجتمعاتهم الاصلية ، الى اهتراء في النظام الداخلي لهذه المجتمعات ، يتجسد في صورة انحلال لقوة الضبط الاجتماعي للافراد ، ثمة قرى كانت تعتبر الراديو اداة من ادوات الشيطان ، وتعليم العلوم الحديثة تهيئة للكفر بالله ، اما السفر الى البلاد الغريبة فهو رضى بالكفر عن الايمان ، لكن العشرات من الشباب الذين خرجوا الى المدن الكبرى ، لاجل العمل اكتشفوا عادة الاستماع الى الراديو ، ومن ثم الانخراط في الصف المدرسي ، ولحقتهم اخواتهم او بناتهم ، ثم استطاع بعضهم السفر الى البلاد المبغوضة ، فوجدوا ان متعة الاكتشاف تستحق التمرد على الضوابط القديمة .

ولان الامر لايبقى سرا على الدوام ، فقد انتهى ذلك التمرد الابتدائي ، الى تلاشي قدرة المجتمع على ضبط ابنائه ، ضمن الاطارات السلوكية السائدة ، والتي يحميها توافق اجتماعي ، هو مانسميه بالقيم او التقاليد ، بكلمة اخرى فان هذه التقاليد التي سادت عشرات من السنين ، اصبحت عاجزة عن الصمود في وجه رياح التغيير .

الفرصة والقصور

هل كان هذا الامر طيبا بصورة مطلقة ؟
ربما كان ضروريا ، له نتائجه الحسنة وهي كثيرة لكنه لايخلو من بعض الاشكالات ، من بين نتائجه الطيبة هو ظهور الفرصة التي تحتاجها البلاد ،  لتحقيق مفهوم التواصل الثقافي والاندماج الاجتماعي بين سكانها ، فلم يكن من الصحيح بقاء ابناء البلد الواحد ، غرباء عن بعضهم متجاهلين احوالهم ، بينما تفرض عليهم الحقائق الموضوعية ، ان يكونوا شركاء في سرائهم وفي ضرائهم .

ومن النتائج السلبية هو قيام مجتمعات جديدة غير متعارفة . في المدن الكبرى على سبيل المثال ، ستجد المهاجرين من الاقاليم ، اكثر ميلا الى اقامة شكل جديد عن مجتمعهم الاصلي ، يعبر عنه في صورة تكتلات اجتماعية لابناء قرية واحدة او قبيلة واحدة ، وينطوي هذا الاتجاه على مبررات للانعزال عن شركائهم في هذه المدينة ، ممن ينتمون الى الاقاليم والقرى الاخرى.

ولا ارى لهذا التوجه الانعزالي مبررات كافية ومعقولة ، ماخلا الشعور الطبيعي بالتوافق الثقافي ، بين ابناء القرية او القبيلة الواحدة ، وهو توافق يوفر لاصحابه الاطمئنان والامان النفسي ، ويندر تحققه بسهولة بين اشخاص ينتمون الى اقاليم مختلفة.

على ان هذا التبرير يكشف ـ اذا صح ـ عن حالة غير مقبولة ، من ضعف التكيف الاجتماعي والثقافي لدى المواطن ، يعبر عنه بالهروب من المجتمع الواسع والمتنوع الذي تمثله المدينة ، الى مجتمع ضيق وأحادي ، هو اعادة انتاج متكلف لصورة القرية ، وهذا بدوره ناتج عن قصور في المنهج التعليمي والاعلامي ، الذي ينبغي ان يعيد صناعة صورة المجتمع في ذهن الفرد ، منذ طفولته وحتى يكبر ، المجتمع الكبير المتمثل في الوطن ، بديلا عن مجتمع القرية الصغير والسابق للدولة ، ان التواصل بين الافراد من مختلف الاصول والانتماءات الاجتماعية ، هو الذي يحقق مفهوم المواطنة ، ويقيم علائقها بين ابناء الوطن الواحد ، اما الانقطاع ـ ايا كان سببه ـ فهو سبب قوي لقيام حالة من الشتات الاجتماعي ، يصعب في ظلها بناء وطن للجميع .
نشر في (اليوم) 21نوفمبر 1994

مقالات ذات علاقة 

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...