09/05/2024

حاضنات الابداع

 الأسبوع الماضي عادت جارتنا مريم من "مخيم الفضاء" الذي أقامته جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية ، ضمن مساعيها لاكتشاف المواهب المبكرة في مجالات التقنية العالية. حصلت  مريم وفريقها – وجميعهم طلاب في المرحلة الثانوية – على المركز الأول ، نظير تصميمهم نموذجا لقمر صناعي خاص بالاتصالات. شارك في "المخيم" - حسبما علمت - نحو 300 طالب من مدارس مختلفة في المملكة.

توالي هذا النوع من الاخبار المفرحة خلال العامين الاخيرين ،  يكشف عن زيادة ملحوظة في مسابقات البحث العلمي بين طلاب التعليم العام. واحتمل ان عددها في الشهور الاربعة الماضية ، قد تجاوز العشرين. عناوين الأوراق والأبحاث التي قدمها طلابنا في الفترة المذكورة ، تكشف عن رغبة عميقة في استيعاب تحديات التقنية الحديثة ، ومواجهتها من خلال تجربة فعلية ، قابلة للمقارنة والتقييم.

هذه فرصة غالية أمام المجتمع السعودي ، ينبغي الاهتمام بها ، واستثمارها على نحو يلائم ندرتها واهميتها. تتألف هذه الفرصة من 3 عناصر أساسية: 1- الرغبة الواضحة عند قطاع عريض من الشباب في تفكيك اسرار التقنية ، والانضمام الى قطار المبدعين. 2- رغبة شريحة معتبرة من الكادر الاداري والتعليمي ، في تجاوز المفاهيم القديمة في التعليم العام ، والتي تحصر اغراضه في الاختبار والشهادة. 3- توفر اكثر من جهة رسمية راغبة في دعم هذا النوع من النشاطات ، وأخص بالذكر كلا من مؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهبة والإبداع "موهبة" ، وجامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا ، اضافة لشركة ارامكو.

هذه عناصر ما كانت مبسوطة في الماضي ، على النحو الذي نراه اليوم. لكني مع ذلك اود التأكيد على نقطة أراها ضرورية جدا:  

يصل عدد طلبة التعليم العام في المملكة  الى 6 ملايين ، وتضم الكليات الجامعية والمعاهد التقنية نحو 1.3 مليون طالب. هذه أرقام كبيرة جدا بالقياس الى عدد المشاركين في المنافسات العلمية.  بحسب الارقام المنشورة ، فان اكبر رقم اطلعت عليه هو 3,000 متنافس. واحتمل ان هناك ارقاما اكبر ، لكنها لا تتجاوز 10,000 متنافس. وافهم ان اولوية مطلقة قد منحت للمتفوقين في مختلف الصفوف. لكني أخشى ان هذا النوع من الاختيار قد ينقلب لامتياز سلبي. الامتياز السلبي عبارة عن توجه ضمني ، يحصر الاهتمام في هذه الفئة القليلة التي فازت في المسابقات او رشحت لها. ونعلم ان هذا يجعل مهمة انتاج المبدعين محصورة في دائرة لا يزيد عدد افرادها عن واحد في الالف ، أو حتى نصف هذا العدد.

نحتاج لبرنامج وطني يوسع دائرة المستهدفين بالنشاطات سابقة الذكر ، كي تشمل ما لا يقل عن 10% من اجمالي الطلبة ، اي نحو 750 الف طالب في مختلف مستويات التعليم. هذا رقم كبير ، لكنه ممكن أولا وضروري ثانيا. ضرورته تكمن في أنه يوفر البحر الذي يسبح فيه المبدعون. قد يبرز مبدع او مبتكر ، وسط مجتمع خال تماما من محفزات الابداع. لكن هذا من الصدف النادرة التي لا يعول عليها. فاذا أردنا مبدعين بالمئات والالوف ، فعلينا إقامة محيط اجتماعي منتج للعلم ، متفاعل مع الحياة العلمية وتيارات التقنية. عندها سيجد الشخص الموهوب والشخص الذكي والشخص الطموح بيئة تبرز تطلعاتهم وتعززها ، وتحولها من أمنية الى عمل ، ومن علم الى مال.

انضمام 10% من اجمالي الطلبة ، يحتاج بذاته الى جهد رسمي وأهلي واسع جدا ، ويتضمن خصوصا:

 1- تغيير مفهوم الأداء في مراحل التعليم الابتدائي والمتوسط ، كي يكون معيار النجاح هو نضج التفكير والابتكار ، وليس الحفظ والاختبار النهائي.

2- تدريب الأبوين على تحفيز المواهب عند ابنائهم ، ولا سيما من خلال القراءة والنقاش.

3- تزويد المدارس الابتدائية والمتوسطة بحاضنات الابداع ، اي المكتبة المتجددة ومختبر العلوم واللغات ورحلات البحث وجلسات المناقشة.

هذه في ظني اضافات ضرورية لجعل الابداع والابتكار محورا نشطا في حياة الشباب وعمل النظام التعليمي.

الخميس - 02 ذو القِعدة 1445 هـ - 9 مايو 2024 م  https://aawsat.com/node/5007776

مقالات ذات علاقة

أسس بنكا او ضع عقلك في الدرج
اول العلم قصة خرافية
بين النهوض العلمي والتخصص العلمي

تدريس العلوم بالعربية.. هل هذا واقعي؟

تطوير التعليم من الشعار إلى المشروع

تطوير التعليم من الشعار إلى المشروع
التعليم كما لم نعرفه في الماضي
التمكين من خلال التعليم
التخلي عن التلقين ليس سهلا

تعريب العلم ، ضرورة اقتصادية ايضا

تعزيز التسامح من خلال التربية المدرسية

التعليم كما لم نعرفه في الماضي

التعليم والسوق.. من يصنع الآخر؟

التمكين من خلال التعليم

حقوق الانسان في المدرسة

حول البيئة المحفزة للابتكار

دعـــــوة الى التعــــليم الخــــــيري

سلطة المدير
فتاة فضولية
المدرسة وصناعة العقل
معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

شكوك في العلاقة بين الثقافة والتقدم

صناعة الشخصية الملتبسة

ما هي الأغراض الكبرى للتعليم الوطني

المدرسة وصناعة العقل

المدرسة ومكارم الاخلاق

هل نسعى لتعليم يملأ المكاتب بالموظفين؟

02/05/2024

لماذا نبدأ بالأطفال

 

ردا على مقالة الاسبوع الماضي ، كتب لي أحد الزملاء قائلا: لو صحت الدعوى ، لتحقق المراد اليوم. ففي العالم العربي عشرات الآلاف من مطوري البرامج الأكفاء ، وثمة آلاف آخرون يتخرجون كل عام ، من الكليات المتخصصة في فروع المعلوماتية. ومع هذا لا نرى التطور الذي تزعمه المقالة. بل لازالت الغالبية الساحقة من البرامج التي نستخدمها على مستوى الأفراد والشركات والحكومات ، اجنبية. وحتى إذا كان للمطورين المحليين دور ، فهو لا يعدو التنسيق والتهيئة ، كي تلائم متطلبات البلد. وهذا عمل لا صلة له بالتطوير او الابتكار.

فاذا كان الآلاف الذين لدينا اليوم لم يصنعوا شيئا مهما ، فهل مضاعفة الرقم ستصنع التغيير... بعبارة اخرى: هل المشكلة في العدد ، وهل نقول انه يجب ان يكون لدينا مليون مطور ومبرمج حتى تتحول المعلوماتية الى صنعة وطنية؟.

رأيي ان هذا السؤال عبثي. لكنه – مع هذا – يلفت أنظارنا لنافذة مهمة ، تكشف العوامل التي أدت الى إخفاقنا في الماضي ، والتي قد تؤدي لتكرار الاخفاق اليوم أو غدا. المسألة قطعا ليست في العدد ، مع انه مفيد ، في الجملة. دعوتنا تدور حول الابداع والابتكار وليس زيادة العدد. ويتضح الفرق بين الكثرة والابداع ، من خلال المقارنة بين اقتصاديات الزراعة في الهند ونظيرتها في هولندا. يصل عدد المزارعين في هولندا الى 660 الف ، يقابلهم 152 مليونا في الهند (230 ضعفا). وتبلغ قيمة الصادرات الزراعية الهولندية 132  مليار دولار ، تقابلها 53 مليارا في الهند (اقل من النصف). هل تعرف السر في هذا الفارق الكبير؟. السر هو ان هولندا واحدة من الدول العشر الاولى في قائمة الابتكارات التقنية الجديدة. وهي الاكثر ابداعا في مجال الزراعة.

مرادنا اذن هو ايجاد البيئة الاجتماعية – الثقافية المعززة للابداع والابتكار ، وليس مجرد الزيادة العددية. نحن لا نستهدف تدريب مستعملين للبرامج والاجهزة المستوردة من الخارج ، بل مبتكرين ومطورين يبدعون برامج واجهزة جديدة.  لهذا السبب دعوت في مقال الاسبوع الماضي الى تعليم البرمجة في المرحلة الابتدائية ، ثم جعلها الزامية في المرحلة المتوسطة. ذلك ان الموضوع الذي يشغل ذهن الانسان عند طفولته ، سوف يتحول الى هواية وشغف وجزء اساسيا من حياته اليومية ، حينما يكبر. كثير من الاطفال سوف يكتشفون برمجة الالعاب في سن مبكرة ، وبعضهم سوف يتجه الى حقول اخرى مثل الزراعة والهندسة والعلوم الانسانية ، لكنه سيحمل معه القابلية لربط اي من هذه الحقول بحقل المعلوماتية ، عندئذ سنرى الدخول السلس للذكاء الصناعي في الزراعة والطب والاتصالات والنقل والهندسة.. الخ. العنصر الرئيس في هذه الفكرة اذن هو تعميق انعكاس المعلوماتية في نفس الانسان وعقله وجعلها جزء نشطا من عالمه.

هذا شيء يختلف عن تعليم الحوسبة في الجامعة ، وفق الطريقة التي اعتدناها في معظم الجامعات العربية حتى الآن. تعليمنا الراهن لا يهتم كثيرا بغرس الابتكار ، بل يركز على اتقان استعمال الأجهزة والبرامج ، ثم الحصول على شهادة جامعية تضمن للطالب وظيفة مريحة في حقل المعلوماتية او في اي مجال آخر. أي ان الحوسبة جاءت في شكل اضافة الى معلوماته ، وليست كانشغال ذهني وشغف وهواية في حياته اليومية.

في الصورة الاولى نتوقع الكثير من الابداع. الاطفال الذين يتعلمون شيئا ، يبدعون فيه مبكرا. بل أدعي ان قابلية الابداع واكتشاف الجديد لدى الشاب المراهق ، أقوى وأكثر احتمالا من نظيره المتقدم في العمر. والسر فيه ان خيال الطفل والشاب المراهق خيال منطلق ، لا يتقيد بحدود العقل وقيوده ، بخلاف الشخص الناضج الذي – تبعا لموقعه الاجتماعي وقدراته المادية – يحصر تفكيره في المتعارف والمألوف ، الا في حالات نادرة. لقد بات مسلما في عالم اليوم ان الخيال الجامح المنطلق ، العابر للمعقولات ، هو ابو الابداع وأمه ، وأضيف اليه ان زرع بذور الابداع والابتكار ، يبدأ في بواكير الحياة ، كي يؤتي ثماره في تواليها.

الشرق الاوسط الخميس - 24 شوّال 1445 هـ - 2 مايو 2024 م

https://aawsat.com/node/4996021/

مقالات ذات علاقة

 اول العلم قصة خرافية

بين النهوض العلمي والتخصص العلمي

تدريس العلوم بالعربية.. هل هذا واقعي؟

تطوير التعليم من الشعار إلى المشروع

تعريب العلم ، ضرورة اقتصادية ايضا

التعليم كما لم نعرفه في الماضي

التمكين من خلال التعليم

حول البيئة المحفزة للابتكار

صناعة الشخصية الملتبسة

الطريق السريع الى الثروة

المدرسة وصناعة العقل

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

يوكل علم ؟ ... يعني مايفيد !

 

 

25/04/2024

الطريق السريع الى الثروة

 يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية حول العالم 1,114.22 مليار دولار ، ويتوقع ان تصل في 2030 الى 2,554.76 مليار دولار ، بمتوسط 5.8% سنويا). واذا صحت هذه الفرضية ، فيمكن الاستنتاج بأن هذا القطاع سيكون مصنع الثروات في السنين القليلة القادمة.

هذه فكرة متداولة يعرفها معظم الناس على الارجح. لكني أتساءل دائما: كيف نحول الأفكار الى مصدر للثروة. دعني أضرب مثالا بجان كوم ، وهو مهاجر اوكراني شارك زميله برايان اكتون في تطوير برنامج التراسل الشهير "واتس اب" عام 2009. وفي 2014 دفعت شركة فيسبوك 19 مليار دولار للاستحواذ عليه. لا أتوقع – بطبيعة الحال – ان أرى مثل هذه التجربة كل يوم. لكني استطيع القول دون تحفظ ان الجزء الاعظم من الثروة القومية للولايات المتحدة الامريكية يأتي من هذا المصدر ، اي تحويل الافكار الى أموال.

محمد الشارخ  (1942-2024)

في السنوات الماضية كان يقال ان تجارة الاراضي هي الطريق السريع والآمن لصناعة الثروات. لكننا نعلم انه طريق لعدد محدود جدا من الناس ، لانه يحتاج الى رساميل ضخمة. كما انه يبقى عملا فرديا في الغالب ولا يعود بثمرات مهمة على الاقتصاد الوطني.

أما اليوم فاني ادعي ان اقتصاد المعرفة ، ولاسيما قطاع المعلوماتية والبيانات بكل تفرعاته ، هو الطريق الحقيقي للثروة ، ليس على المستوى الفردي فحسب ، بل على المستوى الوطني أيضا. ثمة ميزات في هذا القطاع تجعل المجتمعات العربية قادرة على  المنافسة على المستوى العالمي ، اذا حولت اهتمامها بصناعة المعلوماتية ، وخصوصا البرامج ، من الاستهلاك او المتاجرة البسيطة ، الى الابتكار والصناعة في كافة المجالات ، بدءا بالعاب الاطفال حتى ادارة المدن الكبرى.

سأركز هنا على ميزتين أراهما واضحتين لكل قاريء:

الأولى: أن هذا الحقل الاقتصادي لا يعمل الا ضمن شبكات. لا يربح الفرد الا اذا ربح كثيرون آخرون. وهذه حقيقة اكتشفها مبكرا عالم الاجتماع الامريكي – الاسباني مانويل كاستلز ، وكتب عنها بالتفصيل في ثلاثيته المسماة "عصر المعلومات - 1996". ومن هنا فان ثمرات العمل لا تنحصر في شخص او عدد محدود ، بل تتسع للمئات والآلاف من الناس. ان برنامج الكمبيوتر يشبه الفكرة التي يبدعها شخص ، ثم يطورها شخص آخر ، ويستثمرها ثالث في استنباط فكرة مختلفة ، وهكذا تتواصل وتتعدد استعمالاتها وعدد المستفيدين منها ، في الانتاج والاستعمال.  تخيل الآن عدد الناس الذي يستعملون واتس اب في اعمالهم ، حجم الارزاق والمعايش التي تمر عبره ، والفوائد المالية التي يجنيها ملايين المستعملين في اصقاع العالم ، والعوائد التي تجنيها الولايات المتحدة الامريكية بسببهم.

الميزة الثانية: لقد تأخرنا في دخول حقل الصناعة ، لا سيما في مستوى  التقنيات العالية. وقد بدأت المجتمعات الاخرى منذ قرن او أكثر ، فاللحاق بهم يتطلب مضاعفة السرعة في التعلم والتطبيق والاستثمار لاختصار الطريق. أما حقل المعلوماتية ، فالعالم كله حديث عهد به. خذ مثلا الصين التي انضمت الى هذا المجال في مطلع القرن الجديد ، وباتت اليوم تنافس الدول الاكثر تقدما في مختلف جوانبه. ومن هنا فان المسافة الزمنية بيننا وبين الاكثر تقدما ، تعد ببضع سنوات وليس اكثر. ما نحتاج اليه في الحقيقة هو الثقة بالذات اضافة الى الاجراءات العملية البعيدة المدى.

يهمني جدا التأكيد على "الثقة بالذات" لأني اشعر ان العرب يفتقرون اليها. ولعل هذا سر تفاخرهم الكثير باشخاصهم وانسابهم. وابسط دليل على افتقارنا لهذا ، هو ان تطوير الحوسبة باللغة العربية جرى في كندا واسرائيل وليس في اي بلد عربي ، خاصة بعد اخفاق التجربة الكويتية الرائدة التي تزعمها المرحوم محمد الشارخ ، صاحب مشروع "صخر" الكمبيوتر العربي الرائد.

اود اختتام هذه الكتابة بالتأكيد على ان اقامة بيئة حاضنة ومحفزة لصناعة المعلوماتية على المستوى الوطني ، في كل بلد عربي ، يحتاج الى مقدمات ، تبدأ من ادراج البرمجة في الصفوف الابتدائية ، ثم جعلها منهجا الزاميا في المرحلة المتوسطة. هذا سينتج جيلا كاملا من رواد الصناعة. وهناك عوامل اخرى ربما نعود اليها في كتابة لاحقة.

الشرق الاوسط الخميس - 16 شوّال 1445 هـ - 25 أبريل 2024 م https://aawsat.news/47t9h

مقالات ذات علاقة

 اول العلم قصة خرافية

بين النهوض العلمي والتخصص العلمي

تدريس العلوم بالعربية.. هل هذا واقعي؟

تطوير التعليم من الشعار إلى المشروع

تعريب العلم ، ضرورة اقتصادية ايضا

التعليم كما لم نعرفه في الماضي

التمكين من خلال التعليم

حول البيئة المحفزة للابتكار

صناعة الشخصية الملتبسة

المدرسة وصناعة العقل

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

يوكل علم ؟ ... يعني مايفيد !

 

11/04/2024

هل تذكرون قصة المغامسي؟

 

لماذا ننتقد الخلط بين الدين/الايمان وبين الهوية.. اليس يقال دائما ان الاسلام دين وهوية ، او دين ووطن أو دين فوق الوطن؟.

 حسنا. هذه اقوال شائعة ، يظنها أكثر الناس بديهية. ولذا لا يتوقفون عندها مسائلين او مجادلين. في حقيقة الامر فان موقع الهوية في التكوين الذهني لأي فرد ، وانعكاسها على سلوكه ، مسألة قابلة للنقاش وليست مسلمة مغلقة. وأنا من القائلين بتعالي الدين على الانتماءات الاجتماعية والقومية ، فلا يصنف كهوية اجتماعية ، ولا يزاحم الهويات الأخرى التي يتبناها الانسان في مسار حياته.

الشيخ صالح المغامسي

في أوقات سابقة ، كنت اتأمل في قول شائع أيضا فحواه انه اذا كان ثمة عيب ، فهو في المسلمين وليس في الاسلام. ويقال عادة حين يجري الجدل في سلوكيات بعض المسلمين ، فتنسب للدين الحنيف ، نظير الاعمال التي تشير لميول عنيفة او تمييزية ، وكذا الدعاوى التي تبرر الابتعاد عن سبل التقدم العلمي والتقني. كما يستذكر بعضنا قول الشيخ محمد عبده  بعد عودته من باريس في 1881م ، وخلاصته انه رأى هناك اسلاما بلا مسلمين ، ورأى عكسه في مصر. وقال مثل هذا الشيخ عايض القرني ، الواعظ السعودي المعروف ، بعد رحلته الباريسية سنة 2008 ونشره في هذه الصحيفة.

هذه الأقوال وأمثالها ، تشير لمسألة يقبلها غالبية الناس فيما أظن ، وهي ان هناك فاصلة بين الصورة المثالية للدين وبين الممارسات اليومية لاتباعه ، فاصلة تضيق حينا وتتسع أحيانا.

وأميل للاعتقاد بأن هذا أمر طبيعي في العلاقة بين أي جماعة بشرية والمنهاج الايديولوجي الذي تتبناه ، سواء كان ربانيا او بشريا. وفيما يخص الاسلام ، فان قولنا بصلاحيته لمختلف الأزمان والأمكنة ، يعني على وجه الدقة ان تطبيقه في أي مجتمع او زمان ، سيكون – بالضرورة - ناقصا او مختلفا عن التصور المثالي ، او مفارقا لواقع الحياة. ولولا هذا ماظهرت حاجة للاجتهاد والتجديد. كل فكرة جديدة ، او لنقل - على سبيل التحفظ – غالبية الافكار الجديدة ، هي في الاصل سؤال لم يجد جوابه في المنظومات الفكرية والسلوكية السائدة ، مما دفع بعض الاشخاص لاعمال فكرهم بحثا عن جواب. وهكذا كل جديد ، في كل حقل ، من الدين الى العلم والتكنولوجيا والأدب ، وغيره.

هذه أمور احسبها محل اتفاق بين جميع المسلمين. مع ذلك فان دعاة الاصلاح والتنوير ، بل كل صاحب رأي جديد ، يواجه عنتا إذا أعلن رأيه. ولعلنا نذكر رد الفعل الخشن الذي قوبلت به دعوة الشيخ صالح المغامسي ، الفقيه السعودي المعروف ، حين تحدث في رمضان من العام الماضي ، عن فتح باب الاجتهاد ولو أدى لقيام مذاهب جديدة.

قصة المغامسي وقصص كثيرة مثلها ، تكشف ان رد الفعل الخشن على دعوات التجديد ، لم تنبعث من خوف على الاسلام كدين قائم بذاته ، بل هي في الغالب نوع من الدفاع عن الذات ، اي عن الهوية الاجتماعية التي تلبس رداء الدين. نعرف هذا لأن الذين يعارضون الدعوات الجديدة ، لا يقولون ان الدين يمنع الاجتهاد ، بل يقولون: ماذا ترك السابقون للاحقين ، وكيف نتخلى عما ورثناه وألفناه.

لا يدعي معارضو الراي الجديد ان الكلام في الدين ممنوع ، لأن الاسلاف قد فعلوا. لكنهم ينكرون على القادمين الجدد مخالفة الأسلاف ، لأنهم جزء من نظام اجتماعي- ثقافي مستقر.

للمناسبة ، فان هذا الموقف الخشن تجاه الآراء الجديدة ، ليس حكرا على مذهب بعينه ، بل هو المسلك السائد في جميع المذاهب الاسلامية بلا استثناء ، وقد تبعتها في هذا الطريق الاحزاب والجماعات التي تدعي انها قامت على اساس ديني.

ويهمني هنا التأكيد على ان نقد الهوية والنظام الاجتماعي الذي يتصف بالاسلام ، لا يساوي نقد الدين. كما ان نقده او نقد الدين ليس مضرا بأي منهما ، بل هو ضروري لتجديد الفكرة الدينية.

 الشرق الاوسط الخميس - 02 شوّال 1445 هـ - 11 أبريل 2024 م   https://aawsat.com/node/4959621

مقالات ذات علاقة

 تأملات في حدود الديني والعرفي

تجديد الخطاب الديني: رؤية مختلفة

التجديد القديم واخوه العصراني

ثوب فقهي لمعركة سياسية

الحداثة باعتبارها حاجة دينيّة وواجباً أخلاقياً "عرض لكتاب "الحداثة كحاجة دينية"

الحداثة تجديد الحياة

الحداثة كحاجة دينية

 الحداثة كحاجة دينية (النص الكامل للكتاب)

حول الحاجة الى فقه سياسي جديد

حول تطوير الفهم الديني للعالم

دعوة لمقاربة فقهية جديدة

دور الفقيه ، وجدلية العلم والحكم

طريق التجديد: الحوار النقدي مع النص

طريق الشوك

عن الحاجة إلى تجديد الفقه الإسلامي

فتاوى متغيرة : جدل المعاصرة في التيار الديني

فتوى الجمهور لا فتوى الفقيه

فقه جــديد لعصر جـديد

قراءة أهـل الشك

مرة اخرى : جدل الدين والحداثة

نظرة على علم اصول الفقه

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

نقد التجربة الدينية

هيمنة الاتجاه الاخباري على الفقه

هيمنة النهج الفقهي على التفكير الديني

04/04/2024

جندية تحمل طفلا

في ابريل من العام الماضي 2023 نشرت قناة سي ان ان الاخبارية الامريكية ، صورة الجندية السعودية "أمل العوفي" وهي تحتضن طفلا وصل للتو الى ميناء جدة ، مع امه التي فرت به من الحرب الاهلية المشتعلة في السودان. اختارت القناة للمادة العنوان التالي: "أمن وأمان وحنان.. مجندة سعودية تخطف القلوب". هذه الصورة جابت العالم شرقا وغربا ، نشرها العديد من الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي ، وأثارت تعاطف الملايين من القراء ، لما تظهره من حنان ورحمة ، يتمنى كل البشر ان تكون السائدة في علاقتهم ببعضهم.

تخيل انك مررت بهذا المشهد ، فهل سترى فعل الجندية حسنا ام قبيحا؟. ماذا لو مر بها شخص مسيحي او بوذي او هندوسي او وثني او ملحد ، هل سيحبها ام يبغضها؟.

لننظر الآن في الوجه المعاكس.. تخيل ان هذا الطفل كان غريبا جائعا تائها عن أهله ، ومر به الناس فلم يعبأوا به ولا سألوا عن مصابه ، فكيف سيكون رد فعلك ، كيف سيكون رد فعل أصحاب الاديان الاخرى والذين لا دين لهم ، هل تظنهم سيفرحون بحال الطفل التائه الجائع ، ام سيشعرون بالأسى ويلومون من رآه فلم يأخذ بيده.

اضف الى هذا.. هل سألت انت عن دين الطفل الذي حملته الجندية أمل ، هل سأل الذين شاهدوا صورته في اي صحيفة أخرى عن هذا ، ام فرحوا بفعلها لانه تعبير عن المعاملة التي يستحقها الانسان كانسان ، أيا كان دينه وعرقه وموطنه.

ماذا عن الطفل الآخر ، هل ستسأل عن دينه قبل ان تعطيه شربة ماء ، هل سيسأل اتباع الاديان الاخرى عن ذلك؟.

لقد اخترت هذين المثالين ، كي تتضح بساطة الموضوع الذي ناقشته في الاسبوع الماضي ، اي فعل الخير كجزء من علاقة البشر ببعضهم ، لا باعتباره جزء من اي شريعة او قانون.

-         لكن لماذا نتحدث في هذا الموضوع ونلح عليه... ألا تأمر كافة الاديان بعمل الخير؟.

الواقع ان الاديان – في عمومها – تأمر بفعل الخير لكل انسان ، وتعتبره صفة ملازمة للايمان. لكن حين نأتي للتفاصيل والتطبيقات التي تنظم سلوك الأفراد ، سنواجه تشريعات معاكسة. لدينا قصص كثيرة التداول عن عواقب الاحسان للضعفاء ، وثمة أحاديث نبوية عن امرأة دخلت الجنة لأنها احسنت الى كلب ، واخرى دخلت النار لانها حبست قطة حتى ماتت جوعا. هذا في التوجيه العام. فماذا عن الاحكام الفقهية التي يعتمدها الناس في حياتهم اليومية؟

سترى آراء لفقهاء يأمرون عامة الناس بمنع الصدقة عمن يتبع مذهبا او دينا مخالفا ، ويصنف عندهم كافرا او مبتدعا او غير مؤمن. بل ثمة من يفتي بعدم رد السلام عليهم ، او الاكل من طعامهم او التبسم في وجوههم او افساح الطريق لهم او مشاركتهم في الاعمال.. الخ.

 لا ينبغي الظن ان هذا يقتصر على مذهب دون آخر ، فهي موجودة بهذه التفاصيل وما هو أكثر في جميع المذاهب الاسلامية. وموجود مثلها واكثر في المسيحية واليهودية وبقية الأديان ، على مستوى التنظير او التوجيه. خذ مثلا تبرير المفكر الفرنسي المعروف مونتسكيو (1689-1755) للرق ، حيث يقول:

"لا يلقى في الذهن كون ﷲ البالغ الحكمة قد وضع روحا طيبة في جسم تام السواد.... محال أن نفترض هؤلاء الآدميين من الناس ، وذلك لأننا إذا ما افترضناهم أناسا ، أخذنا نعتقد أننا غير نصارى". مع العلم بان تعاليم السيد المسيح تعتبر بني آدم كافة اخوة في الله.

الاحظ دائما ان الناس يذكرون المباديء العامة حين يجادلون غيرهم. لكنهم عند التطبيق اليومي يعتمدون فتوى الفقيه. ونعلم ان المبدأ العام يعبر عن الايمان وينسب الى الله ، أما الفتوى فتعبر عن هوية الجماعة/المذهب وتنسب الى الفقهاء او الائمة. لهذا اقول ان الخير العام المفصول عن الدين يلتقي مع الايمان بالله ، بينما الخير المخصص (واحيانا الممنوع) يلتقي مع هوية الجماعة/المذهب.

الشرق الاوسط الخميس - 25 رَمضان 1445 هـ - 4 أبريل 2024 م     https://aawsat.news/w24dd

 مقالات ذات صلة

الاستدلال العقلي كاساس للفتوى

تأملات في حدود الديني والعرفي

الحكم اعتمادا على العقول الناقصة

حول الفصل بين الدين والعلم

حول تطوير الفهم الديني للعالم

دين الانسان

الـدين والمعـرفة الدينـية

الرزية العظمى

شرع العقلاء

عقل الاولين وعقل الاخرين

عن الدين والخرافة والخوف من مجادلة المسلمات

عودة الى نقاش الدور التشريعي للعقل

كي لايكون النص ضدا للعقل

كيف تتقلص دائرة الشرعيات؟

ماذا يختفي وراء جدل العلاقة بين العلم والدين

نسبية المعرفة الدينية

هكذا خرج العقل من حياتنا

هيمنة الاتجاه الاخباري على الفقه

 

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...