28/06/2023

الغائب الكبير في السودان وروسيا


اكتب هذه السطور استدراكا على فكرة لصديقي الأستاذ عثمان العمير ، فكرة هي اشبه بالنبوءة عند بعض الناس ، وهي ترتيب منطقي للحوادث عند آخرين. في اوائل مايو المنصرم كتب العمير معلقا على تصريحات قائد ميليشيا فاغنر ، يفغيني بريغوجين ، الذي انتقد فيها وزارة الدفاع الروسية. وتساءل: هل يفضي هذا الى مشهد شبيه بما جرى في السودان ، أي تمرد الميليشيا على حكومة موسكو؟. وهو ما جرى فعلا في الاسبوع الماضي ، وفاجأ الجميع.

المحللون الذين تابعوا الحدثين الروسي والسوداني ، ركزوا على ثنائية القوة العسكرية. فهم يعتقدون ان وجود قوى مسلحة خارج اطار الجيش ، سيفضي – طال الزمن ام قصر – الى صراع بين القوتين. هذا تحليل يسنده تنظير علمي متين ، فضلا عن التجارب الواقعية المتكررة.

لكني أود النظر في زاوية أخرى ، هي حاجة كل بلد لما يسمى في الفلسفة السياسية "المجال العام" الذي يسهم في تحييد القوى المسلحة ومنعها من القفز على السلطة ، او الانخراط في الصراعات السياسية الاهلية.

لا بد من القول ابتداء ان نقاشا كهذا ، يفترض توفر سياق اجتماعي وثقافة سياسية ونظام علاقات ، لا تتوفر عادة في المجتمعات التقليدية. ولهذا فقد يكون النقاش غير ذي صلة بالأوضاع التي نناقشها. لكنني مع ذلك ارى ان طرح الموضوع سيستثير السؤال البديهي: لماذا نجح الآخرون في الوصول الى هذه النقطة ، ولماذا اخفقنا في ذلك؟. ان تفكيرنا في هذا السؤال سيحملنا خطوة الى الأمام. وهذا بذاته جزء من عملية التطور التي نتمناها في مجتمعاتنا.

المجال العام هو الفضاء الذي يتيح للناس مواجهة بعضهم ، ليتشاركوا في الرأي او يختلفوا من دون جبر ولا خديعة. ان السمة الاولى التي تسمح بقيام هذا الفضاء المشترك وانسياب التعاملات فيه ، هو عدم انفراد اي جهة أهلية بقوة فائقة او سلطة مادية او معنوية ، تمكنها من اقصاء الاطراف التي تتبنى رأيا او مصلحة مخالفة للبقية.

وفقا لرأي الفيلسوف المعاصر يورغن هابرماس ، فان المجال العام هو الرحم الطبيعي لما نسميه اليوم "الرأي العام" الذي ينمو ويتبلور في سياق التبادل المتواصل للأفكار والآراء بين المواطنين ، حول القضايا العامة ، بما فيها تلك القضايا الخاصة التي يرى بعضهم ان لها بعدا عاما ، او انها تؤثر على المصالح المشتركة. لا يستطيع المواطنون جميعا ممارسة السلطة ، وليس من الحكمة ان يفعلوا. لكن من المهم ان يشاركوا بالراي في القضايا التي تؤثر عليهم ، او التي يكون أشخاصهم او مصالحهم جزء من موضوعها.

دعنا نتخيل ان هذا المجال كان موجودا في روسيا ، فهل كان بوسع الرئيس بوتين ان يشن الحرب على اوكرانيا ، دون ان تسمع مليون صوت محتج؟. او لنذهب الى الجنوب ، الى الخرطوم التي انتفضت فمهدت الطريق للاطاحة بالرئيس السابق عمر البشير ، اما كانت تستطيع فعل الشيء نفسه مع الذين امسكوا بالزمام بعده ، ولو حصل هذا فهل كانت البلاد تنزلق الى الحرب الأهلية التي نقترب منها اليوم؟. بل لو ذهبنا مسافة ابعد زمنيا: هل كان صدام حسين سيغزو ايران ثم الكويت ، لو كان المجتمع قادرا على الاعتراض العلني على قرار كارثي كهذا؟.

هذه الأمثلة كلها تشير الى مواقف ضرورية من حروب كارثية. لكني اريد الاشارة ايضا الى ان كل مجتمع يحوي العديد من اصحاب الافكار والكفاءات والاشخاص الذين لديهم رؤية مستقبلية ، يمكن ان يكون احدها او بعضها مفتاح الباب نحو التحولات التاريخية الكبرى في مجال العلم او الاقتصاد او غيره.

لا يمكن لهذه الرؤى العظيمة ان تظهر أو تتبلور ، ما لم يكن ثمة فضاء آمن وسليم ، يمنح الاحترام اللازم والقيمة المناسبة لكل رأي او فكرة ، سواء كانت عظيمة حقا او كانت بسيطة.  

الشرق الاوسط الأربعاء - 10 ذو الحِجّة 1444 هـ - 28 يونيو 2023م  https://aawsat.com/node/4405426

مقالات ذات صلة

اربع سنوات ونصف على اقرار نظام الجمعيات الاهلية

ترمب على خطى يلتسن

الجمعيات الاهلية : الترخيص في غياب القانون

حان الوقت كي يقيم المثقفون نواديهم المستقلة

سوريا قد تكون بوابة الحرب الباردة

عرب اوكرانيا وعرب روسيا

في الطريق الى المجتمع المدني

كي تستمر المنتديات الأهلية رافدا للحياة الثقافية

مجتمع الاحرار

المجتمع المدني كاداة لضمان الاستقرار

من المبادرات الثقافية الى الحياة الثقافية

من المجتمع الطفل الى المجتمع المدني: تأملات في معاني اليوم الوطني

21/06/2023

ماذا جرى للسودان ، اين الميل للمسالمة واللين؟




لو سألني أحد عن أكثر العرب ميلا للتسالم وابعدهم عن التنازع ، لما اخترت غير السودان. لا اقصد بطبيعة الحال كل فرد في هذا البلد ، ولا كل فرد في غيره. انما أشير الى السمة العامة التي نطلقها على البلد كمجموع ، دون خشية الاتهام بالمبالغة او التفريط. اظن ان كثيرا من القراء يوافقني في هذا.

مع ذلك ، فان هذا البلد ينزلق الان نحو حرب أهلية ، لا سمح الله.

هل الميل للتسالم مجرد صبغة خارجية ، هل الذي امامنا واقع لا نعرف تفاصيله: مجتمعات عديدة بعضها خشن وبعضها لين ، بعضها ظاهر وبعضها مجهول؟.

هذا سؤال يتعلق بطبائع المجتمعات. وهي – كما نعرف - ليست صفات تنتقل عبر الجينات ، من الآباء للابناء ، كما اعتقد كتاب الازمنة القديمة ، بل هي انعكاس للعقل الجمعي أو الذهنية العامة ، أي محصلة التفاعل المتواصل بين مستخلصات التجربة التاريخية والتوجيه الثقافي او الديني ، إضافة الى تأثيرات الواقع المعاش ، لا سيما الوضع الاقتصادي والسياسي.

حسنا.. لو افترضنا ان الذهنية العامة تتشكل بتأثير عوامل عديدة ، فما هي هذه العوامل وما هو نصيب كل منها في تكوينها النهائي؟. هذا السؤال ضروري كي نفكر في اهداف المعالجة وكيفيتها.

أعلم ان بعضنا سيبادر بتوجيه اللوم للتراث ورواته ودعاته. ولعله يندد بتقصيرهم في حث الناس على التسالم ونبذ العنف. وفقا لهذا الرأي ، فالميل للمسالمة او العنف حالة ذهنية ، واعية او عفوية ، قابلة للتعديل بواسطة التوجيه والإرشاد. البعض الآخر سيختار الاتجاه المعاكس ، فيكرر القول المنسوب لأبي ذر الغفاري "عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج في الناس شاهرا سيفه". وهذا يربط الميول العنفية بالتوتر النفسي المتصل بالفقر المدقع. أي ان الميل للعنف تعبير عن ضعف سيطرة العقل على المشاعر. ثمة فريق سيربط التوتر بالانقسام الطبقي ، لاسيما جمود الحراك الطبقى وفشل الشريحة المتعلمة في انهاء التصنيف القسري ضمن الطبقة الدنيا.

والحق ان هذه جميعا احتمالات واردة. لكن يصعب تحديد أي منها كمؤثر تام. ان السوداني مشهور بالميل للمسالمة واللين. لكن دراسات اجتماعية تظهر ان السودانيين يختزنون – على المستوى الفردي – ميلا قويا للمنازعة. في نهاية 2017 مثلا أظهرت احدى الدراسات ان 60% من السودانيين يفكرون في الهجرة ، وهي نسبة تتجاوز حتى البلدان المنخرطة فعليا في نزاع داخلي ، مثل اليمن والأراضي الفلسطينية وليبيا. ولاحظت الدراسة ان حوالي نصف الذين يفكرون في الهجرة ، لا يمانعون من السفر دون وثائق رسمية ، بعبارة اخرى فهم غير متحفظين ازاء مغامرة ربما تودي بهم للسجن أو الموت ، كما حصل تكرارا لقوارب المهاجرين عبر البحر المتوسط ، والمتسللين عبر الحدود الشمالية الغربية الى ليبيا.

هذا النوع من التفكير لا يعبر عن "عقل جمعي" بل عن شعور فردي بالاحباط واليأس. لكن المشكلة ان هذا الشعور ينتشر بين مئات الآلاف  ، سيما الشباب ، بحيث يتحول تدريجيا الى ظاهرة عامة ، يمكن ان تغير الصورة اللينة التي ذكرتها سابقا ، او على الاقل تشكل ظاهرة فرعية موازية لها.

ما يحدث اليوم في السودان من عنف متصاعد ، قد يكون ثمرة لتفاقم الشعور الفردي بالاحباط. واذا صح هذا الاحتمال ، فان البلد مقبل على انهيار تام للأمن الداخلي ، وتفاقم الاعتداءات على الاملاك الشخصية والعامة ، بشكل غير مسبوق.

الفارق بين التحولات النفسية العامة والفردية ، ان المجتمع يحافظ في الحالة الاولى على قدر من التضامن بين الجميع ، بحيث لا يعتدي احد على الاملاك الخاصة للاخرين. اما في الحالة الثانية فان الانفلات الاخلاقي يجعل الفرد متجردا من اي قيد ، لا يردعه سوى الخوف من السلاح المقابل. 

الشرق الاوسط الأربعاء - 03 ذو الحِجّة 1444 هـ - 21 يونيو 2023        https://aawsat.news/b4gz5

مقالات ذات صلة

 استعادة الايمان بالذات

استمعوا لصوت التغيير

ان تكون سياسيا يعني ان تكون واقعيا

 بحثا عن عصا موسى

تفكيك التداخلات

حق الأكثرية

حين تتحول العلمانية الى ضرورة

سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي (كتاب)

عالم افتراضي يصنع العالم الواقعي

الفقر والإحباط والغضب

في معنى "الدروشة" وتطبيقاتها

ما الذي يجعل الانترنت مخيفا للزعماء التقليديين ومحبوبا للشباب ؟

المال كوسيلة لتبريد التوترات المحلية

مباديء اهل السياسة ومصالحهم

من الحلم الى السياسة

من تديين السياسة الى تسييس الدين

من جيل الى جيل

هكذا نتغير... مختارين او مرغمين

هوية سائلة؟

وعي المستقبل

وقت للأسى: نهاية السودان كما عرفناه

 

07/06/2023

حول العلاقة بين الثقافة والاقتصاد

 || المجتمعات العربية تفرط في مواردها الموروثة ، ثم تعيد استيراد وسائل انتاجها او منتجاتها من السوق الدولية. هذه مشكلة ثقافة||

حين تنظر في الخريطة الاقتصادية للعالم العربي ، ربما يلفت انتباهك الانحسار المتواصل للاقتصادات القديمة ، والتوسع المتسارع لأنماط الاقتصاد الحديث. بعض هذه الانماط يملك مقومات ذاتية او موضوعية تسمح له بالتجذر في البيئة المحلية ، وبعضها الآخر مجرد نسخ سطحي من أسواق العالم.

لو تأملنا حال أي مجتمع عربي في بداية القرن العشرين ، من 1901 الى 1920 مثلا (هذا اختيار عرضي لمجرد المقارنة) وتساءلنا عن مصادر الإنتاج الأكثر تأثيرا ، ونمط المعيشة الذي يتبعه غالبية الناس ، وبموازاة هذين ، نظرنا في طبيعة الثقافة السائدة يومذاك. ثم وضعنا هذه المعلومات على طاولة المقارنة ، مع نظيرتها في نفس الفترة من القرن الجديد ، أي الفترة من 2001 الى 2020. فما هي الصورة التي نتوقع ان تولد من تلك المقارنات. وفي الأساس ، لماذا نحتاج هذه المقارنة وماذا نستفيد منها؟.

انا لست خبيرا في الاقتصاد ، ولذا لا اطالع الموضوع من زاوية اقتصادية بحتة. لكني اعلم ان الاقتصاد ليس عالما مستقلا بذاته ، بل هو جزء من المنظومة الحياتية الشاملة التي نسميها "النظام الاجتماعي" ، والذي يلتزم بمقولاته وحدوده غالبية اعضاء المجتمع. من هنا فان السؤال عن مصادر الإنتاج وانماط المعيشة ، يشكل مدخلا لفهم الثقافة السائدة وكيفية تفاعلها مع الحياة اليومية للافراد ، وكيف يعاد انتاج تلك الثقافة او بدائلها ، بتأثير التحولات التي يمر بها المجتمع في جانبه الاقتصادي او السياسي. اما مقارنة نظام الحياة بين زمن وآخر ، فهي تساعدنا على فهم التحولات التي جرت في هذا المجتمع ، والعوامل التي حركتها او تلك التي تسهم في استمرارها وتحدد اتجاهاتها.

بديهي ان حديثنا يتناول الثقافة بالمعنى السوسيولوجي ، أي بوصفها الخلفية الذهنية التي توجه 90% من السلوك اليومي للفرد ، وهي بالتالي جزء مما نسميه بالعقل الجمعي. الثقافة العامة لاي مجتمع هي التي تحدد المقبول والمرفوض من أنماط العيش ، ما يستحق التقدير وما يستوجب اللوم ، وبالتالي فهي مؤثرة جدا في تحديد نوعية الحياة والإنتاج ، أي الحياة الاقتصادية لهذا المجتمع او ذاك. وعلى الجانب الآخر فان هذه الثقافة لا تبقى على حال واحد ، فهي أيضا تتحول باستمرار ، ولكن ببطء. وحين تتحول ، سنرى انعكاس هذا التحول على شخصيات الافراد وعلاقتهم ببعضهم ، وعلى نوعية الاعمال التي يميلون اليها او ينفرون منها.

لقد اثرت حتى الآن قضايا كثيرة ، لا يتسع المجال لشرح أي منها ، وهذا عيب معروف في تناول القضايا العامة. لكن يهمني الإشارة الى اننا بحاجة فعلا الى دراسة الأنماط الاقتصادية المستمرة منذ القدم ، في مقابل الأنماط التي كانت ثمرة للانفتاح على اسواق العالم.  وفدت بعد اتصاله بالعالم او تغير ظروفه الاقتصادية والسياسية.

دراسة هذه الأنماط مفيدة جدا في تحديد ما هو راسخ الجذور. ثم تطويره ان كان قابلا للتطوير ، بحيث يتحول الى مصدر انتاج رئيسي قابل للتطور المستمر اعتمادا على تفاعلات محلية. يمكن ان نضرب مثالا على هذا بالسياحة (بمختلف اغراضها) والزراعة والتعدين ، إضافة الى الصناعات التي كانت في الماضي متميزة.

الذي أرى ان العديد من المجتمعات العربية تميل الى التفريط في هذه الموارد ، ثم تعيد استيراد وسائل انتاجها او منتجاتها من السوق الدولية. نحن الان نستورد مفاهيم صناعة السياحة والفنادق ، كما نستورد أساليب الزراعة وعناصر انتاجها ، وامثال ذلك من البدائل الحديثة لقطاعات الإنتاج القديم ، البدائل التي تطورت في مجتمعات مختلفة ، وكان الأمثل هو تطويرها كجزء من نظام الحياة في مجتمعاتنا.

هل أدى هذا السلوك المزدوج الى اضعاف روحية الإنتاج في ثقافتنا العامة (العقل الجمعي)؟. هل عزز ميلنا للاستهلاك والتفاخر بالاستهلاك ، ام ساعدنا على التحرر من عقلية قديمة؟.

الشرق الاوسط الأربعاء - 19 ذو القِعدة 1444 هـ - 7 يونيو 2023 م https://aawsat.news/2n5wp

 مقالات ذات صلة

 عجلة التنمية المتعثرة

 اختيار التقدم

ارامكو واخواتها : الشفافية الضرورية في قطاع الاعمال

اعادة بناء القرية .. وسط المدينة

الأمل الآن وليس في آخر الطريق

بعد الإعلان عن غزال

البيئــة .. حاجــة اقتصــادية ايضــا

تفكيك التداخلات

التقدم اختيار.. ولكن

 تلميذ يتعلم وزبون يشتري

 التمكين من خلال التعليم

التنمية على الطريقة الصينية : حريات اجتماعية من دون سياسة

الحداثة تجديد الحياة

حـديـث النــــــــاس

حول برنامج التحول الوطني

خطباء وعلماء وحدادون

 شكوك في العلاقة بين الثقافة والتقدم

الطريق الى 2030

ظرف الرفاهية واختصار الكلفة السياسية للاصلاح

العدالة الاجتماعية كهدف للتنمية

 العدالة الاجتماعية وتساوي الفرص

العلاقة الاشكالية بين السوق والسياسة

فكرة التقدم باختصار

الفكرة القائدة ، مثال الواتس اب

في معنى "الدروشة" وتطبيقاتها

قرش الخليج الابيض

قرشنا الابيض ليومنا الاسود

كي نتحول الى دولة صناعية

كي نتخلص من البطالة

كي نحول العولمة الى فرصة

كيف نتقدم.. سؤال المليون

لا بد من تغيير المسار

ماذا تفعل لو كنت غنيا ؟

متى تملك بيتك؟

المجتمع السري

معالجة الفقر على الطريقة الصينية

المكنسة وما بعدها

من غزال - 1 إلى غزال - 2

نحو نماذج محلية للتنمية

النموذج الصيني في التنمية

هل نحتاج حقا إلى طريق ثالث ؟

هيروهيتو ام عصا موسى؟

31/05/2023

حول العلاقة بين الثقافة والنهضة


||فرضية كون الدين ضرورة للنهضة ، فرضية لا يدعمها دليل ، وفرضية ان الدين الصحيح هو دين الاقدمين ، لا يدعمها دليل ، كما ان انكار دور الانسان الفرد في صنع تجربة الحياة الدينية وصوغ تفاصيلها ، هو الاخر بلا دليل||.

بين يدي كتاب "إعادة التفكير في التنمية الثقافية" ، وهو دعوة لاحياء الدور المحوري للثقافة العامة ، في الحراك الاجتماعي - الاقتصادي الذي ينشده عرب اليوم. بذل الكاتب د. محمد حسن جهدا فائقا في الربط بين الأساس النظري للموضوع والتطبيقات التي يدعو اليها. لكنه – مثل العديد من الدراسات العربية ، أخفق في التحرر من مؤثرات الانتماء الاجتماعي ، وإيفاء الجانب العلمي حقه. للمناسبة فهذه مشكلة يواجهها كثير منا ، حين نقارب قضايا متصلة بالتراث أو القيم الدينية. في حالات كهذه يتراجع المنظور العلمي لصالح ما يعتقد الكاتب انه حقيقة دينية ، مع انها قد تكون مجرد انطباع عام او فهم من الأفهام المحتملة.

لايضاح هذه الإشكالية سوف أركز على مسألتين ، تكررت الإشارة اليهما في الكتاب ، وشكلا خلفية لجانب من طروحاته ، وهما مسألة العلاقة مع الغرب ، وربط صلاح المستقبل بالرجوع للماضي.

د. محمد محمود عبد العال حسن

يظهر واضحا ان الكاتب منتبه لكون العلاقة مع الغرب عنصر محوري ، في أي نقاش جاد حول عصرنة الثقافة العربية. لكنه لم يبذل جهدا مناسبا في معالجة المسألة ، بل أراد الجمع بين الاضداد كما يقال. وهذا يظهر في دعوته للتمييز بين ما اسماه "الغرب الثقافي والغرب الاستعماري العدواني". هذه الفكرة تمثل بالتأكيد خطوة متقدمة على نظيرة لها شائعة في العالم الإسلامي ، تدعو لتقبل التكنولوجيا والعلوم التجريبية ، بموازاة نبذ الثقافة والفلسفة التي تطورت في الغرب ، لأن الأخيرة راس جسر للنفوذ والهيمنة الاجنبية.

هذه فكرة متقدمة نسبيا ، لكنها لا تخلو من العلة الأكبر ، أي التعامل مع القيم ككائنات ناجزة ومهيمنة ، خارج الوعي الإنساني. وقد وجدت هذا المنهج انعكاسا لتصور عليل عن الانسان ، ينطلق من اعتباره كائنا منفعلا متأثرا ، تصوغ حياته عوامل خارج وعيه وخارج اختياره. وهذا يعاكس أولى أسس النهضة ، أي اعتبار الانسان عدلا كاملا مريدا خالقا لعالمه ، صانعا لمستقبله ، مسؤولا عن أقداره ، أو على أقل التقادير شريكا في كل ذلك.

يتصل هذا المعنى بالمسألة الثانية التي أشرت اليها ، وهي النظر للماضي كمرجع ونموذج. وقد شاعت كلمة الامام مالك بن انس رحمه الله "لا يصلح آخر الامة الا بما أصلح أولها" حتى ظنها الناس من كلام النبي. وذهبوا في تفسيرها كل مذهب. والمفهوم انه يقصد ان صلاح الامة بالدين. لكن تكررت التجارب ، بما فيها تجربة الامام مالك نفسه ، فما ظهر في الواقع تصديقا لهذا القول. والاصل ان التجربة المتكررة هي الدليل على صحة الرأي.

ولنا في حقيقة ما جرى في الماضي حديث طويل ، لا يتسع له المقام. لكني اريد التركيز على جوهر المسألة أي النظر للإنسان باعتباره وعاء فارغا ، تلقى فيه القيم والأفكار والايديولوجيات ، فيتلقاها كما هي. واظن هذا قياسا على مكانة الدين ، حيث افترض غالبية الإسلاميين ان الانسان لا دور له في هندسة حياته الدينية ، بل هو متلق منفعل ، يتلقى القيم والتعاليم كما هي فيطبقها تعبدا وتسليما ، بلا نقاش ولا مراجعة.

هذا تصور عن العلاقة بين الدين والمؤمنين ، اراه فاسدا ، بل سببا لاخفاق العديد من المحاولات النهضوية. ان فرضية كون الدين ضرورة للنهضة ، فرضية لا يدعمها دليل ، وفرضية ان الدين الصحيح هو دين الاقدمين ، لا يدعمها دليل ، كما ان انكار دور الانسان الفرد في صنع تجربة الحياة الدينية وصوغ تفاصيلها ، هو الاخر بلا دليل.

النهضة – في هذا الزمن بالذات – مستحيلة ، مالم يسترجع الفرد مكانته ككائن حر عاقل وأخلاقي. لا يمكن للدين ان ينهض على اكتاف المنفعلين السلبيين ، بل على يد صناع الحياة المتفاعلين مع تجارب البشرية في الغرب والشرق ، في الماضي والحاضر ، دون انبهار او استسلام ، ودون ارتياب او ترفع.

الشرق الاوسط الأربعاء - 12 ذو القِعدة 1444 هـ - 31 مايو 2023 م  https://aawsat.news/4496j

مقالات ذات صلة

أول الاصلاح عقلنة القيم

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

 ظرف الانتقال العسير

العالم ليس فسطاطين

العودة إلى ثقافة الزمن المنقضي

المكنسة وما بعدها

الموت حلال المشكلات

اليوم التالي لزوال الغرب

وهم الصراع بين الحضارات

17/05/2023

الحق ليس واحدا


||التعددية الدينية تبدو غريبة على اسماعنا ، لأننا تعلمنا منذ نعومة اظفارنا على ان الدين مطابق للتعريف الفقهي||

نشرت هذا الأسبوع تدوينة قديمة حول التسامح الديني. فأثارت نقاشا غير متوقع. وجدت الأسئلة الرئيسية تكرارا لما عرفناه قبل عقد من الزمان ، مع انها تطرح الآن بلغة لينة. وهذا يكشف عن حقيقتين متزاحمتين نوعا ما: فمن ناحية نستطيع القول ان مجتمعنا يتحرك بصورة ملموسة ، نحو تقبل الاختلاف وتداعياته. لكنه – من ناحية ثانية – غير قادر على حسم بعض الإشكالات الرئيسية في هذا الموضوع نفسه ، الأمر الذي يستدعي نقاشا اكثر تركيزا على نقاط التوقف.

أبرز أسباب الجدل في ظني هو مبدأ تعدد الحق. أي ان نكون على أديان أو مذاهب مختلفة أو حتى غير متدينين ، لكننا نعيش جميعا في توافق وسلام. ولهذا سوف اخصص مقال اليوم لتوضيح الفكرة ، وتمهيد ارضيتها لمن أحب المزيد من النقاش.


نفهم تعدد الحق على وجهين:

الوجه الأول: ان الحق في طبعه الاولي ، لا ينحصر في تطبيق واحد ، بل يتجلى في صور عديدة ، يمكن لكل منها ان يكون طريقا الى الله. فالذي آمنت به هو أحد احتمالات الحق او تجلياته. والذي آمن به غيري هو احتمال آخر للحق أو صورة ثانية. وهناك صورة ثالثة ورابعة وخامسة.. الخ. بمعنى ان كل الناس متجه الى الحقيقة المطلقة ، وهي الخالق سبحانه ، عبر الطريق الذي يراه أقرب وأوضح. وكل شخص مسؤول عن خياراته. لن يقف أحدنا نائبا عن غيره يوم الحساب ، ولن يحمل أوزاره. وهذا هو مذهب ابن عربي ، الفيلسوف والمتصوف المعروف.

الوجه الثاني: ان الحق هو الصورة المثلى للحياة الفاضلة ، وليس شيئا منفصلا عن الحياة او مختلفا عنها. وهو يتجلى في كل فعل انساني خير. ان اختلاف الاعمال والمشارب وسبل العيش ومصادر القوة والمعرفة ، هو الحيز الحيوي لتجلي قيمة الحق ، بوصفها المستوى الارفع في كل مجال ، الارفع موضوعيا واخلاقيا. ان الاختلاف الطبيعي بين سبل الحياة – وبالتبع تجليات الحق في كل منها - عامل مؤثر في ارتقاء الانسان والعمران.

في هذا المعنى ، يتطابق مفهوم الحق مع سعي الانسان لاتقان عمله. ونعتبر هذا المسعى جزء من التجربة الدينية الواسعة ، التي نسميها عمران الأرض. الفلاح يسعى الى الكمال من خلال توفير الغذاء للناس ، والطبيب يسعى من خلال حمايتهم من الامراض ، وهكذا البناء الذي يبني البيت ، والصانع الذي يوفر السيارات وأجهزة الاتصال ، والفقيه الذي يعلم الناس الشعائر ، والفنان الذي يحول الفكرة الى مشهد للتأمل من خلال لوحة او مقطوعة موسيقى.. الخ.

جوهر الحق في الوجه الأول علاقة واعية بين الخلق والخالق. مركزها هو الخالق ، والطريق اليه هو نية التقرب. اما في الوجه الثاني فالحق يتجلى في تفاعل البشر مع بعضهم ، تفاعلا بناء واخلاقيا ، يؤدي – موضوعيا – الى تطور حياة الانسان وارتقاء الجوهر الانساني ، اي العقل/العلم والاخلاق. وهذا – في اعتقادي – هو الغرض الجوهري للرسالات السماوية وجهود المصلحين في كل المذاهب والمشارب.

كلا المفهومين يبدو غريبا شيئا ما ، لأننا تعلمنا منذ نعومة اظفارنا على ان الدين مطابق للتعريف الفقهي. وهو تعريف ينطلق - بالضرورة – من التزام بمذهب محدد واطار اجتماعي وعرفي خاص ، لا يتعداه من اراد السلامة. لكنه – رغم غرابته – ليس جديدا. وقد اشار الى جانب منه غالبية المفسرين حين وصلوا الى الآية المباركة "ولو شاء ربك لجعل الناس أمَّة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم". وفحواها ان الاختلاف اصل في الخلق وضرورة للحياة. وهكذا اراده الله. فهل ارادنا ان نقتتل مثل حيوانات الغابة ، ام نتسالم – رغم اختلافنا – كما يحكم العقل السليم؟.

الشرق الاوسط الأربعاء - 27 شوّال 1444 هـ - 17 مايو 2023 م    https://aawsat.news/y4mfr  

مقالات ذات صلة

ايزايا برلين ... حياته وفكره

اين ينجح الاسلاميون واين يفشلون

الحق الواحد والحق المتعدد: هل تراه معقولا؟

الخلاص من الطائفية السياسية: إعادة بناء الهوية الوطنية الجامعة

دعوة لمنهج جديد في الاجتهاد واستنباط الاحكام

الديمقراطية في بلد مسلم- الفصل الرابع

كلمة السر: كن مثلي والا..!

من الراي الواحد الى التعددية الدينية

 

 

 

10/05/2023

غدا نتحرر من الخوف

||الحل السليم للقلق من تأثيرات الذكاء الصناعي ، هو نشر المعرفة به||

القلق من تأثير الذكاء الصناعي لا يختلف كثيرا عن القلق من تأثير الانترنت. الأسباب التي تبرره ، تشابه ما  قيل في الماضي عن عواقب انتشار الانترنت. سوف اعرض لبعض هذه المبررات بعد قليل. لكن يهمني أولا تطمين المتوجسين بأن كثيرا من أسباب القلق القديم ، قد تم احتواؤها فعليا ولم تعد قائمة ، او - على الأقل - لم تعد قوية او جدية مثلما كانت يوم تعرفنا على الانترنت ، قبل عقدين من الزمن.

بيان ذلك: ان معظم القلق ناتج – في المقام الأول - عن غموض المستقبل وانعدام اليقين ، أي شعور الانسان بأنه لا يتحكم في أقداره. اعرف أشخاصا كانوا يعملون في مجال التصوير ، وفقدوا وظائفهم بعد انتشار التصوير الرقمي. واعرف ان اكبر شركتين في هذا القطاع ، قد اعلنتا افلاسهما: الألمانية آجفا (2005) والأمريكية كوداك (2012).

والعجيب في الأمر ان انهيار هذه الصناعة ليس سببه هجر الناس لهواية التصوير ، بل العكس تماما: لانها باتت هواية يمارسها كافة الناس ، كلما تحدثوا أو نظروا في الهواتف الذكية ، التي يحملونها في جيوبهم. لقد تسبب التصوير الرقمي وشبكات الانترنت في اطلاق تدفق هائل للصور ، فتحول عامة الناس الى منتجين ومستهلكين في آن واحد ، ولم يعد بوسع المحترفين السيطرة على المساحة التي تقوم فيها صناعة التصوير ، في أي بعد من ابعادها. الشبكات الغت الجغرافيا/المكان الذي يمكن التحكم فيه ، فتولد منطق جديد للتبادل ، مختلف تماما عن منطق المنتج/المستهلك في السوق القديم ، سوق ما قبل الانترنت.

هذا المصير نفسه واجه الشركات التي كانت تصنع أجهزة التسجيل والراديو والآلات الكاتبة والصحف الورقية ، والمئات من الصناعات والتجارات والوظائف الأخرى التي يصعب عدها وحصرها. وتحدثت قبل زمن مع خطيب ذي شعبية عريضة ، فوجدته ضجرا من تناقص ملموس في عدد الأشخاص الذين يحضرون خطبه. لان مستمعيه المعتادين يبحثون الآن عن مصادر للمعرفة تتجاوز المصادر التقليدية.

لا بد ان كثيرا منا قد سمع بواحد او اكثر من هذه الأشياء ، التي حدثت منذ عقد او عقدين. لكنك نادرا ما تسمع أمثالها في هذه الأيام.

- لماذا؟

لأن غالبية الناس ، بمن فيه القلقون ، تعلموا استخدام أجهزة الانترنت ، واكتشفوا المساحات الرحبة التي تقودهم اليها هذه الأجهزة الصغيرة ، أي الكمبيوتر والهاتف الذكي. ولعل بعضهم قد تأكد من ان مخاوفه لم تكن بلا أساس. لكن منطق الأمور يقول بان القلق من المجهول طبيعة في الانسان ، وان علاجه الوحيد هو تمزيق حجاب الجهل. حين يتعرف الانسان على شيء ، فسوف يسعى لاكتشاف مفاتيح التحكم فيه ، او على اقل التقادير سيتعرف على حدود تأثيره. وعندها سيتحول التعامل مع مصادر القلق الى جزء من الروتين اليومي المعتاد.

من هنا فاني أود التأكيد على ان الحل السليم لما يبدو من قلق إزاء الذكاء الصناعي ، هو نشر المعرفة به. بإمكاننا التعرف على الذكاء الصناعي ، مثلما تعرفنا سابقا على الكمبيوتر والانترنت ، ومن قبله على الراديو والتلفزيون والبث الفضائي. وقبل ذلك على وسائل الاتصال والمواصلات على اختلافها.  انظر كيف صار بوسع الانسان ان يركب حديدا يطير في الهواء ، دون ان يراوده أدنى قلق... اليس لأن هذه الوسيلة معروفة تماما ، له ولغيره ، وان المعرفة تولد الاطمئنان؟. السبيل الوحيد لتحييد القلق المتولد عن التقنيات الجديدة ، هو استثمارها واستعمالها ، وأول خطوة في هذا الطريق هو التعرف عليها.

اريد دعوة كل قاريء لتخصيص بعض وقته للتعرف على الذكاء الصناعي ، ثم استعماله ، فهذا هو السبيل الوحيد لتحييد اضراره ان كان ثمة ضرر.

الشرق الاوسط الأربعاء - 20 شوّال 1444 هـ - 10 مايو 2023 م

https://aawsat.com/node/4319851

مقالات ذات صلة

استمعوا لصوت التغيير

بين النهوض العلمي والتخصص العلمي

تجربة تستحق التكرار

تدريس العلوم بالعربية.. هل هذا واقعي؟

تعريب العلم ، ضرورة اقتصادية ايضا

التعليم كما لم نعرفه في الماضي

التمكين من خلال التعليم

حول البيئة المحفزة للابتكار

الذكاء الصناعي وعالمه المجهول

عالم افتراضي يصنع العالم الواقعي

على اعتاب الثورة الصناعية الرابعة

العولمة فرصة ام فخ ؟

ما الذي يجعل الانترنت مخيفا للزعماء التقليديين ومحبوبا للشباب ؟

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

النقلة الحتمية : يوما ما ستنظر الى نفسك فتراها غير ما عرفت

هل تعرف "تصفير العداد"؟

المسافة بين الرؤيا والسياسة

قبل أسبوع من لقائه العاصف مع الرئيس الاوكراني (28-فبراير-2025) قال الرئيس الأمريكي انه يسعى للتوافق مع نظيره الروسي بوتين ، على طريقة لانه...