01/04/2011

الحرية ، دراسة في المفهوم والاشكاليات


الفصل السادس
من كتاب "رجل السياسة: دليل في الحكم الرشيد - بيروت 2011" 



يناقش هذا الفصل مفهوم الحرية التي تصنف بين ارفع القيم الانسانية المعيارية. ويبدأ بتقرير اهميتها لتقدم الانسان وازدهار حياته. ثم يعرض المحاور الاساسية للجدل حول الحرية، اي مفهومها، العلاقة بينها وبين القيم المماثلة، مكانتها ضمن سلم المنافع الاجتماعية، وانعكاس السياسات العامة على حريات الافراد. ويقدم شرحا موجزا عن التطور التاريخي للمفهوم والفارق بين المفهوم الليبرالي ونظيره الاشتراكي. ثم يخصص حيزا لعرض الاطار السياسي للحرية وتصنيفها الى سلبية وايجابية. ويختتم بمناقشة العلاقة بين الحرية والعدالة في اطار نظرية جون رولز حول العدالة الاجتماعية.



الحرية وتقدم الانسان


اذا قلت بان تاريخ الانسانية كله هو صراع من اجل تحرر الانسان، فانت لا تجانب الحقيقة. على امتداد التاريخ المعروف كافح، الانسان من اجل ان يكون سيد نفسه. في قديم الازمان تصور البشر، بعضهم على الاقل، انهم عبيد لظواهر الطبيعة المرعبة، فعبدوها كي ينقذوا انفسهم من شرورها او كي يحصلوا على نصيب من عطائها. وحين تعلم الانسان كيف يسيطر على تلك الظواهر، كيف يتقيها او ربما يتحكم فيها، تحول من عبد لها الى سيد عليها. الفقير والمريض، هو بصورة من الصور اسير لفقره او علته. وحين يبرا من تلك العلة او يتجاوز الفقر فانه ايضا يتحرر منها ومن قيودها. ويضاف الى هذه القيود الطبيعية، القيود التي هي نتاج للمجتمع الانساني، مثل استعباد البشر والطغيان عليهم وحرمانهم من حقوقهم وجبرهم على ان يعيشوا وفق نمط خاص او يفكروا على نحو خاص الخ.

في يوم بارد من شتاء 1984 وصلت الى مدينة الباسو جنوب غرب الولايات المتحدة، التي تحاذي مدينة مكسيكية كانت تحمل الاسم نفسه. تقع الاولى على مرتفع من الارض وتقع الثانية في الوادي. وقفت وزملائي على حافة المرتفع ونظرنا الى الباسو المكسيكية. لا ادري اذا كان حال هذه المدينة البائسة قد تغير اليوم، لكني شعرت في ذلك اليوم بالفارق الهائل بين المجتمعات التي تنعم بالحرية مثل الذي نقف على ارضه، وتلك المحرومة منها مثل التي نطل عليها. تجد اثار ذلك على الناس كما في الاشجار والمباني والطريق، وفي كل شيء تقريبا.
اذا كان احد سيجادل في صحة استنتاجات العلماء والباحثين طوال التاريخ على العلاقة الوثيقة – واحيانا السببية - بين تحرر الانسان وتقدمه، فان تجارب الانسانية في مختلف عصورها ولا سيما في عصرنا الحاضر دليل قاطع على ان تقدم الانسان وازدهاره مشروط بتحرره من القيود الداخلية التي تكبل روحه وعقله، ومن القيود الخارجية التي تكبل حركته ومبادراته. تكفينا مقارنة سريعة بين حال المجتمعات التي حصلت على الحرية، كما هو الحال في الدول الصناعية، وتلك التي لا زالت سجينة قيودها الداخلية والخارجية مثل معظم مجتمعات العالم الثالث.
واذا كان احد سيحتج بوجود عوامل اخرى لتخلف هذه عن تلك، وهو احتجاج لا نختلف فيه، فان اصدق دليل على مكانة الحرية وتاثيرها هو الفارق بين الدول الاوربية نفسها، تلك التي لديها تقاليد الحرية والديمقراطية منذ زمن طويل، وتلك التي اكتشفتها حديثا. ثلاث دول يمكن ان تكون مضرب المثل في هذا الصدد : فرنسا التي تحرر شعبها منذ زمن طويل، والبرتغال الاحدث عهدا بالحرية، واسبانيا التي تقع في منتصف المسافة بين الاثنتين. هذه ثلاث دول تعيش ضمن محيط اقليمي واحد، وتدين شعوبها بدين واحد لكن الفرق شاسع بينها في كل جانب من التقدم العلمي والثقافي والتقني الى مستوى معيشة السكان ، فضلا عن القوة والتاثير على المستوى الدولي.
 قارن ايضا بين دولتين متماثلتين في كل شيء تقريبا عدا النظام السياسي : كوريا الشمالية واختها الجنوبية. بينما يعاني الكوريون الشماليون من الجوع والفاقة، فان المنتجات التقنية لاخوتهم في الجنوب تشترى في شرق العالم وغربه. قارن ايضا بين شرق المانيا وغربها قبل اتحادهما وبعد الاتحاد. شعب واحد مقسم بين نظامين سياسيين مختلفين، احدهما يحمي الحريات الفردية والمدنية والاخر يحجبها او يحددها. بين قيام الدولتين قبيل منتصف القرن العشرين واتحادهما في اوائل التسعينات من القرن نفسه تحولت المانيا الغربية الى واحد من اعمدة الاقتصاد العالمي ومنتجي العلم والتقنية وارتفع مستوى المعيشة فيها الى واحد من اعلى المرتب على المستوى العالمي، بينما بقيت المانيا الشرقية دون المستوى المتوسط في معيشة شعبها وفي انتاجها العلمي والتقني وفي دورها على المستوى الدولي.
كان الفرق الوحيد بين شطري المانيا هو في احترام الحريات في شطرها الغربي وهيمنة الاستبداد في الشطر الشرقي، الى ان قرر الشرقيون ان لا حل سوى اعادة توحيد البلد المقسم، اي – في حقيقة الامر – الغاء النظام الشرقي والانضواء تحت لواء النظام القائم في الشطر الغربي.
ربما لم تخل حقبة على امتداد تاريخ البشرية من جدل حول الحرية، دعوة اليها او اعتراض عليها، او صراع بين المطالبين بها والخائفين منها، او نقاش حول معناها وحدودها وتطبيقاتها. معظم هذه الجدالات دار حول اربعة عناصر مترابطة هي : أ) طبيعة الحرية ذاتها، ب) العلاقة بين الحرية وامثالها من المنافع الاجتماعية، ج) مكانة الحرية ضمن سلم المنافع الاجتماعية، و د) انعكاس السياسات العامة على حريات الافراد[1]. 
سوف نبدأ النقاش اذن بعرض تعريف للحرية ومفاهيمها المختلفة، قبل ان نعالج العلاقة بينها وبين القيم والمباديء التي ترتبط بها او تتبادل التاثير معها.

 مفهوم الحرية وتطوره التاريخي

تستطيع ببساطة ان تقول "انا حر" وتعني انك لست عبدا لأحد، او ان احدا لا يفرض عليك طريقة خاصة في الحياة او العمل، او لا يمنعك من انتخاب خياراتك الخاصة التي ترى انها طريق الى تحقيق ذاتك او الوصول الى السعادة في حياتك. هذا التوصيف المغالي في البساطة يخفي وراءه مفهوما في غاية التعقيد. من المؤكد ان الاحساس بالحرية والحاجة  اليها قديم قدم البشرية نفسها. في الازمان القديمة تحدث بعض الفلاسفة والمتصوفة عن الحرية في معنى الانعتاق والتحرر من الميول النفسية والشهوات، او ما يسمى بالنفس السفلى، وصولا الى السيطرة التامة للعقل على حركة الانسان وافعاله.
هذا النوع من التحرر او الانعتاق لا يناله غير قليل من الناس. وتسبقه رياضة ذهنية وروحية غرضها تمكين النفس العليا، او العقل، من تكييف نوازع الانسان الداخلية ومراداته وطريقة عيشه حتى تنسجم تماما مع قواعد الاخلاق، وتجسد طبيعة الانسان النقية. الحرية في هذا المفهوم تساوي "تحرر الانسان من غرائزه وشهواته". وقد ركز مؤيدو هذا المفهوم على مناهج وفرص التطور الروحي والمعنوي للانسان، ولم  يهتموا كثيرا بتغيير النظم والمؤسسات التي يعيش في اطارها او يتاثر بوجودها وعملها[2].
لكن اول استعمال لمصطلح "الحرية" في نص قانوني، اي باعتبارها حقا للمواطن يحميه القانون، يرجع على الارجح الى الحضارة السومرية في القرن 24 قبل الميلاد. تشير احدى الوثائق الى ان اوروكاجينا، ملك لاغاش، اصدر مرسوما يعيد الى رعاياه حقوقا سبق اقرارها ثم سلبت، ويضمن لهم الحماية القانونية من رجال السلطة. وتشير وثائق اخرى الى قواعد قانونية وضعها الملوك اللاحقون من اجل ترسيخ مبدأ العدالة وتعزيز حرية الرعايا وحمايتهم من استغلال الطبقات القوية او النافذة للسلطة[3].
كل تفكير في الحرية او نقاش حولها ينظر في العادة الى علاقة بين ثلاثة عناصر:
أ) الفرد،
ب) شيء يريده الفرد،
ج) عامل خارجي (او داخلي) يمنع التقاء الاثنين او يسمح به.
ويتركز الجدل في الغالب حول العنصر الثالث، اي العامل الخارجي (او الداخلي). حين يقول الفرد بانه حر او غير حر، فانه يشير الى ان العوامل الخارجية تسمح بتحقيق ارادته او تعيقها. لكنه ايضا قد يصف مشاعره الداخلية في لحظة محددة، فهو يقول انه حر او غير حر، بمعنى ان رغباته متدفقة وقابلة للتحقيق، او انها مكبوتة او مقيدة. الحرية هنا وصف للذات، بينما هي في الحالة الاولى وصف للعلاقة بين الذات والخارج. او وصف للواقع الخارجي فقط. حول كل من العناصر الثلاثة دارت نقاشات كثيرة جعلت موضوع الحرية واحدا من اغنى حقول المعرفة الانسانية، وهي لاتزال – وربما ستبقى – جذابة للمزيد من الباحثين والنقاشات. وحسب ايزايا برلين الذي تحدث في خمسينات القرن الماضي فقد سجل تاريخ المعرفة نحو 200 معنى للحرية اقترحها باحثون في حقب التاريخ المختلفة، تدل بالتاكيد على ان محتوى هذا المصطلح الصغير اوسع بكثير واعمق مما يبدوعليه في النظرة الاولى[4]. لا غرابة في ذلك فهي تقع في قلب الحركة التاريخية للانسانية، وهي محور التجاذب بين الانسان والظرف الاكثر تاثيرا في حياته، اي الاطار الاجتماعي الذي يعيش فيه والدولة التي يخضع لسلطتها.
دعنا نبدأ اذن بعرض تعريف موسع نسبيا لمفهوم الحرية اقترحه كارل دوتش، ثم نعود الى عرض تطور المفهوم وتفصيل محتواه. تنطلق فكرة الحرية هنا من المقارنة بين وضع الانسان في حالات مختلفة، يمثل كل منها فرصة او قيدا، وصولا الى مساواة مفهوم الحرية بتوفر خيارات متنوعة قابلة للتحويل الى افعال. الحرية عند دوتش هي "شريحة الخيارات الفعالة المتاحة لفرد او جماعة من الافراد. قدرة الجماعة على اختيار الافعال او السياسات يمكن ان تترجم  عند الممارسة الى خيارات غير مباشرة للافراد". هذا المعنى يقترب كثيرا من مفهوم الحرية الايجابية الذي سنعرضه لاحقا، لكنه يسعى لتلافي الاعتراضات التي ترد عليه من خلال تقديم اجزاء مفهوم الحرية كمنظومة مترابطة. 
للحرية في هذا المنظور اربعة ابعاد او شروط مسبقة :
1- غياب المعوقات التي تقيد حركة الفرد، وهو البعد الذي اهتم به منظرون كلاسيكيون مثل جون لوك وادم سميث.
2- توفر الفرص الفعلية التي يجسد الفرد من خلال استثمارها ارادته ورغباته وطريقة العيش التي يطمح اليها. ويتعلق هذا البعد بالامكانات التي تتيحها البيئة والنظام الاجتماعي للفرد. وركز على هذا الجانب المفكرون الذين ربطوا بين مفهومي الحرية والعدالة الاجتماعية، مثل توماس غرين، كارل ماركس، برنارد شو، وسيدني وب.
3- قابلية الفرد الذاتية ، البدنية او الروحية او الذهنية، لفعل ما يريد، وركز عليه هيجل.
4- وعي الفرد بالمحيط الذي يتعامل معه، بما فيها وعيه بحقوقه والفرص المتاحة له، فضلا عن قدراته الشخصية. وكان هذا البعد محل اهتمام الفلاسفة اليونانيين من هيراكليتوس الى سقراط ثم علماء النفس المعاصرين لا سيما في مدرسة سيغموند فرويد[5].
تلخص هذه الابعاد معظم الاشكالات التي تعرضت لها التعريفات المختلفة للحرية. لكنها تكشف ايضا عن اشكالية هامة مصدرها هو التعارض المحتمل بين ما يريده الانسان وبين الوسائل المتاحة لتحقيق هذه الارادة. ينتمي بعض تلك التعارضات الى المجال السياسي كما في البعدين الاول والثاني، بينما تنتمي التعارضات في البعدين الثالث والرابع الى المجال النفسي والثقافي. وبالنسبة للثاني تحديدا فان قلة الخيارات قد لا تكون نتيجة لسياسات حكومية تستهدف بشكل مباشر تقييد الحرية، بل بسبب تدني مستوى النمو الاقتصادي او تخلف المجتمع. وعلى اي حال فان الاهتمام بهذه الابعاد الاربعة سوف يفتح ابوابا اوسع لمناقشة موضوع الحرية. دعنا اذن نعيد قراءة الابعاد الاربعة السابقة من الزاوية السلبية لتحديد معنى الحرية والتقييد:
·              يريد الفرد تحقيق رغبات معينة، لكنه لا يستطيع لان الحكومة تمنعه من ذلك. يشير هذا الموضوع اذن الى عيب في النظام السياسي او القانوني فيما يخص ضمانه لحريات الافراد وحقوقهم.
·                قد لا يكون ثمة عائق سياسي او قانوني امام الفرد، لكن الادوات المادية والفكرية الضرورية لا نجاز ما يريده غير متوفرة في البيئة المحيطة. يشير هذا البعد الى الكفاءة المادية للنظام الاجتماعي ولا سيما مستوى التنمية فيه.
·               ربما يكون الظرف السياسي مناسبا والفرد قادرا، لكن البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها الفرد لا تسمح له بالسعي الى غايته رجوعا الى مسلماتها الثقافية او منظومتها القيمية. بعبارة اخرى فان الفرد يستطيع – نظريا – فعل ما يريد، لكنه سيتحمل عبئا اجتماعيا لا يسهل احتماله. يركز هذا العامل على الثقافة السياسية السائدة وتوفر الضمانات القانونية التي تحمي تعددية الاراء والمبادرات الفردية.
·              قد تكون الظروف السابقة كلها مساعدة، والفرد راغبا في التحرر، لكن ثقافته الشخصية مقيدة او معيقة، او انه يفتقر الى القدرة الروحية او البدنية او الذهنية التي تمكنه من تحمل تبعات التحرر او ثمن الحصول عليه. يركز هذا العامل اذن على القابلية الذاتية للتحرر او ممارسة الحرية.
الجدل المعاصر حول مفهوم الحرية يدور في معظمه حول العوائق الخارجية. اي ضمن الدوائر الثلاث الاولى. الفرضية هنا ان الانسان له حق في اي يفعل شيئا، او انه يريد ان يفعل شيئا، لكن ثمة عائق خارجي يمنعه من انفاذ ارادته. هذا العائق قد يكون طبيعيا او ذاتيا مرتبطا بالفرد نفسه. قد يريد الفرد ان يطير في الهواء لكن طبائع الامور تابى عليه ذلك، او قد يريد شيئا لكن يمنعه عنه جهله به او مرضه او فقره او عدم توفره في المحيط.
 العوائق الطبيعية ليست موضوعا للنقاش اصلا. ولا تعتبر من نوع تقييد الحرية بل هي من الممتنعات طبيعيا. النوع الاخير من العوائق، اي تلك التي تتعلق خصوصا بذات الانسان (مثل الجهل والمرض) او بالامكانات المتوفرة في البيئة المحيطة (مثل الخدمات العامة الضرورية لتسهيل الحياة) كانت موضوعا لنقاشات المفكرين الاشتراكيين الذين اعتقدوا ان اقرار القانون بحرية الافراد لا يجدي نفعا طالما لم يستطع الانسان استثمارها بسبب قصور ذاتي او بيئي. وسنعرض هذه الفكرة في الصفحات اللاحقة. عدا ذلك فان ابرز النقاشات تدور في اطار الرؤية الليبرالية التي تركز على عنصرين رئيسيين هما : التدخل الاعتباطي ضد ارادة الفرد، وجبره على فعل ما لا يريد او منعه عن فعل ما يريد.

مفهوم ثابت وتعبيرات متغيرة

قد ننظر الى هذه المعاني كتمظهرات مختلفة لمفهوم واحد، وقد ننظر اليها كمستويات للفكرة تناسب كل منها مرحلة او ظرفا بعينه، او ربما ننظر اليها كعناصر تخصيص للمفهوم العام. اما هارولد لاسكي فقد اعتبر ان المعاني المختلفة للحرية هي تعبير عن الظروف التاريخية المختلفة للفكرة. بعبارة اخرى فان الحرية مبدأ له مفهوم ثابت، ينصرف عند الشرح الى معان وتطبيقات عديدة، بعضها مطلوب ومحل اهتمام في جميع الاحول، وبعضها الاخر يبرز في ظرف معين دون غيره. في بعض الظروف يعبر الناس عن رغبتهم في الحرية من خلال الاصرار على التسامح الديني.  وفي وقت اخر ينصرف المفهوم الى التاكيد على الحقوق المدنية، وفي ظرف ثالث الى الحريات الشخصية.
بعبارة اخرى فان  الاهتمام الظرفي ببعد معين من ابعاد الحرية او عنصر خاص مما ينطوي عليه مفهومها، يمثل تعبيرا عن ضرورات او افرازات الحركة الاجتماعية في حقبة محددة. وبهذا المعنى فان الدعوة للحرية هي محاولة لايجاد الشروط المناسبة للملاءمة بين حاجات الجمهور والاوضاع القانونية الحاكمة او حاجات السلطة السياسية. مضمون الدعوة للحرية او العناصر التي يجري التركيز عليها ليست واحدة في كل الاوقات رغم ان المبدا الذي ترجع اليه واحد وثابت. بناء عليه فان من الافضل النظر اليها كانعكاس او مفعول للظرف التاريخي والبيئة في مكان وزمان معينين.
البيئة الاجتماعية ضمن ظرف محدد تفرز هما او انشغالا او ضرورة، تدفع الجمهور للتركيز عليها فتصبح هي موضوع المطالبة بالحرية. هذا يذكرنا بان الحرية جزء لا يتجزأ من الحركة الاجتماعية، ولا يمكن تصورها خارج هذا الاطار. ولهذا السبب فان نقاشها يتركز دائما على العلاقة بين المفهوم وبين النظام القانوني والاجتماعي السائد، ما اذا كان يميل الى توسيع الحريات الفردية والعامة او تضييقها، ما اذا كان يوفر السبل الكفيلة بممارستها ام يتركها حبرا على ورق[6].
من الممكن اذن اعتبار المفهوم الذي اقترحه الاشتراكيون افرازا لظرف تاريخي مختلف عن ذلك الذي ظهر فيه المفهوم الليبرالي الكلاسيكي. طبقا لراي لاسكي فانه يمكن تمييز حقبتين اساسيتين في تاريخ الكفاح من اجل الحرية في اوربا منذ عصر الاصلاحات (حوالي القرن السادس عشر) حتى اليوم. تركز الكفاح في الحقبة الاولى على تحرير الفرد من هيمنة القوى النافذة التي تستمد سلطانها من الدولة او الكنيسة او الاقتصاد، والتي فرضت عليه الخضوع لارادتها وتكييف حياته طبقا لتوجهاتها. وانصبت الجهود خلال هذه المرحلة على اصلاح القانون الوطني بتضمينه قواعد جديدة تنص على حقوق محددة للافراد، يمكنهم ممارستها والمطالبة بتطبيق مقتضياتها بغض النظر عن موقعهم الطبقي او انتمائهم الاجتماعي. يمكن اعتبار هذه الحقبة مرحلة الانعتاق الشخصي، اي تحرير الذات من تحكم الاخرين. ويتجلى ابرز تعبيراتها الكلاسيكية في برنامج الثورة الفرنسية. الفهم العام للحرية في هذا الاطار كان يتجه الى المفهوم السلبي، اي حماية الفرد من القهر او التدخل الاعتباطي للغير وتركه يقرر طريقة حياته كما يريد[7].
في المرحلة الثانية التي بدأت مع اتساع دور الطبقة العاملة الحديثة، تركز الكفاح على اصلاح البيئة الاجتماعية على النحو الذي يمكن الطبقات الضعيفة كالعمال مثلا من الاستفادة القصوى من حقوقهم التي اقرها القانون. كان الشعور السائد في اواخر القرن التاسع عشر بان الليبرالية الراسمالية  laissez-faire لم تعد قادرة على استيعاب تحديات القرن الجديد، وظهر هذا بوضوح اكبر حين اندلعت الحرب العالمية الاولى (1914). فقد ساعدت ظروف الحرب على تأكيد الحاجة الى قيادة قوية تستطيع حشد وتنظيم الشعب على مختلف الصعد من اجل ضمان الانتصار في الحرب.  كانت ثمة قلق من ان التفاوت في مستويات المعيشة وتباين نصيب الطبقات الاجتماعية المختلفة في الموارد العامة، قد تضعف مساهمة الطبقات المحرومة في الجهد العسكري المباشر او الداعم للقوات المسلحة.
وجد العمال ان الحرية في مفهومها السلبي، اي ان يفعل الانسان ما يشاء، غير قابلة للتجسيد الفعلي، نظرا لافتقارهم الى الوسائل الضرورية لتحقيقها. تركزت الانظار على المجال الاقتصادي والمعيشي، واكتشف الناس ان التفاوت الفاحش في الثروة يقود مباشرة الى تفاوت في القدرة على الاستفادة من الحقوق الفردية، ومن بينها الحرية. وهي نفس المجادلة التي طرحها الاشتراكيون. في ظل الفقر والجهل والمرض، لا يمكن ترجمة الحق الى تحسين فعلي لمستوى المعيشة. ومن هنا فقد تمحورت الجهود على المطالبة بنصيب معقول في الانتاج الاجتماعي والثروة المتولدة على المستوى الوطني، وجرى استعمال ادوات الضغط الجماعي لتحقيق هذه الغاية.
تبلورت هذه المشاعر في مبدأ التخطيط الجمعي الذي يعني السماح للدولة بالتدخل المباشر والواسع النطاق في صياغة النظام الاجتماعي وادارة السوق والتخطيط المركزي لتوزيع الموارد العامة، فضلا عن توفير الخدمات الضرورية للطبقات الدنيا. وقد كانت ظروف ما بعد الحرب سببا مباشرا في تعميم الاقتناع بهذا المبدأ، حيث قامت الحكومة العمالية في بريطانيا بتأميم العديد من قطاعات الخدمة العامة واصدرت برامج للرعاية الاجتماعية، وتبنت فكرة ان كل مواطن له حق في حد متوسط من الرعاية وان المجتمع ممثلا في الدولة كفيل باولئك الذين لا يستطيعون الاعتماد على انفسهم مثل الاطفال والمرضى وكبار السن والعاجزين والعاطلين عن العمل. وفي الحقيقة فقد شهدت الحقبة الواقعة بين الحربين الاولى والثانية (1918-1937) تحولا عاما في اوربا باتجاه دولة المنفعة العامة welfare state[8].
ساهم انتشار هذا المبدأ في اغناء مفهوم المواطنة التي اصبحت تتضمن بالاضافة الى الحقوق السياسية، حقوقا اقتصادية واجتماعية ما كانت منظورة في ظل الليبرالية الكلاسيكية. وظهرت حجة فحواها ان الحرية ستبقى مفهوما فارغا مالم تصحبها مساواة في فرص المعيشة والناتج المتولد عن العمل. ينسب هذا المبدا الى الاقتصادي الانكليزي جون مينارد كينز (1883-1946) ، واعتبر واحدا من ابرز التعديلات في الليبرالية الكلاسيكية. ومن المؤكد ان هذا الاتجاه قد تأثر بعوامل عديدة اضافة الى افرازات الحرب، من بينها الثورة البلشفية في 1917 ثم قيام المعسكر الاشتراكي في شرق اوربا بعد الحرب الثانية، والصين الشعبية في الاربعينات. تبنت النظم الاشتراكية مبدأ نقيضا يقوم على تدخل الدولة بشكل موسع في حياة المجتمع والافراد. تدخل الدولة قلص مساحة الحرية – المتاحة على المستوى النظري على الاقل -. لكن الاكثرية الساحقة من الناس، لا سيما الطبقات الضعيفة، وجدت الامر مناسبا، لانه حررهم من عبء ثقيل، هو ضمان الحد الادنى الضروري للبقاء والكرامة. 
يمكن وصف المرحلة الجديدة من تاريخ الحرية بمرحلة الانعتاق الاجتماعي. اتخذت الحكومة بشكل متزايد صفات ابوية، فهي ترعى مواطنيها وتوفر حاجاتهم، لكنها في الوقت نفسه تقنن سلوكهم الفردي والجمعي وتخلق نسقا حياتيا واجتماعيا يتسم اذا نظرنا اليه من الزاوية الايجابية بالمساواة، لكنه قد يحمل ايضا صفات التماثل والتشابه القسري. من ناحية اخرى فان تطور الاقتصاد قد ادى الى خلق مجتمعات مدينية ضخمة جدا، زادت من الحاجة  الى التقنين وتدخل الدولة، وهذا وذاك ساهما بدورهما في تقليل اهمية الفرد، فاصبحت حريته مشروطة بالتناغم مع الاخرين الذين يعيشون معه في نفس الظرف الاجتماعي [9].

الحرية السياسية:

حين تكون في مجتمع تقليدي يتجادل حول الحرية، او حين تقرأ مقالة لكاتب تقليدي يتحدث عن الحرية، فسوف تصادفك بالتاكيد عبارة "لا توجد حرية مطلقة، لا بد من قيود على الحرية والا انقلبت فوضى وعبثا". هذه العبارة التي تبدو – ظاهريا على الاقل – عقلانية، هي اقوى الحجج التي يتسلح بها اعداء الحرية لفرض سلطتهم او رؤيتهم على عامة الناس. بغض النظر عن ارتيابنا في هذا التعبير واغراضه، الا اننا بحاجة الى فهم الارضية التي يقوم عليها والاطار الذي يسمح باعتباره عقلانيا او ضد العقلانية. وهذا يقودنا الى العلاقة بين الفرد وما يطلبه من حرية (اي الغاء القيود) والمجتمع وما يطلبه من انضباط (اي مزيد من القيود). وقد لا يكون من ضروب المبالغة القول بان هذه المسألة هي جوهر الجدل حول العلاقة بين الفرد والمجتمع، وبين الفرد والدولة.
لا بد اذن من تقييد النقاش بفرضيتين اساسيتين :
الفرضية الاولى: ان النظام الاجتماعي لا يكون عادلا الا اذا كان اعضاؤه احرارا، اي اذا ضمن هذا النظام لاعضائه قدرا من الحريات الاساسية والثانوية التي تسمح بوصفهم بانهم احرار. باعتبار ان عبودية البشر لاندادهم نقيض للعدل.
الفرضية الثانية : ان الحرية التي نتحدث عنها هي حرية الفرد الذي يعيش في مجتمع سياسي محكوم بقانون واعراف ونظام علاقات محدد.
النقاش حول الحرية هو بالضرورة نقاش حول الرابطة الاجتماعية، علاقة الفرد بالمجتمع، قدرة الفرد على استثمار حريته على نحو عقلاني، التوازن بين مصالح الفرد والجماعة، ونصيب الفرد من المنافع والمسؤوليات المترتبة على العيش الجمعي، وما أشبه.
التمظهر الرئيسي لمشكلة الحرية يتمثل في حرية الفرد مقابل المجتمع والدولة ولا سيما حريته في معارضة سياسات الدولة. هذه الاشكالية هي محور لجانب كبير من النقاشات النظرية في  الفلسفة وعلم السياسة. فمنذ تبلور الفلسفة السياسية الحديثة كان السؤال الاكثر الحاحا هو : كيف نقيم حكومة قوية وفعالة ونحافظ في الوقت نفسه على الحريات الفردية ؟. السر في هذا السؤال يكمن في التجارب التاريخية الكثيرة التي كشفت عن الميل الطبيعي للحكومة الى اختراق "الحريم الشخصي" للافراد وتقييد حرياتهم كلما قويت شوكتها. هذا الميل قد يتجسد في شكل قوانين مقيدة للحريات او في شكل هيمنة مركزية على مصادر القوة بحيث يتحول الفرد الى تابع للنخبة الحاكمة، لا حول له ولا قوة ولا قدرة على المعارضة، حتى في ظل القوانين التي تكفل له الحرية والاستقلال. بسبب هذه التجارب المريرة فقد اصبحت الموازنة بين فاعلية الدولة وحمايتها لحريات الافراد احد ابرز معايير العدالة في معناها السياسي. في الحقيقة فقد اصبحت قيمة اي حكومة في عالم اليوم ومشروعيتها رهنا بما تفعله لضمان حرية مواطنيها وتساويهم في الفرص والواجبات. ان اسوأ الحكومات هي تلك التي تحرم الناس من حرياتهم فتحولهم الى ما يشبه مجتمعا من العبيد، او تلك التي تميز بينهم فيكون بعضهم بمثابة عبد للبعض الاخر.

الحرية بين المفهومين السلبي والايجابي:

في منتصف القرن الماضي طرح ايزايا برلين تعريفا جديدا لمفهوم الحرية اصبح الان معياريا في بحوث الحرية السياسية. فقد راى انه يمكن تصنيف المئتي معنى للحرية التي سجلها تاريخ المعرفة الى طائفتين كبيرتين: الحرية في المعنى السلبي الذي ينطوي في جواب سؤال: ما هي المساحة المتاحة لشخص او جماعة كي يفعلوا ما يريدون او يكونوا كما يشاؤون دون ان يتدخل في شأنهم اي شخص اخر؟. يشير المفهوم اذن الى استقلال الفرد وعدم تدخل الاخرين في حياته، اي "الحرية من..".
اما الحرية في المفهوم الايجابي فتنطوي في جواب سؤال: من هو او ما هو مصدر التدخل او السلطة التي يمكنها تقرير ماذا يفعل شخص ما و كيف يكون على هذا النحو دون سواه؟. يشير المفهوم اذن الى فعل الفرد لشيء يتطلب مباشرة او مداورة موافقة الغير، اي "الحرية في..". طبقا لبرلين فقد تطور المفهومان في سياقين تاريخيين مختلفين. والاختلاف بين السؤالين واضح. لكن الجواب على كل منهما قد يتشابه مع الاخر في بعض الوجوه. يميل المفكرون الاشتراكيون الى معنى قريب من المفهوم الثاني، بينما يتفق الليبراليون على الاول، اي عدم التدخل [10].

الحرية السلبية

منذ اواخر القرن الثامن عشر ساد الميل الى المعنى السلبي للحرية بين عموم المفكرين الليبراليين الذين اعتبروها ضرورة للحياة الكريمة. لكي يتمتع الانسان بوجوده ككائن عاقل، فهو بحاجة لمساحة حرة يتصرف ضمن حدودها وفق ما يراه صالحا لنفسه.  فاذا منعه الاخرون من انفاذ ارادته ضمن ذلك المجال، او ضيقوا عليه المساحة المتاحة، فانه - بقدر ذلك التضييق  يعتبر مقهورا او محروما من الحرية. انت محروم من حريتك حين تعجزعن الوصول الى غاياتك بسبب منع الاخرين لك او اعاقتهم لحركتك، وليس بسبب العجز الذاتي او العوائق الطبيعية. رأى جون ستيوارت ميل، وهو من اعلام الفكر الليبرالي، ان "الحرية الوحيدة التي تستحق هذا الاسم هي حريتي في السعي وراء ما هو مصلحة وخير خاص لنفسي، بحسب ما اراه، وبالطريقة التي تناسبني، طالما لم يؤد هذا السعي الى حرمان الاخرين من مصالحهم او اعاقة سعيهم لنيلها"[11]. ترك الفرد ليقرر طريقه بنفسه، وعدم اعاقته او التدخل في امره، ضرورة لتمتعه بانسانيته، وشرط لتفتح عقله، مثلما هو شرط لتقدم المجتمع. ما لم يترك الانسان كي يعيش كما يشاء في الطريق الذي يهمه شخصيا، فلن يكون ثمة فرصة للعفوية والاصالة والجدة والنشاط العقلي والشجاعة الاخلاقية. سوف يركد المجتمع تحت اثقال الخمول والبلادة. اذا قبل المجتمع بالارتهان لما اعتاد عليه من افكار وانماط حياة، واذا حجبت الافكار الجديدة المتعارضة مع السائد، فلن تظهر الحقائق الجديدة وغير المعروفة الى النور. الفرد في مجتمع كهذا لن يتربى على الابداع والتجديد، بل سيكون على الاغلب مثل شجرة صفراء، نحيلا مشلولا وملتويا. لا يمكن للمجتمع ان يتقدم او يكتشف طريق الحضارة مالم يطلق التعبير الحر والتبادل الحر للافكار[12]. 
ربما كان المفكر الانجليزي توماس هوبز اول من تبنى مذهب عدم التدخل كمفهوم للحرية. فقد رأى ان حرية الانسان رهن بانعدام القيود التي يمثلها موقف الاخرين، سواء كانوا افرادا او منظمات اجتماعية او حكومة. طالما كان الفرد مضطرا الى الالتزام بقانون ما فهو غير حر او ان حريته محدودة، فالقانون بطبيعته اما محدد لحركة الانسان بمعنى انه يفرض عليه السير في طريق معين، او كابح له من السير بحسب رغبته وارادته الخاصة. الحرية التامة لم توجد - في راي هوبز – الا في مجتمع الحالة الطبيعية السابق لقيام الدولة، حيث كان بوسع الفرد فعل ما يشاء دون ان يبالي باحد او يتقيد بقانون. ولهذا قال بان الحرية الحقيقية تكمن في صمت القانون[13].
تنطلق هذه الرؤية من فرضية ان القانون يمثل قيدا على الحرية، لكنها لا تدعو الى الغاء القانون. طبقا لماديسون فان الرؤية الليبرالية تجمع مفهوم هوبز السلبي للحرية مع رؤية ايجابية للدولة والقانون، وتعتبرهما ضروريين للمجتمع على النحو الذي شرحه روسو. الرسالة النهائية في هذه الرؤية اذن هي: (أ) ان حرية الانسان في المجتمع المدني محددة بالقوانين القائمة، و (ب) ان القوانين قد تؤدي الى استعباد الفرد ولهذا فان المشرعين بحاجة الى التزام حد واضح كي لا ينقلب مسارنا من التاكيد على النظام الى قبول انتزاع حرية الافراد واستعبادهم باسم النظام او حاجات المجتمع. وحسب تعبير جون رولز فان فهم اولوية الحرية يقتضي دائما التمييز بين حجب الحرية restriction وتنظيم  ممارستها regulation.[14]

استقلال الفرد

تميل الدراسات المعاصرة الى التركيز على مكونات الظرف الاجتماعي – السياسي باعتباره البيئة التي تتولد فيها العوامل المساعدة او المعيقة للحرية. تتشكل حياة الفرد اليومية تحت تاثير جملة من العوامل، ابرزها الانظمة والمؤسسات والمنظومات الاجتماعية/السياسية التي تحدد طريقة حياة الفرد ومكانته وموقعه ضمن محيطه الحيوي. نحن نتحدث اذن عن فرد يتأثر مسار حياته بارادات الاخرين وافعالهم، سواء كان هؤلاء الاخرون جماعة باكملها او فريقا نافذا في هذه الجماعة. يتفاعل الفرد بشكل ايجابي واختياري مع بعض تلك الارادات، لكنه يضطر لقبول بعضها الاخر رغما عنه. يصف لستر هذا الاضطرار بـ "الكلف الاضافية" التي يتحملها الفرد دون رغبته. ولذا فهو يعرف الحرية بانها غياب الكلف الاضافية التي تفرض على الافراد دون ارادتهم[15]. هذا الامر يثير بطبيعة الحال مشكلة جدية تتعلق بالتوازن بين التدخل المقبول وذلك المرفوض، وما اذا كان للافراد الحق في تحديد ما يقبلونه او يرفضونه. سوف نتحدث لاحقا عن الاطار القانوني للحرية وكيف يؤثر القانون على مساحة الحرية المتاحة للفرد. لكن فيما يخص موضوعنا الراهن فقد رأى ماديسون ان فكرة عدم التدخل في جوهرها تدور حول "استقلال الفرد"، اي تمتعه بالحماية القانونية من تحكم الاخرين او تدخلهم بصورة اعتباطية في حياته. بعبارة اخرى فان الفرد يوصف بانه حر حين يكون الاخرون - ولا سيما الحكومة - ممنوعين قانونيا من فرض ارادتهم عليه واجباره على فعل مايشاؤون. التدخل الاعتباطي، ولا سيما المدعوم بقوة تفوق قدرات الفرد يسمى قهرا. حين يتعلق الامر بمجتمع كامل او امة، فان "الاستقلال" هو اقرب العناوين التي تلخص مفهوم التحرر من تحكم الاخرين في حياة الفرد او الجماعة [16].
يميز هذا الاتجاه اذن بين التدخل القانوني في حياة الفرد والتدخل الاعتباطي. تتدخل الدولة من خلال وضع القوانين التي تقيد الحرية لكنها تعتبر ضرورية للحياة المشتركة. يمكن ان لا نعتبر هذا استعبادا للفرد، خاصة اذا التزم واضعو القانون بحدود معينة. لكن الذي يهدد استقلال الفرد وحريته هو التدخل الاعتباطي او التحكم من جانب اشخاص او رجال دولة ينطلقون من متبنيات شخصية لاختراق الحريم الخاص بالافراد. التركيز على فكرة "استقلال الفرد" يعني : (أ) ان كل فرد يملك مساحة من الحياة الفردية المستقلة التي لا يسمح بتدخل الدولة فيها عن طريق التقنين، و (ب) ان هذه المساحة يجب ان تكون محمية بالقانون ضد تدخلات الاخرين مهما كانت مبرراتها.

الحرية الايجابية

موضوع الحرية الايجابية يدور - كما اشرنا في سطور سابقة - حول قدرة الفرد على فعل شيء يتطلب مباشرة او مداورة مساهمة الغير او موافقتهم. وقد صرفها بعض الباحثين الى توفر خيارات متعددة امام الفرد يستطيع من خلال الاخذ ببعضها ان يحقق ذاته وان يكون سيد نفسه. من بين اوجه التمايز البارزة بين المعنيين، نشير الى ان الحرية في المفهوم السلبي توصف بانها حق للانسان كانسان، ومن هنا فهي شرط لعدالة القانون وهي اعلى منه وسابقة على وضعه. اما الايجابية فهي حق للانسان باعتباره مواطنا في مجتمع سياسي. ولذا فهي لا توجد الا اذا عرفها القانون وحدد معناها وكيفية ممارستها.
نظرا لوجوه التشابه العديدة بين المفهومين، ولا سيما في الانظمة السياسية القائمة على التعاقد، فقد اعتبرهما البعض تعبيرا عن الشيء نفسه من زاويتين متعاكستين. لكن ملاحظة موضوعات التركيز عند انصار هذه  وانصار تلك، والتطور التاريخي للاساس الفلسفي لكل من المفهومين وتطبيقاتهما يشير الى تمايز كل منهما عن الاخر. تتطلب الحرية الايجابية شيئا اكثر من غياب التدخل، وهو بالتحديد توفر الوسائل التي تسمح للفرد بصياغة حياته، وينصرف هذا المعنى بشكل رئيسي الى المشاركة في تشكيل الارادة العامة، في اختيار القادة الذين يديرون الحكومة ويشرعون القوانين ويضعون السياسات وبرامج العمل المؤثرة في الشان العام، ومن بينها تلك التي ستؤثر في حياة الفرد نفسه.
يكون الفرد حرا في المعنى الايجابي حين يتحرر من هيمنة القوى الثقافية والاجتماعية التي تعيقه عن تحقيق ذاته. يتطلب الوصول الى هذه الغاية تحولا ذهنيا وروحيا في الشخص نفسه، او تغييرا في النظام الاجتماعي. الفرد الحر في المعنى الايجابي هو الذي يصوغ حياته ويسيطر على مجاريها وينفرد بالسيادة على نفسه. السيادة على النفس تتخذ معنى سيطرة الذات العليا على الذوات الاصغر او الجزئية التي في داخل الانسان. الذات العليا – في هذا المعنى - هي وصف للهوية الاجتماعية للفرد، اي تلك الصفات والمتبنيات التي تحاكي روح وثقافة الجماعة التي ينتمي اليها، سواء كانت قبيلة او جنسا او دينا او أمة.  هذه الهوية تفهم اذن باعتبارها نفسا حقيقية تفرض وجودها وارادتها على الافراد حتى تتحدد شخصياتهم. الانتماء الى جماعة هو مبرر الحاجة الى الحرية. لو لم يعش الفرد في مجتمع فان الحرية لن يكون لها موضوع. لكن العيش في الجماعة له ثمن، يتضمن على اقل التقادير تداخلا ثقافيا وروحيا بينها وبين الفرد، يؤدي بالضرورة الى اندماج الفرد في الجماعة. ويتحقق الاندماج من خلال تفكيك تدريجي لهوية الفرد الخاصة، اي الغاء بعض خصوصياته، وتعزيز جانب التماثل بينه وبين بقية اعضاء الجماعة، الى حد يصبح تمثله لشخصية الجماعة اظهر من تمثيله لذاته المستقلة والمتمايزة عن الغير.  ينتج عن هذه العملية اعادة صياغة لارادة الفرد وخياراته، فنوع الحرية التي يطلبها سيكون هو النوع الذي اختارته الجماعة، وكذلك العدالة وبقية القيم. مثل هذه العملية لا تتم – بالضرورة – بطريقة عنيفة او مباشرة، ففي معظم الحالات يجري "توجيه" اكتشاف الفرد لهويته في وقت تشكلها، اي في صباه وعندما يبدأ في اكتشاف الحياة الاجتماعية.
تبنى مفهوم الحرية الايجابية عدد بارز  من المفكرين المحافظين والاشتراكيين والفلاسفة الاخلاقيين، كما تبناه المفكرون الدينيون في الاسلام والكاثوليكية والبوذية وغيرها. بين الاسماء الاوربية البارزة في هذا السياق تجد جان جاك روسو، ايمانويل كانت، فيخته، هيجل، وكارل ماركس. بصورة عامة فان المفهوم السلبي ينسجم مع فكرة الدولة المحدودة التدخل، بينما ينادي بالمعنى الايجابي اولئك الذين يدعون الى دور واسع – اي تدخل واسع - للدولة في الحياة العامة.
كارل ماركس

يعتقد انصار الحرية الايجابية ان المفهوم السلبي، اي غياب التدخل او القهر، لا يعطي الفرد حرية كاملة او حقيقية. مجرد الوجود غير المقيد ليس حرية كاملة. الحرية هي ان تفعل الشيء الذي يجسد تطلعاتك في الحياة، اي الذي يتحقق من خلاله وجودك كانسان مستقل. انت حر الى الحد الذي تسيطر فيه على مجاري حياتك وتكون سيد نفسك. وهذا قد يعتمد على قدرات الفرد فقط او ربما يتوقف على مشاركة المجتمع او مساعدة الدولة. اذا عجزت عن ذلك فلست حرا حتى لو لم يكن ثمة قيد عليك[17].
رأى برلين في الحرية الايجابية تعبيرا عن اتجاه رومانسي يعكس هموم العصر القديم، بينما تعبر السلبية عن روح العصر الحديث. الذين ناقشوا الحرية قبل عصر الحداثة كانوا مهتمين بالمشاركة الشعبية في الحياة السياسية باعتبارها سبيلا لتحقيق غايات الانسان الفرد. اما اهتمام الحداثيين فهو نتاج لتغير مفهوم العلاقة بين المجتمع والدولة  وظهور مجتمع فرداني يفضل استقلال الفرد بهويته وحمايته من التدخل كي يقرر طريقة حياته ومتبنياته دون التزام بمجاراة الاخرين. صحيح ان هذا الاتجاه يشدد هو الاخر على المشاركة الشعبية، لكنه يعتبرها وسيلة لهدف اهم وهو حماية الفرد.
رفض معظم المفكرين الليبراليين مفهوم الحرية الايجابية، ولا سيما فرضية كون النظام الاجتماعي جزء من جوهر الهوية الفردية. واعتبروها نوعا من القمع او تبريرا لقمع يمارس على الافراد. ذلك انه يحرمهم من ان يستقلوا بهويتهم وارادتهم، حتى ولو لم يشعروا بانهم في واقع الامر مسيرين. فكرة السيطرة على الذات التي ينطوي عليها مفهوم الحرية الايجابية تبدو جذابة. لكن التجربة التاريخية تثير القلق من عواقب الاخذ به. في حالات كثيرة جرى تفسير الفكرة على نحو منحرف، مثل تجاوز الذات المفككة او الصغرى من خلال الاندماج في الكل الاكبر المتمثل في الروح الوطنية او المصلحة العامة. المصلحة العامة او الروح الوطنية قد لا تكون في احيان كثيرة سوى عنوان لمرادات الحكومة او الطبقة الحاكمة او القوة النافذة في الجماعة، وهذه قد تستعمل تلك الفكرة كمبرر لالغاء الارادات الفردية المتعارضة معها[18].
رغم ما يبدو عليه المفهومان السلبي والايجابي للحرية من تعارض، الا ان معظم الذين بحثوا الموضوع عالجوا مسالة الحرية كمفهوم واحد في الغالب. ويظهر اهتمامهم بالتمييز بين المفهومين فقط حين يستدعي الامر اختيارا بين المنافع الاجتماعية، اي تقديم الحرية على غيرها من المنافع او العكس.

الحرية كمنفعة اجتماعية

تعرض المفهوم الفرداني المتشدد للحرية الذي اقترحه برلين لنقد من جانب مفكرين ليبراليين مثل فيليب بتيت الذي راى ان هذا التقسيم الحاد للمفهومين قد كرس فكرة ان الحرية تنطوي على احتمالين لا ثالث لهما. بينما يمكن العثور على بدائل قادرة على الجمع بين المفهوم الفرداني والقيم الضرورية لحياة اجتماعية سليمة، وهو يقترح ما يصفه بالحرية الجمهورية كبديل عن الاثنين.  كما عارضه جون رولز من زاوية ان الاخذ بالمعنى الفرداني للحرية قد يضطرنا للتضحية بالعدالة الاجتماعية، التي ينظر الى بعض تطبيقاتها على الاقل كحق طبيعي او مدني للفرد، وينطبق عليه بالتالي مفهوم "الضرر" الذي اعتبره الليبراليون الكلاسيكيون مثل ستيوارت ميل حدا ونهاية للحرية.
ترجع هذه الرؤية الى فهم الحرية كواحدة من المنافع التي ينبغي للمجتمع ضمانها لاعضائه. واهميتها في هذا المستوى توازي منافع اخرى مثل الامن الاقتصادي والعسكري والتقدم التقني وصيانة القيم الروحية والاخلاقية.. الخ. اذا قبلنا بهذا المنظور، فمن المتوقع دائما ان يثور جدل حول اولوية كل من هذه المنافع، في وقت معين او في جميع الاوقات. والسؤال الذي اثار دائما قلق الليبراليين هو: هل ثمة مبرر للتضحية باحدى هذه المنافع من اجل نيل الاخرى ؟ هل يمكن التضحية بالحرية مثلا لهذا الغرض؟.
في الواقع العملي تغطى هذه المسائل او تصبح ضبابية بسبب النزاع حول عواقب هذا الفعل او ذاك، لا سيما حين يتعلق الفعل باكثر من منفعة او قيمة من القيم المعتبرة. لاحظ ماكالوم ان مفهوم الحرية نفسه ليس محددا على نحو دقيق، وكان على امتداد التاريخ موضوعا للتضييق والتوسيع بسبب اختلاطه بمنافع اخرى. ينطوي تاريخ الحرية على كثير من النزاعات بين جهات تستعمل الحرية كواجهة او عنوان لمطالبتها بمنافع اجتماعية اخرى، وهي تصنف هذه المنافع كوسائل لتوسيع الحرية كما تصف حرمانها من تلك المنافع باعتباره غيابا للحرية. ولهذا ارتبط الحصول على اي منفعة او خسارتها بمعنى الحصول على الحرية او فقدانها. كل منفعة اجتماعية عوملت كتمهيد او كنتيجة للحرية والعكس بالعكس. هذا هو الذي يفسر لماذا اصبحت الحرية مشابهة جدا للمنافع الاخرى او ومرتبطة بها[19].
لفتت نظري ايضا نظرية جوزف راز حول القابلية للاستقلال باعتبارها مضمونا للحرية. خلافا للربط المشار اليه في صفحات سابقة بين الاستقلال وعدم التدخل، يعتقد راز ان استقلال الفرد يتطلب العناصر التي يشملها مفهوم الحرية الايجابية. وهو يركز في نظريته على قابلية الفرد للاستقلال باعتباره غاية الحرية ومعيار تحققها. الاستقلال في رايه عنصر اساسي في تكوين الحياة الطيبة. توصف حياة الفرد بانها مستقلة اذا صنعها بنفسه.  لا يتحق هذا في اطار المعنى السلبي، الذي يقتصر على عدم تدخل الاخرين في حياة الفرد. الاستقلال والحرية الايجابية يتحققان اذا توفرت خيارات للفرد لصوغ حياته على النحو الذي يريد، واذا استطاع الفرد تفعيل تلك الخيارات وتحويلها من امكانية الى واقع. يجري تفعيل تلك الخيارات من خلال اهداف او مشروعات عمل او علاقات تستدعي بالضرورة اختراقا للمحيط الاجتماعي الذي تشترك فيه مع الاخرين. الفرد الحر – في هذا المعنى – يقيم علاقات وشراكات ويشترك في اتفاقات وقرارات مع الغير، وهو يختار وظيفته او مصادر عيشه، كما يترشح للمناصب الرسمية او التمثيلية، وهي جميعها من الافعال التي تستدعي اختراقا للمحيط  والنظام الاجتماعي القائم. ويرى راز ان للحرية في المعنى السلبي قيمة اذا خدمت المعنى الايجابي اي منعت تضييق الخيارات المتاحة وخدمت استقلال الفرد[20].

الحرية والعدالة الاجتماعية

العدالة قيمة عليا معيارية تلعب دور المرشد والمعيار للسياسات والاعراف المطبقة ضمن نظام اجتماعي/سياسي معين. توفر الحريات شرط لاتصاف النظام الاجتماعي بصفة العدالة.  عالج مفكرون كثيرون العلاقة بين الحرية والعدالة، ورأى بعضهم ان الحرية ليست مفهوما مستقلا بذاته، بل ينبغي النظراليه في اطار مفهوم العدالة، او اعتباره جزءا منه. قد لا يكون لهذا التمييز اهمية كبيرة على المستوى العملي بقدر اهميته على المستوى الفلسفي. خلافا لهذا ، اقترح ايان كارتر تعريف الحرية كمبدأ مستقل عن مفهوم العدالة. العدالة تتطلب الحرية، لكنها ليست جزء من مفهوم العدالة. ينبعث هذا الراي من فرضية ان تحقيق العدالة مشروط – جزئيا على الاقل – بتوفر حد معقول من الحرية. هذا الحد قد يكون القدر الاعلى منها او حرية متساوية او حدا ادنى من الحرية للجميع او شيئا مشابها لهذا او مركبا من هذا المجموع. اذا كان هذا جزء مما نعنيه بالعدالة فان فهمنا للعدالة يتطلب معيارا مناسبا لقياس مستوى الحرية المتوفرة في اطار هذا الفهم[21]. ويدعو كارتر الى تحديد معايير لقياس المستوى المتوفر من الحرية في نظام معين او ظرف معين، ولهذا ينبغي النظراليها كموضوع مستقل، وكمعيار للحكم على عدالة ذلك النظام.
في هذا الاطار فان سؤال العلاقة بين العدالة والحرية في الليبرالية الكلاسيكية يتناول على وجه الدقة الحدود التي يضعها القانون لممارسة الافراد حريتهم، وكيفية تطبيق القانون من قبل الدولة : ربما تكون تلك الحدود مضيقة الى حد يفرغ مبدأ الحرية من مضمونه، وربما تطبق القوانين على نحو يجعل ممارسة الحرية عبئا لا يمكن للافراد احتماله، فيميلون الى التخلي عنها حفاظا على حياتهم او كرامتهم او املاكهم. يلعب مبدأ العدالة هنا دور الميزان والمعيار للحكم على سلامة القانون وسلامة تطبيق الحكومة له. نحن اذن لا نقول حرية عادلة او غير عادلة، بل نقول قانون عادل او جائر.  اما في الليبرالية الجديدة، او ما يوصف بالمساواتية Egalitarianism، فان السؤال يتناول ايضا الجهد الذي يبذله المجتمع لتمكين الافراد من الاختيار بين انماط حياة مختلفة وطرق مختلفة للنمو الشخصي. هذه الرؤية هي محور نقاشنا في هذه الفقرة.
ينسب الاتجاه المساواتي (ويوصف احيانا بالجماعي =Communitarian) الى الفيلسوف الامريكي جون رولز، وهو يمثل نوعا من التمرد على الليبرالية الكلاسيكية ولا سيما تصورها عن الفرد وعلاقته بالجماعة. عالج رولز مسألة الحرية من زاوية قيمية، اي باعتبارها خيرا بذاته، فضلا عن ضرورتها للعدالة، كما عالج اشكالية التفاضل بين الحرية وبقية المنافع الاجتماعية، مركزا على دور النظام الاجتماعي في صيانتها. من هذه الزاوية فان نظريته تمثل مرحلة فاصلة في مسار التطور التاريخي للمفهوم الليبرالي عن الحرية والعدالة. اهتمت الليبرالية الكلاسيكية بحماية حرية الفرد من القهر والتدخل الاعتباطي، ولم تول اهتماما كبيرا بما يلي هذه المرحلة. ولهذا فقد ركزت على دور المؤسسات السياسية والقانونية التي تؤثر سلبيا او ايجابيا في تحديد مساحة الحرية المتاحة. اما التيار المساواتي فقد اهتم – اضافة الى ما سبق - بالبنية الاقتصادية والاجتماعية كعامل حيوي في تحديد مفهوم الحرية ومساحتها ومكانتها بالقياس الى بقية المنافع التي يستطيع النظام الاجتماعي توفيرها في وقت معين. يميل الاتجاه الجديد الى مفهوم موسع للحرية الايجابية، ويعتبر النظام الاجتماعي مسؤولا عن اقرار قدر معقول من الحريات الاساسية باعتبارها احد المعايير التي تقاس عليها عدالة النظام او العكس. يعتقد رولز ان درجة الحرية ونسبة الحاصلين عليها في اي مجتمع هي محصلة لعوامل عديدة ابرزها توازن القوى داخل النظام الاجتماعي.
نظريا، يعترف القانون للطبقات الفقيرة مثل نظيرتها الميسورة بنفس المستوى من الحرية. لكن هذا الاقرار عديم الفائدة على المستوى العملي، لان الفقراء لا يمتلكون الادوات اللازمة للاستفادة من الحقوق التي اقرها القانون. في العاصمة البنغالية دكا مثلا ، هناك 50 الف مشرد يعيشون في الشارع ، يتمتعون - نظريا - بالحق في الترشح لعضوية البرلمان ، لكن ممارسة هذا الحق تصنف – بالنسبة لامثالهم – ضمن الاحلام المستحيلة، لان يومهم مكرس للبقاء على قيد الحياة غدا ، بينما تحتاج ممارسة الحقوق الى ملاءة مالية واستعداد ذهني ومستوى ثقافي وقدرة على توفير ادوات عمل مكلفة. لا بد اذن من ملاحظة الفارق الواضح بين تمتع الفرد بالحق وقدرته على ممارسته. وفي الحالة الثانية فان شريحة كبيرة من المجتمع ستبقى محرومة – فعليا – من التمتع بحقوقها بسبب التفاوت الفاحش في مصادر القوة بينها وبين الطبقات الاخرى، او بسبب تخلف البنية الاساسية في البلد ككل، الامر الذي ينعكس على مصادر المعيشة والامن والتعليم الخ. هذه العوامل السلبية تشكل الوجه المعاكس للشروط التي اقترحها دوتش كما عرضناها في السطور السابقة.
الباحثون عن لقمة العيش: هل لديهم فرصة لاستثمار ما اقره القانون من حقوق؟

من هنا فقد ركز الاتجاه المساواتي على ان تمتع الجميع بشكل فعلي بالقدرة على ممارسة  حقوقهم وحرياتهم المقررة في القانون هو جزء من مفهوم العدالة، ومعيار لتوفر العدالة في نظام اجتماعي معين. وبهذا المعنى فهو يتمايز عن الاشتراكيين الذين يقبلون بامكانية تاجيل الحرية الى ما بعد تحقق الاساس المادي للعدالة الاجتماعية. بالنسبة للمساواتيين فان العدالة والحرية وجهان لعملة واحدة. الحرية غير قابلة للتطبيق من دون نظام يكفل العدالة الاجتماعية ، كما ان تحقيق العدالة مستحيل من دون الحرية .
والحق ان توظيف مصطلح "عادل" او "ظالم" في وصف مجموع النظام الاجتماعي وبنيته القانونية والاقتصادية والمؤسسية هو واحد من ابرز تجليات الفهم الجديد، خلافا للمفهوم السابق الذي كان يطلق الوصف على افعال الافراد او الدولة فقط. راى رولز ان جميع عناصر واجزاء النظام يجب ان تقيّم وفقا لمعيار مشترك كي نستطيع وصفها – كمجموع - بالعدالة او الظلم. نظرا للتاثير الديناميكي لكل مسار من مسارات النظام الاجتماعي على حياة اعضائه، فان تعيين حقوق المواطنين وواجباتهم في جانب معين، الاقتصاد مثلا، يجب ان يسبقه تعريف لانعكاس النظام الاقتصادي وتطبيقاته على حياة الافراد الذين يعملون في اطاره او تتاثر حياتهم بمفاعيله، ولا سيما في تمكينهم او اعاقتهم من ممارسة حقوقهم الاولية وحرياتهم[22].
من بين التطبيقات العديدة لمفهوم الحرية، صنف رولز عددا منها كحريات اساسية، وتشمل الحقوق الخاصة بالضمير مثل حرية الديانة والتفكير والتعبير والتنظيم، كما تشمل الحقوق الضرورية لصيانة الكرامة الشخصية مثل حرية الحركة والعمل واختيار المهنة والملكية الشخصية، اضافة الى شريحة من الحقوق المرتبطة بالمشاركة في الشان العام. صنفت هذه الحريات كاساسية بمعنى انها اكثر اهمية واعلى قيمة من غيرها من المنافع الاجتماعية او الحريات الاخرى، وهي عنده تشكل معيارا لحدود سلطة الحكومة.
تبعا للتراث الليبرالي اتخذ رولز نظرة متفائلة الى الطبيعة الانسانية. المثال الذي يشكل خلفية لرؤيته هو مثال الانسان الراشد الذي يتمتع بقوى ذهنية ونفسية تسمح له بانتخاب الخيار الاقرب للعدالة فيما لو عاش تحت نظام تعاون اجتماعي يقوم على الانصاف ويضمن لاعضائه الحرية والمساواة. اهلية الانسان للاختيار الصحيح قائمة على تمتعه بقوتين معنويتين فطريتين، اولاهما هي احساسه بقيمة العدالة، اي قابليته لادراكها وتمييزها وفهمها وتطبيقها والعمل بموجبها ولاجلها. والثانية هي احساسه بمنفعته الخاصة، اي قدرته على استيعاب تطبيقاتها وتشكيلها ومراجعتها وتنظيم حياته على نحو عقلاني يمكنه من نيلها. بفضل هاتين القوتين يستطيع الفرد ان يفهم ذاته كما يفهم الاخرين باعتباره واياهم احرارا يتحملون مسؤولية افعالهم، وبهذا فهما تمثلان الارضية التي يقوم عليها استقلال الفرد واهليته للتعاقد مع الغير والمشاركة في تشكيل النظام الاجتماعي الذي يعيش في اطاره.

رؤية كانت

رؤية رولز للفرد تذهب بعيدا عن الرؤية الليبرالية الكلاسيكية التي تميل الى التركيز على الجانب الغرائزي في الفرد، ولا سيما تمحور فكرة السعادة والنجاح – وبالتالي العوامل المؤثرة على قراره - حول التملك والاستحواذ كما صورها توماس هوبز[23]. وهو يقر بان تصوره الفرداني متاثر برؤية ايمانويل كانت[24]. لا نريد هنا مناقشة اراء كانت، لكن فيما يخص تصوره عن الفرد، نشير باختصار الى نقطتين،  تبدو اثارهما جلية في رؤية رولز عن الفرد المستقل والقادر على انتخاب الخيار الاقرب للعدالة.
تتعلق النقطة الاولى بكيفية استيعاب الوقائع الخارجية ومنحها قيمة، وبالتالي اعتبارها موضوعا او مبررا للتعقل والقرار. وتتعلق الثانية بالارضية الاخلاقية اوالمعنوية التي تحكم تفكير الفرد حين يتخذ قرارا. ميز كانت بين العالم كما نفهمه من النظرة الاولى وبين الواقع او الحقيقة الكامنة وراء العالم الظاهري. يفكر الانسان في عالمه كي يكتشف الحقائق المحجوبة وراءه، وهدفه في ذلك هو تحديد الحقيقة في اطار زمني ومكاني يجعلها مفهومة ومتصلة بالعالم الظاهري وقابلة للاستعمال. يسمي كانت هذا العالم المفهوم والظاهري (الذي يتالف من حقائق جرى كشفها وتاطيرها) بعالم الظواهر world of phenomena. عملية التفكير تنتهي بتاطير الحقائق. لكنها تبدأ بتصنيف كل عنصر يشارك في تشكيل الظاهرة قبل تاطيرها على نحو يجعله قابلا للانضواء في بنية مفهومية واحدة ذات عناصر منسجمة وقابلة للاستيعاب ككل واحد. هذا التصنيف يتضمن تعريفات مثل الكمية والكيفية والعلاقة مع الاخر والطبيعة السلوكية (اي كونه ممكنا او قائما بالفعل او ضروريا، وكثافة كل وصف من هذه الاوصاف). هذه ليست فقط قاعدة نقيم عليها فهمنا للواقع الذي نعيش فيه والحقائق التي نسعى لكشفها، بل  هي تكشف ايضا عن الطريقة التي يتبعها العقل الانساني في فهم الحقائق.
بهذا المعنى فان العالم المحيط بنا والذي هو موضوع تفكيرنا حين نفكر، يتكون من تصورنا عن الحقائق التي استطعنا كشفها وتاطيرها والتواصل معها. بكلمة اخرى فان ما نعتبره دليلا على صحة راينا، هو الحقيقة التي كشفناها واخترنا لها اطارا زمانيا ومكانيا يسمح باستعمالها كدليل. ولان المعرفة على هذا النحو فان كل انسان راشد يستطيع اتخاذ راي والاستدلال على صحته رجوعا الى الحقائق التي كشفها ورتبها ضمن نظام مفهومي. اذا قبلنا بهذا المعنى، فان معظم ما نتوصل اليه، يعبر عن قدراتنا الذهنية الشخصية ولا يعبر عن قيمة اعلى من ذلك. ولهذا فقد نظر كانت الى الحقيقة كاكتشاف فردي يحمل قيمة شخصية يتساوى فيها كل العقلاء.
تتعلق النقطة الثانية بالارادة الفردية التي تكمن وراء قرار الفرد و خياراته. يصنف كانت كفيلسوف اخلاقي يحمل رؤية متفائلة ازاء الطبيعة الانسانية. ومن هنا فقد قسم ارادة الفرد الى نوعين : الارادة المستقلة التي تصدر من اعماق الذات الانسانية، والاراداة التي تصدر عن التوهم. يعكس النوع الاول ارادة النفس الحقيقية الغالبة فوق الشهوات والاعتبارات الظرفية، وهي تتفاعل في العادة مع قيم  مثل "الواجب" و "التقدير"، ومن هنا فهي تمثل الانسان الطبيعي القادر على تجاوز الظواهر والنفاذ الى الحقائق والتواصل معها والبناء عليها. هذه القدرة تجسر الفجوة بين الانسان والحقيقة، وهي تتجلى خصوصا في اطار ما يسميه كانت بالالتزامات النوعية، اي الخيارات التي يقوم بها الفرد كرد على نداء الواجب او الضمير وليس تحت املاءات المصلحة الظرفية او الرغبات الانية.
يخلص كانت من هذه الرؤية الى التاكيد على استقلال الانسان الفرد، لكونه اولا قادرا على كشف الحقيقة، ولانه قادر ثانيا على انتخاب الخيار الاقرب الى مفادها، وحين يفعل ذلك فان خياره يكون غالبا ذا قيمة اخلاقية، نظرا لانه يتواصل مع الحقيقة او يجليها[25]. 
الرؤية الكانتية للفرد المستقل التي اعتمدها جون رولز ميزته عن التيار العام في الليبرالية، كما ميزته في الوقت نفسه عن التيار المحافظ الذي يميل الى التشكيك في كفاءة الفرد المعنوية وقدرته على انتخاب الخيارالاصلح.  نموذج الفرد المستقل المؤهل للمشاركة هو مثال سياسي في راي الليبراليين وليس مجردا او ميتافيزيقيا، اي انه قابل للتحقق من خلال نظام اجتماعي يوفر الارضية والوسائل اللازمة لبلوغه. يتطلب الوصول الى هذا المثال عند رولز اقرار النظام السياسي بمبدأين اساسيين: أ) ان كل فرد له حق في التمتع بمنظومة مناسبة من الحريات والحقوق الاولية التي يتساوى فيها مع بقية اعضاء المجتمع. ب) ان عدم التساوي بين الافراد يمكن ان يكون مقبولا بشرط  اتاحة الفرصة للجميع للوصول الى المناصب العامة، بمعنى توفير المقدمات اللازمة لحصول الجميع على فرص متكافئة في هذا الصدد. واذا كانت قابليات الناس وقدراتهم متباينة – كما هو الواقع غالبا – فيجب ان تحظى الطبقات الاضعف في المجتمع بدعم استثنائي، لتمكينها من الوقوف على قدم المساواة في منافسة حرة ومتكافئة على الفرص التي يوفرها النظام الاجتماعي.
توفر منظومة الحريات الاساسية هو احد المعايير الاولية التي نستعملها في الحكم على نظام  ما بانه عادل او ظالم، وهي ايضا ضرورية لتبلور هوية الانسان المستقل، الكفء، القابل لتحمل المسؤولية عن عمله، والمشارك في الحياة العامة. ومن هذا المنطلق فان نظرية العدالة التي اقترحها رولز تعطي للحريات الاساسية اولوية على كافة المنافع الاجتماعية الاخرى. واذا كان لا بد من تحديد اي منها فيجب ان يكون الهدف هو صيانة حريات اساسية مماثلة وليس اية منفعة سواها. بعبارة اخرى فانه يمكن قبول مساومة بين حرية التعبير وحرية العمل مثلا، لكن لا يمكن المساومة بين اي من هذه الحريات وبين سعادة المجتمع او زيادة الثروة الوطنية او مساعدة الفرد على بلوغ الكمال الذاتي، او غير ذلك من المنافع[26]. الحريات السياسية للافراد او لشرائح معينة يجب ان تبقى مصونة ومحمية بالقانون حتى لو كانت – في راي الحكومة - معيقا لسياسات مفيدة لنمو الاقتصاد او تحسين كفاءته، بل قرر انه لا يجوز تبني سياسات تمييزية حتى في زمن الحرب وحتى لو بررت بانها الوسيلة الاقل ضررا لدعم الجهد العسكري. احترام الحريات شرط للعدالة ولا يمكن اغفالها او التهوين من قيمتها بمثل تلك المبررات[27].
كي تكون عضوا حرا في نظام عادل، ينبغي ان تكون قادرا على الاختيار بين انماط العيش الممكنة ضمن هذا النظام. حرية الاختيار هذه تتطلب توفر الحريات الاساسية المذكورة، لكنها تتطلب ايضا ان يتمتع جميع المواطنين بحق متساو في المشاركة وتقرير نتائج العملية الدستورية التي تنشيء القوانين التي يجب عليهم اتباعها[28]. مشاركة الافراد في وضع وتعديل القانون الذي سيحكم حياتهم وخياراتهم. وهذا يعني اننا بحاجة الى توزيع منصف للقوة السياسية، بحيث تتاح الفرصة للافراد الراشدين كي يؤثروا على عملية وضع القانون بالمشاركة المباشرة في الهيئات التشريعية او المؤثرة او انتخاب ممثليهم فيها[29].

خلاصة

ركزت النقاشات القديمة حول الحرية على تحكيم العقل في الغرائز، فالانسان الحر هو الذي نجح في السيطرة على شهواته وتصرف انطلاقا من مثاليات النفس العليا. بينما تركز جدل العصر الحديث حول العوامل الخارجية المعيقة للتصرف الحر. وانقسم البحث الى جانبين : اهتم احدهما بالتدخل العمدي من جانب الاخرين في حياة الفرد وتصرفاته. واهتم الثاني بالامكانات الواقعية لتجسيد معاني الحرية، اي توفر خيارات عديدة. ورأى بعض الباحثين في هذه المعاني تعبيرا عن ظروف تاريخية مختلفة لفكرة الحرية.
الاشكالية الرئيسية للنقاش في الحرية السياسية هي: كيف نقيم حكومة قوية ونحافظ في الوقت نفسه على الحريات الفردية؟. هناك دائما قلق من ميل الحكومات الى تحجيم حريات الافراد، وقلق مقابل من سقوط هيبة القانون اذا قلصت سلطات الدولة. عولج هذا الاشكال من خلال مبدأ العدالة الذي يلعب هنا دور الميزان للحكم على سلامة القانون وعمل الحكومة. وفي هذا الاطار ركز الاتجاه المساواتي على ان تمتع الجميع بشكل فعلي بالقدرة على ممارسة  حقوقهم وحرياتهم المقررة في القانون هو جزء من مفهوم العدالة ومعيارا لتوفرها في نظام اجتماعي معين. خلافا للاتجاه الاشتراكي الذي سمح بتاجيل الحريات العامة الى ما بعد تحقق الاساس المادي للعدالة الاجتماعية. الحرية في ذلك المفهوم ليست مولودا للقانون، بل هي حق اصلي للانسان وهي شرط لشرعية النظام السياسي. هذا يقودنا الى نقاش ضروري حول مفهوم "الحق"، ومعنى ان تكون الحرية حقا. وهو موضوع نقاشنا في الفصل التالي.


[1] Gerald C. MacCallum, Jr., "Negative and Positive Freedom", The Philosophical Review, Vol 76, Issue 3 (Jul., 1967), 312-334.
[2] M. J. Adler, “Freedom as Natural, Acquired, and Circumstantial”, in  Robert E. Dewey, James A. Gould,  Freedom: Its History, Nature, and Varieties, (Macmillan, 1970), p. 70
[3] Dewey & Gould, ibid., p. 48
[4] Isaiah Berlin, Liberty, ed. By Henry Hardy, (Oxford University Press, 2002), p. 168
[5] Karl Deutsch, "Strategies of Freedom: the Widening of Choices and the Change of Goals", in Carl J. Friedrich, Liberty, Atherton Press, 1962, p.302
[6] Harold J. Laski, “The Changing Content of Freedom in History”, in Dewey & Gould, op. cit., p. 51
[7] Harold J. Laski, ibid., p. 52
[8]  For more on the topic, see: Stuart Hall, “The state in Question”, in G. McLennan , D. Held, S. Hall (eds.), The Idea of Modern State, Open university press 1984, p. 11
[9] Harold J. Laski, op. cit., p. 52
[10] Berlin, op. cit, p. 169
[11] John Stuart Mill, On Liberty,, p. 26
[12] Mill, ibid.,  p. 109
[13] G. B., Madison, The Logic of Liberty, p. 92
[14] John Rawls, Political Liberalism, Columbia University Press, 1996, p. 295
[15] J. C. Lester, Escape from Leviathan: Liberty, Welfare, and Anarchy Reconciled, (St. Martin's Press, 2000). P. 57
[16] Madison, op. cit., p. 72
[17] Nigel Warburton, Philosophy: The Basics, (Routledge, 1999), p. 81
[18] Berlin, op. cit. p. 180
[19]  MacCallum, op. cit., p. 328
[20] Joseph Raz, The Morality of Freedom,  Clarendon Press, 1988, p. 408
[21] Ian Carter, A Measure of Freedom, Oxford University Press, 1999, p. 12
[22] T. Nagel, “Rawls and Liberalism”, in Samuel Freeman, The Cambridge Companion to Rawls, Cambridge University Press, 2003, p. 63
[23] See in this regard: Daniel Shanahan, Toward a Genealogy of Individualism, p. 76
[24] يتجلى تاثير كانت على رؤية رولز في نظريته حول الوضع الاولي للانسان Original Position ، انظر:
John Rawls, Theory of Justice, 6th ed. Harvard University Press, 2003, p. 118
 لمعلومات حول هذه النقطة وحول رولز ونظريته ، انظر Henry S. Richardson, John Rawls (1921—2002), The Internet Encyclopedia of Philosophy, www.iep.utm.edu/rawls/#SSH2c.iii
[25] Shanahan, ibid, pp 83-87
[26] John Rawls, Theory of Justice,  p. 3
[27] John Rawls, Political Liberalism,  p. 295
[28] Rawls, Theory of Justice, p. 194
[29] J. Cohen, "For a Democratic Society", in Samuel Freeman, op. cit., p. 173
 






09/03/2011

رجل السياسة دليل في الحكم الرشيد


بقلم محمد محفوظ

تربطني بالدكتور توفيق السيف صداقة شخصية ومعرفة ثقافية قديمة .. فهو أحد المفكرين السعوديين المتميزين والجريئين في آن .. وهو من القلائل الذين يتمكنون وبشجاعة معرفية من اقتحام بعض الميادين الفكرية والسياسية ، ويقدمون في نصوصهم وكتاباتهم العديد من التفسيرات والأجوبة ..

فنصوص الدكتور السيف دائما تثير أسئلة ، وتستفز القارئ لإدامة النقاش والحوار مع أفكاره وكتاباته المختلفة .. وبمقدار ما يعتز الدكتور السيف بفكره وقناعاته ، بذات القدر يمتاز بسعة الصدر والقبول بالاختلاف والاستماع والإنصات العميق لحجج وبراهين الطرف الآخر ..
لهذا فإنني أعتقد أن كتابات الدكتور السيف الفكرية والسياسية ، هي ثرية معرفيا وفكريا ، وحيوية وقادرة على تدشين مجموعة من الأسئلة التي تثري الحياة الفكرية والثقافية وتطورها في آن..

وقد قدم الدكتور السيف إلى المكتبة العربية ، العديد من الدراسات والكتب المتميزة ولعل من أبرزها (الحداثة كحاجة دينية)، و(حدود الديمقراطية الدينية)، و(ضد الاستبداد – الفقه السياسي الشيعي في عصر الغيبة) ، و(نظرية السلطة في الفقه الشيعي)، وكتابه الصادر حديثا والذي نحن بصدده في هذا المقال وهو الموسوم ب (رجل السياسة – دليل في الحكم الرشيد).. فهو من الكتابات المتميزة والجريئة ، والتي تمكن فيها المؤلف العزيز من اقتحام بعض الموضوعات الحيوية ، والتي تحتاج إلى المزيد من الدراسة والبحث والفحص العلمي ..

ودائما نجد في نصوص السيف الفكرية ، الكثير من عناصر الثراء .. لهذا فهي نصوص مولدة للأسئلة، وباحثة عن تفسيرات جديدة لقضايا أو إشكاليات فكرية ومعرفية متداولة أو قائمة ..
ويبدو أن النقطة المركزية التي ينطلق منها السيف في مؤلفه الجديد ، هي أنه حتى تتمكن مجتمعاتنا العربية والإسلامية من التحول إلى مجتمعات حديثة من الضروري العمل على بناء ثقافة سياسية جديدة تجاه مفاهيم السياسة والسلطة والحرية والعقد الاجتماعي وسيادة القانون والشرعية وأسسها القانونية والدستورية ..
والذي يؤكد أهمية العمل على بناء ثقافة سياسية جديدة ترتكز على مكانة الفرد وعلاقته بالجماعة ، ومفهوم الدولة وعلاقتها بالمجتمع وآلية اتخاذ القرار وحل المشكلات ، هو طبيعة التحول المتسارع الذي يجري في المجتمع .. فهذه التحولات والتغيرات التي تصيب مصادر وأساليب المعيشة والتربية والتعليم ونوعية وأنماط العلاقات الاجتماعية والسلوكيات الشخصية ، كلها انعكاس لتغييرات وتحولات عميقة تطال القيم الناظمة للعلاقات الاجتماعية والعامة ..

إن بناء ثقافة جديدة ، إنما يستهدف مواكبة التحولات الظاهرية والعميقة التي تصيب المجتمع ، حتى تتمكن قوى المجتمع وفعالياته المتعددة من الاستفادة من مكاسب العصر والحضارة دون الوقوع في نزعة الانفصام والشيزوفرينيا ..
والثقافة السياسية الجديدة ، هي المدخل الطبيعي لبناء الإجماع الوطني على أسس جديدة ، وتجديد وتحديث شرعية النظام الاجتماعي – السياسي ..
والأساس النظري الذي يقترحه المؤلف لبناء الإجماع الوطني الجديد هو التعاقد ومفهوم العقد الاجتماعي كأساس للنظام العام والحريات العامة وسيادة القانون وصيانة حقوق الإنسان والمشاركة الأهلية في الشأن العام ..

ويعرّف الدكتور السيف مفهوم العقد الاجتماعي كأساس لبناء الإجماع الوطني بقوله (يشير مفهوم العقد الاجتماعي إلى توافق وتعاقد بين أعضاء المجتمع ، غرضه تنظيم العلاقة التي تربط بينهم ، وتنظيم علاقتهم كمجموع بالحكومة التي تدير أمورهم .. ويفترض العقد أن المتعاقدين ، أي مجموع أفراد المجتمع ، لهم حقوق وعليهم واجبات تنظمها توافقات وأعراف وقوانين .. هذه التوافقات والأعراف ، هي بمثابة نظام شامل يكفل انتظام وسيرورة العلاقة بين الأفراد، والتوزيع العادل للموارد المشتركة ، وحل التعارضات التي قد تنشب بينهم ..

وبمقتضاه أيضا قامت الحكومة كممثل لمجموع الأفراد ونائب عنهم في تنفيذ تلك الأعراف والقوانين وإدارة المصالح المشتركة).. (ص 82 – 83) ..
وفي الفصل الخامس المعنون ب(مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي) يعمل المؤلف على إمكانية تفكيك المبدأ الذي تطور في أوروبا وإعادة إنتاجه على أرضية القيم الإسلامية .. ويبرر الكاتب هذا المسعى بحل الإشكالية المزمنة بين شعورنا بالحاجة إلى نظام سياسي يستمد سلطته من رضا الجمهور ، وبين قلقنا المزمن من إبعاد الدين عن الحياة العامة في ما لو أخذنا بمبادئ الحكم التي تطورت خارج الإطار الإسلامي .. إذ يقول ( إن تطور مفهوم العقد الاجتماعي وفروعه ضمن الإطار المعرفي الأوروبي لا يجعل أوروبا في المبتدأ والأخير ، فهو – مثل كل الأفكار الشبيهة – منتج إنساني ، يستطيع كلّ مجتمع الاستفادة منه أو من بعض عناصره بحسب حاجاته وظرفه التاريخي .. ومن المتوقع بطبيعة الحال أن أي معالجة نقدية لنظرية العقد الاجتماعي سوف تؤدي إلى تعديل في صيغتها المعروفة في الفكر الأوروبي من أجل إنتاج صيغة تتناسب والشروط الثقافية – الاجتماعية لمجتمع المسلمين المعاصر ..

إن إمكانية الاستفادة من نظرية العقد الاجتماعي (في صيغتها الأصلية أو مع تعديلها) كأساس للتنظيم السياسي في بلاد المسلمين ، رهن بتنسيج عناصرها ضمن الثقافة السائدة ، الثقافة التي ورثها المسلمون من أسلافهم أو تلك التي طوروها كتعبير عن ظرفهم الاجتماعي الحاضر).. (ص120) ..
ويعتمد المؤلف في توضيح أو بلورة عملية التكييف على العناصر التالية :

1- أغراض العقد الاجتماعي :
فالعقد الاجتماعي هو القاعدة الفلسفية والقانونية التي يقوم عليها النظام السياسي ، وتمثل الدولة أحد أبرز أركان هذا النظام ، ووظيفتها الرئيسة في إدارة الشأن العام ، أي الأمور المشتركة بين أعضاء الجماعة .. وقد حدد المؤلف الوظائف المندرجة تحت عنوان الشأن العام (راجع ص 121 -122) ..
2- موضوع العقد الاجتماعي :
وهو إقامة نظام عام للعلاقة بين أفراد الجماعة يحقق أغراض العقد الاجتماعي ..
ويدور النقاش في هذا الإطار في مسألتين أساسيتين وهما :
ملكية الإنسان لنفسه ، وكونه منفردا بالولاية عليها وأن أحدا غيره لا سلطة له عليه إلا برضاه ..
ملكية المجتمع كمجموع للأرض التي يقيم عليها ، بما فيها من مواد طبيعية ومستجدة ، مما لم يختص به واحد علىوجه التعيين..
وفي صفحات الكتاب إجابة تفصيلية عن بعض الإشكاليات الفلسفية والمعرفية المتعلقة بهاتين المسألتين .. إذ يقول الدكتور السيف (إن الإنسان مالك لنفسه أو أملاكه ملكية تامة إلا في حالتين :

الأولى ، إذا تعارضت هذه الملكية مع الحقوق الثابتة للخالق سبحانه ، والقائمة بدورها على قاعدة أعلى من ملكية الإنسان لنفسه ، وهي الخلق والإيجاد والسيطرة على المصير النهائي (الموت أو البقاء حيا) .. والثانية ، إذا كان تصرف الإنسان في نفسه مؤديا إلى زوالها أو إيقاع ضرر جسيم عليها ، لما في ذلك من تعارض مع مبدأ الوجود .. نستطيع القول ، إذاً ، إن ملكية الإنسان لنفسه قائمة ضمن دائرة الوجود وليس فوقه).. (ص125) .
أما بالنسبة إلى ملكية المجتمع كمجموع للأرض وثرواتها فيقول المؤلف (زبدة القول ، إذاً ، إن المال العام ، أعيانه ، ومنافعه ، مملوك لجميع الناس أو جميع المسلمين .. وهم يمنحون حكومتهم حق إدارته والتصرف فيه بما يحقق الأغراض المستهدفة من العقد القائم بين أفراد الجماعة .. هذا العقد يقيم علاقة بين المالك "المجتمع" والمستأمن على الملك "الحكومة " يمكن وصفها بالوكالة .. فالحكومة هنا وكيل عن الشعب تتصرف في أمواله لمصلحته وبرضاه .. ذلك العقد هو الأساس الذي يجعل تصرف الحكومة في الموارد العامة وفي أموال الأفراد شرعيا ومجازا .. ومن دونه يعتبر تصرفها بغيا وعدوانا ، إلا إذا رضي المالكون به فرداً فرداً)..(ص133)..

سلامة التعويل على العقل الفردي أو المجتمعي في تصريف المصالح :
إذ ينطلق المؤلف في هذه النقطة من قناعة راسخة لديه مفادها : أن المصالح العامة التي هي موضوع عمل النظام السياسي ليست من الغيبيات ، بل هي قضايا عقلائية ، وأنها في الأعم الأغلب ليست من إنشاءات الشريعة الإسلامية ، بل من إنشاءات العرف التي أمضاها المشرع ، وأن المعيار في وضعها أو رفعها هو تحقيقها للمصلحة المرجوة منها .. (ص137) ..
ومن خلال هذه العناصر الأساسية ، يصل المؤلف في نهاية الفصل المعنون ب( مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي) إلى النتيجة التالية:(ويظهر مما سبق ، أن فكرة العقد الاجتماعي ، وإن كانت قد ظهرت وتطورت في الإطار المعرفي الغربي ، بل وجاءت في سياق التباعد بين الفلسفة السياسية، وبين الديانة المسيحية في القرن السابع عشر وما بعده ، إلا أنها قدمت – كمفهوم وكفلسفة عمل – أداة مناسبة لتصحيح العلاقة بين المجتمع والدولة وإعادة بناء النظام السياسي على أسس تجعل الحكومة في خدمة المجتمع وليس العكس ..

وأنه يمكن تجريد المفهوم من الشروط التاريخية التي ظهر فيها والتعامل معه كنظرية قائمة بذاتها .. إضافة إلى أن هناك فرصة لتفكيك النظرية وإعادة تركيبها ضمن الشروط الثقافية الخاصة بمجتمع المسلمين ، وأنه يمكن مقارنتها بالعديد من المقولات الراسخة في التراث الفقهي والفلسفي الإسلامي ..
وعلى كل حال فإن الكتاب يستحق أكثر من وقفة ، لأنه يتضمن الكثير من الأفكار والرؤى ، والتي تتطلب المزيد من الحوار وإثارة النقاش الفكري حولها ..
وأرجو أن يكون هذا المقال ، محفزا لقراءة الكتاب ومناقشة أفكاره ، لأنه وببساطة شديدة ، كتاب يستحق القراءة العميقة والتفاكر المشترك حول قضاياه وخياراته المعرفية ..

جريدة الرياض   (9 مارس 2011)   http://www.alriyadh.com/2011/03/09/article612048.html

بيبلوغرافيا
د. توفيق السيف
رجل السياسة : دليل في الحكم الرشيد
التصنيف: الفلسفة السياسية ، علم السياسة
الناشر: الشبكة العربية . بيروت 2011

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...