‏إظهار الرسائل ذات التسميات ابراهيم البليهي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات ابراهيم البليهي. إظهار كافة الرسائل

15/01/2020

حول التزاوج الشكلي بين الحداثة والتقاليد

|| توفي د. سعد الدين ابراهيم في 29 سبتمبر 2023. رحمه الله واحسن اليه وجعل آثاره العلمية صدقة جارية له الى يوم الدين||

اعتقد ان الدكتور سعد الدين ابراهيم هو أهم علماء الاجتماع العرب في الربع الاخير من القرن العشرين. يرجع هذا التقدير لعوامل عديدة مثل جودة الانتاج العلمي وغزارته ، ومثل طرقه لقضايا كانت تعتبر بين المسكوت عنه في الوسط الاكاديمي والاجتماعي. نشر د. ابراهيم نحو 40 كتابا بالعربية والانجليزية ، فضلا عن مئات من المقالات المثيرة للاهتمام ، يدور معظمها حول تحولات المجتمع العربي خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
تعرفت على هذا المفكر الفذ من خلال كتابه "النظام الاجتماعي العربي الجديد" الذي لفت الانظار الى التحولات الثقافية والقيمية المرافقة لتغير الاقتصاد العربي ، وكذلك انعكاسات الهجرة الواسعة لعمال الريف المصري الى دول الخليج النفطية.
نشر الكتاب في 1979 ، وتكرر طبعه ست مرات في السنوات التالية. في ذلك الوقت المبكر نسبيا ، التفت د. سعد الدين الى السلوكيات الجديدة التي تولدت عن التجاذب بين ضرورات الارتقاء المعيشي من ناحية ، وضغط التقاليد ، سيما الدينية ، من ناحية أخرى. تنطوي هذه السلوكيات على ازدواجية في المظهر الشخصي وفي الثقافة على السواء. فالافراد الذين تعرضوا لعواصف الاقتصاد الجديد ، ارادوا الاخذ بفرصتهم في الحياة والرفاهية المادية. لكنهم واجهوا في الوقت نفسه صعودا موازيا لموجة دينية ، تحذر من انسلاخ غير متبصر من قيود الدين وحدوده ، والاستسلام دون وعي لمخططات الغزو الثقافي الغربي.
ويبدو لي ان هذه الموجة كانت رد فعل طبيعيا على انهيار الاجماع القديم ، وتفكك المعايير الاخلاقية ونظم السلوك الموروثة التي حافظت على السيرورة المعتادة للمجتمع التقليدي.
كان سعد الدين ابراهيم متشائما تجاه ما يجري ، خلافا للاتجاه العام بين علماء الاجتماع الذين تبنوا نظريات التحديث الاكثر شهرة في الوسط الاكاديمي ، في الولايات المتحدة واوربا الغربية. وهي نظريات تتفق على ان الانتقال الى الحداثة في المعنى الثقافي والاجتماعي ، نتيجة حتمية ، حين يتعرض المجتمع التقليدي لموجات التحديث الاولى.
وبالنسبة للشرق الاوسط ، فقد ساد اعتقاد فحواه ان تغير مصادر الانتاج والمعيشة بشكل كامل تقريبا ، اضافة الى مشروعات التنمية الاقتصادية ، التي انطلقت في منتصف ستينات القرن العشرين ، واتسعت بشكل كبير جدا في بداية العقد السابع ، سوف يؤدي حتما الى انحسار الثقافة القديمة وتفكك التقاليد والاعراف ، سيما مع افتتاح المئات من المدارس وقدوم عشرات الالاف من المهاجرين الاجانب ، فضلا عن تزايد الحضور الثقافي للراديو والتلفزيون وبقية وسائل الاتصال الجمعي.
ان اتفاق عدد معتبر من العلماء على مقاربة نظرية محددة ، يولد ضغطا (نفسيا في الاساس) على الباحثين في نفس الحقل ، باتجاه الاخذ بما توافق عليه اولئك. رغم هذا فالواضح ان الدكتور سعد الدين ، لم يقتنع بان سيناريو التحول المشار اليه ، هو الذي يحدث فعلا او سيحدث في المجتمع العربي.
كان يلاحظ ان السلوكيات القديمة والثقافة القديمة ، تستعيد تأثيرها تحت مبررات مختلفة. بعض القيم القديمة يتراجع وبعضها يتقدم ، وتجرى عملية تبادل ادوار ، بحيث يحافظ الناس على الاطمئنان الذي توفره الاعراف والتقاليد الموروثة ، لكنهم في الوقت نفسه يتخلون عن مصادر الانتاج واساليب العيش المرتبطة بتلك الاعراف.
بعض الكتاب رأى ان هذه المزاوجة بين القديم والجديد كانت مفيدة. آخرون مثل سعد الدين ابراهيم اعتبروا الامر عبثيا ، اما ابراهيم البليهي فرآه تعبيرا عن الوثوقية الشديدة التي تتسم بها المجتمعات المتخلفة.  لكن هذا نقاش آخر سنعود اليه في وقت لاحق.

الشرق الاوسط الأربعاء - 19 جمادى الأولى 1441 هـ - 15 يناير 2020 مـ رقم العدد [15023]

مقالات ذات علاقة

انهيار الاجماع القديم

المحافظة على التقاليد .. اي تقاليد ؟

من الحجاب الى "العباية"


09/10/2019

حجاب الغفلة ، ليس حجاب الجهل


افترض ان معظم القراء يعرفون فكرة "حجاب الغفلة" التي تحدث عنها جون رولز ، في نظريته حول العدالة الاجتماعية.
سمعت هذه العبارة للمرة الاولى من خطيب ، كان ينكر على صاحبها دعوة الناس الى الغفلة ، بدل الوعي. وبقي هذا التصور عالقا في ذهني سنوات ، حتى شاركت في درس عن العدالة الاجتماعية ، فسمعت الاستاذ يتوسع في شرح فكرة "حجاب الغفلة veil of ignorance". ولأن الذهن يحتله السابق اليه ، كما يقول استاذنا ابراهيم البليهي ، فقد انكرت نفسي امتداح الاستاذ للفكرة وصاحبها. كنت لا أزال مأخوذا برأي الخطيب طيب الذكر . وبقيت لمدة طويلة - نسبيا - عاجزا عن ادراك حقيقتها ، بسبب التضارب الشديد بين ما سمعته اولا وما سمعته تاليا.
بعد كثير من القراءات والمناقشات ، اكتشفت ان كلام الخطيب الاول شكل حاجزا حقيقيا ، منعني من فهم الفكرة ، مع انها ركن مهم من اركان نظرية رولز ، التي باتت اليوم مرجعا اعلى للسياسات الدولية الهادفة الى تحقيق العدالة الاجتماعية ، سيما مع الاضافات التي قدمها زميله الفيلسوف المعروف امارتيا سن.
   اكتشفت ايضا ان الاستماع للخطباء والمتحدثين ، لا يأتي الا بالقليل جدا من المعرفة. من أراد العلم فسبيله القراءة ثم التأمل ثم النقاش.
عودة الى فكرة "حجاب الغفلة" فقد جاءت في سياق التذكير بما سبق ان اسماه الفلاسفة بالحالة الطبيعية ، وأميل الى تسميتها بالفطرية ، اي حالة الانسان قبل ان يتبرمج ويتأدلج وتتغير طبيعته ، بتأثير التربية وثقافة المحيط وما في البيئة من حدود وقيود وصراعات.
فحوى هذه الفكرة انه لو اجتمع عدد من الناس كي يقتسموا ملكا مشتركا لهم ، فكل منهم سيحاول - على الارجح - ان يحظى بحصة الاسد ، ويترك للاخرين حصة العصفور. لكن لو ان هؤلاء تناسوا أو غفلوا للحظات ، عن انتماءاتهم وتعصباتهم ومصالحهم ، وفي تلك الاثناء اجروا القسمة ، فانهم - على الارجح - سوف يتبعون مبدأ المساواة في اقتسام الملك.  
وتتصل الفكرة بمبدأ عميق الجذور ، هو أصالة الخيرفي نفس الانسان. أي ان الانسان مفطور على الخير والانصاف. اما الميل للاستئثار والتعصب وقهر الاخرين ، فهو نتاج لتاثير البيئة الاجتماعية والتربية. ان حجاب الغفلة ، هو لحظة نسيان لواقع الحال ، واسترجاع لحقيقة الانسان الاولى ، قبل ان يتلوث باوساخ العالم وقيوده وألوانه الخادعة.
أكتب هذه السطور للتأكيد على ان المساواة أصل أولي في العلاقة بين البشر ، وهي تجسيد لفطرتنا وطبيعتنا ، قبل ان تعلق بانفسنا عوارض الحياة. نحن بحاجة الى استذكار ان كلا منا يساوي الآخر ، في قيمته وقدره وكرامته وحقوقه. ليس فينا من هو دون سائر الناس قيمة أو قدرا. ان هذا حق لكل منا ولكل انسان غيرنا. اقرارك لنفسك بأي حق ، يؤدي تلقائيا الى اقرار للاخرين بنفس الحق وبنفس القدر ، حتى لو غفلت عنه او تجاهلته.
المساواة ، مثل سائر حقوق الانسان ، نوعان: اولهما طبيعي سابق للقانون وحاكم عليه. لأنه جزء مما تتحقق به انسانية الانسان. اما النوع الثاني فهو المدني الذي يقيمه القانون والمجتمع السياسي الذي تعيش في ظله. نعلم ان الثاني اقوى ، لانه مدعوم بقوة المجتمع والدولة. لكن الأول ارفع شأنا ، لأنه ثابت ومرتبط بالانسان كانسان ، اي انه سابق للجماعة والدين والقانون ، واعلى منها من حيث الترتيب.
الشرق الاوسط الأربعاء - 10 صفر 1441 هـ - 09 أكتوبر 2019 مـ رقم العدد [14925]

مقالات ذات صلة 

الليبرالية في نسخة جديدة: رؤية جون رولز

العدالة الاجتماعية كهدف للتنمية

هل نحتاج حقا إلى طريق ثالث ؟

المساواة والعدالة

مفهوم العدالة الاجتماعية



12/12/2018

حول الخمول والثبات على الاصول

||الجهل صفة للمجتمعات التي يغلب عليها الخمول الثقافي، اي ألفة الموروث الى حد اعتباره معيارا يقاس عليه كل جديد في الفكر والحياة||
لطالما توقفت عند طروحات استاذنا ابراهيم البليهي ، لا سيما تلك التي يجادل فيها حول قابلية الجهل للتعميم ، والانتقال عبر الاجيال. ينبغي القول ابتداء ان الجهل المقصود هنا ليس الانعدام التام للمعرفة. فمن المستبعد جدا ان يخلو عقل بشري من معرفة ، قليلة او كثيرة. المقصود هو هيمنة الثقافة السكونية التي تعطل فاعلية العقل ، فتجرد الانسان من الاداة الوحيدة التي تمكنه من اكتشاف ذاته ككينونة مستقلة ، مؤهلة لصياغة عالمها الخاص. اكتشاف الذات المستقلة تمهيد ضروري لتحول الفرد من كائن منفعل ، الى عقل متفاعل مع العوالم التي يصنعها الاخرون.
وفقا لهذه الرؤية ، فان الجهل صفة للمجتمعات التي يغلب عليها الخمول الثقافي ، اي ألفة الموروث الى حد اعتباره ، في الجملة والتفصيل ، معيارا يقاس عليه كل جديد في الفكر والحياة.
ينبغي ان لا يؤخذ هذا الوصف كتقرير عن الواقع. انه أقرب الى صورة الواقع في حدوده القصوى ، او ال Ideal Type وفق تعبير ماكس فيبر. وغرضه هو ايضاح فكرة الماضوية والارتياب في المستقبل.
من ناحية أخرى فان جدلية الثبات والتحول ، لا ينبغي ان تفهم كانكار مطلق لقيمة الماضي وفائدة الموروث. يتركز الانكار على "حاكمية الماضي على الحاضر والمستقبل" اي اعتبار الماضي مصدرا وحيدا او رئيسيا للمعارف والمعايير والاعراف والاخلاقيات. نقرر هذا ، نظرا لان جانبا مهما من قدرتنا على التعامل مع الواقع ، بل وقدرتنا على تبديله أو اصلاحه ، هي ثمرة لتجارب الاجيال التي سبقتنا والمعارف التي ابدعوها ، فجعلت عالمنا اكثر وضوحا ، وجعلتنا اقدر على التعامل مع تحدياته.
بالنسبة للانسان الحديث ، فان الماضي كان مفيدا وقيما مثل الحاضر. لكن هذه القيمة نسبية ومرهونة للعوامل التي شكلت ظرف ولادتها. بعبارة أخرى فان كلا الزمنين يعرف كظرف ثقافي لعمل الانسان ، وليس قيدا عليه او نهاية لنشاطه الذهني والحياتي. الانسان الذي صنع الماضي واعطاه قيمته ، هو ذات الانسان الذي يصنع الحاضر ويعطيه قيمته ، وهو ذاته الذي سيعبر من حدوده الى مستقبل مختلف.
التفكير في الزمن كظرف تجربة ، أو محطة عمل للانسان ، هو - على الأرجح - أبرز أركان الحداثة. ولهذا قيل ان جوهر التمايز بين عصر التقاليد وعصر الحداثة ، يكمن في تعظيم قيمة الانسان الفرد ، وتحريضه على اكتشاف قابلياته الذهنية ودوره كفاعل عاقل ومستقل ، قادر على صنع التغيير او المشاركة في صنع التغيير. ان "انسانية" الثقافة والنظام الاجتماعي لا تقاس بملاينتها للافراد او عطفها عليهم ، بل بالمدى الذي تتيحه والفرص التي توفرها ، لانعتاق الفرد من قيود الطبيعة وحدود الجماعة وما الفته من ثقافة وأخلاقيات عمل.
تميل الثقافات الخاملة الى كبح الافكار الجديدة ، إذ ترى فيها بدعا مثيرة للارتياب. وهي ترتاب فيها حتى قبل تمحيصها وتجريبها. يكفي ان تكون الفكرة الجديدة معارضة للموروث والمألوف ، كي ترمى بكل عيب. أما الثقافات النشطة فهي تنظر للافكار الجديدة كفرص إضافية ، ربما تصيب وربما تخيب. لكن تجربة البشر خلال التاريخ برهنت على أن العديد من الافكار التي قوبلت – عند ظهورها - بالانكار أو الارتياب او حتى عدم الاكتراث ، أثبتت لاحقا انها كانت مفتاح العالم الجديد.
تخبرنا تجربة التاريخ البشري ان الموقف من التغيير ودعاته ، هو الذي يضع الأمم على سكة التقدم او – على العكس – يلقي بها في هامش التاريخ.
الشرق الاوسط الأربعاء - 4 شهر ربيع الثاني 1440 هـ - 12 ديسمبر 2018 مـ رقم العدد [14624]
https://aawsat.com/node/1500811

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...