لعل بعض القراء قد لاحظ معي مبادرة بعض الدوائر الرسمية ، بنشر أجزاء من انظمتها او لوائحها في الصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي. وهو عمل طيب ، يساعد في توعية الناس بالقانون ، وجوده وحدوده. لكن لفت انتباهي التركيز - العفوي غالبا - على الحدود والعقوبات ، دون الحقوق التي يبتغي النظام اقرارها ، والمصالح التي يريد حمايتها.
وقد ذكرني هذا بمناقشات سابقة ، حول
مفهوم القانون والفلسفة التي يبنى على أرضيتها ، والخلفية الذهنية لواضعيه. استطيع
القول بشكل مجمل ان وضع القانون (ومن بعده اللوائح التنفيذية التي تحكم تطبيقاته)
يتأثر بالخلفية الذهنية والتجربة الثقافية لواضعيه ، فيأتي على احدى صورتين: أ)
قانون يركز على "بيان" حقوق المواطنين وكيفية الوصول اليها. ب) قانون
يركز على "حدود" المسموح للمواطنين والعقوبات التي ستطبق على المخالفين.
نعلم طبعا ان القانون لا يكتمل ما لم يشتمل على الجانبين. لكن بدا لي ان
القانون في البلاد العربية ، يميل بشكل عام الى التقييد وبيان الواجبات دون
الحقوق. أو لعله يركز على القيود والواجبات بدرجة أكبر من الحقوق. ويظهر أيضا ان
هذا المنحى هو المفهوم والمتعارف بين عامة الناس. فتراهم يذكرون في غالب احاديثهم
العقوبات والقيود ، ويغفلون الجانب الآخر. ولعل مقصودهم هو تنبيه اصدقائهم كي لا
يقعوا في المحظور. احتمل ان التركيز على الواجبات والعقوبات ، مرجعه ذهنية متشائمة تجاه طبيعة
الانسان وميوله الفطرية. وأذكر عبارة لمفكر مشهور فحواها ان أي نظرية في السياسة ،
هي - بالضرورة - نظرية حول طبيعة الانسان. وأرى ان الصحيح هو القول بأن كل نظرية
في السياسة (وفي القانون) مرجعها رؤية مسبقة عن طبيعة الانسان. ثمة من يعتقد ان الانسان بطبعه ميال للفساد ، والتملص من السلوك الاخلاقي
الذي يمليه العقل السليم. وثمة من يرى المسألة على النقيض. فالانسان عنده ميال
للخير والالتزام بالاخلاقيات التي يقبلها العرف أو يدعو اليها. وكلا الفريقين لا
ينكر وجود استثناءات ، لكنه يقرر الحالة العامة الغالبة في المجتمع الانساني. وكان الاتجاه العام في ثقافة العالم ، يميل للرؤية الاولى المتشائمة ، حتى
أوائل القرن الثامن عشر ، حين مال مفكرو التنوير الاوروبي ، للتخلي عن تراث
الفلسفة اليونانية والتعاليم الكاثوليكية. فمالت الكفة لصالح الرؤية الثانية ،
التي تنظر للانسان ككائن عاقل وميال الى الخيارات الاخلاقية ، في حياته وتعاملاته
مع الغير. أما الثقافة العربية والاسلامية ، فهي لازالت متأثرة بانعكاسات الرؤية
القديمة. وهذا واضح في التوجيه الديني ، وفي الدراسات الفقهية ، كما في القانون
والسياسة. لا يتسع المجال هنا للمقارنة بين الرؤيتين. واظن ان كلاهما سيجد من يميل
اليه. لكني سأكتفي بوضع سؤالين يوضحان المقصود. السؤال الأول حول المخاطبين
بالقانون. حيث نعلم انه يطبق على كافة الناس. فهل الغالبية العظمى من الناس يميلون
– عادة – الى العيش بسلام ويهتمون بصلاح حالهم ورفاه من حولهم ، ام – على العكس –
يميلون الى العيش في نزاع وصراع ويفسدون دنياهم حيثما غاب الرقيب؟. السؤال الثاني:
هل يميل غالبية الناس الى الالتزام بالقانون اذا وجدوا فيه عونا لهم على نيل
حقوقهم وتسهيل حياتهم ، ام انهم سيذهبون – رغم ذلك – الى الطرق الصعبة التي تنتهي
للاضرار بهم او بالآخرين. اظن ان السؤالين يوضحان العلاقة بين تصورنا عن طبيعة الانسان ، وانعكاسه على
فكرة القانون واغراضه. وفي هذا ما يكفي عن كثير البيان.