22/09/1994

من المجتمع الطفل الى المجتمع المدني: تأملات في معاني اليوم الوطني


في هذه الايام ينقضى على توحيد المملكة وتشييد بنيانها نحو ثلاثة ارباع القرن ، وبين يومنا هذا وذلك التاريخ مرت على البلاد تطورات واحداث تركت بصمات واضحة على مسيرتها ، وعلى تشكيل صورتها الحاضرة .

ان النتاج النهائي لتصارع المؤثرات المختلفة ، الارادات والعوائق ، المكاسب والاخفاقات ، هو في حقيقة الامر المحطات الاساسية لحركة التاريخ  ، وهذه وتلك هي مانسميها اجمالا بالتاريخ ، الذي ينبغي ان يوضع في يوم من الايام على طاولة البحث لاستكشاف العوامل التي ساعدت على اكتساب القوة والنجاح في مواجهة تحدي البقاء والاستمرار وتلك التي اعاقت او تعيق قابلية التطور والاستجابة لتحديات الزمن وتحولات الداخل والمحيط ، ربما لايرحب جميع الناس بدراسة كاملة ، لكن من الضروري على اي حال تسليط الضوء على العوامل القابلة للتأمل ، طمعا في معرفة افضل للذات ، وتشخيص افضل للامكانات التي بيدنا وتلك التي نفتقر اليها .

من السهل ملاحظة ان القرار السياسي الرسمي ، كان هو المحرك الاساس لمعظم التطورات التي مرت بها البلاد ، في زمن الشدة المنصرم كما في زمن الرخاء المعيشي الراهن ، وفي الاعم الاغلب من الحالات كان المجتمع في دور المتلقي والمتأثر بنتائج القرار الرسمي ، وربما امكن الاشارة  الى عدد معدود من التطورات ، لعب المجتمع السعودي فيها دور الفاعل الرئيس ، الا انها قليلة الى الحد الذي يصعب معه اعتبارها ذات تاثير بالغ في تاريخ البلاد .

على ان القرار لايأتي من فراغ ، والفكرة التي تشكل خلفيته لاتتبلور بقوة العقل المجرد عن التاثيرات المختلفة ، الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، في داخل البلاد او في محيطها الاقليمي ، بل وحتى في النطاق الدولي الذي نتعامل معه على أي من تلك الاصعدة ، وبالتالي فانه من الممكن القول بان الارادة السياسية الرسمية ، ليست معزولة تماما عن المحيط الذي تعمل فيه ، مع ان هذا التصوير لايصلح دليلا كافيا للقول بوجود ارادة مجتمعية فاعلة على المستوى الوطني ، مستقلة عن المؤثر الرسمي المباشر ، لهذا فان المنطق يدعونا الى الاقرار بان لكل من المجتمع والدولة فعله الخاص وتأثيره ، لكن في حالة المملكة فقد كان  الفعل الرسمي هو الابرز والابعد تأثيرا ، الى حد يجعل مقايسته بالفعل الاجتماعي غير منطقية .

يرجع هذا التميز للدور الرسمي الى عاملين : اولهما الظروف التي تشكلت خلالها الدولة ، وطبيعة التشكيل الاجتماعي لاقاليم البلاد قبل توحيدها ، الامر الذي عزز الاعتقاد بالحاجة الى  نظام سياسي ذي مركزية فاعلة ومهيئة للمبادرة السريعة ، في الوقت الذي كانت مجتمعات ماقبل الوحدة ، عاجزة عن لعب دور يتجاوز حدود الاقليم الجغرافي الذي تسكنه ، اما الثاني فهو اكتشاف البترول وما أدى اليه من جعل النشاط الاقتصادي وماترتب عليه من تطورات سياسية واجتماعية تابعا للانفاق الحكومي .

ومن المحتمل ان الوضع سيكون مختلفا ، لو كان ثمة موارد اخرى كبيرة الدخل القومي غير الموارد المباشرة لبيع البترول ، الذي الى جانب هذا شكلت صناعته المحرك الاقوى لنمو الناتج   القومي خلال معظم الخمسين عاما الماضية  ، كان من الضروري بقاء موارد البترول بيد الدولة ، لتوزيع اكثر كفاءة للثروة الوطنية على مختلف اقاليم المملكة ، وكان من الضروري اذن توقع الانعكاس المباشر للضرورة الاولى ، متجسدا في احتـفاظ الدولة بالدور الاهم والاكبر في حركة البلاد .

وفي ظروف التطوير السريع الذي شهدته المملكة ، قضى المنطق العملي بان تكون الدولة هي قاطرة الحركة ، فالناس الذي اكتشفوا قدراتهم للتو ، كانوا اقل جرأة في المغامرة وخوض المجاهل الصعبة ، التي لابد من ارتيادها لازاحة ركام التخلف ، لم يكن احد ـ على سبيل المثال ـ مستعدا للمغامرة براسمال ضخم في ايجاد صناعة ثـقيلة ، او في اي نشاط اقتصادي غير معتاد ، فكان لابد من تدخل الدولة كفاعل مباشر او مساند .

خلال السنوات العشر الماضية بدأ يتضح ان هذا الدور الكلي الذي تلعبه الحكومة ، وضع على عاتقها اعباء كان من المفترض ان يتحملها المجتمع ، والا تَحَول الى مايشبه الطفل المدلل الذي لايكف عن مطالبة الاب بما يحتاج ومالا يحتاج ، دون ان يبذل اي مجهود ، ويبدو لي ان الدولة قد تغاضت عن تطور هذه الحالة ، طمعا في انجاز مهمة التنمية والتحديث السريع ، الضرورية لتغيير وجه البلاد وجعلها اكثر استعدادا للحاق بركب العصر ، وشهدنا الدولة وهي تلعب دور المعلم في المدرسة والطبيب في المستشفى والتاجـر في السوق والصانع في المعمل ، فضلا عن مهماتها الاساسية ، السياسية والعسكرية والتخطيطية .

لابد اذن من وضع هذه الاعباء جانبا ، والتفرغ للمسئوليات الاساسية التي اهمها التخطيط لمرحلة مابعد اقامة البنية الاساسية للمجتمع والاقتصاد ، ان وضع تلك المسئوليات جانبا ليس اهمالها بل تشجيع المجتمع على تحمل اقصى مايستطيع منها ، مع بقاء الحكومة في دور المخطط والمنظم والرقيب .

ربما كانت هذه الفكرة هي احدى خلفيات الحديث المتزايد عن الحاجة الى (تخصيص) بعض قطاعات الخدمة العامة ، بعد ان اظهر خادم الحرمين الشريفين حفظه الله مساندته لها قبـل بضعة اسابيع .
واظن ان الامر ينبغي ان يتعـدى النطاق التجاري ، الذي ينـدرج تحت معنى التخصيص المتعارف ، الى مختلف انواع النشاط الذي يمكن للمجتمع ان يقوم به دون تكليف الـدولة مزيدا من العناء ، وأمامنا تجارب طيبة لنشاطات اجتماعية تمثل مظهرا من مظاهر التكافل بين المجتمع والدولة ، لاتكلفها الا القليل ، قياسا بما ستتحمله لو قامت به دون مشاركة المجتمع ، من تلك التجارب المدارس الاهلية التي وفرت الفرصة للآلاف من الطلبة للدراسة ، دون ان تتحمل الدولة الا قسطا يسيرا من نفقات تعليمهم ، مع ان هذه المدارس تلتزم بجميع الانظمة المطبقة في مدارس وزارة المعارف ، كما تطبق مناهجها وتخضع لرقابتها ، والمثال الآخر هو الجمعيات الخيرية الاهلية ، التي تقوم بدور الضمان الاجتماعي ، وهي بدورها تحمل الدولة القليل من الاعباء المالية والادارية ، مع انها تطبق انظمة وزارة العمل والشئون الاجتماعية ، كما تخضع لرقابتها ، اما المثال الثالث فهو الشركات الصناعية المساهمة او المقفلة ، التي تحقق اغراض خطط الانماء ، دون تحميل الدولة اعباء مالية او ادارية ، سوى ماتحصل عليه من قروض ميسرة .

هذه التجارب الناجحة تمثل ادلة على وجود فرص لجعل المجتمع يقوم بحاجاته ، في اطار التخطيط العام للدولة ، وتحت رقابتها ، دون تحميلها اعباء لاضرورة لها .

في الادبيات الاجتماعية الحديثة يعتبر قيام المجتمع بحاجاته ، دون الاتكال المطلق على الدولة ، ابرز علائم تطوره الى صورة المجتمع المدني ، كما ان تكامل مؤسسات المجتمع المدني ، يعتبر هو الآخر ابرز الادلة على خروج الجماعة من حال التخلف الى حال التقدم .

من ناحية أخرى فان بلـوغ خطط التنمية غايـاتها ، ينبغي ان يقاس بمدى ماتؤدي اليه من تطور في البشر ، وبصورة خاصة في اهليتهم للتعامل مع ظرف التقدم المادي ، بصيانته وتطويره واستثمار ما يتيحه من فرص وامكانات ، وأحسب ان الاحتفال باليوم الوطني ، هو احدى الفرص العظيمة للتأمل في قدرتنا على مواجهة تحديات التقدم ، ومانحتاجه من عدة لهذه المواجهة التي لامفر منها اليوم او غدا .
اليوم بتاريخ 22سبتمبر 1994

09/05/1994

مرثية لرجل يستحق مديد العمر



قليل من الناس يمر في هذه الدنيا مشوار الحياة الذي قدر له ثم يمضي ، ولكنه كالمقيم رغم رحيله ، ينام ملء جفونه بل تنام حتى جفونه ، وهو مستيقظ الروح ، اذ تجاوزت روحه حدود الجسد فانصبت فكرا وعلما وعطاء ، لايفنى حين تضم الجسد المؤقت اطراف المنام الاخير .

لا اخال احدا غير ولوع بهذا المقام بين الناس بعد فناء الجسد ، رغم ان كثيرا من اولئك الناس لايعمل للبقاء ، بل وربما لم ير في هذا النوع من البقاء مهما يستحق العناء ، وهو على اي حال جدل المجد وثمن المجد ، المجد الذي يطمح اليه الجميع لكن لا يطيق غالي ثمنه  من الطامحين الا القليل القليل .

انتهى الاستاذ محمد سعيد المسلم من مشوار الحياة ، ترجل الفارس من على صهوة جواده ، مدد قلمه في حنان العاشق وسط اوراقه وغفا ، مات الاستاذ ، لقد مات ، ومضى عن هذه الدار  . تتسلل خيوط الشمس هذا الصباح من فرجة الباب ، فلا يصافح دفئها الجسد الكليل ، فلم يعد منذ البارحة ممددا على الفراش الذي استضافه نحو عقد من الزمان .

نذكره اليوم وقد اصبح خبرا يروى ، رمزا لجيل من الرواد المكافحين في سبيل العلم والمجد ، رجلا تمدد حبه لوطنه في تفاصيل حياته ، فاصبح لايكون الا حيث يكون الوطن ، ولايتنفس الا عبير عشق الوطن ، ولايخط ورقا الا بريشة الوطن ، ايامه التي تمضي فينساها اكثر الناس ويحفظها قلم العاشق ، فتبقى حية حيث الحب هو الماء والهواء وحيث هو الاستمرار والبقاء .

بدون قلمه ربما كان اكثرنا لايدري اين كنا ولا من اين ابتدأنا ،  من دونه ربما عجزنا عن التمييز بين (ساحل الذهب) وخليج القراصنة ، رحم الله الاستاذ ، الذي من نتاج معاناته ، تعلمنا اية ارض حنون هذه التي نستظل وارف الظلال من نخيلها ، ومن سهر ليله عرفنا قيمة النسيم ، الذي مع دفئه يرطب ارواحنا ، اذ نستقبل البحر او نستقبل الصحراء  .

منذ اربعين عاما حين تسرب نسيم العصور الجديدة الى واحاتنا الغافية في احضان الرمل ، وفتحنا العيون على عالم جديد ، ونفضت بلادنا عن ردائها غبار ازمنة البؤس ، ظن كثير منا ان ماعندنا قد مات ، وماعند الغير هو الذي يستحق الحياة ، بل والذي يستحق ان يعاش له وفيه ، كنا على وشك ان ننقطع عن قديم ليس اكثره قليل الفائدة ، ونستبدله بغريب ليس كله مؤكد الفائدة ، في لحظات المخاض تلك ، كان قليل من عشاق ارضهم قلقا من ان ينفصل الناس عن حقائق الحياة ، فيصبح الوطن في عيونهم بلا قيمة ، وتصبح الارض عندهم مجرد تراب يسفو، اذ تنفخ في اشرعته الريح ، فانبرى ذلك النفر القليل للتذكير بقيمة الارض ، التي تنطوي على قيمة الانسان الذي عاش عليها فعمّر وبنى واختط لمن يخلفه طريقا للمجد ، بعضهم ضاعت صيحاته في ضجيج الانتقال بين العصرين ، وثلة قليلة ارادت توثيق ندائها وتحويله من موعظة الى علم ، فانكبت على اوراقها لتحفظ علينا مالو ترك لضاع ، بين تلك الثلة يبرز الاستاذ محمد سعيد المسلم ، الذي وقف جانبا كبيرا من حياته لدراسة تاريخ المنطقة وتوثيق ماجرى في ايامها ، مبتدئا بـ (ساحل الذهب الاسود) .

حينما تفتح كتابا في ايامك هذه ، عن تاريخ المنطقة او عن ادابها ، فستجد كم كان جهد المرحوم المسلم قيما وثمينا ، استطيع الزعم انه يندر ان تلقى كتابا في اللغة العربية ، درس تاريخ المنطقة ولم يستفد من (ساحل الذهب) قليلا او كثيرا ، وفي هذه السنوات الاخيرة ظهرت كتب ـ وان كانت لاتزال قليلة ـ عن تاريخ المنطقة الشرقية ، لكن جهود المرحوم المسلم تبقى فريدة وتبقى ـ لهذا السبب على الاقل ـ استثنائية القيمة ، فقد كتب الاستاذ تاريخ المنطقة يوم لم يكن احد مهتما بهذا الامر ، ويوم كان هذا النوع من الاعمال معاناة لايطيقها الا عاشق او صاحب رسالة .

 قيمة العمر في ما يبقى بعده ، وقيمة المرء في مقدار مايعطي ، بعض الناس يستحقون ان يعيشوا حياتهم تكرارا ، حيث حياتهم بحر من العطاء لبلادهم وللناس ، وبعض الناس يكاد يمل حياته ويملها الناس فينتظرون رحيله بفارغ الصبر ، ذلك هو الفرق بين الكسالى والمنتجين ، وذلك هو المقياس لاستحقاق نعمة الحياة ، ونعمة الذكر الشريف بعد الحياة ، رحم الله الاستاذ محمد سعيد المسلم الذي كان يستحق الحياة ويستحق شرفها وشرف الذكر فيما بعدها ، ويستحق حياة اطول من العقود السبعة التي افناها على هذه الارض ، لكن هذه مجرد امنية  ولكل اجل كتاب .
جريدة اليوم بتاريخ 9/5/94

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...