في
سنوات سابقة كان يقال ان مستخلصات العلم نظريات بشرية ، قد تصح وقد يظهر خطؤها بعد
حين. ولذا فليس من الحكمة اتباعها وترك ما ورد في النص. لكن البشر المعاصرين يرون الادلة
على صواب تلك النظريات في تجارب تتكرر يوميا للمئات من الطائرات والسفن والأقمار
الصناعية وسفن الفضاء ، التي تتبع حسابات مبنية على تلك النظريات ، فتصل دائما الى
وجهاتها ، بعد ساعات او ايام او اشهر او حتى سنوات. في مطلع الشهر الجاري مثلا
سمعنا عن المسبار الفضائي فوياجر الذي اطلق في 1977 متجها الى حافة المجموعة
الشمسية ، واستمر في ارسال المعلومات عن مساره المحدد سلفا ، بعدما قطع نحو 12
مليار ميل ، طيلة ثلاثين عاما من الطيران في عمق الفضاء الكوني. ان الحسابات
العلمية التي يسرت ضبط هذا المسار المقارب للخيال في بعده ، مستمدة من ذات
النظريات التي قيل انها قابلة للخطأ.
اوائل
العقد الماضي أثار الدكتور حمزة المزيني جدلا واسعا ، بعدما نشر سلسلة من المقالات
تدعو لاعتماد الحساب الفلكي والطرق العلمية في اثبات هلال رمضان ، بدل التعويل على
الرؤية بالعين المجردة. لم يكن المزيني ، وهو اكاديمي متمرس ، اول الداعين لهذا. لكن
مجادلته المتينة للاستدلال التقليدي ، جعلت الموضوع موردا للنقاش العام. نعرف مدى
تاثير ذلك النقاش من واقع ان مئات الناس باتوا يتساءلون ، لاسيما قبيل رمضان: هل
من الصحيح لنا كمسلمين ، ان نقف في الطرف المنكر للعلم الحديث ومستخلصاته؟.
الجدل
حول اثبات الهلال واحد من تمظهرات عديدة لقضية اعمق ، تتعلق بالمسافة الفاصلة بين
الفهم المتوارث للنص الديني ، وبين الواقع الجديد في العالم. جوهر هذه القضية ان
لدينا نصوصا او تفسيرات لنصوص ، تصف وقائع او مصالح معروفة في زمنها. لكن انسان
اليوم يفهم تلك المصالح والوقائع بطريقة مغايرة للوصف القديم.
المؤكد
ان مسلمين كثيرين سوف يسألون انفسهم: كيف نثق في حسابات توصل مئات الطائرات والسفن
الى وجهاتها على بعد الاف الأميال ، ولا نثق في نفس الحسابات حين تخبرنا عن وقت
ولادة القمر او ارتفاعه في الأفق؟.
لو
دققنا في باطن هذا السؤال لوجدنا وراءه سؤالا اكثر جذرية ، يتعلق بتعريف مهمة
الدين ، هل هي وصف الواقع أم تحديد قيمته والحكم عليه. في القرن الثاني عشر
الميلادي قال ابو الفتح الشهرستاني ان الاجتهاد ضروري لأن النص الديني محدود والوقائع
التي يغطيها لا محدودة. وثمة ميل قوي بين الفقهاء للفصل بين الحكم الشرعي وموضوعه
، والرجوع في تشخيص موضوعات الاحكام الى العرف او أهل الخبرة. والحق ان هذا دور
العلم في حقوله المختلفة. فيما يخص الهلال مثلا فان الشرع يأمرنا بصوم رمضان ، اما
تحديد بداية الشهر ونهايته فهو مهمة العلم. وكذا الحال في غالب الاحكام.
يقال
في العادة ان الفقهاء لا ينكرون أحكام العلم الحديث ، مالم تعارض نصا او تفسيرا
مألوفا للنص. وهذا قول صحيح في الجملة. لكنه تسوية جزئية فحسب. جوهر المشكلة يظهر
عند التعارض ، وهو كثير جدا. واظن انه لا يمكن لنا الامساك بالعصا من طرفيها. الحل
الحقيقي هو الاقرار بقيمة العلم الحديث ، وان له دورا محوريا في تشخيص موضوعات
الحكم الشرعي. هذا يعني بالضرورة الاقرار بان علم المعاصرين مقدم على علم الاولين
، والاقرار بمجال عمل واضح للعلم ومجال آخر للحكم دون خلط بينهما.
الشرق
الاوسط الأربعاء - 22 ذو الحجة 1438 هـ - 13 سبتمبر 2017 مـ رقم العدد [14169]
http://aawsat.com/node/1022496
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق