‏إظهار الرسائل ذات التسميات ايران. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات ايران. إظهار كافة الرسائل

24/04/2012

عالم يتداعى ، لكننا بحاجة اليه

لا نستطيع تجاهل الواقع السياسي الذي يتبلور الان في العالم العربي ، سواء اعجبنا به ام كرهناه. الربيع العربي – مثل كل ثورة اخرى في العالم – ولد معادلات جديدة ومنظومات قوى مختلفة عن تلك التي سادت قبله.

بعض هذه التحولات مريح وبعضها مزعج وبعضها مفاجيء ومدهش. لكن ايا كان الحال ، فان جوهر عمل السياسي هو اعادة تدوير الزوايا الحادة واستظهار خيوط المصلحة التي ربما تخفى على الناظر المتسرع.

يعرف اهل السياسة ، ان الاستقرار والسلم الاهلي مؤسس على ارضية التداخل بين مقومات الامن الوطني والامن الاقليمي. ومن هذه الزاوية فان العلاقة مع المجتمعات المجاورة  والحكومات المؤثرة في النظام الاقليمي هي جزء اساسي في مركب الامن الوطني والسلم الاجتماعي. العلاقة مع الجيران والمؤثرين قد تؤسس على مبدا توازن القوة او على مبدأ التعاون او الشراكة. والمؤكد ان المبدأ الثالث هو الافضل والاكثر فائدة وفاعلية على المدى البعيد.

حين اقرا صحافتنا اليومية او استمع الى تعليقات المتحدثين في القنوات التلفزيونية ، يخيل الي اننا نعيش في زمن غير طبيعي. نحن نتحدث عن الحكام الجدد في العالم العربي كما لو اننا على وشك الدخول في حرب معهم . قال احد المعلقين هذا الاسبوع ان الاخوان المسلمين هم الجناح السياسي لتنظيم القاعدة. وكتبت سيدة مقالا فحواه ان الحكومات الجديدة قامت على الخداع والتزوير وما يشبه هذا الكلام.

لن اتوقف عند هذه التعبيرات ، فهي ليست مؤثرة في سياسة البلد وتوجهاتها. لكني اشعر ان اعلامنا المحلي وشبه المحلي يميل الى تكريس صورة كريهة ومنفرة عن الاوضاع الجديدة من حولنا. قد يكون هذا الاعلام معبرا – حقيقة – عما يعتمل في نفوس بعضنا . لكنه في نهاية المطاف لا يعبر عن مصالحنا الراهنة والممكنة. نحن بحاجة لاحياء المنهج التصالحي الذي اتبعته المملكة في ازمان سابقة . المنهج الذي يركز على ترميم الجسور واعادة بناء الثقة المتبادلة وارساء علاقات متعددة الابعاد والاتجاهات مع كل من يتاثر بنا او يؤثر فينا.

اني ادعو دون تحفظ الى تنشيط العلاقات التي تبدو فاترة مع النخب الجديدة في اليمن والعراق وتونس ومصر ، كما ادعو الى رفع مستوى علاقاتنا مع السودان والجزائر وباكستان، ولا انسى ضرورة فتح نقاش جدي حول العلاقة مع ايران.
ايا كانت المعطيات التي نراها ، وايا كانت انطباعاتنا عن تلك النخب والتحولات، فان مهمة السياسي ليست الفرجة على تداعي العالم من حوله ، بل البحث عن الخيوط الخفية او الممكن تخليقها . وهي مهمة لا يعرفها غير المحترفين.

ليس في السياسة مستحيل ، وليس فيها عواطف. الحب والكره ، الرغبة والنفور ، اشياء يقولها الناس فيما بينهم ، لكنها – عند اهل السياسة – مجرد تعبيرات خفيفة او خالية من المعنى. للسياسي صديق واحد هو مصلحة بلده. هذه المصلحة هي الخيط الذي ينبغي للسياسي ان يبحث عنه في اكوام الفوضى والعواصف التي تهب علينا شرقا وغربا. نحن – بالتاكيد – في حاجة ماسة الى تصور جديد ونشاط جديد.

الاقتصادية 24 ابريل 2012
http://www.aleqt.com/2012/04/24/article_650276.html

01/01/2012

البعد الاقليمي للمسألة الشيعية في المملكة

(هذا هو الفصل الثالث من كتاب ان تكون شيعيا في السعودية   وهو منشور بالكامل على هذه المدونة)
يناقش هذا الفصل البعد الخارجي كمؤثر على العلاقة بين الشيعة السعوديين وحكومتهم ، مع التركيز على علاقة المواطنين الشيعة بمراجع دين خارج الحدود وتاثير النهوض الشيعي في المنطقة. تعتبر الحكومة السعودية نفسها حامي حمى الاسلام التقليدي، وينظر اليها في الخارج كمركز للاسلام "السني" المواجه – سياسيا ودينيا – للاسلام "الشيعي" الذي تتزعمه ايران. ومنذ 1979 كان هذا المنظور محركا بارزا للكثير من سياسات المملكة على المستويين الداخلي والخارجي.

عندما يتعلق الامر بالموقف من ايران ، تتوقع الحكومة ان يقف مواطنوها الشيعة الى صفها. بينما يرى الشيعة ان الحكومة ذهبت بعيدا في توقعاتها ، ولا سيما حين اعتبرت "التعاطف" مع الثورة الاسلامية موقفا سياسيا مضادا لها ، وحين خلطت بين الموقف السياسي والتعاطف الروحي. على اي حال فان هذا العامل يؤثر بوضوح على العلاقة بين الحكومة ومواطنيها ، الامر الذي يستدعي مناقشة صريحة لتوضيح جوهر المشكلة. غرض النقاش هو تفصيح الاشكاليات وتحديد حجمها وليس بالضرورة الحكم عليها.
***

علاقة يسودها الارتياب

خلال السنوات الخمس الماضية التقيت بعشرات من الصحفيين والباحثين الاجانب الذين زاروا المنطقة. ووجدت معظمهم يحمل السؤال نفسه: الى اي مدى يمكن للحكومة الايرانية ان "تستعمل" الشيعة في صراع محتمل مع الحكومة السعودية او مع الولايات المتحدة الامريكية[1]؟.
 هذا السؤال عينه كان يتردد بين رجال الدولة السعودية ، والكثير من رجال النخبة. الفارق بين خلفية سؤال الصحافي الاجنبي وسؤال السياسي السعودي هو فهم كل من الطرفين لطبيعة العلاقة المحتملة بين الشيعة من جهة وبين الحكومة الايرانية من جهة ثانية. يظن الاجانب ان وحدة المذهب التي تجمع بين الشيعة والحكومة الايرانية تمثل ارضية مناسبة فيما لو قررت الاخيرة فتح جيوب مساندة لها داخل الاراضي السعودية. اما السعوديين فيظنون ان المسألة لا تتعلق بامكانية "فتح جيوب". وهم يفهمون المسالة على النحو التالي : الشيعة موحدون ويتبعون امر مرجعهم الديني في كل كبيرة وصغيرة. معظم المراجع ايرانيون او مقيمون في ايران ، فهم يخضعون بالتالي لاوامر الحكومة الايرانية. هذا يعني ان الحكومة الايرانية تستطيع ان تامر الشيعة السعوديين في  اي وقت تشاء بالقيام باي عمل تراه مناسبا للضغط على نظيرتها السعودية. ويعزز صدقية هذا الظن ما يرونه من اعتزال رجال الدين الشيعة السعوديين للعلاقة مع مؤسسات الدولة واعمالها.
رغم سذاجة هذا التصور ، الا ان عددا ملحوظا من رجال النخبة مقتنع به ، بل ويعتبره بديهيا. وهم يضربون عشرات الامثلة التي جمعها ناشطون من التيار السلفي ، للتدليل على فاعلية وتاثير المرجع الديني الشيعي في جمهوره. فيما يلي سوف نعرض بالتفصيل للاشكاليتين: علاقة الشيعة بالمراجع الدينين ، وعلاقتهم بايران.

 استقلال المؤسسة الدينية الشيعية 

منذ قديم الزمان حافظ الشيعة على تقليد يقضي بابقاء حياتهم الدينية خارج نطاق علاقتهم بمؤسسة الدولة. ورغم ان هذا التقليد ظهر ابتداء في ظرف الخصام بين الطرفين، الا انه عمم في الحقب التالية فاصبح سائدا حتى في ظل الحكومات الشيعية. وكان هذا معروفا في ايران منذ الدولة الصفوية، وفي العراق وجميع الاقطار الاخرى[2]. بل لا زال قائما حتى في ايران المعاصرة التي يحكمها رجال الدين. ويتجلى المظهر الابرز لهذا الفصل في العلاقة بين عامة الشيعة ومرجعيتهم الدينية. اذ يحرص مراجع الدين على ابقاء مسافة واضحة بينهم وبين الحكومات. الاستثناء الوحيد هو اية الله الخميني الذي تمتع بوضع استثنائي حين جمع بين المرجعية الدينية والقيادة السياسية. فيما عدا الخميني ، فان جميع المراجع او العلماء المؤهلين للمرجعية الذين اقتربوا كثيرا من الدولة ، خسروا شعبيتهم وفرصتهم في تشكيل مرجعية مؤثرة، بمن فيهم اية الله خامنئي، مرشد الثورة الايرانية الحالي، الذي لا تتناسب مكانته الدينية وموقعه في منظومة المرجعية الدينية مع نفوذه السياسي الكبير. يقل عدد اتباع خامنئي عن معظم المراجع الاخرين في ايران نفسها فضلا عن غيرها من البلدان. في السياق نفسه فان الشيعة يحرصون على ابقاء مدارسهم الدينية ومساجدهم ومؤسساتهم الدينية الاخرى بعيدة عن تدخل الدولة. وهذا عرف جار في جميع الاقطار التي يقطنها الشيعة. منذ اعتلائه سدة القيادة بذل اية الله خامنئي جهودا فائقة لوضع المدارس الدينية في ايران تحت اشرافه ، لكن محاولاته لم تفلح رغم مرور عقدين من الزمن ، ورغم الحوافز الكبيرة التي تحصل عليه المدارس التي تقبل اشراف الولي الفقيه عليها.
هذا التقليد الراسخ هو احد المبررات القوية لارتياب الحكومة السعودية في نوايا مواطنيها الشيعة. من المفيد الاشارة هنا الى ان الحكومة لم تتساهل ابدا مع المجموعات الدينية التي حاولت الاستقلال عن جهاز الدولة. ولم يستثن من هذه السياسة حتى المؤسسة الدينية السلفية المتحالفة مع الحكم. في ستينات القرن العشرين ، حاول الشيخ محمد بن ابراهيم ال الشيخ (1893-1969) ، وهو اقوى زعماء المؤسسة الدينية منذ قيام الدولة السعودية الثالثة ، وكان يشغل يومذاك منصب مفتي الديار السعودية ، حاول اتخاذ خط مستقل عن الحكومة، واصدر رسائل وتعليمات تشير الى عدم خضوع المؤسسة لسياسات الحكومة ، ومن بينها خصوصا رسالته الشهيرة "تحكيم القوانين" التي انتقد فيها صراحة ميل الحكومة الى تنظيم القضاء وتقنينه، واخضاع القضاة لمعايير الادارة الحكومية. الا ان الملك فيصل  الذي تولى العرش في 1964 عالج بحزم هذا الاتجاه واعاد المؤسسة وعلماءها الى "بيت الطاعة" الرسمي.
ومنذ اوائل السبعينات تبنت الحكومة سياسة تقضي بتصفية النشاطات الاهلية التي يمكن ان تقود الى تشكيل مراكز قوة خارج الاطار الرسمي. ولعل المثال الذي يتذكره جميع السعوديين هو جامعة الملك عبد العزيز في جدة ، التي بدأت اهلية في 1967 وقامت الحكومة بتاميمها في مارس 1971. كما يتذكرون الصحافة الاهلية التي الغيت تراخيصها ابتداء من مارس 1964 واعيد منحها لشركات ذات وضع خاص، يحتاج المساهم فيها الى موافقة وزارة الداخلية كي يصبح مالكا لبعض اسهمها ، كما يعين رئيس تحريرها من قبل وزارة الاعلام وليس من قبل المالكين. في السياق نفسه ، نال النشاط الديني نصيبا وافرا من تلك السياسة، نظرا لانه يستاثر بالنصيب الاكبر من النشاطات التطوعية في البلاد. وخلال العقود الثلاثة الماضية اتمت الحكومة سيطرتها على المدارس الدينية والمساجد والاوقاف المستقلة، والزمت الدعاة بالانخراط في السلك الوظيفي الرسمي مقابل السماح لهم بامامة المساجد والقاء الخطب. وفي اوائل 2002 منعت وزارة الداخلية الهيئات الدينية والخيرية التي يشرف عليها رجال الدين من جمع تبرعات من الجمهور[3]. وفي يوليو 2007 منعت هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر من الاستعانة بالمتطوعين الذين يشكلون القوة الاكبر في صفوفها[4]. وفي اغسطس 2010 صدر امر ملكي بمنع رجال الدين والقضاة من اصدار الفتاوى العامة او التوقيع على عرئض تتضمن نقدا للحكومة او مطالبات.
حاولت الحكومة تكرار السياسة نفسها مع النشاطات الدينية الشيعية. لكنها ووجهت بسلبية مطلقة، لاسباب يرجع بعضها الى العرف الشيعي الراسخ، ويرجع البعض الاخر الى فشل الحكومة في وضع تنظيم مناسب يتسع لمذهب مختلف عن المذهب الرسمي. وقد طرح زعماء الشيعة منذ العام 1995 مقترحات لمعالجة الشق الثاني على وزير العدل يومئذ الشيخ عبد الله ال الشيخ، الا انه رفض الفكرة بدعوى ان وجود نظام مزدوج للعمل الحكومي امر غير مقبول.
على كل حال فان بقاء العالم الديني الشيعي خارج اشراف الحكومة ، يثير عند المسؤولين شعورا بالمرارة ، يغذي الشكوك في طبيعة النشاطات التي يقوم بها الشيعة وما يمكن ان يترتب عليها. ويتكرر حديث المسؤولين عن هذا الامر في اجتماعاتهم مع وجهاء الشيعة. حيث يشار دائما الى ان علاقة الجمهور الشيعي بالمراجع المقيمين في الخارج ، وارسال الزكوات والتبرعات اليهم ، تفهم باعتبارها ولاء لجهة خارجية ، تتعارض مع ما يفترض من اخلاص الولاء للحكومة الوطنية. ورغم تاكيد الشيعة المستمر على المضمون الروحي المحض لهذه العلاقة ، الا ان سلبية الجمهور الشيعي ازاء الحكومة، سيما تمظهراتها السياسية، تتخذ كدليل على ان علاقتهم مع مراجع الدين تتجاوز البعد الروحي.

تأثير التحولات الاقليمية: الثورة الاسلامية في ايران

كان انتصار الثورة الايرانية عام 1979 منعطفا حادا في تاريخ المنطقة الحديث. بالنسبة للمجتمعات الشيعية ، فقد انتهت حالة السكون وبدأ ظرف مليء بالحركة والتطلع . في نوفمبر من هذا العام قرر الشباب في القطيف والاحساء احياء مسيرات عاشوراء التي سبق حظرها في منتصف السبعينات. بدات تلك المسيرات بداية تقليدية تماما تحمل الشعارات الدينية القديمة. لكن الادارة الحكومية المحلية وجدت فيها تمردا غير مقبول على الحظر السابق . فتمت مواجهتها بالقوة ، الامر الذي جعلها تتطور من طقس ديني تقليدي الى تظاهرة سياسية ، انتشرت شرارتها الى كل مدينة وقرية شيعية. وأدت تلك المواجهة الى سقوط عدد من القتلى والجرحى كما اعتقل العشرات.
ادت تلك المواجهة الى اطلاق حراك سياسي نشط بين الشيعة السعوديين ، يميل في العموم الى معارضة الحكومة. وفي الشهور التالية انتقل عدد من المحتجين الى العاصمة الايرانية حيث اعلنوا من هناك ولادة اول تنظيم سياسي ديني في المنطقة[5].
لم يخف الشيعة السعوديون تعاطفهم مع ثورة ايران منذ انفجارها وحتى انتصارها. كما لم يخفوا معارضتهم لموقف الحكومة السعودية المؤيد للعراق خلال حربه ضد ايران. وحين برز حزب الله  على الساحة اللبنانية ، لا سيما بعد انتصاره على الاسرائيليين في يوليو 2006 ، تعاطف الشيعة معه بشكل كبير وعلني.
رغم ان التعارض بين الشيعة السعوديين وحكومتهم يرجع الى سنوات طويلة قبل ثورة ايران ، الا انه تفاقم وتعمق بعد العام 1979. وساهم كلا الطرفين في تعميق الفجوة وصب الزيت على النار. قلق الحكومة من تاثير الايرانيين على الساحة المحلية جعلها اكثر ارتيابا وحساسية تجاه التعاطف الشيعي مع طهران[6] ، وشعور الشيعة بالاذلال دفعهم اكثر فاكثر للاستفادة من الوضع الايراني الجديد. وخلال العقد التالي لانتصار الثورة ، سار الطرفان في اتجاهين متعاكسين: ضيقت الحكومة على رجال الدين الشيعة فهاجر العديد منهم الى مدينة قم الايرانية لمواصلة دراساتهم الدينية ، وتم فصل المئات من اعمالهم ، فاتجهوا نحو المجموعات السياسية المعارضة ، وكلما مال طرف الى التشدد ، برز مثيل له في الطرف الاخر. وفي العام 1987 اعلن عدد من رجال الدين الشباب اقامة تنظيم جديد يحمل اسم "حزب الله- الحجاز" يتبنى ذات الايديولوجيا السياسية المعلنة في ايران. وفي السنوات التالية اتهم الحزب بالوقوف وراء هجمات مسلحة على منشآت حيوية في المملكة ، قيل انها نسقت من جانب جهات ايرانية[7] ، لعل ابرزها الهجوم على مبنى يسكنه مستشارون عسكريون امريكيون في 25 يونيو 1996 ، وقتل فيه 16 شخصا. رغم ان المعلومات بشأن هذا الحادث لاتزال ضئيلة ، ورغم اعلان تنظيم القاعدة مسؤوليته عنه، الا ان الحكومة السعودية اعتبرت ان مجموعة شيعية موالية مرتبطة بايران هي التي تقف وراءه[8].
تعاطف الشيعة السعوديين مع الثورة الاسلامية ، ثم مع حزب الله- لبنان ، وظهور تنظيمات دينية معارضة في اوساطهم ، عزز ارتياب قادة الدولة في ولائهم للحكومة . وقد سمعت شخصيا هذا الراي في مناسبات عديدة ، صراحة او تلميحا. وهو يطلق في صيغة اتهام ، او تقرير لما يعتبرونه حقيقة ثابتة. لكنه في كل الاحوال لم يطرح لنقاش صريح مع زعماء الشيعة ومثقفيهم. على اي حال فانه من السذاجة بمكان اتخاذ ما عرضناه سابقا كدليل على انخراط الشيعة – كمجتمع – في مشروع ايراني او تبنيهم لاجندة خارجية يمكن ان يتهموا – بناء عليها – بعيب في ولائهم للوطن. يقول الشيعة صراحة ان معارضة الحكومة لا تعيب الولاء للوطن. ولو صح الربط بين الاثنين لامكن وصف كل معارض سياسي في اي بقعة من الارض بانه خائن لوطنه. والحق اننا بحاجة الى فهم اعمق لمسألة التفاعل والتاثير المتبادل بين المجتمعات في هذا العصر ، كي نميز بين ما يمكن وصفه بتطور تطبيعي وما يمكن تفسيره كانخراط مقصود في مشروع خارجي.
التطور الهائل لوسائل الاتصال ونقل المعلومات في هذا العصر قوض الحدود التي كانت فيما مضى تفصل بين المجتمعات وتقسم العالم. حين تطالع في هذه الايام تغطية القنوات التلفزيونية ولا سيما "قناة الجزيرة" لثورة الشباب في المجتمعات العربية ، سوف تدرك ان الحدود بين الدول لم تعد ذات معنى ، وان الحكومات الوطنية وشبكاتها الاعلامية والتعليمية  لم تعد موجها وحيدا للراي العام في بلادها. لا يستطيع احد وقف تاثير الخارج على الداخل ولا وقف تاثير الداخل على الخارج . من يريد حقا وقف هذا التفاعل ، فعليه اولا ان يوقف شبكات الاتصال وان يصادر اجهزة الراديو والتلفزيون والتلفون والكمبيوتر ، فلعله يبعث شيئا من الحياة في الحدود القديمة. لكننا نعلم ان هذا هو رابع المستحيلات في يومنا الحاضر.
لا يختلف اثنان في ان المملكة ، مثل سائر بلاد  العالم ، تتعرض دائما لتاثير التيارات السياسية والثقافية والاقتصادية الجارية في محيطها الاقليمي وفي العالم. شيعة السعودية ، مثل غيرهم من السعوديين ، ومثل سائر خلق الله ، يتأثرون بالتحولات التي تجري حولهم ، سواء في المحيط الاقليمي او في العالم. من المتوقع بطبيعة الحال ان يظهر الاهتمام وربما التعاطف حين تجري تلك التحولات في مجتمعات تربطها بهم  صلات خاصة مثل وحدة المذهب.
منذ ستينات القرن العشرين على الاقل ، كان "الخارج" مصدرا لقلق السياسيين السعوديين. ولهذا اتخذت الكثير من الاجراءات الامنية المتشددة بهدف عزل الداخل عن تاثيرات الخارج ، من بينها منع المعارضين السياسيين من السفر ، المراقبة المشددة على دخول الكتب والمطبوعات على الحدود ، اعتبار الاتصال بالسفارات الاجنبية ، ونقد السياسات الحكومية في الصحافة الاجنبية جرما يعاقب عليه المواطن... الخ. بعض السياسيين لا يعتقد او لا يريد الاقرار بان "داخل" المملكة ينطوي على مصادر توتر واثارة ، او ان الشعب السعودي مثل غيره قد تتبلور لديه ميول متعارضة مع السياسات الرسمية . ولهذا تجد كثيرا منهم يركزون في تصريحاتهم على ان ما يحدث من سوءات في داخل البلاد ، سواء تمثل في خروج على الاداب العامة او تبن لاراء وافكار غير تقليدية او تمرد على النظام السياسي ، هو ثمرة لتاثير الخارج او "وليد حراك مستورد" – حسب تعبير وزير الخارجية سعود الفيصل-[9].
اني لا اشك ابدا في ان الكثير من التحولات التي جرت في المملكة ، في جهاز الحكومة او في المجتمع ، كان ثمرة للاتصال بالخارج والتفاعل الايجابي معه . لكن اطلاق القول على هذا النحو ينطوي على تسطيح للمسألة. قد نتحدث عن تفاعل بين الناس ، تتغير بسببه اراؤهم ومواقفهم وطريقة حياتهم. وقد نتحدث عن "اجندة" داخلية او خارجية يتبناها اشخاص محددون وتستهدف توجيه التحولات في مسار معين سلفا. لا بد من التمييز بين المسارين ، لان المسار الاول يكون في العادة عاما واسعا يشترك فيه جيل باكمله ويكون "اهل الداخل" هم القوة المحركة له . اما المسار الثاني فيقتصر على عدد محدد ، قد يكون صغيرا او كبيرا ، ويكون "اهل الخارج" هم القوة المحركة له.
اعتقد ان تفكير النخبة السعودية وقادة الحكومة في المسألة مشوب بخلط شديد بين المسارين ، فهم ينظرون الى المسار الاول ، فيعتقدون انه هو المسار الثاني[10]. ليس من شك ان هناك – في الخارج او في الداخل- من يسعى لاحداث تحولات في السياسة والمجتمع السعودي ، لا ترضي بطبيعة الحال النظام السياسي والنخبة. لكن لم يثبت ابدا ، خلال اي فترة من فترات التاريخ السعودي المعاصر ، ان انخرط المجتمع باكمله او شريحة كاملة منه ، في مخطط من هذا النوع. في العام 2002 اتهم وزير الداخلية "جماعة الاخوان المسلمين" بالمسؤولية عن العنف الديني الذي شهدته المملكة والعالم ، ولا سيما مشاركة العديد من السعوديين في احداث 11 سبتمبر المشهورة[11]. وقد تكرر هذا الاتهام لاحقا. كما ان مسؤولين ورجال دين يشيرون الى ما يصفونه بمخطط تغريبي تسانده الولايات المتحدة ويستهدف فك العلاقة بين الدين والدولة. لكن جميع هذه التفسيرات ليست بريئة ، بل تستهدف غالبا تنزيه الذات عن التقصير.
في هذا السياق يشعر عدد من قادة الدولة بالارتياب في ان الشيعة السعوديين منخرطون في "خطة" او "مؤامرة" ايرانية معادية للحكم. وبعضهم يقول صراحة ان الشيعة السعوديين ليسوا مخلصين في الولاء لوطنهم . ويستدلون على ذلك بتبعيتهم لمراجع الدين المقيمين في خارج المملكة ، وتاييدهم لنظام الحكم في ايران ، وتعاطفهم مع الاحزاب الدينية الشيعية ، لا سيما حزب الله اللبناني. ويقوم ناشطون في التيار السلفي التقليدي بتقديم معلومات وتحليلات للمسؤولين الحكوميين تؤيد هذا الراي. وثمة بين رجال الدين من يتبنى فعليا هذا الراي ويكرره ، وهو ما سنشير اليه في فصل لاحق. وتجد هذه الاراء اذنا صاغية لانها تخاطب قناعة قديمة محورها الارتياب في الاقلية والشك في نوايا المخالف. كما انها – من ناحية اخرى – تتناغم مع الميل الداخلي عند الانسان لتبرئة نفسه من القصور ونسبة اسباب التقصير الى الغير ، خاصة اذا كان هذا الغير غير محبوب او غير متعاطف.
علينا بطبيعة الحال ان نميز بين "حقيقة" ارتياب رجال الدولة في طبيعة العلاقة القائمة بين ايران والشيعة السعوديين من جهة ، وبين "الاستعمال السياسي" للفزاعة الايرانية والشيعية من جهة اخرى. لان الاولى تمثل مشكلة واقعية في علاقة الطرفين تحتاج بطبيعة الحال الى معالجة صريحة. اما الثانية فهي مجرد لعبة سياسية لا قيمة لها في المعادلة الواقعية ، رغم انها تستخدم في اوقات الازمة لغرض محدد هو تثبيط الدعوات المعادية للحكومة خارج المجتمع الشيعي . فهي اذن لا علاقة لها بشكل مباشر بالمسألة الشيعية.  ولعل ابرز الامثلة على الصورة الثانية هو تعامل رجال  الدين المقربين من الدولة ، والمؤسسات الرسمية وشبه الرسمية واجهزة الاعلام المحلية مع محاولات التظاهر التي دعي اليها في 11 مارس 2011 ، ضمن ما سمي بثورة حنين. رغم ان الدعوة لم تأت من الجانب الشيعي ، الا ان تلك الاجهزة ادارت عملا اعلاميا على مدار الساعة يستهدف اقناع الجمهور بان وراء الدعوة شيعة "رافضة" او "صفويون" تحركهم الحكومة الايرانية، وان قبول تلك الدعوة يعني الخضوع لقيادة "الرافضة" الموالين لايران[12]. نحن لا نعلق كبير اهتمام على هذا ، ونعتبره نوعا من الالاعيب السياسية قصيرة الامد، رغم ان حشر الشيعة في قضايا الصراع دون مبرر منطقي هو على اي حال امر غير مقبول ومثير للالم.
زبدة القول ان انتصار الثورة الاسلامية في ايران ادى نهوض سياسي بين شيعة العالم ، ومنهم شيعة المملكة. وتمثل هذا النهوض في حراك سياسي معارض للدولة ، لا سيما خلال عقد الثمانينات. وادى ذلك الى تعميق ارتياب قادة الدولة في ولاء مواطنيهم الشيعة. وكان هذا الارتياب ارضية لتبرير مواقف وسياسات حكومية متشددة تجاه الشيعة. هذا الارتياب انعكاس للصورة الذهنية للشيعة ، التي يحملها رجال الدولة والنخبة السعودية ، الدينية وغير الدينية ، تحملهم على الظن بان العلاقة بين المواطنين الشيعة وبين ايران هي امر طبيعي ، بل وضروري. ارى هذا التصور مغرقا في التبسيط بل السذاجة . لانه يغفل حقيقة التنوع القائم في المجتمع الشيعي. كما يغفل الوضع الطبيعي لاي شعب او جزء من شعب ، له مطالب محلية نابعة من همومه الخاصة وفهمه لظرفه السياسي او الاقتصادي. وهو يغفل ايضا الحدود الواقعية للتاثير الممكن للحكومة الايرانية او غيرها على الشيعة خارج حدودها. في المملكة العربية السعودية والخليج ، كما في كل بلد ، ثمة جماعات سياسية تطالب علنا بالعدالة الاجتماعية ، بعضها متعاطف مع ايران ، وبعضها لا يضع الوضع الايراني او السياسات الايرانية ضمن اهتماماته ، وبين هذا البعض من لديه تعارض ايديولوجي او سياسي مع الحكومة الايرانية[13]

سقوط البعث العراقي : اختلال موازين القوى

طبقا لولي نصر ، فان قرار الرئيس الامريكي السابق جورج بوش باجتياح العراق واسقاط حكومة صدام حسين ، قد "ساعد في اطلاق نهوض شيعي واسع النطاق ، سوف يخلخل التوازن الطائفي في العراق والشرق الاوسط لسنوات"[14]. اهتم المحللون الاجانب بالمعنى السياسي للنهوض الشيعي. اما في العالم العربي فقد اختلط السياسي بالديني على نحو غريب. من المهم العودة تكرارا لفهم الفارق بين المعنيين. حين تنظر الى نهوض سياسي فانت تتحدث عن تغير في موازين القوى ، قابل للتحديد والمعالجة بالادوات السياسية ، مثل اعادة  صوغ العلاقة بين الدولة والقوة حديثة النهوض. في الحد الاقصى لا يتطلب الامر اكثر من ادماجها في النظام السياسي او زيادة حصتها في السياسة. وهذا امر يستطيع معظم القادة السياسيون انجازه دون مجازفة كبيرة.
عندما تنظر الى نهوض "ديني" فانت تتحدث عن اختلال في مصادر الشرعية السياسية ضمن البيئة الخاصة بالنظام السياسي. تجلى هذا البعد خصوصا في الكلام الكثير بين السياسيين والنخب – ولا سيما النخب الدينية العربية – عما اسموه بمخططات "تشييع" ، اي اختراقات "شيعية" للوسط "السني". من المفهوم ان الحكومات العربية جميعا ، حتى العلمانية والمعادية للدين منها ، تعتمد على الخطاب الديني كوسيلة لتعزيز شرعيتها ، وتأمين تواصل لين بينها وبين المجتمع. كمثال على ذلك فان الحكومة المغربية التي تعد علمانية ، اعلنت في مارس 2009 قطع علاقاتها مع ايران ، بسبب ما وصفته بنشاطات ايرانية ، يستهدف ابرزها "الاساءة للمقومات الدينية الجوهرية للمملكة والمس بالهوية الراسخة للشعب المغربي ووحدة عقيدته ومذهبه السني المالكي". واتهمت الحكومة ايران بالعمل على تشييع مجموعة من المغاربة عن طريق الإغراء المالي، ونقلت صحيفة هسبرس ان "التشييع بالنسبة للعقلية المغربية يمثل خطرا مثله مثل التنصير أو حتى التشفيع والحنبلة نظرا لاعتزاز المغاربة بالمذهب المالكي واعتباره سمة مغربية خالصة يصل إلى درجة الدفاع عنه كالتراب الوطني"[15].
قبل ذلك ، في اكتوبر 2006 حذر رجل الدين السعودي سلمان العودة مما وصفه بتغلغل مخيف للشيعة في مجتمعات سنية ، وخص بالذكر سوريا ، قائلا أن شرارة التوتر الأولى بين السنة والشيعة كانت من العراق ، وأن التمدد الشيعي في الإطار السني هو لعب بالنار[16]. وفي سبتمبر 2008 شن الشيخ يوسف القرضاوي ، وهو واحد من اكثر رجال الدين تاثيرا في الحركة الدينية المعاصرة ، شن هجوما واسعا على ما اسماه بالتغلغل الشيعي في المجتمعات السنية قائلا ان الشيعة "يهيئون لذلك بما لديهم من ثروات بالمليارات". ووجهت هذه الدعوى بانتقادات بين النخبة المصرية[17].
فجر سقوط النظام العراقي شحنة قوية من الامل والفخر بين الشيعة العرب، والسعوديين خصوصا[18]، مثلما كان صدمة هائلة للنظام الاقليمي العربي ، وهو نظام طائفي ، حتى مع ادعاء العلمانية. وهذا من الامور الغريبة التي ربما لا تجدها خارج العالم العربي. فحزب البعث "العلماني ، القومي" عزز "طائفية" النظام السياسي العراقي وسنيته ، في الوقت الذي يشكل فيه العرب السنة اقل من ثلث السكان، مثلما فعل شقيقه البعث السوري الذي اقام هو الاخر نظاما طائفيا ، يحتكر مفاتيحه العسكر العلويون على حساب الاكثرية السنية التي تشكل اكثر من ثلثي المواطنين. شعر السياسيون العرب بان سقوط صدام حسين ، سوف يخلخل الاستقرار الشكلي للنظام العربي ، وسوف يعطي ايران بوابة جديدة ، عربية الاصل ، لترسيخ نفوذها الاقليمي ودورها في اي ترتيب جيواستراتيجي يتعلق بالشرق الاوسط. اما بالنسبة لرجال الدين والناشطين"السنة" فقد نظروا الى المسألة من زاوية اخرى ، هي احتمال اجتذاب القوة الشيعية الناهضة للجمهور السني. هذه المخاوف تعززت بفعل اربعة عوامل اضافية :
 الاول: صعود نجم المحافظين الايرانيين ، ولاسيما بعد انتخاب احمدي نجاد رئيسا للجمهورية في 2005. قدم نجاد صورة عن زعيم شاب قريب من عامة الناس ، يعيش حياة بسيطة ويتحدى في الوقت ذاته الارادة الغربية. تمسك ايران بمشروعها النووي في مواجهة التصعيد الغربي المتواصل ، قدم للعرب نموذجا عن دولة مجاورة تسعى لصنع قوة تتحدى القوة الاسرائيلية ، ولا تابه بالتهديد الغربي.
الثاني: نجاح حزب الله في هزيمة الجيش الاسرائيلي في صيف 2006 ، الذي ادى الى تحول الحزب وزعمائه ، لا سيما قائده "المعمم" الى رمز للامل والمستقبل العربي ، بالمقارنة مع حكومات مستسلمة للضغط الاجنبي ونخب دينية وغير دينية عاجزة عن المواجهة.
الثالث : تواصل الحملة السياسية ضد التيار الديني الحركي في المملكة العربية السعودية وتصفية مؤسساته ومصادر قوته. العامل الثاني عزز انكسار التيار الديني "السني" بينما عزز الانتصار على اسرائيل قوة ورمزية التيار الديني "الشيعي" ، المتمثل في حزب الله على الاقل.
الرابع: الضغط الشديد الذي مارسه زعماء دينيون وقبليون عراقيون ، والذي اثمر عن اقتناع عدد مؤثر من قادة المملكة والخليج بان الحكومة العراقية التي يسيطر عليها الشيعة تتبنى استراتيجية لتصفية الوجود السني العربي. ويقال ان هيئة علماء العراق ولا سيما زعيمها الشيخ حارث الضاري كان لها السهم الاوفر من هذا الجهد ، فقد استثمرت كل فرصة ممكنة لنقل معلومات وتحليلات وشكاوى تصف في هذا الاتجاه[19].
في مثل هذا الوضع ، يجد السياسيون انفسهم في حاجة لتحديد موقعهم وموقفهم ، بالنظر لتاثير الجدل الدائر على التحالفات الداخلية والتوازنات السياسية على المستويين المحلي والاقليمي. بطبيعة الحال ، لم يكن متوقعا ان تجد النخبة السياسية السعودية ، مثل سائر النخب العربية ، نفسها في ذات الجانب الذي تقف فيه ايران. لم يكن الامر بحاجة الى قرار ، فالامور تسير في هذا الاتجاه بشكل شبه عفوي. تستمد الحكومة جانبا هاما من قوتها وشرعيتها من تاييد المؤسسة الدينية السلفية المعادية تاريخيا للشيعة ، والتي تتوقع من الحكومة موقفا يتناسب مع ما يعتبر تحديا شيعيا متصاعدا[20]. من هذه الزاوية فقد كان الكلام عن التبشير الشيعي والتمدد الايراني ضروريا ، للحكومات والنخب الدينية على حد سواء ، كي لا تفقد المبادرة ولا تتهم بالخنوع والاستسلام. تكمن المشكلة في ترك الامور دون تأمل عميق في عواقبها ومآلاتها. ذلك الكلام الذي يمكن ان يبدا دفاعيا او تبريريا ، وقد لا يستهدف اكثر من الاعتذار عن اتهام محتمل بالفشل ، اوجد حالة استقطاب شديد بين الشيعة والسنة ، فقد وجد الطرفان نفسيهما في موقع المستهدف والمظلوم من دون ذنب.
يمكن للنخبة السياسية ان تتخذ مثل الموقف السابق ، دون ان تسمح له بالانعكاس على علاقتها مع مواطنيها الشيعة. او يمكن لها ان تعتبر المسألة برمتها سياسية ولا علاقة لها بانتمائها المذهبي او انتماء مواطنيها ، او يمكن لها ان تتخذ خطوة اكثر تقدما بمناقشة الامر مع مواطنيها الشيعة لدعوتهم الى تجنب الانزلاق الى مواقف ذات طابع ديني او مذهبي متعارض مع مصالح البلد او سياساتها. في العموم هناك خيارات عديدة للتعامل مع المسألة. لكن الواقع الذي شهدناه هو غير ذلك.

الخلاصة

يمثل البعد الاقليمي عاملا مهما في التاثير على العلاقة القائمة بين الحكومة والشيعة السعوديين. استقلال المؤسسة الدينية الشيعية يمثل مصدرا للارتياب عند النخبة السياسية . كما ان رجوعهم في الامور الدينية الى فقهاء خارج البلاد يحيي ارتيابا تقليديا عند النخبة من دور الخارج وتاثيراته المحتملة . النهوض الشيعي الذي تجلى بعد الثورة الاسلامية في ايران ، واتسع بعد سقوط النظام البعثي في العراق ، زاد الطين بلة ، وعزز اختلاط المشاعر الدينية بالمخاوف السياسية. هذا وذاك كرس حالة الارتياب وعدم الثقة التي تطبع العلاقة بين الشيعة والحكومة. هناك بطبيعة الحال اتصالات كثيرة جرت وتجري دائما بغرض التفاهم وحل المشكلات التي تتفاقم بين حين واخر ، لكن الثقة الضرورية لتحويل الكلام إلى استراتيجية متكاملة لعلاج المشكل الشيعي ما زالت دون المستوى المطلوب ، إذا لم نقل انها مفقودة . توصلت الى هذا الانطباع بعد اخفاق العديد من المحاولات التي بدا ان الجميع متفق – في اول الامر على الاقل – على ضرورتها وامكانية تحويلها الى برنامج . اضافة الى هذا الانطباع الشخصي ، فقد سمعت هذا التفسير صراحة او ضمنيا من عدد من كبار المسؤولين الذين يتخذون القرار او يساهمون في صناعته.





[1] حول مبررات هذا القلق ، انظر
  Toby Jones, Embattled in Arabia, Shi‘is and the Politics of Confrontation in Saudi Arabia, Combating Terrorism Center at West Point, (June 2009), www.humansecuritygateway.com
[2] حفظ تراث الفقه الشيعي خلال الحقبة الصفوية جدلا فقهيا عنيفا سببه قبول الشيخ علي الكركي ، احد مجتهدي تلك الحقبة ، منحة مالية من الملك الصفوي. وكتب معها وضدها اربع رسائل فقهية على الاقل. انظر : محمود البستاني (محرر) الخراجيات. مؤسسة النشر الاسلامي ، قم 1992
[3] اسلام اون لاين (3 سبتمبر 2007) www.islamonline.net
[4] لبعض التفاصيل، انظر منصور النقيدان: هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. نقاش لا ينتهي 
www.montdiatna.com:8686/forum/showthread.php?t=37898
[5] لتحليل محايد حول انتفاضة 1400 (1979) ، انظر  Laurence Louėr, Transnational Shia politics: religious and political networks in the Gulf, p. 161
لتحليل حول خلفية الانتفاضة ، انظر:  Toby Craig Jones, Desert Kingdom: How Oil and Water Forged Modern Saudi Arabia, (Cambridge: Harvard University Press, 2010)  سيما الفصل السادس ص.ص. 179-216
[6]  Toby Jones, Embattled in Arabia, op. cit., p. 11
[7]  لتفاصيل اخرى حول حزب الله الحجاز ، انظر      Toby Matthiesen, Hizbullah al-Hijaz: A History of The Most Radical Saudi Shi‘a Opposition Group, Middle East Journal, Vol. 64,No. 2, Spring 2010, PP. 179-197
[8]   Toby Jones, Embattled in Arabia, op. cit., p.7
[9] عكاظ 11 فبراير 2011
[10] انظر مثلا حديث الامير نايف بن عبد العزيز ، النائب الثاني لرئيس الوزراء لوفد صحافي كويتي . جريدة السياسة 1 فبراير 2011
[11] الامير نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية السعودي ، حديث لجريدة السياسة الكويتية 23  نوفمبر 2002
[12] انظر مثلا تقرير سعيد ال ثابت الذي يتحدث عن خطب جمعة وبرامج تلفزيونية حول الموضوع . شبكة لجينيات  )26 مارس 2011) http://www.lojainiat.com/index.cfm?do=cms.author&authorid=991
انظر ايضا حديث القاضي سلطان البصيري الذي يتهم  "الرافضة" وايران بالوقوف مع التحركات النسائية في المملكة. جريدة سبق (26 مايو 2011) http://www.sabq.org/sabq/user/news.do?section=5&id=24678
[13]Laurence Louër, ‘The Limits of Iranian Influence Among Gulf Shi`a’, CTC Sentinel, V.2. no.5 (May 2009). www.ctc.usma.edu/posts/the-limits-of-iranian-influence-among-gulf-shia
[14] NASR Vali, ‘When the Shiites Rise’, Foreign Affairs, July- Aug.,2006, http://www.foreignaffairs.com/articles/61733/vali-nasr/when-the-shiites-rise
لمعلومات اضافية عن المسالة الشيعية في العراق انظر : فرانسوا تويال: الشيعة في العالم، ترجمة نسيب عون ، دار الفارابي(بيروت 2007)، ص 111
[15] صحيفة هسبرس الالكترونية ، 7-3-2009. http://hespress.com/permalink/11481.html
[16] برنامج الحياة كلمة ، تلفزيون MBC ، 22 اكتوبر 2006.
حول دعوى انتشار التشيع في المجتمع السوري ، انظر :    Khalid Sindawi,  Shi'sm and Conversion to Shi'ism in Syria: Prevalence, Circumstances and Causes, Interdisciplinary Center (IDC) Herzliya 2008. http://www.herzliyaconference.org/_Uploads/2904Khalid.pdf
[18]Joshua Teitelbaum, ‘The Shiites of Saudi Arabia’, in Current Trends in Islamist Ideology, (Hudson Institute 2010), V. 10, pp.71-86, p.78, www.currenttrends.org/docLib/201009291_ct10.pdf  
[19] خلال العامين 2008 و2009 اخبرني ثلاثة من رجال الدين المقربين من دوائر الحكم في المملكة بانهم مقتنعون تماما بالمعلومات التي نقلها الشيخ حارث الضاري ، وانهم شاركوا او علموا بجهود بذلت لترتيب لقاءات بينه وبين رجال سياسة في اعلى الهرم ومستشارين مؤثرين. وقال احدهم ان معظم اللوم يقع على رئيس الحكومة نوري المالكي الذي يعتقدون انه منغمس في مخطط شيعي ايراني معاد للسنة.
[20] Joshua Teitelbaum,  op. cit., p. 76 

24/10/2011

الديمقراطية في بلد مسلم- الفصل الخامس

 النص الكامل للكتاب - الفصل الخامس

 د . علي بايا
(  5  )  في معنى الوصف الديني للديمقراطية

 

خلاصة

السؤال المركزي الذي تناقشه هذه الورقة هو سلامة او سقم مفهوم "الديمقراطية الاسلامية" . سوف ابدأ بالقاء الضوء على الخلفية التاريخية لهذا السؤال ، ثم اقدم مناقشة فلسفية لفكرة "المبنى الاجتماعي = social construct" ، حيث نشرح طبيعة المبنى وكيف يقام وما هي وظائفه . تجادل الورقة بان الديمقراطية هي واحد من المباني الاجتماعية التي يمكن ان تاخذ اشكالا واطرا شتى تبعا للوظائف والقيم التي يضفيها المجتمع عليها . لكن ايا كان شكل الديمقراطية او اطارها ، فان منظومة اساسية من الوظائف والخواص يجب ان تكون موجودة ونشطة كي يحتفظ المبنى بصفته الاصلية ، اي كونه "ديمقراطية" ولا ينقلب الى مجرد اسم ينطوي على حقيقة مختلفة . سوف نشرح ايضا ان جميع المباني الاجتماعية مثل المكائن والتقنيات التي يخترعها الناس من اجل تيسير حاجاتهم الاجتماعية تنطوي على نوعين من الامكانات . فمن ناحية يمكن النظر اليها كادوات عمل مجردة من اي قيمة او معنى اجتماعي خاص . ومن ناحية اخرى فانها كاداة او كوظيفة قد تحمل معنى خاصا او قيمة خاصة يضفيها عليها صانعها ، حينئذ فان قيمتها لا تقتصر على مكوناتها المادية ، بل ترتبط ايضا بشبكة القيم التي يؤمن بها الفرد او الجماعة التي تستخدمها . ومن هذه الزاوية فان ماكنة او تقنية ، او ديمقراطية ، يمكن – من حيث المبدأ – ان تحمل القيم المسندة اليها من جانب افراد المجتمع . تؤكد مجادلات هذه الورقة ايضا بانه طالما كان ممكنا تصور افهام متعددة للاسلام ، فانه من الممكن بنفس الدليل تصور اشكال متعددة من تركيب "الديمقراطية" و "الاسلامية" وليس شكلا واحدا . التحدي الذي يواجه المفكرين المسلمين هو تطوير تركيب مناسب للديمقراطية الاسلامية قادر على الوفاء باغراضه الاصلية ، اي اقامة نظام حكم كفء وفعال ، نظام يتناسب مع ثقافة وظروف المجتمعات الاسلامية المعاصرة ولا يقل في الوقت نفسه عن النماذج المماثلة في المجتمعات المتقدمة . في الجزء الاخير من الورقة سوف اقدم باختصار الخطوط العريضة عن نموذج مقترح للديمقراطية الاسلامية بالاستناد الى قراءة عقلانية – تحليلية للاسلام .
د. علي بايا

تمهيد

انقضى الان نحو قرن ونصف منذ ان دخل مفهوم "الديمقراطية" والمفاهيم المرتبطة به في الخطاب السياسي الايراني . منذ منتصف القرن التاسع عشر حاول دعاة الديمقراطية الايرانيون تطوير معادلات نظرية لصون حقوق الافراد وتحديد سلطة الدولة ، كما فعل ميرزا يوسف مستشار الدولة في كتابه "يك كلمه = كلمة واحدة" (1869)[1] . لكن رغم مرور وقت طويل نسبيا ، ورغم كفاح الايرانيين المتواصل لايجاد مجتمع يقوم على المساواة والمشاركة الفاعلة والمؤثرة للشعب وحاكمية القانون ، فان مكانة الديمقراطية كنظام لادارة الشأن العام لم تترسخ في المجتمع وبقيت حتى اليوم محلا للجدل .
لا يختلف الوضع – بصورة عامة - في بقية الاقطار الاسلامية عنه في ايران ، وما يصح قوله هنا يصدق هناك ، لكن وللغرض المحدد لهذه الورقة فسوف اقتصر على الاشارة الى حالة ايران كمثال . من زاوية سوسيولوجية – تاريخية فان عددا اكبر من الايرانيين المعاصرين ، من شتى الشرائح الاجتماعية يتحدثون اليوم عن الديمقراطية ويفكرون فيها ، وقد يستعملون اصطلاح "مردمسالاري" او سيادة الشعب ، وهي المعادل الفارسي المعاصر لكلمة ديمقراطية . وانعكس اتساع الاهتمام بالديمقراطية على حجم ومستوى النقاشات والاعمال الفكرية التي تنشر في ايران . وكمثال على سعة هذا النقاش ، فان مجامع العلم الديني التي طالما نأت بنفسها عن هذا النوع من النقاشات ، تحتضن اليوم نقاشات واسعة وعميقة اثمرت عن العديد من الكتب لعلماء بارزين في الدفاع عن الديمقراطية والدعوة اليها . وندرك اهمية هذا التطور بالمقارنة مع ما كان عليه الحال في بداية القرن العشرين مثلا ، حين اقتصرت مساهمة العلماء في هذا النقاش على كتاب واحد فقط يمكن اعتباره معالجة دقيقة ومتكاملة لقضية الدستور والحكم التمثيلي ، وهو كتاب "تنبيه الامة وتنزيه الملة" للميرزا النائيني[2] . بموازاة الدعوة الى الديمقراطية ، فان نقدها ايضا يجتذب العديد من الكتاب ، من رجال الدين وغيرهم ، وهم يعارضون الديمقراطية كنظام اجتماعي- سياسي ، او يركزون على تعارضها مع تعاليم الدين . فيما يتعلق بالمستوى النوعي لهذه النقاشات ، فانه يمكن القول في الجملة ان بعضها هو مجرد تدوير او اعادة انتاج للمجادلات القديمة حول الديمقراطية . لكن الى جانب ذلك ثمة معالجات ومجادلات جديدة تلفت النظر بحجمها ومستواها النوعي . بعض هذه النقاشات دارت في اطار ديني بحت ، بينما اسس الاخر مقولاته على ارضية براغماتية ، وبعضها ركز على مناقشة المسالة في اطار تاريخي بينما اختار البعض الاخر مقاربة غائية consequentialist تربط قيمة الفعل بما ينتج عنه . على اي حال فليس غرض هذه الورقة تحليل او تقييم تلك النقاشات ، بل مناقشة امكانية بناء نموذج للديمقراطية الاسلامية من وجهة نظرية – فلسفية بحتة .
1- التغيير كثابت ابدي
تنظر الفلسفة العقلانية – التحليلية الى " الواقع = reality" كشيء قائم بنفسه[3] ، مستقل عن فهم الناس له وعن الاعراف والتوافقات واللغة وما اشبه من الاطارات التي طبيعتها اجتماعية . ينقسم الواقع في هذا المنهج الى ثلاثة مجالات او عوالم على الاقل : الاول : هو عالم الاشياء المادية (الاحياء والجوامد) . الثاني : هو عالم التجربة الانسانية (الواعية وغير الواعية) . الثالث : هو عالم المنتجات الموضوعية objective للعقل الانساني ، التي تشمل اشياء مثل الكتب ، السمفونيات ، اعمال النحاتين ، الاحذية ، الطائرات ، الحاسبات ، والكثير من الاشياء الاخرى التي يمكن ضمها ايضا الى العالم الاول .
كثير من عناصر " الواقع" المصنفة ضمن العوالم الثلاثة المذكورة ليست ثابتة على شكل واحد ، فهي في حال سيولة وتغير دائم ، وهو الامر الذي يجعل حياة الانسان - بالنظر لكونه كائنا واعيا – بمثابة سعي متواصل لفهم هذه الواقعيات في شتى اوضاعها وتغيراتها ، وهو يصمم لاجل هذا مناهج جديدة ويوظف مفاهيم جديدة كي تساعده في استيعاب ثم استخدام ما يراه امامه او ما يكتشفه . هذه المناهج والمفاهيم تمثل لحظة تصميمها اكفأ وسيلة لفهم الواقع ، لكنها مع ذلك ذات طبيعة مؤقتة ، اذ ان استعمالها يؤدي بالضرورة الى اكتشاف عيوبها او نواقصها او اكتشاف جوانب اكثر كفاءة منها ، وبالتالي فانها تخضع لمراجعة مستمرة من جانب مصممها او مستعملها ، بهدف استقصاء وتصحيح عيوبها واخطائها . اكتشاف الاخطاء هو ثمرة استعمال تلك المناهج في كشف الواقع ومعالجته ، ولهذا يمكن القول ان الواقع ذاته يمثل عاملا اساسيا في تطوير المناهج التي نستعملها للتعرف عليه . تطور المعرفة هو اذن ثمرة للحوار الدائم بين العقل الانساني (والمناهج والنماذج التي يصممها) من جهة وبين موضوع عمله (اي الواقع) من جهة اخرى . في سياق هذا التفاعل المتواصل ترتقي المعرفة الانسانية ، ليس في مستواها الاول ، اي العلم بالواقع ، بل ايضا في المستويات الاعلى من المعرفة اي العلم بالعلم ومعرفة سبل الارتقاء بالمعرفة . على اي حال فان معرفة الانسان ، طبقا للفلسفة العقلانية – التحليلية ، هي على الدوام والى الابد مؤقتة وانتقالية في كل مستوياتها واشكالها [4] .
2- الفرد كمنظومة ارادات [5]
سوف نستعمل هنا مصطلح "الحالة الارادية" الذي يشير الى وضعية ذهنية عند الفرد تجعله "يريد" شيئا ، وتتمظهر تلك الحالة في اشكال ذهنية عديدة مثل العقيدة ، الرغبة ، الامل ، الميل ، الخوف ، والنية . سوف نستعمل ايضا مصطلح "الفاعل الاجتماعي" في معنى الفرد العضو في مجتمع . كل فرد ينطوي في داخله على مجموعة من الحالات الارادية . الحالات الارادية قد تكون خاصة بالفرد ، وقد تكون جمعية حين تتحد مع الحالات المماثلة عند عدد من الافراد فتتحول من تعبير فردي الى تعبير جمعي ، مثل عقيدة مشتركة او رغبة مشتركة في شيء . .الخ .
من زاوية ابستمولوجية يعتبر الفاعل الاجتماعي (الفرد) منظومة من الحالات الارادية ، هي بمثابة نظام ديناميكي تتفاعل اجزاؤه بصورة نشطة ومتواصلة ، ويؤثر كل منها على الاخر ، كما تتاثر بالبيئة المحيطة . تتالف البيئة الاجتماعية بدورها من منظومات ارادية مماثلة (فاعلين اجتماعيين) . ويظهر اثر الحالة الارادية في كونها محركا ودافعا للفرد للقيام بفعل ما او عقد علاقة مع شيء او كينونة في البيئة المحيطة . اما كيفية تفاعل الفاعل الاجتماعي مع البيئة ، فهو يرجع الى عوامل عديدة ابرزها هو التناسب بين كل حالة ارادية وبين الواقعيات الخارجية . وينظر جون سيرل الى هذا التناسب كعملية تفاعلية بين طرفين : الفرد والواقع الخارجي ، ويسمي هذا التناسب بـ "اتجاه التلاؤم = direction of fit" . طبقا لهذه الرؤية فان علاقة الفرد مع مكونات الواقع الخارجي تتحدد على ضوء التناسب بين هذه المكونات من جانب وبين احدى او بعض الحالات الارادية من جانب آخر . وعليه فان مدى التقارب او التنافر بين الذات والخارج هو تجسيد لدرجة من التلاؤم بين احد اجزاء المنظومة الارادية وبين مكونات ذلك الخارج .
تصنف الحالات الارادية من حيث المضمون الى نوعين : ارادة او نية مضمونها معرفي cognitive state ، وارادة او نية مضمونها العزم volitive state . النوع الاول يتمثل في القناعات والافتراضات والافهام والذكريات المقيمة في ذهن الفرد . وتتخذ العلاقة بينها وبين الواقع اتجاه ملاءمة العقل مع الواقع ، بعبارة اخرى فان عقل الفرد يعمل على تكييف احدى او بعض تلك الارادات مع وقائع قائمة في الواقع الخارجي او البيئة . اما النوع الثاني من الحالات الارادية فيتمثل في الميول والرغبات والمقاصد ، وتتخذ علاقتها مع الواقع الخارجي اتجاها عكسيا ، يسعى لتكييف عناصر هذا الواقع مع العقل . هدف النوع الثاني من الارادات ليس رؤية الاشياء كما هي في الخارج ، بل رؤيتها كما يحبها الفرد ، او كما يريد لها ان تكون . ويشعر الانسان بالرضى حين يتحقق التلاؤم بين مضمون الارادة وبين الصورة المعدلة التي رسمها عن ذلك الواقع ، اي حين يتغير الواقع (ماديا حقيقيا او مفهوميا واعتباريا) ليطابق الصورة الذهنية التي ارادها الفرد لذلك الواقع .
كي نفهم الحالة الارادية لفرد معين ، يجب ان نسأل : ما هي على وجه الدقة الشروط اللازمة كي يشعر الفرد بان ارادته قد تحققت وان رغبته قد اشبعت او بالعكس؟ . للجواب على هذا السؤال يجدر بنا الانتباه الى ان صورة الواقع التي تنطبع في ذهن الانسان (يمكن لنا ان نسميه فهمه او مفهومه للواقع) ليست صورة حقيقية او كاملة ، بل هي دائما تمثيل جزئي (او نسبي) للواقع او اعادة تشكيل له . السبب في التفاوت بين الواقع وصورته الذهنية يرجع الى عوامل معرفية او ثقافية او سيكولوجية تحدد قدرة الفرد على المطابقة الدقيقة بين الذهن والواقع . وكما هو واضح فان بعض هذه العوامل تتعلق بذكاء الفرد وعلمه ، وبعضها يتعلق بهويته الشخصية المستمدة من خلفيته الثقافية ، تاريخه، ميوله السياسية ، طبقته الاجتماعية ، ومستواه المعيشي ، وما الى ذلك من العناصر التي تشكل شخصيته وهويته الخاصة . بعبارة اخرى ، فان الصورة الذهنية هي اعادة رسم للحقيقة من وجهة نظر الفرد . ومع الاخذ بعين الاعتبار التفاوت بين الافراد ، فان حالاتهم الارادية ، وبالتالي تصور كل منهم للواقع او البيئة ستكون بنفس القدر متفاوتة . على انه من الانصاف القول ، ان تلك التصورات المختلفة يمكن ان تتشابه او تشترك في بعض عناصرها ، لا سيما اذا دارت حول موضوع واحد ، او كان الافراد المعنيون متقاربين ثقافيا او اجتماعيا .
اضافة الى تصنيف الحالات الارادية تبعا لمضمونها بين حالات معرفية واخرى ترتبط بالعزم ، فانه يمكن تصنيفها ايضا الى "فردية" و"جمعية" تبعا لكيفية تمظهرها ولا سيما من خلال العلاقة بين الفرد والافراد الاخرين . يعبر الفرد عن ارادته الفردية في مثل قوله: "انا اريد" ، كما يعبر عن ارادته المرتبطة والمشتركة مع الغير في مثل قوله او قولهم: "نحن نريد" . وينبغي ملاحظة ان الصنف الثاني ليس مصفوفة ارادات فردية قابلة للتقسيم ، بل هو كلٌ متوحد غير قابل للقسمة ، وهو يتخذ في ذهن الفرد شكل "نحن ننوي " او " نحن نتطلع" او " نحن نفعل" وما الى ذلك . الارادات الجمعية كما يوحي به اسمها هي نتاج الاجتماع والتوافق بين اعضاء المجتمع ، وخلافا للارادات الفردية فانها لا تولد في العزلة ، لهذا فانه يمكن ان يكون لروبنسون كروسو او حي بن يقظان مثلا ارادات فردية بينما يواصل العيش منعزلا عن العالم في جزيرته ، لكن من المستحيل ان تكون لديه ارادات جمعية .
3- المبنى الاجتماعي
الارادات الجمعية هي المسؤولة عن خلق الحقائق الاجتماعية والكينونات التي هي منتجات اجتماعية وكذلك الحقائق المؤسسية . يقصد بالحقائق الاجتماعية تلك الاشياء التي اقيمت بجهد مشترك بين اثنين او اكثر من اعضاء الجماعة الذين تولدت لديهم ارادة جمعية . وهذا لا يقتصر على عالم الانسان ، فالحيوانات ايضا تقوم بالصيد كمجموعات ، كما تشترك الطيور في بناء اعشاشها ، ويشترك النمل في جمع وخزن غذائه . فهذه الممارسات كلها هي امثلة على ما اسميناه بالحقائق الاجتماعية . هذه الاعمال المشتركة (وما يسبقها من ارادة جمعية) لا تستهدف فقط تحقيق انجاز مادي (مثل جمع الغذاء وما يشبهه) ، بل تستهدف ايضا تعزيز الاواصر التي تشد اعضاء الجماعة الى بعضهم . الحقيقة الاجتماعية اذن هي التجسيد المادي للارادة الجمعية ، سواء كانت عملا او شيئا ماديا . وهي منتج تعرفه جميع المجتمعات الحيوانية والبشرية .
ثمة مستوى ارفع من الحقائق الاجتماعية لا تقوم الا في المجتمع الانساني ، ونطلق عليها اسم الكيانات او الحقائق المؤسسية . اما علة اختصاص الجماعة الانسانية بهذا النوع فيرجع الى علاقتها الوثيقة باللغة والرمز والمعنى . فاختصاصها بالانسان يرجع الى كونه المخلوق الوحيد القادر على استخدام لغة للتخاطب او توليد رموز لتكثيف او تصوير المعاني . يقيم البشر هذه الكيانات الاجتماعية social entities او الحقائق المؤسسية institutional entities عن طريق الفرض التوافقي لوظائف معينة او تنسيب وظائف معينة الى اشياء مادية او حقائق مؤسسية موجودة بالفعل في البيئة الطبيعية او النظام الاجتماعي . من بين الكيانات الاجتماعية مثلا الزواج ، النقود ، الحكومة ، الحرب ، الجامعة ، المحكمة ، مبارة الكرة ، وما اشبه . تعتبر الكيانات التي يصنعها المجتمع شخصية (ليس لها وجود ذاتي موضوعي ومستقل) اذا نظرنا اليها من زاوية وجودية او انطولوجية ، لكنها تعتبر موضوعية لو نظرنا اليها من زاوية معرفية ابستمولوجية . في حالة النقود مثلا فان وظيفة محددة فرضت على نوع محدد من الورق او البطاقة البلاستيكية . في حقيقة الامر لا يوجد نقد او مال مستقلا عن الفاعل الانساني ، ولهذا فان النقد هو من الناحية الوجودية شخصي ونسبي ، قيمته ووجوده مرهون بالفاعل الانساني وليس مستقلا بنفسه . لكن في الوقت نفسه فان المال او النقد يلعب في المجتمعات الانسانية دورا هاما يرجع في الاساس الى كونه اداة تبادل مستقلة وقائمة بذاتها اي انه – من الزاوية المعرفية او الابستمولوجية – ذو وجود موضوعي .
يمكن تصور المعادلة العامة لخلق حقيقة مؤسسية على النحو التالي : "X يساوي Y في ظرف وعلى ارضية C" . كمثل على ذلك : السلوك الخاص بعدد من الناس (X) في فضاء معين (C) يعتبر مباراة كرة قدم (Y)، او ان هيئة معينة تسمى محكمة (X) تحصل في ظرف معين(C) على صفة جديدة تسمى محكمة عليا (Y) . لاحظ هنا ان الكيانات التي يصنعها المجتمع لا يمكن ان تخلق بواسطة روبنسون كروسو او حي بن يقظان المنعزل في جزيرته ، ليس فقط لانه يفتقر الى الارادة الجمعية الضرورية لخلق حقيقة مؤسسية ، بل ايضا لان قيامه بنسبة وظائف محددة الى الاشياء المادية لا يمكن ان تلقي على تلك الاشياء وصفا او مكانة جديدة ، لان هذا الوصف او المكانة لا تولد الا بتوافق بين اثنين او اكثر ، اي جماعة [6] .
على نفس النسق فان عددا من الافراد لا يشتركون في ارادة جمعية لن يكونوا قادرين على فرض او نسبة الوظيفة Y الى الشيء X . الشرط الضروري لخلق اي حقيقة مؤسسية / مبنى اجتماعي هو توفر درجة عالية نسبيا من التلاحم او التماسك coherence بين الارادات الجمعية للافراد . استعرنا مفهوم التماسك من الفيزياء ، والمثال الذي نعرضه للتوضيح هنا هو مثال حزمة الضوء ، فحزمة الضوء الاعتيادي تعتبر "غير متماسكة = incoherent" لان خيوط الضوء تتفرق عند انطلاقها من المصدر في كل الاتجاهات ، فالموجة الضوئية هنا غير ملتحمة الاجزاء ، بعبارة اخرى فان خيوط الضوء تلك لا تحافظ على علاقة ثابتة مع بعضها البعض ، ولذلك فانها لا تتجمع وتتكاثف لتكوين قوة ضوء موحدة وكبيرة . نتيجة لهذا فان تفاعل تلك الخيوط مع بعضها يعتبر هداما ، يلغي احدها الاخر . في مقابل هذا نجد ان ضوء الليزر يعمل بطريقة مختلفة فحزمته متماسكة ، تنطلق كعمود واحد تتحرك جميع خيوطه في نفس الاتجاه ، وبالتالي فهي تقيم فيما بينها علاقة بناءة تمكنها من اداء اعمال تعجز عنها انواع الضوء العادية .
حين تتوفر درجة عالية من التماسك بين الارادات الجمعية للافراد ، فان المجتمع سيكون قادرا على فرض الوظيفة Y على الشيء X . هذا الشيء قد يكون شيئا ماديا او قد تكون منظومة وظائف اخرى اي Y اسندت سلفا الى اشياء مادية ، فيكون الاسناد الجديد هو وظيفة جديدة بديلة عن ، او مضافة الى الوظائف السابقة .
 ان حياة المبنى الاجتماعي (المنظومة الوظيفية التي خلقتها الارادة الجمعية المشتركة) هي حياة اعتبارية وبقاؤها مشروط باستمرار الاعتبار المسند اليها من جانب الجماعة . بعبارة اخرى فان تلك الوظائف التي تمظهرت في مبنى اجتماعي او حقيقة مؤسسية هي اعتبارات اجتماعية ، وليس لها وجود مستقل عن الجماعة التي خلقتها ، ولهذا فان بقاءها واستمرارها مرهون باستمرار رغبة الجماعة فيها او ارادتهم لها .
خلافا لهذا الراي قال بعض الباحثين بان المبنى الاجتماعي ينطوي على "جوهر" وان حياته بالتالي ليست مجرد "اعتبار" ، الفيلسوف الالماني مارتن هايدجر مثلا عرف بمقولته بان التقنيات الحديثة تنطوي على جوهر . لكني ارى ان التقنية ، القديمة او الحديثة ، مثل كل المباني الاجتماعية الاخرى لا تنطوي على جوهر بل وظائف فقط . ويبدو ان الخطأ نفسه قد تكرر بالنسبة للديمقراطية ، فقد افترض بعض الكتاب ان الجوهر المدعى للديمقراطية الليبرالية يرتبط ارتباطا وثيقا بجوهر الحضارة الغربية ، وهو جوهر يتالف طبقا لهؤلاء الكتاب من الهيمنة والاستغلال . اود الاشارة الى اننا نستعمل مصطلح "جوهر" هنا في المعنى التقني المتعارف بين الفلاسفة . ايا كان الامر فان المباني الاجتماعية ، خلافا للتكوينات الطبيعية natural entities لا تنطوي على جوهر يمكن اكتشافه ، بل وظائف تسند اليها من جانب اعضاء المجتمع . ويستطيع هؤلاء الاعضاء ، ضمن حدود معينة ، اضافة او الغاء هذه الوظائف . الالكترون مثلا كموجود طبيعي ينطوي على تركيب جوهري يحاول العلماء التعرف عليه بوسائلهم ومناهج عملهم المختلفة . في المقابل فان مبنى اجتماعيا مثل البنك هو تركيب منظومي من عدد من الوظائف التي ابتكرها افراد المجتمع . من المهم ايضا التمييز بين المبنى الاجتماعي باعتباره ارادة جمعية معينة وبين تمظهراته المادية ككينونة واقعية او كواحد من امثلة الاشياء التي يتضمنها العالم الاول مثل البناية التي يشغلها البنك[7] .
قبل الانتقال الى الجزء التالي اود الاشارة الى ثلاث نقاط تتعلق بالمبنى الاجتماعي لتكملة الفائدة:
أ ) رغم ان وظائف المبنى الاجتماعي هي ابداع بشري ، فاننا قد نستعمل تعبيرات اخرى في الكلام ، فنتحدث مثلا عن "اكتشاف" هذه الوظائف . اكتشاف فرد ما لوظيفة جديدة يمكن اسنادها الى حقيقة مؤسسية قائمة ، تعادل في حقيقة الامر لفت انتباه افراد الجماعة الاخرين الى امكانية متوفرة في حقيقة مؤسسية معينة ، الامر الذي يقود افتراضا الى خلق ارادة جمعية مشتركة عند هؤلاء ، متجهة نحو الامكانية او الوظيفة الجديدة . الاموال مثلا كانت لها وظيفة معتبرة هي تسهيل التبادل الاقتصادي بين الناس ، لكن كارل ماركس لفت انظار الناس الى ان الوظيفة الحقيقية للمال ربما تكون صيانة نظام السيطرة الطبقية . على نحو مماثل يدعي ناقدو "المجتمع المدني" او "النظام الديمقراطي" بان هذه المباني تؤدي وظائف اسوأ من تلك الوظيفة الطيبة التي اسندت اليها ابتداء من جانب مناصريها .
ب ) اولئك الذين لا يشاركون اعضاء الجماعة في "ارادة جمعية" محددة ، سوف لن يفهموا وظيفة المبنى الاجتماعي الذي اقيم على ارضية تلك الارادة الجمعية ، ولن يكونوا - تبعا لذلك - قادرين على استخدام تلك الوظائف على نحو سليم . من ذلك مثلا مفهوم حقوق الانسان المعاصر والمباني التي ارتبطت به ، فذلك المفهوم وهذه المباني لا تمثل شيئا ذا معنى لاعضاء قبيلة معزولة عن العالم الجديد في غابات الامازون .
ج ) كل مبنى اجتماعي يعرف من خلال منظومة من الوظائف الاولية الضرورية ، ومن دون هذه الوظائف فانه يفقد الصفة او القيمة التي نسبت اليه . فمثلا سيارة من دون محرك او من دون مقود او عجلات ، لا يمكن ان تعتبر سيارة لان هذه الاجزاء ضرورية لقيامها بالوظيفة التي صنعت لاجلها ، ومن دونها فلا يمكن ان تقوم بهذه الوظيفة .
4- الديمقراطية
"الديمقراطية" هي واحدة من عديد من المباني الاجتماعية التي ابدعها الانسان لتسهيل حياته الاجتماعية ، ولا سيما ادارة الامور الاجتماعية – السياسية المشتركة . ومثل المباني الاخرى ، فان هذا المبنى - او الماكنة - قد خضع منذ ظهوره للعديد من التغييرات والتعديلات . خلال قرون من الزمن اضاف الانسان وظائف جديدة الى هذه الماكنة كما حذف وظائف اخرى اقل جاذبية في سبيل تحسين كفاءتها وادائها .
حدد لينز وستيبان خمسة نطاقات عمل اولية للديمقراطية الحديثة ، في كل نطاق ثمة مفهوم قاعدي (خاصية اساسية) هو مرجع لتحديد ومعايرة الوظائف التي تؤديها الديمقراطية في ذلك النطاق . هذه النطاقات والمفاهيم (الخصائص) قد لا تكون كاملة او كافية ، لكنها تعتبر ضرورية كي يتحقق وصف الديمقراطية . وهي خصائص مترابطة عضويا ومتفاعلة مع بعضها [8]:
النطاق

المفهوم القاعدي المنظم للعمل





المجتمع المدني

حرية التجمع والتنظيم والاتصال
المجتمع السياسي

المنافسة الانتخابية الحرة والشاملة
حاكمية القانون

النظام الدستوري

جهاز الدولة

اعراف بيروقراطية قانونية – محلية
المجتمع الاقتصادي

سوق ممؤسسة


الديمقراطية هي في المقام الاول نظام لادارة الشؤون العامة للدولة والمجتمع ، ومن هذه الزاوية فهي تقارن مع نماذج الحكم الاخرى مثل الجبرية ، الشمولية ، ما بعد الشمولية ، والسلطانية . تتفاوت هذه النماذج في مقاربتها لمسائل مثل الايديولوجيا ، التعددية ، القيادة ، والحركية العامة . تترسخ الديمقراطية في اي بلد اذا تبنى اغلبية سكانه نمطا حياتيا وعلائقيا يتطابق مع معاييرها ، ويمكن رؤية هذا التطابق على ثلاثة مستويات:
على المستوى السلوكي : اتفاق السكان او نسبة معتبرة منهم على حل مشكلاتهم بالطرق السلمية التفاوضية ، اي حين لا يكون في النظام الاجتماعي انشقاقات خطيرة ، كان تسعى قوى اساسية على المستوى الوطني الى فرض مراداتها او نيل غاياتها من خلال اقامة نظام قهري او اللجوء الى العنف او استقطاب تدخل خارجي للانفصال عن الدولة .
على مستوى التوجهات : اقتناع اكثرية مؤثرة في المجتمع بالسبل والمؤسسات الديمقراطية كطريق امثل لادارة الحياة الجمعية في مثل مجتمعهم .
على المستوى الدستوري : التزام جميع القوى الحكومية وغير الحكومية على السواء وعلى امتداد اقليم الدولة ، بحل خلافاتهم في اطار القانون العام وما يرتبط به من اجراءات ومؤسسات تطابق معايير الديمقراطية .
5- المباني الاجتماعية ، القيم والاعراف
ثمة عديد من المباني الاجتماعية يقيمها المجتمع على صور شتى ولاغراض شتى . ولهذا فهناك من يهتم بتصنيف هذه المباني طبقا لغاياتها والاغراض المنسوبة اليها ، او تصنيفها كوسائل وادوات عمل ، او ربما تصنف باعتبارها منظومات من التقنيات . كمثل على ذلك اذا صنفنا الكومبيوتر تبعا للغرض منه ، فسنضعه في خانة واحدة مع الات المحاسبة القديمة والجديدة . واذا صنفناه كاداة عمل فسوف ينضم الى مجموع الاجهزة الالكترونية السريعة او ما يسمى بالاوبتيكو-الكترونيك optico-electronic ، وعند تصنيفه تبعا لتقنياته فسوف يعتبر من بين المنظومات الخوارزمية المعقدة .
لا شك انه بالوسع اضافة تصنيفات اخرى للمباني الاجتماعية ، لكن على اي حال وبالنظر الى الغرض الخاص لهذه الورقة ، فسوف نركز على نوعين فقط من التصنيفات . يجمع الصنف الاول جميع المباني التي يمكن اعتبارها ادوات بحتة instruments ، بينما يجمع الصنف الثاني تلك المباني التي تلعب القيم الاجتماعية دورا محوريا في معايير تصنيفها . بعبارة اخرى سوف نتعامل مع المباني الاجتماعية باعتبارها اما ادوات عمل محايدة او ادوات مشحونة بقيم المجتمع اي غير محايدة . على سبيل المثال فان السكين يمكن ان تصنف كاداة بحتة لقطع الاجسام المادية ، كما يمكن ان تصنف على الوجه الثاني كـ "سلاح مقدس" . اذا اعتبرناها مجرد اداة ، فان السكين الصينية او الامريكية او المصرية لا تختلف عن بعضها الا من حيث فعلها (الموضوعي) كوسيلة قطع . اما اذا اعتبرناها سلاحا مقدسا فكل من تلك السكاكين تحمل قيمة قد تختلف كليا عن نظيرتها .
يمكن تطبيق نفس الوصف على الديمقراطية كمبنى اجتماعي . فمن وجهة نظر معينة ، تعتبر الديمقراطية وسيلة عمل بحتة ، مثل ماكنة تؤدي وظائف معلومة . ومن وجهة نظر مقابلة فان نفس هذه الماكنة قد تحمل معها قيما اضافها اعضاء الجماعة اليها كي تبدو على صورة معينة او تخدم غرضا معينا في ظرف خاص . من هذه الزاوية فانه يمكن تصور "نماذج" متعددة من الديمقراطية تتمايز عن بعضها من زاويتين: من زاوية وظيفية بحتة ، اي بالنظر لكونها اداة محايدة ، ومن زاوية قيمية ، اي بالنظر لكونها تحمل او تستهدف تجسيد قيم معينة . هذا التمايز يصح ايضا بالنسبة لاي مبنى اجتماعي او ماكنة اخرى . مثال ذلك السيارة التي يمكن ان تكون "بيكان" التي ينتجها مصنع ايراني يتبع تكنولوجيا الستينات البريطانية ، او تكون سيارة "مرسيدس" التي يتبع في انتاجها احدث التقنيات المتوفرة في هذا الميدان ، فالمقارنة بين السيارتين تعتمد على المستوى الفني بغض النظر عن جنسية الصانع او مكانه . لكن نفس هذه السيارات يمكن ان تحمل القيم المضافة بواسطة الفاعلين الاجتماعيين في ظروف مختلفة . في ايران مثلا يعمد السائقون ، سواء كانوا يقودون البيكان او المرسدس الى تزيين سياراتهم بمواد ترمز لمقدسات او عناصر ثقافية اخرى ، فالسيارة هنا ليست مجرد اداة بل تركيبا من الخصائص الموضوعية للماكنة مضافا اليها القيم التي تجعل الماكنة او المبنى ، سواء كان سيارة او نظاما سياسيا ، عنصرا متشابكا مع النسيج الثقافي للمجتمع اي مألوفا للمستعمل وكفؤا في نظره ، او على العكس جهازا بغيضا او قطعة ميكانيكية عسيرة على الفهم والتعامل .
مثلما توجد موديلات وانواع عديدة من السيارات ، فهناك ايضا موديلات (نماذج) عديدة من الديمقراطية . كمثال فانه يمكن الحديث عن ديمقراطيات ليبرالية او ديمقراطيات اجتماعية او ديمقراطية ليبرتارية وما الى ذلك . كل واحدة من هذه المكائن تشترك في عدد من الوظائف والخواص الاساسية التي تسمح بتصنيفها جميعا كنموذج ديمقراطي في المقام الاول ، لكنها تتمايز فيما بينها بالنظر الى كفاءتها الوظيفية instrumental او القيم المضافة اليها . لهذا السبب فانه يمكن الحديث عن ديمقراطية اسلامية او بكلمة ادق ديمقراطيات اسلامية . كل هذ المكائن التي صنفت تحت الاسم النوعي "ديمقراطية اسلامية" تشترك من حيث وظائفها الاساسية مع النماذج الاخرى للديمقراطية في عدد من الخصائص الهامة . اما عناصر التمايز بينها ، بل بين النماذج الاسلامية نفسها ، فتتمثل غالبا في القيم التي يضيفها اعضاء الجماعة التي تتبناها ، وربما بعض الوظائف غير الاساسية التي تضاف اليها او تحذف منها على يد اولئك الاعضاء . من هنا فانه يمكن تصور نموذج من الديمقراطية الاسلامية يستمد القيم الدينية المسندة اليه من قراءة عقلانية تحليلية للاسلام . كما يمكن تصور نماذج اخرى تقوم على قراءات مختلفة .
ينبغي الاشارة هنا الى ان وصف "الاسلامية" الملحق بمفهوم الديمقراطية لا يعني نقل مكون قدسي الى المبنى الجديد . المبنى المسمى بالديمقراطية الاسلامية ليس فيه اي شيء مقدس لان الوصف لا يشير في حقيقة الامر الى الاجزاء الاساسية التي يتكون منها الدين الاسلامي ، بل يشير ببساطة الى امكانية تصميم نماذج من الديمقراطية يعتمد فيها على القراءات العديدة للدين الاسلامي كمصدر محتمل للقيم التي يحملها النموذج .
6- الديمقراطيات الاسلامية كبرنامج بحث متصاعد او متناقص:
وضع العصر الحديث امام العالم الاسلامي تحديات كثيرة ، لعل ابرزها لا سيما على صعيد الادارة العامة - هو التحدي المتمثل في انتاج نموذج صالح للحكم يضمن المصالحة بين القيم المحلية والخاصة بالاسلام من جهة والقيم الكونية الحديثة من جهة اخرى . احد الاغراض الرئيسية لهذا النموذج هو استقطاب اكبر عدد ممكن من ابناء المجتمع للمشاركة النشطة والبناءة في جميع مناحي الحياة العامة وصناعة السياسات التي تقود حاضرهم ومستقبلهم . مثل هذا النموذج يمكن النظر اليه كبرنامج بحثي في حال تصاعد وتقدم . بهذه الصفة ، فان التقدم يعني التوسع المنتظم في نطاق الوظائف التي يؤديها والتوسع الموازي في الشرائح الاجتماعية التي يضمها الى قائمة المشاركين في الشأن العام .
يتماثل هذا النموذج مع النظم الديمقراطية المطبقة في المجتمعات المتقدمة (غير الاسلامية) في عدد من الوظائف الاساسية ، الضرورية للمحافظة على هويته كديمقراطية حقيقية . لكنه يتمايز عنها بمنظومة من القيم التي تعكس الاحاسيس او التوجهات الخاصة بافراد المجتمع الذين طوروا هذا النموذج او شاركوا فيه . ينبغي ان تكون هذه القيم قادرة على تحسين كفاءة واداء النظام الديمقراطي ضمن الاطار الاجتماعي الاسلامي الذي يعمل فيه النموذج ، وان تكون في الوقت عينه متوافقة او غير متعارضة مع القيم والقواعد التي تعارف العالم على ضرورتها للديمقراطية . كمثال على ذلك فانه يمكن لنموذج ديمقراطية اسلامية او دينية ان يمنع "الدعارة في الاماكن العامة" ويعتبرها امرا قبيحا ومخالفا للقيم العامة . الا ان استعمال القانون وموارد الدولة لمنع هذا العمل سيكون مقصورا على المجال العام ، اما في المجال الشخصي فان مقاومة هذا النوع من الاعمال سوف يقتصر على النصح والارشاد والاساليب الاقناعية الاهلية وليس قوة الدولة . بل يمكن القول انه حتى في المجال العام فان حقوق الافراد المدنية والدستورية ستبقى مصانة ما لم تتعارض مع القانون .
بالمقارنة مع النموذج الانتقالي المتصاعد للديمقراطية الاسلامية ، يمكن ايضا تصور نماذج متناقصة . لعل المائز الاساسي لنموذج من هذا النوع هو ان القيم الدينية المضافة الى الماكنة الديمقراطية هي قيم انحصارية او طاردة exclusivist لا تسمح بالتعدد والتنوع ، ولهذا فهي ربما تبرر التمييز ضد شرائح اجتماعية معينة او تعاملهم كمواطنين اقل درجة من غيرهم . مثل هذا النوع من القيم المضافة يؤدي في نهاية المطاف الى انتاج نموذج يختصر مشاركة المواطنين في الشان العام ، كما يمسخ الهوية الاصلية للديمقراطية ويحولها الى نوع شبيه بديمقراطية خاصة باولئك الذين وضعوها في عزلة عن باقي الجمهور ، اي ديمقراطية للنخبة الحاكمة او ما يشبه النظام النخبوي الاوليغارشي .
7- الديمقراطيات الاسلامية والتقييم النقدي
كي تواصل تقدمها ، ينبغي ان تخضع الديمقراطيات الاسلامية ، مثل جميع المباني الاجتماعية الاخرى ، لتقييم نقدي متواصل على المستويين النظري والتطبيقي . على المستوى النظري يجري تقييم الوظائف المختلفة والمكونات القيمية لكل من هذه النماذج بالنظر الى الاطار الاجتماعي الذي تطبق فيه . السؤال الذي يجب ان يقود عملية التقييم هو : الى اي حد تساهم كل من الوظائف والمكونات القيمية المنسوبة الى النموذج في تحسين كفاءة ادائه العام . وهل ثمة حاجة الى اضافة وظائف او قيم اخرى الى النموذج القائم لتعديل او تحسين ادائه ؟ . اما على المستوى التطبيقي فان التقييم يتناول ذات الوظائف والقيم بالنظر الى النتائج غير المرغوبة التي تتكشف عند تطبيق النموذج او بعض جوانبه .
ربما يعترض البعض على نقد القيم والاعراف بالنظر لارتباطها باطارها الاجتماعي- الثقافي الخاص بها ، اي لان حساسيتها تتعلق بهذا الاطار خاصة . الا ان المنهج الذي نتبعه يرى امكانية اخضاعها للنقد والتقييم . تنظر الفلسفة العقلانية – التحليلية الى القيم والاعراف كموضوعات عينية objective قابلة للتحليل والتقييم على هذا الاساس . بعبارة اخرى فان المنهج لا يأخذ بعين الاعتبار خصوصية القيم او ارتباطها بالاطار الاجتماعي كمبرر لحمايتها من التقييم النقدي ، ذلك انها موجودات تنطوي على جوانب موضوعية قابلة للنقد بالنظر الى هذه الجوانب على الاقل ، اضافة بالطبع الى الوظيفة التي تؤديها او التي يراد لها ان تؤديها . من بين الادوات المفهومية التي تستعمل في تقييم الاداء الوظيفي والقيمي لاي من نماذج الديمقراطية الاسلامية ، ثمة اثنان يستحقان الذكر على وجه الخصوص : الاول هو ما يسمى بـ "منطق الحال =the situational logic "[9] ، اما الثاني فهو "التجربة الفكرية = thought experiments "[10] .
السؤال الذي ربما يطرح نفسه هنا : ماذا نفعل اذا ظهر تعارض بين الخواص الاصلية لماكنة الديمقراطية والمنظومة القيمية التي اضافها المجتمع على تلك الماكنة ، ولم يمكن تسويته من خلال المساومة او النقاش او اي وسيلة اخرى للتسوية ؟ . ما هو المعيار الذي يتخذ حينئذ للخروج من المأزق ؟ . مثل هذه الوضعية الافتراضية يمكن اخذها بعين الاعتبار عند تبني واحد من نماذج الديمقراطية الاسلامية .
للاجابة على هذا السؤال يمكن مقارنة المشكلة بتلك التي اشار اليها الفيلسوف الالماني ايمانويل كانت حين تحدث عن كيفية الخلاص من الشك المطلق . طبقا لكانت فان للشكاك دور عظيم الاثر في جعلنا واعين وحذرين من التساهل المعرفي . لكن نظرا لانه لا يمكن استبعاد الشكاك المطلق من الميدان او الرجوع الى الاستدلالات العقلية ، فانه حيثما تحول الدور الايجابي للشكاك الى دور هدام ، وتغير دوره من المساعدة في التخلص من الانزلاقات المعرفية الى عائق دون كسب معرفة جديدة ، عندئذ فان العقل يدعونا لصرف النظر عن راي الشكاك وحل المشكل بالرجوع الى معايير براغماتية . العودة الى الموازين البراغماتية هي فعل العقل حين يصل الى طريق مسدود وهي سنة راسخة في الفلسفة .
على نفس الاساس فانه يمكن المجادلة بانه في حال ظهر ان بعض القيم المضافة هي عائق ومعطل لماكنة الديمقراطية ، فانه من العقلاني الرجوع الى المعايير البراغماتية لتمكين الماكنة الديمقراطية من القيام بوظيفتها الاصلية اي ادارة الشأن العام للمجتمع . هذا يعني اعطاء الاولوية في العمل للماكنة على حساب القيم المضافة .
جدير بالذكر هنا ان مثل هذا الموقف له سوابق في التراث الاسلامي ، ومن بين الامثلة القريبة زمنيا هو الموقف الريادي الذي اتخذه اية الله الخميني حين اعلن في 1988 بان صيانة النظام السياسي للبلاد لها اولوية على اي حكم شرعي آخر . هذه الفتوى تعتبر مثالا اخر على هذا النوع من الاستدلال العقلاني، اي الرجوع الى الحلول البراغماتية حين يستعصي التوصل الى حل امثل . يمكن القول اذن انه طالما كانت الوظيفة الاصلية للديمقراطية هي تسيير امور الاجتماع ، وان التجسيدات الواقعية للقيم المجردة انما تظهر في اطار هذا النموذج ، فان التعارض الذي لايقبل الحل بين طرفي هذا النموذج ينحل باعطاء اولوية لخواص الديمقراطية نظرا الى ان هدفها الاصلي هو حفظ الاجتماع في المعنى العام للكلمة .
8- حدود الاسلامية
نصل الان الى سؤال يبدو ضروريا : الى اي حد يمكن استعمال نسبة "الاسلامية" في وصف الاشياء ، المباني الاجتماعية ، والكيانات ؟ . هل يمكن مثلا القول بوجود بنك اسلامي او نظام مصرفي اسلامي او اقتصاد اسلامي او تقنية اسلامية او علم اسلامي ، مثلما وصفنا نموذجا من الديمقراطية بانه ديمقراطية اسلامية ؟ . هل هناك حدود نهائية لمثل هذه النسبة ، ام ان كل شيء يمكن اسلمته بالقاء صفة "الاسلامي" عليه ؟ .
دعنا نبدأ بالعلم . ورايي انه لا يصح القول بعلم اسلامي او صيني او امريكي او ما اشبه . العلم عبارة عن منظومة من الفرضيات ، النماذج ، النظريات التي صيغت على يد البشر من اجل فهم الاشياء والتركيبات ومسارات العمل الخ . . التي تشكل بمجموعها ما نسميه بالواقع او الواقعي reality . العلم بالنسبة للباحث يشبه شبكة يصممها الصياد ويطرحها في الماء كي يصطاد السمك . المقولة العلمية ناظرة اساسا الى هذا الواقع الذي يعتبر ، طبقا للفرضية الاولية عند الفلاسفة الواقعيين realists ، مستقلا عن الباحث . في هذا الاطار فان المقولة العلمية حول واقع معين لا تعتبر كشفا قطعيا لحقيقته ، بل رايا قابلا من حيث المبدأ للتفنيد ، اليوم او غدا . طالما بقيت المقولة صامدة امام النقد ، فهي تعتبر علمية سواء كان الذي توصل اليها عالم مسلم او صيني او امريكي او غيرهم ، اما اذا جرى تفنيدها فسوف تخرج من دائرة التراث الموصوف بالمعرفة العلمية ، حتى لو كانت – في نظر مؤرخي المعرفة - في غاية الاهمية كموضوع قائم بذاته او كحلقة في تسلسل تاريخي . لهذا مثلا فان النموذج الفلكي الذي صممه الفلكي العربي علاء الدين ابن الشاطر ، والذي يقال انه الهم كوبرنيكوس ، لا يسجل كمنظومة مقولات علمية وان كان مثبتا كمحاولة قيمة ضمن تاريخ العلوم . والامر نفسه يقال عن نظرية الفلوجستون التي اقترحها العالم الالماني جورج شتال .
لكن يختلف الحال في التقنية ، فهي تمثل بنية قابلة لحمل صفة "الاسلامية" . رغم العلاقة الوثيقة بين التقنيات والعلوم الطبيعية ، الا ان الاثنين يتمايزان في جوانب عديدة : فهما اولا يختلفان في الغايات . غاية العلوم هو معرفة الواقع وتفاصيله ، اما غاية التقنية فهي التنبؤ بالتغير في هذا الواقع والسيطرة عليه . وبينما تعمل النظريات العلمية مستقلة عن الظرف الاجتماعي او البيئي الخاص الذي تجري فيه ، فان التقنية والهندسة شديدة العلاقة بهذا الظرف وهي حساسة لمتغيراته context-sensitive . ولهذا السبب ايضا فان معايير التقدم المستخدمة في كل من العلوم والتقنية مختلفة هي الاخرى . في حالة العلوم فان معيار التقدم هو الاقتراب من المعرفة الحقيقية بالواقع ، وهذا بدوره يتحق من خلال سلسلة متواصلة من الافتراضات المؤقتة او الانتقالية تقود الى ما هو ارفع منها وهكذا . اما في حالة التقنية فان المعيار الرئيسي للتقدم هو النجاح المشهود في حل المشكلات العملية . من ناحية اخرى تتسم مسيرة العلم بالتكامل التدريجي ، كما ان مقولاته تميل الى الموضوعية والتعميم ، اما في التقنية فان المعرفة الضمنية tacit knowledge تحظى باهمية اكبر ، ولهذا السبب فانه من العسير تصور مسيرة تكاملية في اطار التقنية .
التقنيات والمنتجات التقنية وجميع المباني الاجتماعية الاخرى تختلف عن العلوم في جانب اخر مهم: خلافا للنماذج والفرضيات العلمية ، فان صياغة وتطوير التقنيات والمباني لا تستهدف اشباع فضولنا العلمي وزيادة معارفنا ، بل تستهدف اشباع حاجاتنا العملية . وسواء كانت هذه المباني والتقنيات منتجات عقلية موضوعية كما هو الحال في الكائنات التي صنفناها ضمن العالم الثالث ، او كانت اشياء مادية كما هو الحال في الكائنات التي صنفناها ضمن العالم الاول ، فان وجودها يدين في كلا الحالين الى التوافق بين افراد الجماعة الذين خلقوها او استعملوها . هؤلاء الافراد هم الذين اسندوا الوظائف المحددة التي تؤديها هذا المنتجات/المباني ، وهم قد يغيرون هذه الوظائف من خلال تعديل التوافقات القائمة بينهم . وتستطيع التقنيات او المباني الاجتماعية احتمال هذا التغيير نظرا لما تنطوي عليه من ثنائية وظيفية ، اي كونها ادوات بحتة pure instruments من ناحية وحوامل للقيم المسندة اليها من جانب الجماعة من ناحية اخرى . في هذا الاطار فقد يمكن تصور العديد من التقنيات المحملة ثقافيا ، مثل التقنية الاسلامية او الصينية او الافريقية او الامريكية الخ .
يمكن تطبيق نفس المعادلة في مسألة "البنك الاسلامي" او النظام المصرفي الاسلامي" . البنك هو مبنى اجتماعي ، ماكنة لتيسير بعض الوظائف الاجتماعية . وبهذا الاعتبار فانها تنطوي على جانبين ، فهي من جهة اداة بحتة ، وهي من جهة اخرى حامل للقيم المضافة اليها من جانب افراد الجماعة في ظرف معين . في حالة البنك الاسلامي فانه يمكن تصور نظام مصرفي يحمل القيم الاسلامية ، بمعنى ان قراءة تلك الجماعة للاسلام او تفسيرها لقواعده يمكن ان تتخذ اساسا لتحديد المبررات التي اوجبت قيام تلك الماكنة /البنك والاغراض المستهدفة منه .
اما بالنسبة لـ "الاقتصاد الاسلامي" فالمسالة اكثر تعقيدا وهي تتطلب المزيد من الشرح . يصنف علم الاقتصاد ضمن زمرة العلوم الاجتماعية التي توصف بانها علوم ذات وجهين : فهي من جهة تتماثل مع العلوم الطبيعية في ان هدفها هو اكتشاف قوانين الحركة في المجتمعات . ومن جهة اخرى فهي تماثل التقنية من حيث اعتمادها على التنبؤ وكونها تستهدف التحكم في مسارات التغير في الحالات الاجتماعية . وهذا هو السبب الذي يبرر احيانا وصف العلوم الاجتماعية بانها "تقنيات اجتماعية" .
على ضوء ما ذكر انفا ، فانه يمكن النظر الى الاقتصاد من زاويتين مختلفتين . من زاوية كونه فنا يماثل التقنية ، فهو مؤهل لاكتساب خواص الماكنة ، ومن بينها قابليته لاستيعاب وحمل القيم المسندة اليه من جانب الجماعة التي تستخدمه في ظرف خاص . وبناء عليه فان قيام مبنى اجتماعي تحت اسم "الاقتصاد الاسلامي " هو امر ممكن . من الزاوية الثانية ، اي كونه مماثلا للعلوم النظرية فان مقولاته تتسم بكونها عامة وغير قابلة للتخصيص ، اي مستقلة عن الظروف الموضوعية ، فان الحاق وصف الاسلامية او غيره به ، لن يكون ذا معنى .
9- خلاصة وتصور لنموذج مقترح
حاولت المناقشات السابقة التاسيس لدعوى ان صياغة نموذج للديمقراطية الاسلامية ليس امرا مستحيلا . لكن هذا يثبت امرا واحدا فقط وهو امكانية تركيب كينونة من هذا النوع ، بغض النظر عن توفر القابلية الفعلية لتركيب تلك الكينونة . بعبارة اخرى فان ما جادلنا حوله هو امكانية الوجود ، بغض النظر عن امكانية الايجاد . دعنا اذن في هذه الفقرة الختامية نسعى لوضع الخطوط العريضة لنموذج مقترح للديمقراطية الاسلامية يمكن تبنيه من جانب الفاعلين الاجتماعيين في اطار اجتماعي اسلامي متقدم فكريا مثل ايران .
نفترض اولا ان العديد من الجوانب الوظيفية لهذه الماكنة الديمقراطية في هذا الاطار المجتمعي الخاص سوف تماثل تلك التي تؤديها الماكنات الاخرى المستعملة في الديمقراطيات الحديثة . نفترض ايضا ان المكونات القيمية لهذه الماكنة سوف تحدد على ضوء قراءة عقلانية – تحليلية للاسلام . تنظر المدرسة العقلانية – التحليلية الى العقل ككون مستقل في عمله وكسلطة قائمة بذاتها ليس فوقها سلطة اخرى . القران الكريم والسنة النبوية يمكن فهمها فقط من خلال عملية تفسير متواصلة يمارسها العقل المستقل ، غرضها المحافظة على الجسر الذي يربط بين محتوى النص الثابت وواقع الانسان المتغير . رغم ان العقل يعمل مستقلا ، الا انه – من حيث التكوين – يحمل العديد من الصفات والهموم الخاصة بالبيئة الاجتماعية لصاحبه التي تمثل بمجموعها جزءا مما نطلق عليه اسم "البيئة العقدية الاسلامية = Islamic belief-ecosystem"[11] . البيئة العقدية ، مثل الانظمة البيئية الطبيعية ، هي انظمة دينامية حركية تتفاعل بنشاط مع العوامل التاريخية والجغرافية . ومن هذه الزاوية فهي انظمة متنامية ومتوسعة في مكوناتها الداخلية وفي تمظهراتها الخارجية . ومع توسعها ينضم الى تكوينها اعضاء جدد ، اي "ارادات" سواء فردية او جمعية تتفاعل فيما بينها ومع البيئة الاوسع .
يعتبر تلاميذ الفلسفة العقلانية – التحليلية الايمان موضوعا شخصيا . وطبقا لهذه الرؤية فان التفاعل بين الايمان والحياة يتجلى من خلال ضم الفرد المؤمن لقوته الفكرية (العقل) الى تجربته الروحية واستخدامهما معا في تعزيز فهمه واستيعابه وتمثله لعالم المقدس . يؤمن اتباع الفلسفة العقلانية – التحليلية بوجود كائن مقدسsacred Being يسعون لاستكناه ذاته وصفاته من خلال تطوير فرضياتهم ونماذجهم التحليلية . وعلى نفس النسق فانهم يعتبرون الدين والتقاليد الدينية جزءا هاما وجوهريا من الاطار الحيوي الذي ينتمون اليه ، ويؤكدون على المراجعة المتواصلة لفهمهم الراهن للدين والتقاليد الدينية على ضوء التجارب المتواصلة وما تقود اليه من معرفة جديدة . الفرضية التي تقود هذه الممارسة هي ان المراجعة المستمرة سوف تساعد في تحسين استخدامهم للموارد التي تتوفر في اطارهم الحيوي . يتبني اتباع المدرسة العقلانية – التحليلية التعدد والتنوع ، ويعارضون الانظمة الايديولوجية . وفيما يتعلق بادارة الشأن العام الاجتماعي او السياسي ، فان المشكلة الرئيسية لا تكمن عندهم في العثور على الافراد الاصلح او الاكثر تقوى لتولي القيادة ، بل في صياغة وتطبيق نظام عقلاني وكفؤ ، وايجاد مؤسسات او هياكل تيسر اقامة مجتمع عادل . للوصول الى هذه الغاية ، فانه يمكن الاستفادة من الموارد المتوفرة في الاطارات الحياتية التي ينتمي اليها العقلانيون – التحليليون كمصدر غني للقيم والافكار ، بشرط اخضاعها للمراجعة والنقد الدائم .
اذا اردنا تطبيق المنظور العقلاني- التحليلي على ظرف ايران الخاص ، فان صيانة النظام الاقليمي للبلاد هو شرط مسبق لاي مسعى يستهدف اقامة نموذج ديمقراطي اسلامي . في هذه الاطار فان التركيبة المتنوعة لسكان البلاد دينيا ولغويا وثقافيا ، تمثل تحديا عسيرا امام التوصل الى اجماع على المباديء الاساسية التي سيقوم عليها النظام الديمقراطي . سوف يتطلب الامر جهدا كبيرا ومركزا لصياغة وترسيخ اعراف ديمقراطية ، ومناهج عمل ومؤسسات ، تؤمن وتدعم التحول نحو نظام ديمقراطي قابل للحياة والاستمرار .
نموذج الديمقراطية الاسلامية المقترح يستهدف اقامة آليات للمشاركة والتمثيل الشعبي ، وصياغة معايير مناسبة لاختبار وتقييم عمل المؤسسات السياسية على ضوء القيم الاسلامية المعقولة . من هنا فان هذا النموذج سوف يشجع مثلا التفاعل الانساني المباشر والقائم على ارضية المساوة كوسيلة ضرورية لتعزيز الاحترام والتقدير المتقابل ، وتعزيز الرابطة الروحية بين المواطنين ، واستيعاب المشتركات التي تجمع بينهم . للوصول الى هذه الغاية سوف نحتاج الى تشجيع التبادل الثقافي بين المجموعات الاثنية والثقافية المختلفة وهو امر يتطلب بالتاكيد ضمان التعددية الثقافية في اوسع تجلياتها . كما يتطلب تشجيع الاعتماد على الحوار كوسيلة لتكوين اجماع وطني يتجلى في اعمال مشتركة وبحث عن حلول للمشكلات بالتعاون بين المواطنين والحكومة وذوي الخبرة .
يوجه نموذج الديمقراطية الاسلامية المنظور اهتماما فائقا للحقوق الاساسية للانسان والحريات المدنية ، كما يضمن مساحة عمل مناسبة لمنظمات المجتمع المدني كي تلعب دورها الضروري في تيسير العلاقة بين الافراد من جهة وبين القوى السياسية والاقتصادية من جهة اخرى ، وكي تسهم في حماية حريات الافراد وحقوقهم . كما يفرد اهتماما خاصا بالقيم الاسلامية مثل احترام الاخلاقيات العامة والاعراف المقبولة بين عقلاء العالم ، اضافة الى الرعاية المتبادلة والمسؤولية المشتركة للمواطنين عن بعضهم وعن النظام البيئي الذي يعيشون في اطاره .
بالنظر لظرف ايران الخاص ، نعتقد ان بوسع الدولة ان تلعب دورا محوريا في صياغة وترسيخ نموذج الديمقراطية الاسلامية المقترح . كما ان المجتمع المدني قادر على القيام بدور فعال في تحقيق هذه الغاية . فيما يتعلق بالتنظيم الحكومي ، فان وجود نظام قضائي كفء ومستقل يمثل ضرروة اولية لنجاح النموذج وتطوره . كما تلعب الصحافة دورا هاما ، ويمكن لها ان تساهم في بناء وتحسين كفاءة النموذج من خلال مراقبة ادائه فضلا عن كونها مصدرا للمعلومات . وهي من هذا المنظور وسيلة فعالة لتطوير مشاركة شعبية غنية وذات تاثير . والشيء نفسه يقال عن المفكرين ، الدينيين وغير الدينيين ، فهم يتحملون جانبا مهما من المسؤلية عن تمهيد الطريق امام النموذج الديمقراطي المقترح كي يترسخ ويتكامل . يمكن للمفكرين ان يلعبوا دورا محوريا في خلق تفاعل بناء بين ما يتخلق في فضاء العالم من افكار جديدة وما تكشف عنه التجربة الديمقراطية من حاجات ومشكلات وامكانات جديدة في الاطار المحلي . بالنظر لكونه نموذج بحث تجريبي ، فان نجاح النموذج الديمقراطي الاسلامي يتوقف الى حد كبير على الافكار الجديدة الضرورية لحل المشكلات غير المتوقعة التي لا بد انه سيواجهها عند تطبيقه ، وفي هذا المجال فسوف يكون للمفكرين اليد الطولى في النقد والمراجعة والتصحيح .
الغرض مما ذكر اعلاه هو تحديد الخطوط الاولية لبرنامج البحث المقترح . لكن يجب الاقرار بانه رغم هذا الهدف المتواضع ، فان الخطوط التي رسمناها تحتوي على كثير من الفراغات . على اي حال ، وبالنظر لان اي برنامج بحث هو في الاعم الاغلب نشاط جمعي ، فان تلك الخطوط هي مجرد اضاءات على الطريق الى صياغة نموذج اشمل واكمل .



[1] كان ميرزا يوسف مستشار الدولة واحدا من المفكرين الايرانيين البارزين في القرن التاسع عشر . عرف كدبلوماسي كفء وعمل ممثلا لايران في باريس بين 1865-1869 . كتابه "كلمة واحدة " هو ترجمة فارسية لقانون نابليون . قدم هذا الكتاب نصا قانونيا اوربيا حديثا الى القاريء الايراني ، لكن اهميته ترجع – اضافة لذلك – الى محاولة الكاتب اظهار ان الفصل الخاص من قانون نابليون المتعلق بالحقوق المدنية ، وهو ايضا جزء من الدستور الفرنسي ، متناغم تماما مع تعاليم الاسلام . بعبارة اخرى فقد حاول مستشار الدولة عرض ايات قرانية او ادلة من تراث الرسول والائمة تطابق تماما محتوى بنود القانون . وترك الكتاب اثرا عظيما على تفكير الاجيال التالية من المفكرين الدينيين في ايران كما لعب دورا هاما في النقاشات الفكرية حول دستور المشروطة لعام 1906 . انظر مستشار الدوله ، ميرزا يوسف : يك كلمه (كلمة واحدة) (1869) ، تهران 2003
[2] كان الميرزا محمد حسين النائيني من ابرز الفقهاء المؤيدين للدستور خلال الثورة الدستورية وكتب كتابه في الرد على نقادها ومعارضيها ، وحاول فيه ايجاد تسوية بين القيم الاسلامية من جهة وبين المفاهيم السياسية الحديثة مثل الدستور ، حقوق الانسان ، الحرية وما اشبه . غني عن القول ان النائيني قد تاثر بعمق بكتاب مستشار الدولة المذكور اعلاه . حول الثورة الدستورية ودور النائيني وارائه ، انظر السيف ، توفيق : ضد الاستبداد ، بيروت 1999
[3] تستعمل كلمة "الواقع" في اللغة العربية للدلالة على ما هو اوسع من حادثة او موضوع او شيء محدد . وتستعمل في هذه المقالة في معنى يقارب تعبير "الواقعي" حيث تصف الاشياء المادية وغير المادية كموضوعات مستقلة بغض النظر عن قيمتها او وظيفتها .
[4] "المعرفة" المقصودة هنا هي تلك القابلة للتحصيل والتقييم من جانب عامة الناس اي المعرفة الموضوعية وليس ما يطلق عليه المتصوفة اسم المعرفة المباشرة او المعرفة الحضورية .
[5] يعتمد هذا القسم وتاليه بشكل رئيسي على :      Searle, John, Mind, Language, and Society, London, 1999
Searle, John, The Construction of Social Reality, London, 1995 .
Paya, A ., “Dialogue in the Real World,” International Journal of Applied Philosophy, Vol . 19, No . 2, 2002
[6] يمكن عرض مثال معاكس على النحو التالي : يستطيع روبنسون كروسو او حي بن يقظان تحديد جزء من جزيرته وتسميته "معبدا" . هذا المكان سياخذ مكانة مميزة من زاوية ان روبنسون او حي ربما يغير سلوكه الخارجي في اي وقت يدخل هذا "المعبد" . حالته الروحية الداخلية ربما تتغير ايضا بموازاة ذلك كنتيجة للوظيفة الجديدة المسندة الى تلك القطعة من الارض . لكن على اي حال فان اسناد وظيفة "المعبد" في هذا المثال لا يبدو انعكاسا حقيقية لارادة فردية بحتة . والسبب في هذا ان روبنسون او حي ، حين يمارس العبادة ، فانه يضع نفسه – افتراضا – في حال اتصال مع ارادة اخرى ، هي الكائن الاعلى الذي هو موضوع العبادة .
[7] يمكن مع شيء من التسامح مماثلة النموذج المستعمل هنا مع مفهوم العلل الاربع التي اقترحها ارسطو . من هنا فانه يمكن مثلا ربط الارادة الجمعية التي تشكل المبنى الاجتماعي مع مفهوم العلة النهائية عند ارسطو . كما يمكن ربط الفاعل الاجتماعي (الفرد او الافراد) الذين يخلقون فعليا ذلك المبنى المعين ، مع العلة الفعلية المؤثرة . ويمكن ربط التمظهر المادي لهذا المبنى مع تركيب من العلة الشكلية والمادية .
[8] انظر: Linz & Stepan, Problems of Democratic Transition and Consolidation, Baltimore, 1996
[9] انظر بهذا الصدد: Popper, Karl: Objective Knowledge, Oxford, 1972
[10] انظر بهذا الصدد: Sorensen, Roy: Thought Experiments, Oxford, 1998
[11] انظر بهذا الصدد:
 Paya, Ali: "Muslim Identity and Civil Society" in Bahmanpour & Bashir(eds), Muslim Identity in the 21st Century, London, 2000



بقية فصول الكتاب


تقــــــــــــــــــــــــــــــــديم 
http://talsaif.blogspot.com/2011/10/1.html
1)  الديمقراطية كحاجة للحياة الدينية                                                         محمد مجتهد شبستري
http://talsaif.blogspot.com/2011/10/blog-post_8707.html
2) الديمقراطية والديمقراطية الدينية : المباديء الاساسية                                 محسن كديور
http://talsaif.blogspot.com/2011/10/blog-post_9060.html
3) الديمقراطية الدينية: حاكمية العقل الجمعي وحقوق الانسان                           عبد الكريم سروش
http://talsaif.blogspot.com/2011/10/blog-post_6931.html
4) من المدينة الفاضلة الى مدينة الانسان :
 الفرضيات الاولية لبحث الديمقراطية الدينية                                             علي رضا علوي تبار
http://talsaif.blogspot.com/2011/10/blog-post_7868.html
5) في معنى الوصف الديني للديمقراطية                                                  علي بايا
http://talsaif.blogspot.com/2011/10/blog-post_24.html
6) جدل فقهي حول الدولة الحديثة                                                          توفيق السيف
http://talsaif.blogspot.com/2011/10/blog-post.html      


الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...