23/05/2024

جماعة الابراج العاجية

 

كنت في الرابعة عشرة من العمر حين التحقت بحلقة تدرس كتاب "منية المريد في آداب المفيد والمستفيد". وموضوع الكتاب واضح من عنوانه ، فهو يعالج اخلاقيات التعلم والتعامل بين التلميذ واستاذه وعلاقتهم بعامة الناس ، وما يتصل بالعلم من موضوعات. وقد توقفت عن الدرس بعد أشهر ، لكن رسخ في ذهني تأكيد الاستاذ على الربط بين العلم وتطبيقاته في الحياة اليومية. ولطالما كرر عبارة "كل علم لا ينتهي بعمل ، فهو لغو". وأذكر ان زميلا كتب في تحريره اليومي كلمة "فضل" بدل "لغو" ومعناها "زائد عن الحاجة" فتوقف الاستاذ عندها ، وأنفق بقية وقت الدرس في التأكيد على انه لغو وليس فضلا.

تحولت هذه الفكرة في ذهني الى مسلمة لا تقبل الشك ، الى ان زرت عالما حكيما في دمشق ، فوجدته منخرطا في النقاش مع شخص آخر يثير السؤال بعد السؤال. وكلما اجابه الحكيم ، رد عليه مشيرا الى نقطة ضعف في جوابه. وبقيت استمع لهذا الجدل نحو ساعة ، حتى طلب الرجل تأجيل النقاش الى الغد ، فقلت ضاحكا: وما الفائدة من جدل لا نتيجة وراءه ، فالواضح ان الرجل لا يسأل كي يتعلم ، بل لمجرد الجدل. فأشاح الحكيم بوجهه ، وأمرني بالحضور يوم غد أيضا. فقادني الفضول للموافقة. وخرجت وانا اضحك في سري من هذا الجدل العقيم. في المساء جلست استرجع مجريات اليوم ، فوجدت نفسي راغبا في استذكار تفاصيل الجدل والنقاط التي اثيرت فيه. فقررت الذهاب مبكرا يوم غد ، لسؤال الحكيم عن سر هذا الجدل ، فأجابني بكلام فحواه انها طريقة في العلم وليست سرا. وحين حضر الرجل ، وبدأ النقاش ، وجدت نفسي منخرطا فيه ، بالاصغاء حينا وطلب التوضيح حينا آخر. وفي نهاية اليوم ، فهمت ان قناعتي بفكرة "العلم للعمل" قد حولتني لما يشبه جهاز التسجيل ، اقرأ واقول للناس ما قرأت ، ويسألني شخص عن شيء ، فأجيبه بما قرأته او سمعته من استاذي أو ما قلته مرات كثيرة من قبل ، حتى لقد شعرت احيانا ان الاجابة على الاسئلة لا تحتاج الى تفكير اصلا ، لان كل الاسئلة معروفة وكل الاجوبة عنها جاهزة.

النقاش الذي تابعته هذا اليوم ، اظهر ان الكثير من قناعاتي ، بل المسلمات الراسخة في ذهني ، ضعيفة امام النقد ، وبعضها لا يقوم على برهان منطقي. لقد آمنت بها لأني لم أعرف غيرها ، ولأني لم أواجه من يجادلها مثلما حصل اليوم.

التقيت الحكيم بعد ذلك بسنتين او ثلاث ، فسألني عن تلك الجلسة فأخبرته انها كانت حجر زاوية في رؤيتي للأشياء. ثم سألته عن السبب الذي يجعل شخصا مثلي يحشو ذهنه بالثوابت والمسلمات ، فأجابني ان السبب هو الافتقار للبرج العاجي ، وذكرني بقصة العلاقة بين العلم والعمل التي درستها في سنين الصبا. ثم قال ان التركيز على تلك العلاقة ، يؤدي لانفعال النفس بالعلم القليل الذي نتعلمه ، فنتبناه لا كمعرفة عامة ، بل كشيء يخصنا ، ينتمي الينا وننتمي اليه ، فندافع عنه كما ندافع عن حقوقنا الشخصية واملاكنا الخاصة ، ونتعامل معه كمعيار للقرب والبعد والصداقة والعداوة ، بيننا وبين الآخرين.

قال لي ذلك الحكيم ان اكتساب المعرفة العالية ، شرطه الفصل بين العلم والعمل ، والانغماس في العلم لذاته ، والتفكير المتحرر من اي قيد ديني او ايديولوجي ، شخصي او اجتماعي او طبقي او غيره ، اي ان تلتحق بجماعة "الابراج العاجية" الذين لا يهمهم شيء سوى التوصل الى فكرة ، مفيدة او غير مفيدة ، ولا يتركون هذا حتى لو قامت الدنيا ولم تقعد. هنا سوف تدرك عيوب افكارك وتجادل قناعاتك ، حتى لو لم تتخل عنها. المهم انك امسيت عارفا بما هو فكرة وما هو عاطفة. وذلك جوهر العلم.

الخميس - 16 ذو القعدة 1445 هـ - 23 مايو 2024 م

https://aawsat.com/node/5023471

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...