‏إظهار الرسائل ذات التسميات الديمقراطية الدينية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الديمقراطية الدينية. إظهار كافة الرسائل

24/10/2011

الديمقراطية الدينية : حاكمية العقل الجمعي وحقوق الانسان - عبد الكريم سروش

           

    الديمقراطية الدينية : حاكمية العقل الجمعي وحقوق الانسان
د. عبد الكريم سروش

    الفصل الثالث من كتاب الديمقراطية في بلد مسلم


مع انتهاء حقبة العلم القديم ، وهيمنة العلم الحديث ، تغير العالم كما تغير مفهومه وطريقة التفكير فيه. حتى القرن السادس عشر ، كان المفكرون الاوربيون يفهمون الكون على ضوء نظرية ارسطو ، الذي اعتقد ان الطبيعة منظمة طبقا لمنظومة وظيفية متصلة ببعضها ، ومتجهة نحو غاية اسمى او telos حسب التعبير اليوناني. ويقوم فوق هذا النظام كائن اعلى هو مصدر الخلق (الله).

د. عبد الكريم سروش
كان تغير هذه الصورة التيليولوجية ، هو نقطة التحول الى ما سمي بالعلم الجديد ، الذي نظر الى العالم نظرة ميكانيكية ، تفسر الظواهر الطبيعية اضافة الى السياسة والفكر الانساني ، كسلسلة من المقدمات والاسباب والنتائج ، بغض النظر عن غرضها او وظيفتها النهائية. موازيا لهذا التحول الفكري ،  ظهر الاصلاح الديني البروتستنتي الذي رفض فهم العالم كنظام هرمي ، قائم على رؤية ميتافيزيقية ، تعرف هوية الافراد تبعا لموقعهم في هذا النظام.

تبدو صورة العالم في العلم الحديث ، كما لو ان هذا العالم ليس من خلق الله. لا يعني هذا بالضرورة ان العلم الحديث ينكر وجود الله. بل هو بالتحديد لا يجد ضرورة لافتراض وجوده. بعبارة اخرى ، فانه حتى لو قبل اتباع العلم الحديث بفرضية وجود الخالق ، فانهم لا يجدون انفسهم معنيين بهذا الامر ، فالعلم يوفر لهم الادوات اللازمة لفهم العالم. لم يقتصر تاثير العلم الحديث على علاقة الانسان بالطبيعة ، بل اثر ايضا على سلوك الفرد وتوجهات الدولة. في المجتمعات الليبرالية المعاصرة تمارس الحكومات سلطتها كما لو ان الله غير موجود ، ويعيش الناس كما لو ان وجود الله او عدم وجوده سواء. رضا الخالق وارضاؤه لم يعد موضوعا للثقافة السياسية او اخلاقيات الدولة والمجتمعات. كل ما يهم المجتمع هو تحقيق مراداته ، وما يهم الدولة هو ارضاء المجتمع الذي تمثله وتحكمه.


بنظرة اجمالية يمكن القول ان الفارق الرئيس بين الحكومات الليبرالية – الديمقراطية المعاصرة ، ونظيرتها الدينية القديمة (في عصر سلطة بابوات الكاثوليك في اوربا كما في عهد الخلافة الاسلامية) ، يكمن في غرضها الاول (الحقيقي او المدعى). كانت الدولة القديمة تدعي ان غرضها هو تامين رضا الله قبل كل شيء ، وربما اهتمت بالمخلوقين كوسيلة لرضا الخالق لا كغاية قائمة بذاتها. في المقابل فان الدولة الحديثة اهتمت اولا واخيرا برضا المخلوقين بغض النظر عن خالقهم.

مشكلة الحكومات الدينية الديمقراطية تكمن في هذه النقطة بالذات ، اي صياغة معادلة في العمل السياسي ، تكفل الجمع بين رضا الخالق ورضا المخلوقين ، وتوازن بين داخل الدين وخارج الدين (او الجزء الديني والجزء غير الديني من العالم) ، وتنظم سياساتها واعمالها على نحو يحفظ في الوقت عينه ، حق الخلق وحق الخالق ، ويصون كمال الانسان وكمال الدين. من الانصاف القول بان مهمة هذه الحكومات ستكون اكثر صعوبة وعسرا مما كان معتادا في الحكومات من النوعين الاخرين.

السؤال الاساسي الذي يلح علينا هنا هو السؤال المتعلق بالله : هل الله موجود ام لا ؟. واذا كان موجودا فهل له حقوق ام لا ، وهل يجب علينا مراعاة تلك الحقوق ام لا ؟.

حق الله وحق الانسان

لو وضعنا حقوق الانسان وحقوق الله على مائدة واحدة ، فلا شك ان شخصا يحترم حقوق الانسان ، سيرى من البديهي ايضا ان حقوق الله – على فرض وجوده – اهل للرعاية والاحترام. ولن يستطيع هذا الشخص وهو يسعى في حياته اليومية ، ان يغفل هذا الوجود وما يترتب عليه من علاقات وحقوق. حين نفكر في امورنا من زاوية حقوقية بحتة ، فان حقوق الله ليست اقل حرمة ومكانة من حقوق الانسان.

ربما لم تغب عن النقطة البديهية عن اذهان المفكرين العلمانيين. لكنهم رغم ذلك انشغلوا بالبحث في رضا المخلوقين ، واغفلوا خالقهم لاسباب محددة ، يمكن تلخيصها كما يلي :

1- ان الخالق على فرض وجوده ، وعلى فرض ان له حقوقا خاصا ، قادر كل القدرة على الدفاع عن تلك الحقوق وهو قادر على استيفائها ، وليس في حاجة الى مساعدة الغير كما هو حال البشر الضعفاء والمساكين.

2- لا يستطيع احد مهما بلغت قوته ، ان يسلب الخالق حقه او ان يظلمه (بالمعنى المادي الواقعي للكلمة). وحتى اذا اغفل البشر رعاية حقوق الله ، فانهم مع ذلك غير قادرين على ايذائه او الاضرار به. ونذكر هذا بالمقارنة مع ضعف الانسان ، وما يستدعيه من واجب اخلاقي على اخوته في الانسانية. فالدفاع عن حقوق الانسان منبعث من دافع اخلاقي - انساني يتمثل في حاجة المظلومين والمحرومين ، الذين ضيعت حقوقهم او سلبت ، ومثل هذا الامر غير قابل للتصور او التحقق اذا تعلق الامر بالله.

3- الخلاف بين المؤمنين بوجود الخالق ومنكري هذا الوجود ، والنزاع حول صفاته وافعاله واسع وكبير. وبسبب هذا النزاع ، فقد خرجت مسألة وجود الخالق من دائرة البديهيات واليقينيات ، التي لا يختلف عليها البشر ، الى دائرة المشكوكات وغير المسلمات ، عند بعض البشر على الاقل. في هذا الخلاف لم تتصارع العقول بل العقائد ، ولم يهتم كل من طرفي النزاع بمناقشة ادلة الاخر نقاشا عقليا محضا او محايدا. ولهذا السبب فانه لم يمكن الوصول بالمسألة الى حل نهائي او قريبا من حل نهائي قطعي. ومن هذه الزاوية فان قهر الغير على الايمان بوجود الخالق او عدمه كعقيدة قطعية ، والزامهم برعاية مقتضياته ، قد يكون بعيدا عن العدل والانصاف.

لا يمكن الزام الجميع بالايمان بالله الواحد القادر ، على نحو واحد وبمعنى واحد. وبالتالي فلا يمكن الزامهم برعاية حقوقه على النحو الذي نتخيله او نرغب فيه. ان الطريقة المثلى لحل مثل هذا الاختلاف في الرؤية هو التسامح ، بمعنى ترك الفضاء متسعا وحرا للجميع ، بحيث يستطيع المؤمنون بالله والمنكرون له التعايش بسلام ومن دون تزاحم او تنازع فيما بينهم ، ويحصلون جميعا على حقوق متساوية ، ولا يفرض احد على سواه عقيدة او يجبره على فعل لا يفهمه او يستسيغه.

4- على فرض وجود الخالق ، فانه لا يمكن معرفة حقوقه على وجه الدقة والكمال. كل دين من الاديان العديدة المختلفة له فهم خاص للخالق يؤمن به ويدعو اليه. وكل من هذه الاديان يرى ان مفهومه هو الحق المطلق او الوحيد. ترى.. كيف يمكن اختصاص واحد من هؤلاء بالحق الاعلى او المطلق ؟. وكيف نعرف ان هذا حق وذاك باطل ؟. وكيف نعرف حقيقة ما يريده الله من كل واحد منا ؟. انها اسئلة يستحيل التوصل الى جواب واحد لها ، يتفق عليه جميع اهل الديانات. ومن هنا فان الطريق المنطقي والايسر ، هو العودة الى اصل الاختيار في الدين ، اي جعل الايمان اختيارا للافراد ، لا يحق للدولة ان تفرضه بالقوة او القانون. أي ، بعبارة اخرى ، ان تتحاشى الحكومة اتخاذ دين رسمي تفرضه على الناس رغما عنهم. وهذا يتطلب ان تفصل الحكومة بين ما هو وظيفة عامة لها وما هو شأن خاص وشخصي للافراد.

وظيفة الحكومة طبقا لهذه الرؤية ، هي ادارة المصالح العامة للمجتمع ، ورعاية الحقوق المشتركة بين المواطنين. اما الشأن الديني وحياة الافراد الشخصية فهما خارج هذا النطاق ، ويجب ان تترك للافراد يمارسونها وفق ما تهديه اليه عقولهم ، وما يؤمنون به من دون جبر او الزام. وحتى لو اردنا معرفة اي دين هو الحق واي دين هو الباطل وما هي حقوق الله ، فليس للحكومة ايضا ان تنحاز الى جانب محدد ، بل ينبغي لها ان تقف دائما على الحياد ، فتضمن حرية النقاش العقيدي للجميع ، من دون خلط بين الدين وبين مراداتها او ميولها السياسية.

5- فوق ذلك كله ، فان الدين يجب ان يكون انسانيا. جميع الناس وغيرهم من الكائنات مخلوقون لله سبحانه. وعلى نفس المنوال فان الدين منزل للناس ، لهديهم وخدمتهم ورفعتهم. الدين الذي يستحق الايمان والاتباع هو الدين الذي تتجلى فيه تلك الاوصاف السامية التي نتصورها عن علاقة الخالق بالخلق ، وتسعى تعاليمه لتجسيد الصفات التي نتصورها في الانسان لحظة كماله واتصاله بربه. ومنها ان يكون عادلا ، فطريا ، حقا ، وانسانيا. ينبغي ان تتجسد وتتضح هذه الصفات كخواص واغراض في كل حكم من احكام الدين. فهذه ليست صفات تجميلية او تكميلية بل هي معايير وضوابط اساسية يترتب عليها الوصف الديني للحكم او التشريع ، بمعنى ان اي حكم ديني يجب ان لا يتعارض عند تطبيقه في الواقع الخارجي مع مفاد تلك المعايير وتمثلاتها ، واذا تعارض فانه يفقد قيمته الدينية.

بناء عليه فانه لا يصح الزام احد بتبني عقيدة او القيام بفعل ضد الانسانية او ضد الحقيقة او ضد العدالة. كما لا يمكن تبرير هذا الالزام على ارضية الدين او التاريخ او باسم الله او الامة. ومن هذا نفهم ان تشخيص الوجه الانساني من الدين مقدم على تشخيص وجهه الرباني. ومن حق البشر ان يرفضوا اي دين غير انساني ، بل من حقهم نفي صفته السماوية بناء على كونه غير انساني. هذا امر بديهي لان الله سبحانه اراد الدين للانسان ولم يرده لنفسه فهو غني عن الناس وعن دينهم.


6- لانه لا يصح الاستدلال بما هو ثابت على ما هو مطلوب (بمعنى ان اثبات الشيء لا يثبت بالضرورة القول بالزامات تترتب عليه) ، فانه لا يصح ايضا تعريف وتعيين حقوق الناس ، بناء على قدراتهم او اوضاعهم الفعلية ، لان هذا سيقود الى العنصرية واشباهها. تعريف وتعيين حقوق الانسان يتوقف على واحد من طريقين: اما الاعتماد على مقاصد الخالق من خلق البشر ، واما تحديد البشر انفسهم لغايات حياتهم وما يستطيعون انجازه فيها. وفي كلا الحالين فان عليهم تحديد الوسائل والمستلزمات الضرورية لنيل تلك المقاصد والغايات.

حينما نتحدث عن "حقوق طبيعية" للانسان ، فان ما نعنيه على وجه التحديد ، هو ان احترام هذه الحقوق سوف يجعل حياة الانسان اكثر انسانية واكثر عقلانية ، وسوف يوفر للبشر الامان والرفاهية والازدهار. هذه الغايات اي العدل والرفاه والتحرر من التمييز والجدل والتعصب والتقاتل والجهل والجوع والجور ، هي غايات عقلائية ، بمعنى ان القبول بها كمسلمات هو نتاج لتجربة البشرية طوال تاريخها المتمادي. لقد ثبت صلاحها وضرورتها للانسان بالتجربة المتكررة في ازمان مختلفة وامكنة عديدة ، أوصلت البشرية الى اعتبارها بديهيات لا يجادل فيها عاقل. ومن هنا فانها لم تعد مورد جدل ، كما لم يعد ممكنا نفيها بالاعتماد على اي تبرير عقلي ، ولا اغفالها او التهوين من شانها بالرجوع الى بعض الدوغماءات الدينية.

لقد عانت البشرية الكثير من الالام واريقت انهار من الدماء ، بسبب التعصبات الطائفية والحروب الدينية ، والنزاع على اثبات حقانية هذا الدين او ذاك ، او للسيطرة على هذه القرية اوتلك. بعد هذه التجربة المريرة ، وصلت البشرية الى النقطة التي نتحدث عنها اليوم ، اي الاقتناع بان الطريق الوحيد لضمان حياة انسانية سليمة ، هو التراضي والتوافق فيما بينهم على اعتراف كل طرف بوجود الاخر وحقوقه المتساوية ، والقبول بما يترتب على تلك الحقوق من واجبات لكل منهم على الاخر ، وان لا يستهان بقيمة انسان او تنتقص حقوقه ، او تؤجل بسبب اختلاف لونه او عقيدته او عرقه او انتمائه او ثقافته.

انسانية الانسان ، اي طبيعته الاولية كفرد في الجماعة الانسانية ، هي مبرر كاف كي ينال شريحة معينة من الحقوق التي وصفناها بـ"الحقوق الطبيعية" بغض النظر عن دينه او عرقه او لونه او طبقته الاجتماعية او مستوى معيشته او البقعة التي ينتمي اليها.

7- تقتضي العدالة ان ننظر الى التكافؤ بين الناس كحق مكتسب. يولد كل الناس متساوين متكافئين ، فلا يحضى شخص بميزات او حقوق استثنائية او زائدة عن الغير ، لمجرد ولادته في عائلة معينة او انتمائه الى دين او قوم او ارض معينين. خلافا لما يتبناه دعاة التفوق العنصري وبعض القوميين والمتدينين ، الذين يخصون انفسهم بحقوق ثابتة ، مبررها الوحيد هو انتماؤهم الى ذلك العرق او القوم او الدين ، وينظرون الى انفسهم كجماعة متفوقة على سائر الناس ، ويدعون لانفسهم حقا في معاملة الاخرين معاملة ينقصها الانصاف ، وينكرون تكافؤ الغير معهم او حقه المساوي لحقهم في اختيار دينه او جنسيته او زوجه او نمط حياته.. الخ.

8- تدل التجربة التاريخية على ان الفكر الديني بشكل عام ، والواجبات الدينية بشكل خاص ، قد شهدت تغييرات وتحولات كثيرة ، على يد المفكرين الدينيين والقادة الروحانيين. في يوم من الايام قررت الكنيسة اعدام الملحدين ومنكري الدين حرقا بالنار. في يوم آخر رفض علماء المسلمين تولي النساء للمناصب السياسية او مشاركتهن في المجالس التشريعية ، وهذه الامثلة وامثالها كثير في كل الديانات. لكن هذه الافكار تغيرت اليوم في الجوهر والمبررات. وسوف تاتي الايام القادمة بتغييرات في غيرها من الافكار والاحكام. ولهذا السبب فانه لا يمكن اعتماد مثل هذه الاراء المتغيرة ، كارضية واساس لحقوق الله وحقوق الناس ، ولا يمكن لنا ان ندعو الناس او نلزمهم بمراعاتها او القبول بها كمبررات ثابتة او نهائية.

عالم الشك وعالم اليقين

تلك الادلة هي ادلة انسان اليوم الذي يفتقر الى اليقين. لكنه مع ذلك لا يستحق الملامة. التطورات التي جاء بها العصر الحديث تشبه طوفانا عصف بالثقافة والمعتقدات في الغرب. العلم والفلسفة والتكنولوجيا فجرت زلزالا في داخل عقل الانسان. ظهور النسبية التاريخية ولد امواجا هائلة في الفكر الانساني ، فتسارع ظهور النظريات العلمية والفلسفية وانطفاؤها حتى ضاق العالم بما يرد اليه من افكار جديدة ومتعارضة كل يوم ، ولم يبق متسع لثابت او يقين. نحن اليوم لا نشعر بالاسف لتلك الامواج الهائلة التي عصفت بالفكر الانساني ، وغيرته ولا زالت تغير فيه كل يوم ، لاننا نفهم ان ذلك التغيير المتواصل هو الذي سمح بتقدم البشرية وتطورها. ولو لم يتسامح الناس مع التغيير ويقبلوا به ، لكنا نعيش اليوم في نفس المستوى وعلى ذات المنوال الذي عاشه اسلافنا قبل قرنين او ثلاثة.

التحولات التي خضعت لها الاحكام الدينية والرؤى والافكار الجديدة التي ظهرت في هذا المجال هي مثال آخر على التحول في مجال العلوم والفكر الانساني بعامة. ولم تكن ممكنة لولا التسامح الذي اظهره المسلمون تجاه التغيير ، اي التخلي عن حكم قديم واتخاذ بديل له لانه اصح او اصلح "في هذا العصر" من نظيره الذي ينتمي الى "عصر سابق". التسامح في العقيدة هو الابن الشرعي لقبول احتمال الخطأ في المعرفة العلمية ، كما ان منهج التخطئة هذا هو الذي اطاح بالتوجهات الجزمية التي كانت رائجة فيما مضى.

تفاوت العالم الجديد مع العالم القديم اذن ، هو تفاوت بين اليقين واللايقين. هذا التفاوت هو نفسه الذي جعل "انسان العصر الجديد" في مجلس اعلى من العقيدة بعد ما كان مجلس "انسان العصر القديم" على الدوام ادنى منها. في الماضي كان الناس يقتلون من اجل عقيدتهم كما يقتلون الاخرين من اجلها ، اما انسان اليوم فهو يعتبر قتل الناس من اجل عقائدهم عملا بربريا يتنافى مع انسانية الانسان وحقوقه الطبيعية.

بطبيعة الحال فان المبررات السابقة ، لا تتنافى او تهون من حق اي فرد في الايمان ولا تعيب تبنيه لمعتقدات معينة باعتبارها يقينيات. فضلا عن ذلك فان التجاوز الذي تنطوي عليه ازاء المسألة الشديدة الاهمية ، المتعلقة بالله ورضاه وحقوقه ، هو امر غير مقبول من جانب المؤمنين. ومن هذه الزاوية فانها قد تفيد اولئك الذين ينظرون في الدين من خارجه ، او الذين لا يزالون في مرحلة البحث والتحقيق ولم يصلوا الى درجة الاعتقاد القلبي بدين معين ، او اولئك الذين يعيشون حياة غير دينية في مجتمع ملتزم كليا بالدين. اما بالنسبة للمؤمنين باحد الاديان ، او اعضاء مجتمع متدين ملتزم باحكام ومقولات دينه ، وغير مهتم بالنظر في مناقشات غير المؤمنين ، فان تلك المبررات والادلة لا فائدة من ورائها.

اتباع الديانات والمؤمنون من اصحاب اليقين يرون في حقوق الانسان نقطتين جديرتين بالتامل :

الاولى : ان حرية العقيدة (الايمان والدين) هي حق اولي وثابت للانسان. ونعرف ان العقيدة متلازمة على الدوام مع اليقين. واليقين النظري يتبعه دائما الحسم في العمل ، الذي يظهر احيانا في شكل الجهاد وامثاله. لكن مقتضيات اليقين العقيدي (اي ما يترتب عليه من حسم عملي) ليست مقبولة عند دعاة حقوق الانسان ، وهو امر يصعب على المؤمنين هضمه. يمكن بطبيعة الحال ايجاد تسوية من قبيل القول ان المباديء الواردة في الاعلان العالمي لحقوق الانسان تحترم حرية العقيدة المرنة دون العقيدة اليقينية. وهذه توصية قد تستحق السماع لكن ليس مؤكدا انها ستقبل من جانب المؤمنين.

الثانية : تحويل الحكومة الدينية ، الى ديمقراطية - دينية ، قد تعني - عند بعض الناس - غسل اليد من اليقين الديني ، والتسليم بالادلة والمبررات القائمة على ارضية عدم الايمان. اذا كان هذا المفهوم صحيحا فان قبول المؤمنين بمثل هذه الحكومة امر مستحيل.

بعبارة اخرى فان عدم الاكتراث برضا الخالق ، وتكريس الاهتمام كله لرضا المخلوقين ، يساوي تماما غض الطرف عن الحكومة الدينية ، وتبديلها الى حكومة علمانية وغير دينية. بطبيعة الحال فهذا ليس بالامر الذي يسعد المؤمنين او يرضيهم. كيف نقول بحق الانسان في تبني ما يراه من يقين ، ثم نطلب منه ان لا يعمل بمقتضيات هذا اليقين وان لا يحترم مؤدياته ومتطلباته ؟.

هذه التعارض يكشف لنا ان قبول منظومة مباديء حقوق الانسان المعروفة في العالم ليس بالامر السهل في حكومة دينية. مشكلة اي حكومة دينية ، تكمن في ان الاعلان العالمي لحقوق الانسان صيغ على ارضية مفهومية وضمن بيئة معرفية - اجتماعية لا تهتم بالدين ، او لعل واضعيه افترضوا ان المخاطبين بمضمون هذا الاعلان ، يعيشون جميعا في مجتمع غير ديني ، او لا يهتمون بحقوق الخالق.

من هنا فلن يكون من السهل على هذه الحكومة تكييف نفسها مع مباني وبنود ذلك الاعلان. التفاوت في لغة الحكام الدينيين من جهة ، ودعاة حقوق الانسان من جهة اخرى ، ناشيء من احساس اولئك بان الدعوة الى الديمقراطية الدينية ، ستقود في نهاية المطاف الى تخلي الحكومة الدينية عن الدين ، وتجريد المجتمع من الدين ، واعادة تاسيس مبانيه على قواعد اللاايمان ، ولهذا فهم يرجحون ان يبقوا غير ديمقراطيين اذا كان هذا ضروريا للاحتفاظ بدينهم.

لا ينبغي فهم ما قلناه كملازمة بين المحافظة على الدين وانكار حقوق الانسان. ما اردنا ايضاحه هو ان نمط التدين المتعارف لا يتوافق تماما مع المباديء المعروفة في الاعلان العالمي لحقوق الانسان. لكن هذا التدين يمكن ان يتوافق تماما مع مفهوم آخر او منظومة مباديء اخرى لحقوق الانسان ، تقوم على ارضية دينية او على الاقل لا تتجاهل الدين. هذا التفارق بين التدين المتعارف وحقوق الانسان ، راجع الى تفاوت في تعريف الانسان. يوفر كل دين تعريفا محددا للانسان ، ويشتق منه تعريفا مماثلا لحقوق هذا الانسان.

استبدال مفهوم حقوق الانسان يستلزم اولا استبدال تعريف الانسان ، وهذا ليس بالامر اليسير. كمثال على ذلك فان التعريف الديني يعتبر الدين حاجة للانسان ، بينما يعتبر هذا الانسان في التعريفات الاخرى مستغنيا عن الدين. من هنا نستطيع تفهم دواعي قلق العلماء والحكام الدينيين من التعريفات الجديدة لحقوق الانسان واعراضهم عنها. اذ ليس من اليسير الجمع بين المنظومة المعاصرة لحقوق الانسان ، وبين التعريف التقليدي للانسان ، بل قد يؤدي هذا الجمع الى اضعاف او تفكيك الفهم الديني التقليدي.

لكن المسألة لا تنتهي عند هذه النقطة. اذا كان مقصود الكلام هو تقرير ان مجتمعا غير ديني ، لا يستطيع اقامة حكومة ديمقراطية دينية ، او ان الحكومة الدينية لا تستطيع ضمان رضا المخلوقين ، فالكلام قد يكون في محله. من البديهي ان حكومة ديمقراطية غير دينية هي الانسب لمجتمع غير متدين. اما اذا كان مقصود الكلام هو ان حكومة ديمقراطية دينية غير ممكنة في اي وقت وباي صورة ، حتى في مجتمع ديني ، فان هذا الكلام محل شك وارتياب.

نحن نزعم ان بالامكان اقامة حكومة ديمقراطية دينية في مجتمع ديني. بل انها الخيار المنطقي الوحيد. الحق ان الحكومة الدينية لا بد ان تكون مسبوقة بمجتمع ديني ، وان تقوم على اسس تناسبه وتتناغم مع قناعاته. في مثل هذا المجتمع فان اي حكومة غير دينية هي بالضرورة غير ديمقراطية ، لانها لا تعكس ثقافته وهويته ، ولا تمثل همومه وتطلعاته. الفرضية الاولى اذن هي ان الديمقراطية الدينية مشروطة اولا بكون المجتمع متدينا. اما كون الحكومة "الدينية" ديمقراطية او استبدادية ، فهذا يتوقف على عاملين اضافيين : اولهما مقدار اعتمادها على العقل الجمعي للشعب في صناعة سياساتها ، والثاني مقدار احترامها لحقوق الانسان الطبيعية والتعاقدية.

التوفيق بين العقل والشريعة

يمكن تصور الجمع بين الديمقراطية والدين ، كواحد من النماذج التاريخية للتوفيق بين العقل والشرع.  وكل نجاح يتحقق على المستوى النظري في هذا السبيل سوف يتجلى في ميدان العمل.

فهم الدين يحتاج ضرورة الى معارف من خارج دائرة الدين. هذا امر لا يمكن لعلماء الدين اغفاله ، كما لا يستطيعون اغفال ضرورة الموازنة بين داخل وخارج الدين (اي المكون الديني والمكون العرفي والعقلي للعالم). ويرجع هذا الى حقيقة ان شريحة من الاوصاف التي ننسبها الى الدين ، مثل كونه حقا وكونه عادلا وانسانيا الخ.. تستكشف وتشخص خارج الدين (ولو اعتمدنا حصرا على التعاريف والتشخيصات التي من داخل الدين فسيكون ذلك من نوع الدور او المصادرة على المطلوب)[1]. من ناحية اخرى فان الادلة التي تقدم لاثبات حقانية الدين وعدله ، هي جميعا ادلة عقلية بشرية ، لا منزلة او منصوصة ، ولو كانت كذلك للحقها الاشكال السابق. هذه الادلة "العقلية البشرية" مؤثرة جميعا في فهم الدين. ولهذا فانه من غير المناسب واللائق بالالتزام الديني اغفال الاحكام العقلية مطلقا ، او التهوين من خطر التنافر بين الفهم الديني واحكام العقل.

هذا العقل هو الذي يثبت حقانية الدين وعدالته وانسانيته (ولولا هذا الاثبات لما كان الدين مقبولا). هذا العقل نفسه ينهض بمهمة فهم تعاليم الدين. وهو اذ يقوم بهذه المهمة ، لا يتوقع منه ولا يصح له ان يمارس دور المتفرج او المصفق ، فيقدم اوصافا ويصطنع تبريرات لاحكام دينية منفصلة عن ، او متعارضة مع الاوصاف التي نسبها سلفا الى الدين ، مثل العدالة والحق والانسانية وغيرها. اذا قبل العقل بهذا التعارض وامضاه وبرره ، فهو يقوض البناء الذي يقف عليه. ولهذا يمكن القول بان تطوير الحكومة الدينية الى ديمقراطية دينية ، يتوقف على شرط اولي هو تسييل الفهم الديني عن طريق تعزيز وتعظيم دور العقل فيه. ولا نقصد هنا العقل الفردي ، بل العقل الجمعي الحاصل من المشاركة العامة لجميع المواطنين ، فضلا عن الاستفادة من تجارب البشرية. وهذا امر لا يتيسر الا من خلال الطرق الديمقراطية.

الحكومات الديمقراطية هي الحكومات التي تجعل العقل الجمعي حكما في النزاعات ووسيلة الى حل المشكلات. اما الحكومات الدينية فهي التي تجعل الدين هو الحكم. كما ان الحكومات الديكتاتورية هي التي تفوض الحكم وحل النزاعات الى شخص الحاكم من دون مشاركة الشعب او تحكيم الشرع. من المفهوم اضافة الى ما سبق ، ان الدين (اي النص المنزل من السماء) لا يقوم ابدا بدور الحكم ، بل الحكم على الدوام هو فهم للدين مستمد من جهد عقلي. حين يسعى العقل لفهم الدين فانه يقوم في حقيقة الامر بتنسيق وملاءمة فهمه الخاص للنص او الموضوع مع بقية الافهام ، اي مفهوم الاخرين لذلك النص او موضوعه.

وقصة العبودية هي الدليل الناطق على هذا المدعى. يسعى علماء المسلمين اليوم بشتى الطرق لنفي تهمة الاستعباد والرق عن الاسلام ، ويجادلون بان هذا الامر متعلق بمرحلة زمنية خاصة ، او ان الغاءه دفعة واحدة لم يكن ممكنا ، او انه كان رد فعل على استرقاق الاخرين وما اشبه ذلك من الاحتجاجات. كل هذه التوضيحات تحتمل معنى واحدا فقط وهو ان هؤلاء العلماء قد استوعبوا حقيقة ان العبودية لا تنسجم مع حقوق الانسان وكرامته ، ولهذا فهم يسعون الى نفي ما يعتبرونه "اليوم" تهمة للدين الحنيف. هذا الفهم "الجديد" للدين هو ثمرة التواصل مع العالم ، فهم الدين ليس انشغالا بالنص في عزلة عن العالم ، بل محاولة للتوفيق بين ما يفهمه منه وما هو مفهوم ومقبول عند العرف العام على المستوى المحلي او العالمي.

على نفس النسق يمكن القول ان مجتمع المتدينين قد توصل - نتيجة للمجادلات العقلية - الى فهم للخالق افضل واكمل واصح مما كان لديه قبل ذلك. مثل هذا الادراك والفهم لا بد ان يؤثر بصورة مباشرة على نمط الحياة والحكومة. الرب المستبد هو اقوى دليل ومبرر للحكومات المستبدة ، كما ان الرب العادل الرحيم هو اقوى دليل على الحكومة العادلة الرحيمة. نتيجة هذا الكلام تتلخص في انه لا ينبغي اتخاذ اليقين الديني مبررا لتعطيل او اغفال الحاجة الى تجديد فهم الدين او الاجتهاد فيه. ان تجديد الفهم هذا يتوقف على معارف خارج اطار الدين.

 على نفس المنوال فان تحويل الحكومة الدينية الى دينية - ديمقراطية ، لا يستدعي ابدا ان تنفض يدها من دينها ، ولا ان تدير ظهرها لرضا الخالق. كي تكون الحكومة دينية فهي بحاجة الى جعل الدين هاديا وحكما في المشكلات والمنازعات. وكي تكون ديمقراطية فهي تحتاج الى تسييل الفهم الاجتهادي للدين بالتلاؤم والتناغم مع احكام العقل الجمعي. كي تكسب رضا الخالق فهي بحاجة الى المحافظة على درجة عالية من الحساسية ازاء الدين ، والسعي لفهمه على نحو اصح واكثر انسانية والسعي لهداية الخلق وفقا له. هذا الطريق يستبعد الليبرالية اما الديمقراطية فسوف تندمج مع التدين العاقل ، وسوف يحتضنهما معا العقل الجمعي. التدين والعقل هما اذن الاساس الذي تقوم عليه الديمقراطية الدينية.

حقوق الانسان

يمكن لحكومة دينية – ديمقراطية ان تؤمن مستوى رفيعا من حقوق مواطنيها الانسانية. لكن لا بد من الالتفات الى النقاط الثلاث الآتية :

الاولى : ان البحث في حقوق الانسان ليس بحثا دينيا او فقهيا تماما ، بل هو بحث كلامي – فلسفي. والاهم من ذلك انه بحث سابق للدين ، اي انه مثل البحث في الحسن والقبح والجبر والاختيار والتوحيد والنبوة ، مقدم على البحث في الفهم الديني وقبول الدين. ومن هذه الزاوية فهو مؤثر في فهم وقبول الدين.

وبالنظر لكونه بحثا خارج اطار الدين ، فان القبول بمفهوم معين لحقوق الانسان يترتب عليه قبول بالدين الذي يقبل هذا المفهوم ، كما ان رفض ذلك المفهوم يقود طبعا الى رفض الصيغة الدينية التي ترتبط به. ان تقديم البحث في حقوق الانسان على البحث في الدين سيقود الى بحث فوق ديني يتحكم الى حد كبير في تحديد الصيغة المقبولة من الدين. لو اخذنا مثال المتكلمين فان كل راي يختارونه في باب الحسن والقبح والجبر والاختيار ، سوف يستعملونه ضرورة في فهم الدين ، حتى ان اراءهم في هذا الباب ، قد تقود احيانا الى معرفة كلامية (حول الله والعقيدة) غريبة عن المعارف والافهام السائدة والمألوفة.

كما اسلفنا فان عدالة الدين وانسانيته شرط للقبول به ، بمعنى ان الدين الذي لا يهتم بالحقوق الانسانية (ومن بينها الحاجة الانسانية للحرية والعدالة) ، لا يمكن قبوله. بعبارة اخرى فانه لا يكفي ان يكون الدين حقا من الزاوية المنطقية ، بل لا بد له ان يكون حقا من الناحية الاخلاقية ايضا. ولهذا فان البحث في حقوق الانسان ليس بحثا تجميليا او اضافيا كي نؤجله. وليس بحثا ملوثا بالكفر كي نستغني عن طرحه او نعرض عن بحثه وشرحه. ولا هو من الاحكام الفرعية كي نبحثه على ضوء القواعد الفقهية المتعارفة ، ثم نعرض الحكم الذي نرجحه له غير عابئين بالاحتجاجات العقلية والاخلاقية وفوق الدينية.

ينبغي ان لا ننزلق الى التوهم بان الفتاوى والاحكام الشرعية الفرعية في باب حقوق الانسان ، يمكن استنباطها من المتون واصول التشريع الاولية ، ذلك ان الفقه متاثر بالتاسيس العقلي "الكلام" الذي يقوم عليه. وينبغي ان تكون الاسس العقلية (المباديء التي تقع خارج الدين) التي تقوم عليها الاحكام منقحة ومصححة ، فمن دون ذلك سوف لن تكون الاحكام ثابتة راسخة او واضحة ومتناغمة. كما انه ليس من السهل كشف عيوب الاسس العقلية من داخل المباحث الفقهية ، بل لعل هذا التوجه يقود في نهاية المطاف الى حصر التركيز على الداخل ، والعمل بناء على مقدمات غير متينة ، فينشغل الباحث بالموضوع عن مجادلة المقدمات ، التي هي بمثابة مسلمات وفرضيات اولية سابقة عليه.

 الثانية : تنشغل الحكومة الدينية بهموم داخل الدين ، كما تنشغل الحكومة الديمقراطية بهموم خارج الدين. ولكي تكون الحكومة جامعة للجانبين ، اي ديمقراطية دينية ، فعليها ان تجمع بين هموم داخل الدين وهموم خارجه. وما لم تؤمن تعادلا وتفاعلا مقبولا عقلا بين هذين الطرفين ، فانها لن توفي باي من الركنين: الديمقراطية او الدين.

ان تكون مهموما ، هو امر مختلف عن التسليم المحض. كلامنا لا يعني ان كل ما قاله المعاصرون في باب حقوق الانسان هو عين الحق والعدل ، او انه منزه عن النفاق والتزوير. ما نقوله هو ان المجتمعات الدينية ، بحكم كونها دينية ، محتاجة الى مثل هذه الابحاث. واذا كان حديث السابقين قد دار حول الجبر والاختيار وتكليف ما لا يطاق ، ووجدت هذه النقاشات موافقين ومخالفين. وكانت هذه النقاشات ومقبولة ورائجة من قبل المجتمع المسلم بدافع من غيرته على الدين ، فاننا اليوم محتاجون ، وبنفس المقدار الى البحث فوق الديني حول حقوق الانسان في المجتمع المسلم. ويجب ان نعتبر هذا البحث مباركا ومحترما وذا قيمة ، وان ننظر الى المدافعين والمنادين والعاملين فيه – من اجل رضا الله - بعين التكريم وان تقبل اراؤهم من جانب الحكومة وان تاخذ طريقها الى ميدان العمل والتطبيق.

اذا كانت انسانية الدين شرط لحقانيته ، فانها ايضا شرط لمشروعية الحكومة الدينية ولهذا فان مراعاة حقوق الانسان (من قبيل الحرية والعدالة.. الخ) ليست فقط معيارا لديمقراطية الحكومة بل ايضا معيار لدينيتها.

 الثالثة: القول بان الاهتمام بحقوق الانسان هو مولود الليبرالية ينطوي على جهل بالليبرالية ، كما ينطوي على ظلم للدين. ذلك ان اللييرالية تتخذ مجلسا يتجاوز هذا المكان ، بينما يتخذ الدين مجلسا ادنى منه. لا الليبرالية تستوفي جميع حقوق الانسان ، ولا الدين غريب عن هذا المفهوم. صحيح ان البحث في حقوق الانسان بالمعنى الجديد الذي نتداوله اليوم ، ظهر ابتداء بين اولئك الذين لا يلتزمون بالدين ولا يهمهم ارضاء الخالق ، او لا ينظرون الى الدين كمصدر للقيم والمعايير. ولهذا السبب فقد اقتصروا على المصادر غير الدينية في بحثهم. لكن هذا شيء ، ودعوى ان حقوق الانسان مولود لليبرالية وغريبة عن الدين شيء آخر.

نحن نعلم ان بعض المتدينين قد عارض مباديء حقوق الانسان. لكن هذا الموقف قابل للتفهم والتبرير – رغم اننا لا نقبله تماما -. ولعله يرجع الى شعورهم بالاستغناء بالمنظومة الاخلاقية التي عندهم ، عن اي منظومة جديدة او فلسفة للاخلاق مستحدثة. ولعلهم ظنوا ان الالتزام بمنظومة الواجبات والحقوق الدينية ، كفيل بصيانة جميع الحقوق التي قال بها الاعلان العالمي لحقوق الانسان. مثل هذا الاحتمال كان كافيا ربما لغض النظر عن البحث في فلسفة حقوق الانسان الجديدة.

نضيف الى ذلك ان لغة الدين والفقه هي في الاساس لغة تكليف وليست لغة حق. الشخص المتدين يفكر في تكاليفه قبل ان يفكر في حقوقه. وهو منشغل بما يريده الله منه قبل ان يهتم بما يريده هو. بعبارة اخرى فانه يبدا بالتأمل في الواجبات والتكاليف الملقاة على عاتقه ، كي يتعرف من خلالها على حقوقه المفترضة ، بدل ان ينظر في حقوقه كي يفرز منها وفي مقابلها واجباته. الاعلان العالمي لحقوق الانسان يتحدث عن واجبات مسبوقة بحقوق ، بينما يتحدث الفقه عن تكاليف وواجبات تترتب عليها حقوق. هذا المفهوم قد يؤدي غالبا الى تبريد حساسية الانسان المتدين ازاء حقوقه ، مقارنة بالتكاليف والواجبات. لكن هذا الامر لا يتنافي باي صورة مع الربط بين التدين ومراعاة حقوق الانسان ، ولا يدل ابدا على ما يدعيه البعض من تماثل بين مراعاة حقوق الانسان والتسليم بالليبرالية.

تتلخص هذه المناقشة اذن في ان الحكومة الدينية ، المنبعثة من المجتمع الديني والمعتمدة عليه ، قادرة على التحول الى ديمقراطية – دينية. لكن هذا مشروط بتامينها لرضا المخلوقين مع رضا الخالق معا ، ووفائها لخارج الدين وداخله معا ، وعرفانها لحرمة العقل والاخلاق السابقة على الدين ، بقدر عرفانها لحرمة العقل والاخلاق المسبوقة بالدين. ومع حفظ التوازن والتعدل بين الاثنين ، سنحصل على تلك الكيمياء التي ظنها البشر – بسبب غفلتهم – مستحيلة او غير مرغوبة.

 

بقية فصول الكتاب

تقــــــــــــــــــــــــــــــــديم

محمد مجتهد شبستري الديمقراطية كحاجة للحياة الدينية

محسن كديور:  الديمقراطية والديمقراطية الدينية : المباديء الاساسية                                 

عبد الكريم سروشالديمقراطية الدينية: حاكمية العقل الجمعي وحقوق الانسان

علي رضا علوي تبارمن المدينة الفاضلة الى مدينة الانسان:  الفرضيات الاولية لبحث الديمقراطية الدينية 

علي بايا : في معنى الوصف الديني للديمقراطية

توفيق السيفجدل فقهي حول الدولة الحديثة 

 

مقالات ذات صلة:

الايديولوجيا السياسية للتيار الاصلاحي في ايران

الايديولوجيا السياسية للتيار المحافظ في ايران

تطور فكرة الدولة في المجال الديني الشيعي

جدل الدين والتراث ، بعد آخر

حول اشكالية الثابت والمتغير

حول القراءة الايديولوجية للدين

حول تطوير الفهم الديني للعالم

داخل الدين.. خارج الدين

 الـدين والمعـرفة الدينـية

المحافظون والاصلاحيون: المشهد الحزبي في ايران 2005

منطق الأمس ومنطق اليوم

نسبية المعرفة الدينية

 

 

 



[1] المصادرة على المطلوب اصطلاح منطقي معناه جعل المدعى عين الدليل ، اي تحويل المدعى الذي ‏يحتاج الى دليل غيره ، الى دليل نفسه.‏ وهو لا يستقيم.  

الديمقراطية في بلد مسلم- الفصل الخامس

 النص الكامل للكتاب - الفصل الخامس

 د . علي بايا
(  5  )  في معنى الوصف الديني للديمقراطية

 

خلاصة

السؤال المركزي الذي تناقشه هذه الورقة هو سلامة او سقم مفهوم "الديمقراطية الاسلامية" . سوف ابدأ بالقاء الضوء على الخلفية التاريخية لهذا السؤال ، ثم اقدم مناقشة فلسفية لفكرة "المبنى الاجتماعي = social construct" ، حيث نشرح طبيعة المبنى وكيف يقام وما هي وظائفه . تجادل الورقة بان الديمقراطية هي واحد من المباني الاجتماعية التي يمكن ان تاخذ اشكالا واطرا شتى تبعا للوظائف والقيم التي يضفيها المجتمع عليها . لكن ايا كان شكل الديمقراطية او اطارها ، فان منظومة اساسية من الوظائف والخواص يجب ان تكون موجودة ونشطة كي يحتفظ المبنى بصفته الاصلية ، اي كونه "ديمقراطية" ولا ينقلب الى مجرد اسم ينطوي على حقيقة مختلفة . سوف نشرح ايضا ان جميع المباني الاجتماعية مثل المكائن والتقنيات التي يخترعها الناس من اجل تيسير حاجاتهم الاجتماعية تنطوي على نوعين من الامكانات . فمن ناحية يمكن النظر اليها كادوات عمل مجردة من اي قيمة او معنى اجتماعي خاص . ومن ناحية اخرى فانها كاداة او كوظيفة قد تحمل معنى خاصا او قيمة خاصة يضفيها عليها صانعها ، حينئذ فان قيمتها لا تقتصر على مكوناتها المادية ، بل ترتبط ايضا بشبكة القيم التي يؤمن بها الفرد او الجماعة التي تستخدمها . ومن هذه الزاوية فان ماكنة او تقنية ، او ديمقراطية ، يمكن – من حيث المبدأ – ان تحمل القيم المسندة اليها من جانب افراد المجتمع . تؤكد مجادلات هذه الورقة ايضا بانه طالما كان ممكنا تصور افهام متعددة للاسلام ، فانه من الممكن بنفس الدليل تصور اشكال متعددة من تركيب "الديمقراطية" و "الاسلامية" وليس شكلا واحدا . التحدي الذي يواجه المفكرين المسلمين هو تطوير تركيب مناسب للديمقراطية الاسلامية قادر على الوفاء باغراضه الاصلية ، اي اقامة نظام حكم كفء وفعال ، نظام يتناسب مع ثقافة وظروف المجتمعات الاسلامية المعاصرة ولا يقل في الوقت نفسه عن النماذج المماثلة في المجتمعات المتقدمة . في الجزء الاخير من الورقة سوف اقدم باختصار الخطوط العريضة عن نموذج مقترح للديمقراطية الاسلامية بالاستناد الى قراءة عقلانية – تحليلية للاسلام .
د. علي بايا

تمهيد

انقضى الان نحو قرن ونصف منذ ان دخل مفهوم "الديمقراطية" والمفاهيم المرتبطة به في الخطاب السياسي الايراني . منذ منتصف القرن التاسع عشر حاول دعاة الديمقراطية الايرانيون تطوير معادلات نظرية لصون حقوق الافراد وتحديد سلطة الدولة ، كما فعل ميرزا يوسف مستشار الدولة في كتابه "يك كلمه = كلمة واحدة" (1869)[1] . لكن رغم مرور وقت طويل نسبيا ، ورغم كفاح الايرانيين المتواصل لايجاد مجتمع يقوم على المساواة والمشاركة الفاعلة والمؤثرة للشعب وحاكمية القانون ، فان مكانة الديمقراطية كنظام لادارة الشأن العام لم تترسخ في المجتمع وبقيت حتى اليوم محلا للجدل .
لا يختلف الوضع – بصورة عامة - في بقية الاقطار الاسلامية عنه في ايران ، وما يصح قوله هنا يصدق هناك ، لكن وللغرض المحدد لهذه الورقة فسوف اقتصر على الاشارة الى حالة ايران كمثال . من زاوية سوسيولوجية – تاريخية فان عددا اكبر من الايرانيين المعاصرين ، من شتى الشرائح الاجتماعية يتحدثون اليوم عن الديمقراطية ويفكرون فيها ، وقد يستعملون اصطلاح "مردمسالاري" او سيادة الشعب ، وهي المعادل الفارسي المعاصر لكلمة ديمقراطية . وانعكس اتساع الاهتمام بالديمقراطية على حجم ومستوى النقاشات والاعمال الفكرية التي تنشر في ايران . وكمثال على سعة هذا النقاش ، فان مجامع العلم الديني التي طالما نأت بنفسها عن هذا النوع من النقاشات ، تحتضن اليوم نقاشات واسعة وعميقة اثمرت عن العديد من الكتب لعلماء بارزين في الدفاع عن الديمقراطية والدعوة اليها . وندرك اهمية هذا التطور بالمقارنة مع ما كان عليه الحال في بداية القرن العشرين مثلا ، حين اقتصرت مساهمة العلماء في هذا النقاش على كتاب واحد فقط يمكن اعتباره معالجة دقيقة ومتكاملة لقضية الدستور والحكم التمثيلي ، وهو كتاب "تنبيه الامة وتنزيه الملة" للميرزا النائيني[2] . بموازاة الدعوة الى الديمقراطية ، فان نقدها ايضا يجتذب العديد من الكتاب ، من رجال الدين وغيرهم ، وهم يعارضون الديمقراطية كنظام اجتماعي- سياسي ، او يركزون على تعارضها مع تعاليم الدين . فيما يتعلق بالمستوى النوعي لهذه النقاشات ، فانه يمكن القول في الجملة ان بعضها هو مجرد تدوير او اعادة انتاج للمجادلات القديمة حول الديمقراطية . لكن الى جانب ذلك ثمة معالجات ومجادلات جديدة تلفت النظر بحجمها ومستواها النوعي . بعض هذه النقاشات دارت في اطار ديني بحت ، بينما اسس الاخر مقولاته على ارضية براغماتية ، وبعضها ركز على مناقشة المسالة في اطار تاريخي بينما اختار البعض الاخر مقاربة غائية consequentialist تربط قيمة الفعل بما ينتج عنه . على اي حال فليس غرض هذه الورقة تحليل او تقييم تلك النقاشات ، بل مناقشة امكانية بناء نموذج للديمقراطية الاسلامية من وجهة نظرية – فلسفية بحتة .
1- التغيير كثابت ابدي
تنظر الفلسفة العقلانية – التحليلية الى " الواقع = reality" كشيء قائم بنفسه[3] ، مستقل عن فهم الناس له وعن الاعراف والتوافقات واللغة وما اشبه من الاطارات التي طبيعتها اجتماعية . ينقسم الواقع في هذا المنهج الى ثلاثة مجالات او عوالم على الاقل : الاول : هو عالم الاشياء المادية (الاحياء والجوامد) . الثاني : هو عالم التجربة الانسانية (الواعية وغير الواعية) . الثالث : هو عالم المنتجات الموضوعية objective للعقل الانساني ، التي تشمل اشياء مثل الكتب ، السمفونيات ، اعمال النحاتين ، الاحذية ، الطائرات ، الحاسبات ، والكثير من الاشياء الاخرى التي يمكن ضمها ايضا الى العالم الاول .
كثير من عناصر " الواقع" المصنفة ضمن العوالم الثلاثة المذكورة ليست ثابتة على شكل واحد ، فهي في حال سيولة وتغير دائم ، وهو الامر الذي يجعل حياة الانسان - بالنظر لكونه كائنا واعيا – بمثابة سعي متواصل لفهم هذه الواقعيات في شتى اوضاعها وتغيراتها ، وهو يصمم لاجل هذا مناهج جديدة ويوظف مفاهيم جديدة كي تساعده في استيعاب ثم استخدام ما يراه امامه او ما يكتشفه . هذه المناهج والمفاهيم تمثل لحظة تصميمها اكفأ وسيلة لفهم الواقع ، لكنها مع ذلك ذات طبيعة مؤقتة ، اذ ان استعمالها يؤدي بالضرورة الى اكتشاف عيوبها او نواقصها او اكتشاف جوانب اكثر كفاءة منها ، وبالتالي فانها تخضع لمراجعة مستمرة من جانب مصممها او مستعملها ، بهدف استقصاء وتصحيح عيوبها واخطائها . اكتشاف الاخطاء هو ثمرة استعمال تلك المناهج في كشف الواقع ومعالجته ، ولهذا يمكن القول ان الواقع ذاته يمثل عاملا اساسيا في تطوير المناهج التي نستعملها للتعرف عليه . تطور المعرفة هو اذن ثمرة للحوار الدائم بين العقل الانساني (والمناهج والنماذج التي يصممها) من جهة وبين موضوع عمله (اي الواقع) من جهة اخرى . في سياق هذا التفاعل المتواصل ترتقي المعرفة الانسانية ، ليس في مستواها الاول ، اي العلم بالواقع ، بل ايضا في المستويات الاعلى من المعرفة اي العلم بالعلم ومعرفة سبل الارتقاء بالمعرفة . على اي حال فان معرفة الانسان ، طبقا للفلسفة العقلانية – التحليلية ، هي على الدوام والى الابد مؤقتة وانتقالية في كل مستوياتها واشكالها [4] .
2- الفرد كمنظومة ارادات [5]
سوف نستعمل هنا مصطلح "الحالة الارادية" الذي يشير الى وضعية ذهنية عند الفرد تجعله "يريد" شيئا ، وتتمظهر تلك الحالة في اشكال ذهنية عديدة مثل العقيدة ، الرغبة ، الامل ، الميل ، الخوف ، والنية . سوف نستعمل ايضا مصطلح "الفاعل الاجتماعي" في معنى الفرد العضو في مجتمع . كل فرد ينطوي في داخله على مجموعة من الحالات الارادية . الحالات الارادية قد تكون خاصة بالفرد ، وقد تكون جمعية حين تتحد مع الحالات المماثلة عند عدد من الافراد فتتحول من تعبير فردي الى تعبير جمعي ، مثل عقيدة مشتركة او رغبة مشتركة في شيء . .الخ .
من زاوية ابستمولوجية يعتبر الفاعل الاجتماعي (الفرد) منظومة من الحالات الارادية ، هي بمثابة نظام ديناميكي تتفاعل اجزاؤه بصورة نشطة ومتواصلة ، ويؤثر كل منها على الاخر ، كما تتاثر بالبيئة المحيطة . تتالف البيئة الاجتماعية بدورها من منظومات ارادية مماثلة (فاعلين اجتماعيين) . ويظهر اثر الحالة الارادية في كونها محركا ودافعا للفرد للقيام بفعل ما او عقد علاقة مع شيء او كينونة في البيئة المحيطة . اما كيفية تفاعل الفاعل الاجتماعي مع البيئة ، فهو يرجع الى عوامل عديدة ابرزها هو التناسب بين كل حالة ارادية وبين الواقعيات الخارجية . وينظر جون سيرل الى هذا التناسب كعملية تفاعلية بين طرفين : الفرد والواقع الخارجي ، ويسمي هذا التناسب بـ "اتجاه التلاؤم = direction of fit" . طبقا لهذه الرؤية فان علاقة الفرد مع مكونات الواقع الخارجي تتحدد على ضوء التناسب بين هذه المكونات من جانب وبين احدى او بعض الحالات الارادية من جانب آخر . وعليه فان مدى التقارب او التنافر بين الذات والخارج هو تجسيد لدرجة من التلاؤم بين احد اجزاء المنظومة الارادية وبين مكونات ذلك الخارج .
تصنف الحالات الارادية من حيث المضمون الى نوعين : ارادة او نية مضمونها معرفي cognitive state ، وارادة او نية مضمونها العزم volitive state . النوع الاول يتمثل في القناعات والافتراضات والافهام والذكريات المقيمة في ذهن الفرد . وتتخذ العلاقة بينها وبين الواقع اتجاه ملاءمة العقل مع الواقع ، بعبارة اخرى فان عقل الفرد يعمل على تكييف احدى او بعض تلك الارادات مع وقائع قائمة في الواقع الخارجي او البيئة . اما النوع الثاني من الحالات الارادية فيتمثل في الميول والرغبات والمقاصد ، وتتخذ علاقتها مع الواقع الخارجي اتجاها عكسيا ، يسعى لتكييف عناصر هذا الواقع مع العقل . هدف النوع الثاني من الارادات ليس رؤية الاشياء كما هي في الخارج ، بل رؤيتها كما يحبها الفرد ، او كما يريد لها ان تكون . ويشعر الانسان بالرضى حين يتحقق التلاؤم بين مضمون الارادة وبين الصورة المعدلة التي رسمها عن ذلك الواقع ، اي حين يتغير الواقع (ماديا حقيقيا او مفهوميا واعتباريا) ليطابق الصورة الذهنية التي ارادها الفرد لذلك الواقع .
كي نفهم الحالة الارادية لفرد معين ، يجب ان نسأل : ما هي على وجه الدقة الشروط اللازمة كي يشعر الفرد بان ارادته قد تحققت وان رغبته قد اشبعت او بالعكس؟ . للجواب على هذا السؤال يجدر بنا الانتباه الى ان صورة الواقع التي تنطبع في ذهن الانسان (يمكن لنا ان نسميه فهمه او مفهومه للواقع) ليست صورة حقيقية او كاملة ، بل هي دائما تمثيل جزئي (او نسبي) للواقع او اعادة تشكيل له . السبب في التفاوت بين الواقع وصورته الذهنية يرجع الى عوامل معرفية او ثقافية او سيكولوجية تحدد قدرة الفرد على المطابقة الدقيقة بين الذهن والواقع . وكما هو واضح فان بعض هذه العوامل تتعلق بذكاء الفرد وعلمه ، وبعضها يتعلق بهويته الشخصية المستمدة من خلفيته الثقافية ، تاريخه، ميوله السياسية ، طبقته الاجتماعية ، ومستواه المعيشي ، وما الى ذلك من العناصر التي تشكل شخصيته وهويته الخاصة . بعبارة اخرى ، فان الصورة الذهنية هي اعادة رسم للحقيقة من وجهة نظر الفرد . ومع الاخذ بعين الاعتبار التفاوت بين الافراد ، فان حالاتهم الارادية ، وبالتالي تصور كل منهم للواقع او البيئة ستكون بنفس القدر متفاوتة . على انه من الانصاف القول ، ان تلك التصورات المختلفة يمكن ان تتشابه او تشترك في بعض عناصرها ، لا سيما اذا دارت حول موضوع واحد ، او كان الافراد المعنيون متقاربين ثقافيا او اجتماعيا .
اضافة الى تصنيف الحالات الارادية تبعا لمضمونها بين حالات معرفية واخرى ترتبط بالعزم ، فانه يمكن تصنيفها ايضا الى "فردية" و"جمعية" تبعا لكيفية تمظهرها ولا سيما من خلال العلاقة بين الفرد والافراد الاخرين . يعبر الفرد عن ارادته الفردية في مثل قوله: "انا اريد" ، كما يعبر عن ارادته المرتبطة والمشتركة مع الغير في مثل قوله او قولهم: "نحن نريد" . وينبغي ملاحظة ان الصنف الثاني ليس مصفوفة ارادات فردية قابلة للتقسيم ، بل هو كلٌ متوحد غير قابل للقسمة ، وهو يتخذ في ذهن الفرد شكل "نحن ننوي " او " نحن نتطلع" او " نحن نفعل" وما الى ذلك . الارادات الجمعية كما يوحي به اسمها هي نتاج الاجتماع والتوافق بين اعضاء المجتمع ، وخلافا للارادات الفردية فانها لا تولد في العزلة ، لهذا فانه يمكن ان يكون لروبنسون كروسو او حي بن يقظان مثلا ارادات فردية بينما يواصل العيش منعزلا عن العالم في جزيرته ، لكن من المستحيل ان تكون لديه ارادات جمعية .
3- المبنى الاجتماعي
الارادات الجمعية هي المسؤولة عن خلق الحقائق الاجتماعية والكينونات التي هي منتجات اجتماعية وكذلك الحقائق المؤسسية . يقصد بالحقائق الاجتماعية تلك الاشياء التي اقيمت بجهد مشترك بين اثنين او اكثر من اعضاء الجماعة الذين تولدت لديهم ارادة جمعية . وهذا لا يقتصر على عالم الانسان ، فالحيوانات ايضا تقوم بالصيد كمجموعات ، كما تشترك الطيور في بناء اعشاشها ، ويشترك النمل في جمع وخزن غذائه . فهذه الممارسات كلها هي امثلة على ما اسميناه بالحقائق الاجتماعية . هذه الاعمال المشتركة (وما يسبقها من ارادة جمعية) لا تستهدف فقط تحقيق انجاز مادي (مثل جمع الغذاء وما يشبهه) ، بل تستهدف ايضا تعزيز الاواصر التي تشد اعضاء الجماعة الى بعضهم . الحقيقة الاجتماعية اذن هي التجسيد المادي للارادة الجمعية ، سواء كانت عملا او شيئا ماديا . وهي منتج تعرفه جميع المجتمعات الحيوانية والبشرية .
ثمة مستوى ارفع من الحقائق الاجتماعية لا تقوم الا في المجتمع الانساني ، ونطلق عليها اسم الكيانات او الحقائق المؤسسية . اما علة اختصاص الجماعة الانسانية بهذا النوع فيرجع الى علاقتها الوثيقة باللغة والرمز والمعنى . فاختصاصها بالانسان يرجع الى كونه المخلوق الوحيد القادر على استخدام لغة للتخاطب او توليد رموز لتكثيف او تصوير المعاني . يقيم البشر هذه الكيانات الاجتماعية social entities او الحقائق المؤسسية institutional entities عن طريق الفرض التوافقي لوظائف معينة او تنسيب وظائف معينة الى اشياء مادية او حقائق مؤسسية موجودة بالفعل في البيئة الطبيعية او النظام الاجتماعي . من بين الكيانات الاجتماعية مثلا الزواج ، النقود ، الحكومة ، الحرب ، الجامعة ، المحكمة ، مبارة الكرة ، وما اشبه . تعتبر الكيانات التي يصنعها المجتمع شخصية (ليس لها وجود ذاتي موضوعي ومستقل) اذا نظرنا اليها من زاوية وجودية او انطولوجية ، لكنها تعتبر موضوعية لو نظرنا اليها من زاوية معرفية ابستمولوجية . في حالة النقود مثلا فان وظيفة محددة فرضت على نوع محدد من الورق او البطاقة البلاستيكية . في حقيقة الامر لا يوجد نقد او مال مستقلا عن الفاعل الانساني ، ولهذا فان النقد هو من الناحية الوجودية شخصي ونسبي ، قيمته ووجوده مرهون بالفاعل الانساني وليس مستقلا بنفسه . لكن في الوقت نفسه فان المال او النقد يلعب في المجتمعات الانسانية دورا هاما يرجع في الاساس الى كونه اداة تبادل مستقلة وقائمة بذاتها اي انه – من الزاوية المعرفية او الابستمولوجية – ذو وجود موضوعي .
يمكن تصور المعادلة العامة لخلق حقيقة مؤسسية على النحو التالي : "X يساوي Y في ظرف وعلى ارضية C" . كمثل على ذلك : السلوك الخاص بعدد من الناس (X) في فضاء معين (C) يعتبر مباراة كرة قدم (Y)، او ان هيئة معينة تسمى محكمة (X) تحصل في ظرف معين(C) على صفة جديدة تسمى محكمة عليا (Y) . لاحظ هنا ان الكيانات التي يصنعها المجتمع لا يمكن ان تخلق بواسطة روبنسون كروسو او حي بن يقظان المنعزل في جزيرته ، ليس فقط لانه يفتقر الى الارادة الجمعية الضرورية لخلق حقيقة مؤسسية ، بل ايضا لان قيامه بنسبة وظائف محددة الى الاشياء المادية لا يمكن ان تلقي على تلك الاشياء وصفا او مكانة جديدة ، لان هذا الوصف او المكانة لا تولد الا بتوافق بين اثنين او اكثر ، اي جماعة [6] .
على نفس النسق فان عددا من الافراد لا يشتركون في ارادة جمعية لن يكونوا قادرين على فرض او نسبة الوظيفة Y الى الشيء X . الشرط الضروري لخلق اي حقيقة مؤسسية / مبنى اجتماعي هو توفر درجة عالية نسبيا من التلاحم او التماسك coherence بين الارادات الجمعية للافراد . استعرنا مفهوم التماسك من الفيزياء ، والمثال الذي نعرضه للتوضيح هنا هو مثال حزمة الضوء ، فحزمة الضوء الاعتيادي تعتبر "غير متماسكة = incoherent" لان خيوط الضوء تتفرق عند انطلاقها من المصدر في كل الاتجاهات ، فالموجة الضوئية هنا غير ملتحمة الاجزاء ، بعبارة اخرى فان خيوط الضوء تلك لا تحافظ على علاقة ثابتة مع بعضها البعض ، ولذلك فانها لا تتجمع وتتكاثف لتكوين قوة ضوء موحدة وكبيرة . نتيجة لهذا فان تفاعل تلك الخيوط مع بعضها يعتبر هداما ، يلغي احدها الاخر . في مقابل هذا نجد ان ضوء الليزر يعمل بطريقة مختلفة فحزمته متماسكة ، تنطلق كعمود واحد تتحرك جميع خيوطه في نفس الاتجاه ، وبالتالي فهي تقيم فيما بينها علاقة بناءة تمكنها من اداء اعمال تعجز عنها انواع الضوء العادية .
حين تتوفر درجة عالية من التماسك بين الارادات الجمعية للافراد ، فان المجتمع سيكون قادرا على فرض الوظيفة Y على الشيء X . هذا الشيء قد يكون شيئا ماديا او قد تكون منظومة وظائف اخرى اي Y اسندت سلفا الى اشياء مادية ، فيكون الاسناد الجديد هو وظيفة جديدة بديلة عن ، او مضافة الى الوظائف السابقة .
 ان حياة المبنى الاجتماعي (المنظومة الوظيفية التي خلقتها الارادة الجمعية المشتركة) هي حياة اعتبارية وبقاؤها مشروط باستمرار الاعتبار المسند اليها من جانب الجماعة . بعبارة اخرى فان تلك الوظائف التي تمظهرت في مبنى اجتماعي او حقيقة مؤسسية هي اعتبارات اجتماعية ، وليس لها وجود مستقل عن الجماعة التي خلقتها ، ولهذا فان بقاءها واستمرارها مرهون باستمرار رغبة الجماعة فيها او ارادتهم لها .
خلافا لهذا الراي قال بعض الباحثين بان المبنى الاجتماعي ينطوي على "جوهر" وان حياته بالتالي ليست مجرد "اعتبار" ، الفيلسوف الالماني مارتن هايدجر مثلا عرف بمقولته بان التقنيات الحديثة تنطوي على جوهر . لكني ارى ان التقنية ، القديمة او الحديثة ، مثل كل المباني الاجتماعية الاخرى لا تنطوي على جوهر بل وظائف فقط . ويبدو ان الخطأ نفسه قد تكرر بالنسبة للديمقراطية ، فقد افترض بعض الكتاب ان الجوهر المدعى للديمقراطية الليبرالية يرتبط ارتباطا وثيقا بجوهر الحضارة الغربية ، وهو جوهر يتالف طبقا لهؤلاء الكتاب من الهيمنة والاستغلال . اود الاشارة الى اننا نستعمل مصطلح "جوهر" هنا في المعنى التقني المتعارف بين الفلاسفة . ايا كان الامر فان المباني الاجتماعية ، خلافا للتكوينات الطبيعية natural entities لا تنطوي على جوهر يمكن اكتشافه ، بل وظائف تسند اليها من جانب اعضاء المجتمع . ويستطيع هؤلاء الاعضاء ، ضمن حدود معينة ، اضافة او الغاء هذه الوظائف . الالكترون مثلا كموجود طبيعي ينطوي على تركيب جوهري يحاول العلماء التعرف عليه بوسائلهم ومناهج عملهم المختلفة . في المقابل فان مبنى اجتماعيا مثل البنك هو تركيب منظومي من عدد من الوظائف التي ابتكرها افراد المجتمع . من المهم ايضا التمييز بين المبنى الاجتماعي باعتباره ارادة جمعية معينة وبين تمظهراته المادية ككينونة واقعية او كواحد من امثلة الاشياء التي يتضمنها العالم الاول مثل البناية التي يشغلها البنك[7] .
قبل الانتقال الى الجزء التالي اود الاشارة الى ثلاث نقاط تتعلق بالمبنى الاجتماعي لتكملة الفائدة:
أ ) رغم ان وظائف المبنى الاجتماعي هي ابداع بشري ، فاننا قد نستعمل تعبيرات اخرى في الكلام ، فنتحدث مثلا عن "اكتشاف" هذه الوظائف . اكتشاف فرد ما لوظيفة جديدة يمكن اسنادها الى حقيقة مؤسسية قائمة ، تعادل في حقيقة الامر لفت انتباه افراد الجماعة الاخرين الى امكانية متوفرة في حقيقة مؤسسية معينة ، الامر الذي يقود افتراضا الى خلق ارادة جمعية مشتركة عند هؤلاء ، متجهة نحو الامكانية او الوظيفة الجديدة . الاموال مثلا كانت لها وظيفة معتبرة هي تسهيل التبادل الاقتصادي بين الناس ، لكن كارل ماركس لفت انظار الناس الى ان الوظيفة الحقيقية للمال ربما تكون صيانة نظام السيطرة الطبقية . على نحو مماثل يدعي ناقدو "المجتمع المدني" او "النظام الديمقراطي" بان هذه المباني تؤدي وظائف اسوأ من تلك الوظيفة الطيبة التي اسندت اليها ابتداء من جانب مناصريها .
ب ) اولئك الذين لا يشاركون اعضاء الجماعة في "ارادة جمعية" محددة ، سوف لن يفهموا وظيفة المبنى الاجتماعي الذي اقيم على ارضية تلك الارادة الجمعية ، ولن يكونوا - تبعا لذلك - قادرين على استخدام تلك الوظائف على نحو سليم . من ذلك مثلا مفهوم حقوق الانسان المعاصر والمباني التي ارتبطت به ، فذلك المفهوم وهذه المباني لا تمثل شيئا ذا معنى لاعضاء قبيلة معزولة عن العالم الجديد في غابات الامازون .
ج ) كل مبنى اجتماعي يعرف من خلال منظومة من الوظائف الاولية الضرورية ، ومن دون هذه الوظائف فانه يفقد الصفة او القيمة التي نسبت اليه . فمثلا سيارة من دون محرك او من دون مقود او عجلات ، لا يمكن ان تعتبر سيارة لان هذه الاجزاء ضرورية لقيامها بالوظيفة التي صنعت لاجلها ، ومن دونها فلا يمكن ان تقوم بهذه الوظيفة .
4- الديمقراطية
"الديمقراطية" هي واحدة من عديد من المباني الاجتماعية التي ابدعها الانسان لتسهيل حياته الاجتماعية ، ولا سيما ادارة الامور الاجتماعية – السياسية المشتركة . ومثل المباني الاخرى ، فان هذا المبنى - او الماكنة - قد خضع منذ ظهوره للعديد من التغييرات والتعديلات . خلال قرون من الزمن اضاف الانسان وظائف جديدة الى هذه الماكنة كما حذف وظائف اخرى اقل جاذبية في سبيل تحسين كفاءتها وادائها .
حدد لينز وستيبان خمسة نطاقات عمل اولية للديمقراطية الحديثة ، في كل نطاق ثمة مفهوم قاعدي (خاصية اساسية) هو مرجع لتحديد ومعايرة الوظائف التي تؤديها الديمقراطية في ذلك النطاق . هذه النطاقات والمفاهيم (الخصائص) قد لا تكون كاملة او كافية ، لكنها تعتبر ضرورية كي يتحقق وصف الديمقراطية . وهي خصائص مترابطة عضويا ومتفاعلة مع بعضها [8]:
النطاق

المفهوم القاعدي المنظم للعمل





المجتمع المدني

حرية التجمع والتنظيم والاتصال
المجتمع السياسي

المنافسة الانتخابية الحرة والشاملة
حاكمية القانون

النظام الدستوري

جهاز الدولة

اعراف بيروقراطية قانونية – محلية
المجتمع الاقتصادي

سوق ممؤسسة


الديمقراطية هي في المقام الاول نظام لادارة الشؤون العامة للدولة والمجتمع ، ومن هذه الزاوية فهي تقارن مع نماذج الحكم الاخرى مثل الجبرية ، الشمولية ، ما بعد الشمولية ، والسلطانية . تتفاوت هذه النماذج في مقاربتها لمسائل مثل الايديولوجيا ، التعددية ، القيادة ، والحركية العامة . تترسخ الديمقراطية في اي بلد اذا تبنى اغلبية سكانه نمطا حياتيا وعلائقيا يتطابق مع معاييرها ، ويمكن رؤية هذا التطابق على ثلاثة مستويات:
على المستوى السلوكي : اتفاق السكان او نسبة معتبرة منهم على حل مشكلاتهم بالطرق السلمية التفاوضية ، اي حين لا يكون في النظام الاجتماعي انشقاقات خطيرة ، كان تسعى قوى اساسية على المستوى الوطني الى فرض مراداتها او نيل غاياتها من خلال اقامة نظام قهري او اللجوء الى العنف او استقطاب تدخل خارجي للانفصال عن الدولة .
على مستوى التوجهات : اقتناع اكثرية مؤثرة في المجتمع بالسبل والمؤسسات الديمقراطية كطريق امثل لادارة الحياة الجمعية في مثل مجتمعهم .
على المستوى الدستوري : التزام جميع القوى الحكومية وغير الحكومية على السواء وعلى امتداد اقليم الدولة ، بحل خلافاتهم في اطار القانون العام وما يرتبط به من اجراءات ومؤسسات تطابق معايير الديمقراطية .
5- المباني الاجتماعية ، القيم والاعراف
ثمة عديد من المباني الاجتماعية يقيمها المجتمع على صور شتى ولاغراض شتى . ولهذا فهناك من يهتم بتصنيف هذه المباني طبقا لغاياتها والاغراض المنسوبة اليها ، او تصنيفها كوسائل وادوات عمل ، او ربما تصنف باعتبارها منظومات من التقنيات . كمثل على ذلك اذا صنفنا الكومبيوتر تبعا للغرض منه ، فسنضعه في خانة واحدة مع الات المحاسبة القديمة والجديدة . واذا صنفناه كاداة عمل فسوف ينضم الى مجموع الاجهزة الالكترونية السريعة او ما يسمى بالاوبتيكو-الكترونيك optico-electronic ، وعند تصنيفه تبعا لتقنياته فسوف يعتبر من بين المنظومات الخوارزمية المعقدة .
لا شك انه بالوسع اضافة تصنيفات اخرى للمباني الاجتماعية ، لكن على اي حال وبالنظر الى الغرض الخاص لهذه الورقة ، فسوف نركز على نوعين فقط من التصنيفات . يجمع الصنف الاول جميع المباني التي يمكن اعتبارها ادوات بحتة instruments ، بينما يجمع الصنف الثاني تلك المباني التي تلعب القيم الاجتماعية دورا محوريا في معايير تصنيفها . بعبارة اخرى سوف نتعامل مع المباني الاجتماعية باعتبارها اما ادوات عمل محايدة او ادوات مشحونة بقيم المجتمع اي غير محايدة . على سبيل المثال فان السكين يمكن ان تصنف كاداة بحتة لقطع الاجسام المادية ، كما يمكن ان تصنف على الوجه الثاني كـ "سلاح مقدس" . اذا اعتبرناها مجرد اداة ، فان السكين الصينية او الامريكية او المصرية لا تختلف عن بعضها الا من حيث فعلها (الموضوعي) كوسيلة قطع . اما اذا اعتبرناها سلاحا مقدسا فكل من تلك السكاكين تحمل قيمة قد تختلف كليا عن نظيرتها .
يمكن تطبيق نفس الوصف على الديمقراطية كمبنى اجتماعي . فمن وجهة نظر معينة ، تعتبر الديمقراطية وسيلة عمل بحتة ، مثل ماكنة تؤدي وظائف معلومة . ومن وجهة نظر مقابلة فان نفس هذه الماكنة قد تحمل معها قيما اضافها اعضاء الجماعة اليها كي تبدو على صورة معينة او تخدم غرضا معينا في ظرف خاص . من هذه الزاوية فانه يمكن تصور "نماذج" متعددة من الديمقراطية تتمايز عن بعضها من زاويتين: من زاوية وظيفية بحتة ، اي بالنظر لكونها اداة محايدة ، ومن زاوية قيمية ، اي بالنظر لكونها تحمل او تستهدف تجسيد قيم معينة . هذا التمايز يصح ايضا بالنسبة لاي مبنى اجتماعي او ماكنة اخرى . مثال ذلك السيارة التي يمكن ان تكون "بيكان" التي ينتجها مصنع ايراني يتبع تكنولوجيا الستينات البريطانية ، او تكون سيارة "مرسيدس" التي يتبع في انتاجها احدث التقنيات المتوفرة في هذا الميدان ، فالمقارنة بين السيارتين تعتمد على المستوى الفني بغض النظر عن جنسية الصانع او مكانه . لكن نفس هذه السيارات يمكن ان تحمل القيم المضافة بواسطة الفاعلين الاجتماعيين في ظروف مختلفة . في ايران مثلا يعمد السائقون ، سواء كانوا يقودون البيكان او المرسدس الى تزيين سياراتهم بمواد ترمز لمقدسات او عناصر ثقافية اخرى ، فالسيارة هنا ليست مجرد اداة بل تركيبا من الخصائص الموضوعية للماكنة مضافا اليها القيم التي تجعل الماكنة او المبنى ، سواء كان سيارة او نظاما سياسيا ، عنصرا متشابكا مع النسيج الثقافي للمجتمع اي مألوفا للمستعمل وكفؤا في نظره ، او على العكس جهازا بغيضا او قطعة ميكانيكية عسيرة على الفهم والتعامل .
مثلما توجد موديلات وانواع عديدة من السيارات ، فهناك ايضا موديلات (نماذج) عديدة من الديمقراطية . كمثال فانه يمكن الحديث عن ديمقراطيات ليبرالية او ديمقراطيات اجتماعية او ديمقراطية ليبرتارية وما الى ذلك . كل واحدة من هذه المكائن تشترك في عدد من الوظائف والخواص الاساسية التي تسمح بتصنيفها جميعا كنموذج ديمقراطي في المقام الاول ، لكنها تتمايز فيما بينها بالنظر الى كفاءتها الوظيفية instrumental او القيم المضافة اليها . لهذا السبب فانه يمكن الحديث عن ديمقراطية اسلامية او بكلمة ادق ديمقراطيات اسلامية . كل هذ المكائن التي صنفت تحت الاسم النوعي "ديمقراطية اسلامية" تشترك من حيث وظائفها الاساسية مع النماذج الاخرى للديمقراطية في عدد من الخصائص الهامة . اما عناصر التمايز بينها ، بل بين النماذج الاسلامية نفسها ، فتتمثل غالبا في القيم التي يضيفها اعضاء الجماعة التي تتبناها ، وربما بعض الوظائف غير الاساسية التي تضاف اليها او تحذف منها على يد اولئك الاعضاء . من هنا فانه يمكن تصور نموذج من الديمقراطية الاسلامية يستمد القيم الدينية المسندة اليه من قراءة عقلانية تحليلية للاسلام . كما يمكن تصور نماذج اخرى تقوم على قراءات مختلفة .
ينبغي الاشارة هنا الى ان وصف "الاسلامية" الملحق بمفهوم الديمقراطية لا يعني نقل مكون قدسي الى المبنى الجديد . المبنى المسمى بالديمقراطية الاسلامية ليس فيه اي شيء مقدس لان الوصف لا يشير في حقيقة الامر الى الاجزاء الاساسية التي يتكون منها الدين الاسلامي ، بل يشير ببساطة الى امكانية تصميم نماذج من الديمقراطية يعتمد فيها على القراءات العديدة للدين الاسلامي كمصدر محتمل للقيم التي يحملها النموذج .
6- الديمقراطيات الاسلامية كبرنامج بحث متصاعد او متناقص:
وضع العصر الحديث امام العالم الاسلامي تحديات كثيرة ، لعل ابرزها لا سيما على صعيد الادارة العامة - هو التحدي المتمثل في انتاج نموذج صالح للحكم يضمن المصالحة بين القيم المحلية والخاصة بالاسلام من جهة والقيم الكونية الحديثة من جهة اخرى . احد الاغراض الرئيسية لهذا النموذج هو استقطاب اكبر عدد ممكن من ابناء المجتمع للمشاركة النشطة والبناءة في جميع مناحي الحياة العامة وصناعة السياسات التي تقود حاضرهم ومستقبلهم . مثل هذا النموذج يمكن النظر اليه كبرنامج بحثي في حال تصاعد وتقدم . بهذه الصفة ، فان التقدم يعني التوسع المنتظم في نطاق الوظائف التي يؤديها والتوسع الموازي في الشرائح الاجتماعية التي يضمها الى قائمة المشاركين في الشأن العام .
يتماثل هذا النموذج مع النظم الديمقراطية المطبقة في المجتمعات المتقدمة (غير الاسلامية) في عدد من الوظائف الاساسية ، الضرورية للمحافظة على هويته كديمقراطية حقيقية . لكنه يتمايز عنها بمنظومة من القيم التي تعكس الاحاسيس او التوجهات الخاصة بافراد المجتمع الذين طوروا هذا النموذج او شاركوا فيه . ينبغي ان تكون هذه القيم قادرة على تحسين كفاءة واداء النظام الديمقراطي ضمن الاطار الاجتماعي الاسلامي الذي يعمل فيه النموذج ، وان تكون في الوقت عينه متوافقة او غير متعارضة مع القيم والقواعد التي تعارف العالم على ضرورتها للديمقراطية . كمثال على ذلك فانه يمكن لنموذج ديمقراطية اسلامية او دينية ان يمنع "الدعارة في الاماكن العامة" ويعتبرها امرا قبيحا ومخالفا للقيم العامة . الا ان استعمال القانون وموارد الدولة لمنع هذا العمل سيكون مقصورا على المجال العام ، اما في المجال الشخصي فان مقاومة هذا النوع من الاعمال سوف يقتصر على النصح والارشاد والاساليب الاقناعية الاهلية وليس قوة الدولة . بل يمكن القول انه حتى في المجال العام فان حقوق الافراد المدنية والدستورية ستبقى مصانة ما لم تتعارض مع القانون .
بالمقارنة مع النموذج الانتقالي المتصاعد للديمقراطية الاسلامية ، يمكن ايضا تصور نماذج متناقصة . لعل المائز الاساسي لنموذج من هذا النوع هو ان القيم الدينية المضافة الى الماكنة الديمقراطية هي قيم انحصارية او طاردة exclusivist لا تسمح بالتعدد والتنوع ، ولهذا فهي ربما تبرر التمييز ضد شرائح اجتماعية معينة او تعاملهم كمواطنين اقل درجة من غيرهم . مثل هذا النوع من القيم المضافة يؤدي في نهاية المطاف الى انتاج نموذج يختصر مشاركة المواطنين في الشان العام ، كما يمسخ الهوية الاصلية للديمقراطية ويحولها الى نوع شبيه بديمقراطية خاصة باولئك الذين وضعوها في عزلة عن باقي الجمهور ، اي ديمقراطية للنخبة الحاكمة او ما يشبه النظام النخبوي الاوليغارشي .
7- الديمقراطيات الاسلامية والتقييم النقدي
كي تواصل تقدمها ، ينبغي ان تخضع الديمقراطيات الاسلامية ، مثل جميع المباني الاجتماعية الاخرى ، لتقييم نقدي متواصل على المستويين النظري والتطبيقي . على المستوى النظري يجري تقييم الوظائف المختلفة والمكونات القيمية لكل من هذه النماذج بالنظر الى الاطار الاجتماعي الذي تطبق فيه . السؤال الذي يجب ان يقود عملية التقييم هو : الى اي حد تساهم كل من الوظائف والمكونات القيمية المنسوبة الى النموذج في تحسين كفاءة ادائه العام . وهل ثمة حاجة الى اضافة وظائف او قيم اخرى الى النموذج القائم لتعديل او تحسين ادائه ؟ . اما على المستوى التطبيقي فان التقييم يتناول ذات الوظائف والقيم بالنظر الى النتائج غير المرغوبة التي تتكشف عند تطبيق النموذج او بعض جوانبه .
ربما يعترض البعض على نقد القيم والاعراف بالنظر لارتباطها باطارها الاجتماعي- الثقافي الخاص بها ، اي لان حساسيتها تتعلق بهذا الاطار خاصة . الا ان المنهج الذي نتبعه يرى امكانية اخضاعها للنقد والتقييم . تنظر الفلسفة العقلانية – التحليلية الى القيم والاعراف كموضوعات عينية objective قابلة للتحليل والتقييم على هذا الاساس . بعبارة اخرى فان المنهج لا يأخذ بعين الاعتبار خصوصية القيم او ارتباطها بالاطار الاجتماعي كمبرر لحمايتها من التقييم النقدي ، ذلك انها موجودات تنطوي على جوانب موضوعية قابلة للنقد بالنظر الى هذه الجوانب على الاقل ، اضافة بالطبع الى الوظيفة التي تؤديها او التي يراد لها ان تؤديها . من بين الادوات المفهومية التي تستعمل في تقييم الاداء الوظيفي والقيمي لاي من نماذج الديمقراطية الاسلامية ، ثمة اثنان يستحقان الذكر على وجه الخصوص : الاول هو ما يسمى بـ "منطق الحال =the situational logic "[9] ، اما الثاني فهو "التجربة الفكرية = thought experiments "[10] .
السؤال الذي ربما يطرح نفسه هنا : ماذا نفعل اذا ظهر تعارض بين الخواص الاصلية لماكنة الديمقراطية والمنظومة القيمية التي اضافها المجتمع على تلك الماكنة ، ولم يمكن تسويته من خلال المساومة او النقاش او اي وسيلة اخرى للتسوية ؟ . ما هو المعيار الذي يتخذ حينئذ للخروج من المأزق ؟ . مثل هذه الوضعية الافتراضية يمكن اخذها بعين الاعتبار عند تبني واحد من نماذج الديمقراطية الاسلامية .
للاجابة على هذا السؤال يمكن مقارنة المشكلة بتلك التي اشار اليها الفيلسوف الالماني ايمانويل كانت حين تحدث عن كيفية الخلاص من الشك المطلق . طبقا لكانت فان للشكاك دور عظيم الاثر في جعلنا واعين وحذرين من التساهل المعرفي . لكن نظرا لانه لا يمكن استبعاد الشكاك المطلق من الميدان او الرجوع الى الاستدلالات العقلية ، فانه حيثما تحول الدور الايجابي للشكاك الى دور هدام ، وتغير دوره من المساعدة في التخلص من الانزلاقات المعرفية الى عائق دون كسب معرفة جديدة ، عندئذ فان العقل يدعونا لصرف النظر عن راي الشكاك وحل المشكل بالرجوع الى معايير براغماتية . العودة الى الموازين البراغماتية هي فعل العقل حين يصل الى طريق مسدود وهي سنة راسخة في الفلسفة .
على نفس الاساس فانه يمكن المجادلة بانه في حال ظهر ان بعض القيم المضافة هي عائق ومعطل لماكنة الديمقراطية ، فانه من العقلاني الرجوع الى المعايير البراغماتية لتمكين الماكنة الديمقراطية من القيام بوظيفتها الاصلية اي ادارة الشأن العام للمجتمع . هذا يعني اعطاء الاولوية في العمل للماكنة على حساب القيم المضافة .
جدير بالذكر هنا ان مثل هذا الموقف له سوابق في التراث الاسلامي ، ومن بين الامثلة القريبة زمنيا هو الموقف الريادي الذي اتخذه اية الله الخميني حين اعلن في 1988 بان صيانة النظام السياسي للبلاد لها اولوية على اي حكم شرعي آخر . هذه الفتوى تعتبر مثالا اخر على هذا النوع من الاستدلال العقلاني، اي الرجوع الى الحلول البراغماتية حين يستعصي التوصل الى حل امثل . يمكن القول اذن انه طالما كانت الوظيفة الاصلية للديمقراطية هي تسيير امور الاجتماع ، وان التجسيدات الواقعية للقيم المجردة انما تظهر في اطار هذا النموذج ، فان التعارض الذي لايقبل الحل بين طرفي هذا النموذج ينحل باعطاء اولوية لخواص الديمقراطية نظرا الى ان هدفها الاصلي هو حفظ الاجتماع في المعنى العام للكلمة .
8- حدود الاسلامية
نصل الان الى سؤال يبدو ضروريا : الى اي حد يمكن استعمال نسبة "الاسلامية" في وصف الاشياء ، المباني الاجتماعية ، والكيانات ؟ . هل يمكن مثلا القول بوجود بنك اسلامي او نظام مصرفي اسلامي او اقتصاد اسلامي او تقنية اسلامية او علم اسلامي ، مثلما وصفنا نموذجا من الديمقراطية بانه ديمقراطية اسلامية ؟ . هل هناك حدود نهائية لمثل هذه النسبة ، ام ان كل شيء يمكن اسلمته بالقاء صفة "الاسلامي" عليه ؟ .
دعنا نبدأ بالعلم . ورايي انه لا يصح القول بعلم اسلامي او صيني او امريكي او ما اشبه . العلم عبارة عن منظومة من الفرضيات ، النماذج ، النظريات التي صيغت على يد البشر من اجل فهم الاشياء والتركيبات ومسارات العمل الخ . . التي تشكل بمجموعها ما نسميه بالواقع او الواقعي reality . العلم بالنسبة للباحث يشبه شبكة يصممها الصياد ويطرحها في الماء كي يصطاد السمك . المقولة العلمية ناظرة اساسا الى هذا الواقع الذي يعتبر ، طبقا للفرضية الاولية عند الفلاسفة الواقعيين realists ، مستقلا عن الباحث . في هذا الاطار فان المقولة العلمية حول واقع معين لا تعتبر كشفا قطعيا لحقيقته ، بل رايا قابلا من حيث المبدأ للتفنيد ، اليوم او غدا . طالما بقيت المقولة صامدة امام النقد ، فهي تعتبر علمية سواء كان الذي توصل اليها عالم مسلم او صيني او امريكي او غيرهم ، اما اذا جرى تفنيدها فسوف تخرج من دائرة التراث الموصوف بالمعرفة العلمية ، حتى لو كانت – في نظر مؤرخي المعرفة - في غاية الاهمية كموضوع قائم بذاته او كحلقة في تسلسل تاريخي . لهذا مثلا فان النموذج الفلكي الذي صممه الفلكي العربي علاء الدين ابن الشاطر ، والذي يقال انه الهم كوبرنيكوس ، لا يسجل كمنظومة مقولات علمية وان كان مثبتا كمحاولة قيمة ضمن تاريخ العلوم . والامر نفسه يقال عن نظرية الفلوجستون التي اقترحها العالم الالماني جورج شتال .
لكن يختلف الحال في التقنية ، فهي تمثل بنية قابلة لحمل صفة "الاسلامية" . رغم العلاقة الوثيقة بين التقنيات والعلوم الطبيعية ، الا ان الاثنين يتمايزان في جوانب عديدة : فهما اولا يختلفان في الغايات . غاية العلوم هو معرفة الواقع وتفاصيله ، اما غاية التقنية فهي التنبؤ بالتغير في هذا الواقع والسيطرة عليه . وبينما تعمل النظريات العلمية مستقلة عن الظرف الاجتماعي او البيئي الخاص الذي تجري فيه ، فان التقنية والهندسة شديدة العلاقة بهذا الظرف وهي حساسة لمتغيراته context-sensitive . ولهذا السبب ايضا فان معايير التقدم المستخدمة في كل من العلوم والتقنية مختلفة هي الاخرى . في حالة العلوم فان معيار التقدم هو الاقتراب من المعرفة الحقيقية بالواقع ، وهذا بدوره يتحق من خلال سلسلة متواصلة من الافتراضات المؤقتة او الانتقالية تقود الى ما هو ارفع منها وهكذا . اما في حالة التقنية فان المعيار الرئيسي للتقدم هو النجاح المشهود في حل المشكلات العملية . من ناحية اخرى تتسم مسيرة العلم بالتكامل التدريجي ، كما ان مقولاته تميل الى الموضوعية والتعميم ، اما في التقنية فان المعرفة الضمنية tacit knowledge تحظى باهمية اكبر ، ولهذا السبب فانه من العسير تصور مسيرة تكاملية في اطار التقنية .
التقنيات والمنتجات التقنية وجميع المباني الاجتماعية الاخرى تختلف عن العلوم في جانب اخر مهم: خلافا للنماذج والفرضيات العلمية ، فان صياغة وتطوير التقنيات والمباني لا تستهدف اشباع فضولنا العلمي وزيادة معارفنا ، بل تستهدف اشباع حاجاتنا العملية . وسواء كانت هذه المباني والتقنيات منتجات عقلية موضوعية كما هو الحال في الكائنات التي صنفناها ضمن العالم الثالث ، او كانت اشياء مادية كما هو الحال في الكائنات التي صنفناها ضمن العالم الاول ، فان وجودها يدين في كلا الحالين الى التوافق بين افراد الجماعة الذين خلقوها او استعملوها . هؤلاء الافراد هم الذين اسندوا الوظائف المحددة التي تؤديها هذا المنتجات/المباني ، وهم قد يغيرون هذه الوظائف من خلال تعديل التوافقات القائمة بينهم . وتستطيع التقنيات او المباني الاجتماعية احتمال هذا التغيير نظرا لما تنطوي عليه من ثنائية وظيفية ، اي كونها ادوات بحتة pure instruments من ناحية وحوامل للقيم المسندة اليها من جانب الجماعة من ناحية اخرى . في هذا الاطار فقد يمكن تصور العديد من التقنيات المحملة ثقافيا ، مثل التقنية الاسلامية او الصينية او الافريقية او الامريكية الخ .
يمكن تطبيق نفس المعادلة في مسألة "البنك الاسلامي" او النظام المصرفي الاسلامي" . البنك هو مبنى اجتماعي ، ماكنة لتيسير بعض الوظائف الاجتماعية . وبهذا الاعتبار فانها تنطوي على جانبين ، فهي من جهة اداة بحتة ، وهي من جهة اخرى حامل للقيم المضافة اليها من جانب افراد الجماعة في ظرف معين . في حالة البنك الاسلامي فانه يمكن تصور نظام مصرفي يحمل القيم الاسلامية ، بمعنى ان قراءة تلك الجماعة للاسلام او تفسيرها لقواعده يمكن ان تتخذ اساسا لتحديد المبررات التي اوجبت قيام تلك الماكنة /البنك والاغراض المستهدفة منه .
اما بالنسبة لـ "الاقتصاد الاسلامي" فالمسالة اكثر تعقيدا وهي تتطلب المزيد من الشرح . يصنف علم الاقتصاد ضمن زمرة العلوم الاجتماعية التي توصف بانها علوم ذات وجهين : فهي من جهة تتماثل مع العلوم الطبيعية في ان هدفها هو اكتشاف قوانين الحركة في المجتمعات . ومن جهة اخرى فهي تماثل التقنية من حيث اعتمادها على التنبؤ وكونها تستهدف التحكم في مسارات التغير في الحالات الاجتماعية . وهذا هو السبب الذي يبرر احيانا وصف العلوم الاجتماعية بانها "تقنيات اجتماعية" .
على ضوء ما ذكر انفا ، فانه يمكن النظر الى الاقتصاد من زاويتين مختلفتين . من زاوية كونه فنا يماثل التقنية ، فهو مؤهل لاكتساب خواص الماكنة ، ومن بينها قابليته لاستيعاب وحمل القيم المسندة اليه من جانب الجماعة التي تستخدمه في ظرف خاص . وبناء عليه فان قيام مبنى اجتماعي تحت اسم "الاقتصاد الاسلامي " هو امر ممكن . من الزاوية الثانية ، اي كونه مماثلا للعلوم النظرية فان مقولاته تتسم بكونها عامة وغير قابلة للتخصيص ، اي مستقلة عن الظروف الموضوعية ، فان الحاق وصف الاسلامية او غيره به ، لن يكون ذا معنى .
9- خلاصة وتصور لنموذج مقترح
حاولت المناقشات السابقة التاسيس لدعوى ان صياغة نموذج للديمقراطية الاسلامية ليس امرا مستحيلا . لكن هذا يثبت امرا واحدا فقط وهو امكانية تركيب كينونة من هذا النوع ، بغض النظر عن توفر القابلية الفعلية لتركيب تلك الكينونة . بعبارة اخرى فان ما جادلنا حوله هو امكانية الوجود ، بغض النظر عن امكانية الايجاد . دعنا اذن في هذه الفقرة الختامية نسعى لوضع الخطوط العريضة لنموذج مقترح للديمقراطية الاسلامية يمكن تبنيه من جانب الفاعلين الاجتماعيين في اطار اجتماعي اسلامي متقدم فكريا مثل ايران .
نفترض اولا ان العديد من الجوانب الوظيفية لهذه الماكنة الديمقراطية في هذا الاطار المجتمعي الخاص سوف تماثل تلك التي تؤديها الماكنات الاخرى المستعملة في الديمقراطيات الحديثة . نفترض ايضا ان المكونات القيمية لهذه الماكنة سوف تحدد على ضوء قراءة عقلانية – تحليلية للاسلام . تنظر المدرسة العقلانية – التحليلية الى العقل ككون مستقل في عمله وكسلطة قائمة بذاتها ليس فوقها سلطة اخرى . القران الكريم والسنة النبوية يمكن فهمها فقط من خلال عملية تفسير متواصلة يمارسها العقل المستقل ، غرضها المحافظة على الجسر الذي يربط بين محتوى النص الثابت وواقع الانسان المتغير . رغم ان العقل يعمل مستقلا ، الا انه – من حيث التكوين – يحمل العديد من الصفات والهموم الخاصة بالبيئة الاجتماعية لصاحبه التي تمثل بمجموعها جزءا مما نطلق عليه اسم "البيئة العقدية الاسلامية = Islamic belief-ecosystem"[11] . البيئة العقدية ، مثل الانظمة البيئية الطبيعية ، هي انظمة دينامية حركية تتفاعل بنشاط مع العوامل التاريخية والجغرافية . ومن هذه الزاوية فهي انظمة متنامية ومتوسعة في مكوناتها الداخلية وفي تمظهراتها الخارجية . ومع توسعها ينضم الى تكوينها اعضاء جدد ، اي "ارادات" سواء فردية او جمعية تتفاعل فيما بينها ومع البيئة الاوسع .
يعتبر تلاميذ الفلسفة العقلانية – التحليلية الايمان موضوعا شخصيا . وطبقا لهذه الرؤية فان التفاعل بين الايمان والحياة يتجلى من خلال ضم الفرد المؤمن لقوته الفكرية (العقل) الى تجربته الروحية واستخدامهما معا في تعزيز فهمه واستيعابه وتمثله لعالم المقدس . يؤمن اتباع الفلسفة العقلانية – التحليلية بوجود كائن مقدسsacred Being يسعون لاستكناه ذاته وصفاته من خلال تطوير فرضياتهم ونماذجهم التحليلية . وعلى نفس النسق فانهم يعتبرون الدين والتقاليد الدينية جزءا هاما وجوهريا من الاطار الحيوي الذي ينتمون اليه ، ويؤكدون على المراجعة المتواصلة لفهمهم الراهن للدين والتقاليد الدينية على ضوء التجارب المتواصلة وما تقود اليه من معرفة جديدة . الفرضية التي تقود هذه الممارسة هي ان المراجعة المستمرة سوف تساعد في تحسين استخدامهم للموارد التي تتوفر في اطارهم الحيوي . يتبني اتباع المدرسة العقلانية – التحليلية التعدد والتنوع ، ويعارضون الانظمة الايديولوجية . وفيما يتعلق بادارة الشأن العام الاجتماعي او السياسي ، فان المشكلة الرئيسية لا تكمن عندهم في العثور على الافراد الاصلح او الاكثر تقوى لتولي القيادة ، بل في صياغة وتطبيق نظام عقلاني وكفؤ ، وايجاد مؤسسات او هياكل تيسر اقامة مجتمع عادل . للوصول الى هذه الغاية ، فانه يمكن الاستفادة من الموارد المتوفرة في الاطارات الحياتية التي ينتمي اليها العقلانيون – التحليليون كمصدر غني للقيم والافكار ، بشرط اخضاعها للمراجعة والنقد الدائم .
اذا اردنا تطبيق المنظور العقلاني- التحليلي على ظرف ايران الخاص ، فان صيانة النظام الاقليمي للبلاد هو شرط مسبق لاي مسعى يستهدف اقامة نموذج ديمقراطي اسلامي . في هذه الاطار فان التركيبة المتنوعة لسكان البلاد دينيا ولغويا وثقافيا ، تمثل تحديا عسيرا امام التوصل الى اجماع على المباديء الاساسية التي سيقوم عليها النظام الديمقراطي . سوف يتطلب الامر جهدا كبيرا ومركزا لصياغة وترسيخ اعراف ديمقراطية ، ومناهج عمل ومؤسسات ، تؤمن وتدعم التحول نحو نظام ديمقراطي قابل للحياة والاستمرار .
نموذج الديمقراطية الاسلامية المقترح يستهدف اقامة آليات للمشاركة والتمثيل الشعبي ، وصياغة معايير مناسبة لاختبار وتقييم عمل المؤسسات السياسية على ضوء القيم الاسلامية المعقولة . من هنا فان هذا النموذج سوف يشجع مثلا التفاعل الانساني المباشر والقائم على ارضية المساوة كوسيلة ضرورية لتعزيز الاحترام والتقدير المتقابل ، وتعزيز الرابطة الروحية بين المواطنين ، واستيعاب المشتركات التي تجمع بينهم . للوصول الى هذه الغاية سوف نحتاج الى تشجيع التبادل الثقافي بين المجموعات الاثنية والثقافية المختلفة وهو امر يتطلب بالتاكيد ضمان التعددية الثقافية في اوسع تجلياتها . كما يتطلب تشجيع الاعتماد على الحوار كوسيلة لتكوين اجماع وطني يتجلى في اعمال مشتركة وبحث عن حلول للمشكلات بالتعاون بين المواطنين والحكومة وذوي الخبرة .
يوجه نموذج الديمقراطية الاسلامية المنظور اهتماما فائقا للحقوق الاساسية للانسان والحريات المدنية ، كما يضمن مساحة عمل مناسبة لمنظمات المجتمع المدني كي تلعب دورها الضروري في تيسير العلاقة بين الافراد من جهة وبين القوى السياسية والاقتصادية من جهة اخرى ، وكي تسهم في حماية حريات الافراد وحقوقهم . كما يفرد اهتماما خاصا بالقيم الاسلامية مثل احترام الاخلاقيات العامة والاعراف المقبولة بين عقلاء العالم ، اضافة الى الرعاية المتبادلة والمسؤولية المشتركة للمواطنين عن بعضهم وعن النظام البيئي الذي يعيشون في اطاره .
بالنظر لظرف ايران الخاص ، نعتقد ان بوسع الدولة ان تلعب دورا محوريا في صياغة وترسيخ نموذج الديمقراطية الاسلامية المقترح . كما ان المجتمع المدني قادر على القيام بدور فعال في تحقيق هذه الغاية . فيما يتعلق بالتنظيم الحكومي ، فان وجود نظام قضائي كفء ومستقل يمثل ضرروة اولية لنجاح النموذج وتطوره . كما تلعب الصحافة دورا هاما ، ويمكن لها ان تساهم في بناء وتحسين كفاءة النموذج من خلال مراقبة ادائه فضلا عن كونها مصدرا للمعلومات . وهي من هذا المنظور وسيلة فعالة لتطوير مشاركة شعبية غنية وذات تاثير . والشيء نفسه يقال عن المفكرين ، الدينيين وغير الدينيين ، فهم يتحملون جانبا مهما من المسؤلية عن تمهيد الطريق امام النموذج الديمقراطي المقترح كي يترسخ ويتكامل . يمكن للمفكرين ان يلعبوا دورا محوريا في خلق تفاعل بناء بين ما يتخلق في فضاء العالم من افكار جديدة وما تكشف عنه التجربة الديمقراطية من حاجات ومشكلات وامكانات جديدة في الاطار المحلي . بالنظر لكونه نموذج بحث تجريبي ، فان نجاح النموذج الديمقراطي الاسلامي يتوقف الى حد كبير على الافكار الجديدة الضرورية لحل المشكلات غير المتوقعة التي لا بد انه سيواجهها عند تطبيقه ، وفي هذا المجال فسوف يكون للمفكرين اليد الطولى في النقد والمراجعة والتصحيح .
الغرض مما ذكر اعلاه هو تحديد الخطوط الاولية لبرنامج البحث المقترح . لكن يجب الاقرار بانه رغم هذا الهدف المتواضع ، فان الخطوط التي رسمناها تحتوي على كثير من الفراغات . على اي حال ، وبالنظر لان اي برنامج بحث هو في الاعم الاغلب نشاط جمعي ، فان تلك الخطوط هي مجرد اضاءات على الطريق الى صياغة نموذج اشمل واكمل .



[1] كان ميرزا يوسف مستشار الدولة واحدا من المفكرين الايرانيين البارزين في القرن التاسع عشر . عرف كدبلوماسي كفء وعمل ممثلا لايران في باريس بين 1865-1869 . كتابه "كلمة واحدة " هو ترجمة فارسية لقانون نابليون . قدم هذا الكتاب نصا قانونيا اوربيا حديثا الى القاريء الايراني ، لكن اهميته ترجع – اضافة لذلك – الى محاولة الكاتب اظهار ان الفصل الخاص من قانون نابليون المتعلق بالحقوق المدنية ، وهو ايضا جزء من الدستور الفرنسي ، متناغم تماما مع تعاليم الاسلام . بعبارة اخرى فقد حاول مستشار الدولة عرض ايات قرانية او ادلة من تراث الرسول والائمة تطابق تماما محتوى بنود القانون . وترك الكتاب اثرا عظيما على تفكير الاجيال التالية من المفكرين الدينيين في ايران كما لعب دورا هاما في النقاشات الفكرية حول دستور المشروطة لعام 1906 . انظر مستشار الدوله ، ميرزا يوسف : يك كلمه (كلمة واحدة) (1869) ، تهران 2003
[2] كان الميرزا محمد حسين النائيني من ابرز الفقهاء المؤيدين للدستور خلال الثورة الدستورية وكتب كتابه في الرد على نقادها ومعارضيها ، وحاول فيه ايجاد تسوية بين القيم الاسلامية من جهة وبين المفاهيم السياسية الحديثة مثل الدستور ، حقوق الانسان ، الحرية وما اشبه . غني عن القول ان النائيني قد تاثر بعمق بكتاب مستشار الدولة المذكور اعلاه . حول الثورة الدستورية ودور النائيني وارائه ، انظر السيف ، توفيق : ضد الاستبداد ، بيروت 1999
[3] تستعمل كلمة "الواقع" في اللغة العربية للدلالة على ما هو اوسع من حادثة او موضوع او شيء محدد . وتستعمل في هذه المقالة في معنى يقارب تعبير "الواقعي" حيث تصف الاشياء المادية وغير المادية كموضوعات مستقلة بغض النظر عن قيمتها او وظيفتها .
[4] "المعرفة" المقصودة هنا هي تلك القابلة للتحصيل والتقييم من جانب عامة الناس اي المعرفة الموضوعية وليس ما يطلق عليه المتصوفة اسم المعرفة المباشرة او المعرفة الحضورية .
[5] يعتمد هذا القسم وتاليه بشكل رئيسي على :      Searle, John, Mind, Language, and Society, London, 1999
Searle, John, The Construction of Social Reality, London, 1995 .
Paya, A ., “Dialogue in the Real World,” International Journal of Applied Philosophy, Vol . 19, No . 2, 2002
[6] يمكن عرض مثال معاكس على النحو التالي : يستطيع روبنسون كروسو او حي بن يقظان تحديد جزء من جزيرته وتسميته "معبدا" . هذا المكان سياخذ مكانة مميزة من زاوية ان روبنسون او حي ربما يغير سلوكه الخارجي في اي وقت يدخل هذا "المعبد" . حالته الروحية الداخلية ربما تتغير ايضا بموازاة ذلك كنتيجة للوظيفة الجديدة المسندة الى تلك القطعة من الارض . لكن على اي حال فان اسناد وظيفة "المعبد" في هذا المثال لا يبدو انعكاسا حقيقية لارادة فردية بحتة . والسبب في هذا ان روبنسون او حي ، حين يمارس العبادة ، فانه يضع نفسه – افتراضا – في حال اتصال مع ارادة اخرى ، هي الكائن الاعلى الذي هو موضوع العبادة .
[7] يمكن مع شيء من التسامح مماثلة النموذج المستعمل هنا مع مفهوم العلل الاربع التي اقترحها ارسطو . من هنا فانه يمكن مثلا ربط الارادة الجمعية التي تشكل المبنى الاجتماعي مع مفهوم العلة النهائية عند ارسطو . كما يمكن ربط الفاعل الاجتماعي (الفرد او الافراد) الذين يخلقون فعليا ذلك المبنى المعين ، مع العلة الفعلية المؤثرة . ويمكن ربط التمظهر المادي لهذا المبنى مع تركيب من العلة الشكلية والمادية .
[8] انظر: Linz & Stepan, Problems of Democratic Transition and Consolidation, Baltimore, 1996
[9] انظر بهذا الصدد: Popper, Karl: Objective Knowledge, Oxford, 1972
[10] انظر بهذا الصدد: Sorensen, Roy: Thought Experiments, Oxford, 1998
[11] انظر بهذا الصدد:
 Paya, Ali: "Muslim Identity and Civil Society" in Bahmanpour & Bashir(eds), Muslim Identity in the 21st Century, London, 2000



بقية فصول الكتاب


تقــــــــــــــــــــــــــــــــديم 
http://talsaif.blogspot.com/2011/10/1.html
1)  الديمقراطية كحاجة للحياة الدينية                                                         محمد مجتهد شبستري
http://talsaif.blogspot.com/2011/10/blog-post_8707.html
2) الديمقراطية والديمقراطية الدينية : المباديء الاساسية                                 محسن كديور
http://talsaif.blogspot.com/2011/10/blog-post_9060.html
3) الديمقراطية الدينية: حاكمية العقل الجمعي وحقوق الانسان                           عبد الكريم سروش
http://talsaif.blogspot.com/2011/10/blog-post_6931.html
4) من المدينة الفاضلة الى مدينة الانسان :
 الفرضيات الاولية لبحث الديمقراطية الدينية                                             علي رضا علوي تبار
http://talsaif.blogspot.com/2011/10/blog-post_7868.html
5) في معنى الوصف الديني للديمقراطية                                                  علي بايا
http://talsaif.blogspot.com/2011/10/blog-post_24.html
6) جدل فقهي حول الدولة الحديثة                                                          توفيق السيف
http://talsaif.blogspot.com/2011/10/blog-post.html      


الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...