29/09/2021

من معاني التجديد

أنا ممن يدعي ان النهوض الاجتماعي يتطلب تجديدا في فهمنا لمعنى وفلسفة الحياة والدين والثقافة. وأعلم ان التاثير العميق للموروث الديني في الحياة والثقافة ، يستدعي على الدوام جدلا حول تجديد الدين ، وما إذا كان في الاصل ، قابلا للتجديد ام لا ، وما اذا كان التجديد يتناول الأصول ام الفروع ام الأدوات والمظاهر.

ومن هنا فاني ادعو القاريء العزيز الى تقبل نقطتين ، أوجز الأولى في "ان لكل جيل من اجيال المسلمين حق ثابت في اعادة صياغة مفهوم الحياة الدينية ، وانتاج نموذج التدين المناسب لزمنه ، دون التزام بما انتجته الاجيال السابقة". اما النقطة الثانية فخلاصتها اننا بحاجة للتمييز بين دائرتين في حياتنا: دائرة يمكن ان نسميها دينية ، وهي مجال اشتغال احكام الشريعة ، ودائرة خارج الدين ، فهي مجال لأحكام العقل النظرية والعملية والاخلاقية.

كلا النقطتين مورد جدل بين التيار الديني التقليدي ونظيره الاصلاحي. يقول التقليديون بان كل ما عرفه البشر في العصور الحديثة ، موجود على شكل حكم مفصل او قاعدة مجملة في التراث الإسلامي. وبالتالي فلا مبرر لقيام الجيل الجديد باي دور او تصرف في المنظومة الشرعية.

وأصل هذه الفكرة هو القول بان الشريعة الإسلامية تحوي كل شيء في الحياة ، او انها قادرة على تنظيم أي جانب من جوانب الحياة. ويتعامل الناس مع هذه الفكرة كأمر بديهي لا يقبل الجدل. ولعل بعض القراء الاعزاء قد صادف كتبا تحمل عنوانا مثل "البديل الإسلامي" ، "قال الإسلام قبل ذلك" ، "هذا الدين للقرن الواحد والعشرين".. الخ.

يعتقد أكثر الناس ان هذه حقيقة ثابتة. فاذا قلت لهم ان هذا غير صحيح ، حسبوك تتهم الإسلام بالنقص والعيب ، وجادلوك دفاعا عن الدين ، وليس نقاشا في الفكرة.

وكنت فيما مضى اذهب نفس المذهب. ثم اكتشفت ان بعض العلوم لم تكن موجودة اصلا في زمن التشريع ولا الأزمان المقاربة له. فكيف تضع أحكاما لشيء لا يمكن تصوره ، فضلا عن معرفته. وخلال بحثي عن الموضوع طرحت هذا السؤال على فقيه بارز ، فأجابني بالجواب المعروف ، وهو ان ما لم يرد حكمه في الكتاب والسنة ، فان حكمه يستمد من اقرب القواعد العامة المتعلقة بموضوعه. فسألته عن حكم لبس الساعة ، فلاحظ في لهجتي شيئا من السخرية ، فتمالك نفسه واجاب انها مباحة ، فجادلته بان الاباحة ليست حكما ، لان القول بان الاباحة حكم ، تكلف من غير داع ، ولا طائل تحته ، وان القول الصحيح هو ان لبس الساعة ليس من قضايا الشريعة ، فان وافقتني ، فان القول بشمولية الشريعة لا يصح.

وفي وقت لاحق وقعت على نقاش بين اثنين من الفقهاء البارزين ، اولهما الشيخ يوسف البحراني الذي قال بان آيات مثل "ما فرطنا في الكتاب من شيء" و "ﺗﺒﻴﺎﻧﺎ ﻟﻜﻞ ﺷﻲء" وأمثالها تدل على ان كل شيء في الحياة له حكم في الكتاب او السنة ، حتى ارش الخدش (التعويض عن الجرح الطفيف). وقد رد عليه الشيخ احمد النراقي قائلا: ان سياق الايات يدل على ان في الكتاب تبيين لكل شيء يجب بيانه ولا يصح السكوت عنه ، لا انه يبين كل شيء على الاطلاق. والدليل هو ما نراه فعلا من الاف الموضوعات والمسائل التي لم يخبرنا الشارع عن حكمها ، وهي تتزايد يوما بعد يوم. والى هذه الناحية اشار ابو الفتح الشهرستاني في "الملل والنحل" حين قال ان النص محدود والحوادث غير محدودة ، فكيف يستوعب المحدود ما لاحد له ولا حصر؟.

الشرق الاوسط  21 صفَر 1443 هـ - 29 سبتمبر 2021 م

https://aawsat.com/node/3215266/


مقالات ذات علاقة

تأملات في حدود الديني والعرفي

تجديد الخطاب الديني: رؤية مختلفة

ثوب فقهي لمعركة سياسية

حول الحاجة الى فقه سياسي جديد

حول تطوير الفهم الديني للعالم

دعوة لمقاربة فقهية جديدة

دور الفقيه ، وجدلية العلم والحكم

عن الحاجة إلى تجديد الفقه الإسلامي

فتاوى متغيرة : جدل المعاصرة في التيار الديني

فتوى الجمهور لا فتوى الفقيه

فقه جــديد لعصر جـديد

نظرة على علم اصول الفقه

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

نقد التجربة الدينية

هيمنة الاتجاه الاخباري على الفقه

هيمنة النهج الفقهي على التفكير الديني

 

22/09/2021

جدل اليوم وكل يوم

 

أكثر الجدالات سخونة في العالم العربي اليوم ، يتناول دور الدين في الحياة العامة ، وعلى الخصوص في ادارة الدولة وعملها اليومي.

لكل بلد عربي قائمته الخاصة من الازمات الصغيرة او الكبيرة ، من الفقر الى البطالة واضطراب الامن وتعثر النمو ، وضعف المشاركة السياسية وغياب الحريات المدنية..الخ. ومع كل هذه المشكلات فان ما يسمى "الاسلام السياسي" بشعاراته وشخوصه وجماعاته وتاريخه ، لازال مادة أثيرة للجدل ، بل لا أبالغ لو قلت انه يفوق كل الازمات الاخرى ، في جاذبيته لاهتمام الجمهور ونخبته على السواء. وان اردت التحقق من صدقية هذا القول ، فانظر مواقع التواصل الاجتماعي في أي قطر عربي ، او انظر صحافته ، وسترى انه نادرا ماتخلو صحيفة من اخبار او نقاشات تتصل ب "الاسلام السياسي".

تضخم اهتمام الناس على هذا النحو ، لايعني بالضرورة انهم يشبعون الموضوع بحثا وتحليلا ، بل على العكس تماما: فهذا نوع من القضايا التي كلما زاد الكلام فيها ، زاد غموضها واختفت معالمها ، وتعددت مذاهبها ، فلا يمكن لخبير طرقها ، دون ان يقابل من يعرقل سعيه او يستشكل عليه بما يصح وما لايصح ، فضلا عن اتهامه في مكنونات نفسه ونواياه. ومن هنا بات النقاش فيها اقرب الى السير على الشوك.

وقد لفت نظري هذا الاسبوع ماقاله الأستاذ يوسف ابا الخيل ، الكاتب السعودي المعروف (18-سبتمبر-2021) فقد كتب اولا على تويتر ، منصة التواصل الاجتماعي: "ما يهمك مني هو كيفية تعاملي معك ومدى التزامي بواجبات المواطنة ... اما مذهبي فهو بيني وبين خالقي". في اليوم التالي كتب ابا الخيل تعليقا على كثرة الردود المسيئة: "كمية الردود المتشنجة على هذه التغريدة ، توضح أنه لا يزال بيننا وبين معرفة واجبات المواطن في الدولة المدنية الحديثة ، مسافات ضوئية". ان معظم الردود المسيئة (والشتائم) جاءت من اشخاص يزعمون الدفاع عن الدين الحنيف ، مع ان التغريدة لا تمس الدين من قريب ولا بعيد.

ويظهر لي ان تضخم الموضوع المذكور لا ينبيء عن اهتمام معرفي ، بل هو انفعال عاطفي سلبي ، سببه فيما أظن ، هو انعكاس المسار وما تبعه من خيبة الأمل.

بيان ذلك: ان الجمهور العربي (في المجمل) كان يتطلع لنخبة جديدة تولد من رحم الربيع العربي. ومثل كل الحالمين ، تخيل الناس ان هذه النخبة ستكون عارفة بالحكم ، نظيفة الكف ، متواضعة النفس ، وزاهدة في السلطة. وحين نظروا للساحة ، اعتقدوا ان من يرفع شعار الاسلام ويلبس ثيابه هو الأجدر بحمل تلك الأوصاف. ولهذا حصل رموز الاسلام السياسي وقادته على دعم لا سابق له.

لكن سرعان ما انعكس المسار ، فقد ظهر ان النجوم الجدد لم يكونوا عارفين بالحكم ولا زاهدين في السلطان ، ولا قادرين على علاج مشكلات الانتقال الى نظام تشاركي. ونعرف ما حصل لاحقا في مصر وتونس والسودان والمغرب والعراق وغيرها ، حين انقلب الجمهور وذهب في الاتجاه العكسي.

تخلي الجمهور عن التيار الاسلامي مثل دعمه سابقا ، لم يكن ثمرة نقاش علمي أو واقعي ، بل هو – مثل سابقه – انفعال أملاه الشعور بالاحباط وخيبة الأمل. ولهذا السبب تحديدا ، فانه لم يؤد الى تفريغ مخزون القلق على المستقبل ولم يعزز اليقين في الذات الجمعية. ان استمرار الاضطراب الداخلي والهجرات الجماعية ، هو اوضح مؤشر على الارتياب العميق في مسارات السياسة القائمة.

حين يتناقش الناس في قضايا الاسلام اليوم (حتى في امور العقائد والعبادات بل حتى التاريخ) فانه سرعان ما ينفتح عليهم مخزون القلق ، الذي تحول الى قلق على الدين وعلى الهوية الجمعية ، مع انه كان في الاصل مجرد انعكاس لازمات سياسية ، لا علاقة لها بالدين.

الشرق الاوسط الأربعاء - 15 صفر 1443 هـ - 22 سبتمبر 2021 مـ رقم العدد [15639]

https://aawsat.com/node/3202221

مقالات ذات علاقة

 

اقامة الشريعة بالاختيار

ان تكون سياسيا يعني ان تكون واقعيا

التحدي الذي يواجه الاخوان المسلمين

توفيق السيف في مقابلة تلفزيونية حول الربيع العربي وصعود التيار الاسلامي

جدل السياسة من الشعارات الى البرامج

حاكمية الاسـلام … تحــولات المفـهــوم

الحد الفاصل بين الاسلام و الحركة

الحركة الاسلامية ، الجمهور والسياسة

الحركة الاسلامية: الصعــود السـر يـع و الا سئـلة الكبرى

الحل الاسلامي بديع .. لكن ما هو هذا الحل ؟

الديمقراطية والاسلام السياسي

سلع سريعة الفساد

الصعود السياسي للاسلاميين وعودة الدولة الشمولية

مباديء اهل السياسة ومصالحهم

مشروع للتطبيق لا تعويذة للبركـة

مصر ما زالت متدينة لكنها خائفة من التيار الديني

من الحلم الى السياسة

نقد المشروع طريق الى المعاصرة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

15/09/2021

تفكيك التداخلات



بعضنا يلح على ان الدين شرط لنهضة العرب. وبعضنا يقول بعكس هذا: ان ترك الدين شرط للالتحاق بركب الحضارة. ثمة فريق ثالث – وانا منهم – ينفي وجود علاقة سببية بين الدين والتقدم. بمعنى ان الدين يمكن ان يحفز المؤمنين للنهوض العلمي ، ويمكن ان يثبطهم. يمكن للدين ان يتعايش مع التخلف او مع التقدم من دون فرق تقريبا.

عمر البشير ايام قوته

كان المرحوم مالك بن نبي بين المفكرين الذين أكدوا على علاقة الدين بالنهضة. لكنه في التحليل النهائي جعل تلك العلاقة مشروطة بعوامل خارج اطار الدين. وهو يقول ان الدين لم يخرج من النفوس ، لكنه فقد فاعليته (مالك بن نبي: وجهة العالم الاسلامي ، ص 32). ويستشهد بمثال في غاية البساطة: كانت امهاتنا يعانين من الم الظهر يوميا حين يستعملن المكنسة القصيرة ، لكن ايا منهن لم تفكر في اضافة عصا طويلة كي تواصل التنظيف من دون ان تنحني. لقد انتظرن عشرات السنين ، حتى جاء الاوروبيون بالمكنسة ذات العصا الطويلة ، التي خلصتهن من الالم (مالك بن نبي: وجهة العالم الاسلامي، ص 141).

لم يكن الدين حاجزا لهن عن التفكير في هذه المشكلة الصغيرة وحلها. لكن الدين لم يكن محفزا ايضا ، رغم ان مالك كان يراه عامل ربط مناسبا بين العناصر الثلاثة التي تحتاجها الحضارة ، اي الانسان والتراب (الطبيعة) والزمن.

وفي تجارب البشر أمثلة عديدة عن مجتمعات متدينة وأخرى غير متدينة ، نهضت او تخلفت. فلا الدين منع الذين ارادوا النهوض ولا هو الذي حفز الخائبين. وأما ما يقال من نهوض العالم الاسلامي في عصره القديم ، فلاشك ان الاسلام كان له دور ايجابي ، لكن هذا لا يثبت كون الدين علة للنهضة ، انما يثبت ان الدين لايمنع النهوض. ولهذه المناسبة أود تنبيه القاريء العزيز ، الى رؤية الفيلسوف ديفيد هيوم القائلة بالتمييز بين اقتران شيئين مع بعض ، زمنيا أو مكانيا ، وبين كون أحدهما سببا أو علة للآخر. انني لا اذهب مذهب هيوم في  انكار مبدأ السببية في غالب حالاته. لكن فيما يخص موضوع نقاشنا ، فان تكرار التجارب يؤكد ان علاقة الدين بالنهضة ، لم تصل حتى الى مرتبة التقارن او التزامن ، فضلا عن السببية.

ان غرضي من التأكيد على هذه المسألة ، هو تفكيك التداخلات المفتعلة بين الدين والظواهر الحياتية الأخرى. وأتذكر في هذه اللحظة ، خطبة للرئيس السوداني السابق عمر البشير ، بعيد استيلائه على الحكم في 1993 افتتحها بالآية المباركة "ولو ان اهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض". فقد لاحظت ان الصحافة الإسلامية احتفت بهذا الكلام ايما احتفاء ، ورأيت كثيرا من اشقائنا السودانيين في غاية التفاؤل ، بأن البلد واقتصاده يتهيأ لنهضة واسعة. لكنا نعلم ان السنوات التالية شهدت تدهور اقتصاد السودان ، وخسارة نصفه الغني بالنفط والثروات الطبيعية الأخرى.

كان مالك بن نبي قد حذر من هذا الربط اللاعقلاني ، واعتبره نوعا من "الانقياد الاعمى الى الدروشة[1]". اني أرى كثيرا من المؤمنين اليوم ، يظن ان مجرد التدين سيؤدي الى التقدم والحضارة ، وان عدم بلوغنا هذه المرتبة سببه قلة إيماننا. لكن هذا مجرد وهم او "دروشة". ولو كان صحيحا لكانت قندهار هي عاصمة العلم والمال في العالم وليست واشنطن.

ثمة من يظن ان نفي العلاقة المذكورة تهوين من شأن الدين الحنيف ، وان تبجيله يقتضي نسبة كل محبوب اليه. واقع الامر ان كل شيء في هذه الحياة له دور يؤديه وغاية يصل اليها ، فما الداعي لربط التبر بالطين؟.

الشرق الاوسط الأربعاء - 8 صفر 1443 هـ - 15 سبتمبر 2021 مـ رقم العدد [15632]

https://aawsat.com/node/3189656/

مقالات ذات صلة

 اختيار التقدم

الأمل الآن وليس في آخر الطريق

بقية من ظلال الماضين

التقدم اختيار.. ولكن

 تلميذ يتعلم وزبون يشتري

 التمكين من خلال التعليم

الحداثة تجديد الحياة

خطباء وعلماء وحدادون

 شكوك في العلاقة بين الثقافة والتقدم

08/09/2021

الاسئلة التي تزيدنا جهلا


قبل تسعين عاما اصدر الامير شكيب ارسلان كتابه الشهير "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم". ويذكر في قصة الكتاب انه جاء استجابة لنقاشات دارت في تلك الايام ، على خلفية التحدي الاوروبي للعالم الاسلامي ، في مجال العلم والاختراع والقوة العسكرية والاقتصادية وغيرها.

خلال ربع القرن الأخير ولدت أسئلة جديدة ، وتبين ان سؤال الامير شكيب أقام سياقا ، هو بذاته مشكل.  ولهذا لم نستفد منه في اثارة نقاش جاد ، بل تحول الى وسيلة تنفيس عن القهر.

شكيب ارسلان

بيان ذلك: ان سياق النقاش افترض مسبقا ان التأخر والتقدم مرتبط بالدين ، تبعا للدعوة الاوروبية الى العلمانية. وقد ردت النخبة المسلمة على هذا الادعاء ، بتنزيه الاسلام عن التخلف او التسبب فيه. وقد بدا لي من دراسة تلك النقاشات ، ان موضوع الجدل يومئذ هو "الهوية" وليس "الدين" ، اي الاسلام باعتباره عنوان انتماء ورابطة بين اتباعه. لم يكن لمسألة التقدم كبير شأن في تلك النقاشات ، فقد انحصرت في الرد على دعاوى الغرب ومساعيه للنفوذ في العالم الاسلامي. وتبعا لذلك تحول موضوع التقدم الى عنوان للجدل في موضوع مختلف تماما هو علاقة المسلمين بالغرب.

أدى الاختلاط بين هذين النقاشين ، الى اهمال تام لمسألة التقدم كموضوع مستقل ، له شروطه وحاجاته وسياقه الخاص. واظن ان هذا كان من اعظم الرزايا التي ابتلي بها العرب والمسلمون ، في حاضرهم وماضيهم. فحين تهمل مسألة التقدم ، فانك ستنصرف – شئت ام ابيت – الى تقديس الماضي ، وسيتحول حاضرك الى امتداد للماضي ، فتبقى متخشبا في موقعك من التاريخ ، بينما يتحرك البشر الى الأمام.

واضيف الى هذه الرزية ، ان العلاقة مع الغرب قد تلبست رداء الدين ، وفسرت في سياق الصراع بين الأديان ، كما استدعي التصوير الوارد في النص الديني ، كوصف نهائي لهذه العلاقة.

يعلم العقلاء ان علاقات الامم (حتى المتعادية منها) تتغير بين زمن وآخر ، تبعا لتغير الظروف والمصالح وموازين القوة. لكننا – للسبب الوارد اعلاه – جمدنا هذه العلاقة في صورة واحدة هي العداوة ، حتى ان فقهاء المسلمين اتفقوا قولا واحدا على حرمة السفر الى تلك البلاد الا لحاجة ماسة ، وليس للتعارف والتسالم والتعلم وعمران الارض ، كما  هو حكم العقل ، فضلا عما نعرفه من مقاصد الرسالة المقدسة.

حين اتطلع اليوم الى العالم من حولي ، أجد الغرب محيطا بنا من كل جانب. ولهذا تعددت صور العلاقة معه. وبسبب الفهم الموروث الذي القى عليها رداء الدين ، فقد انشغلنا بتصور اشكال العدوان الغربي ومؤامرات الغرب وخيانة الغرب ، وغير ذلك من التصويرات والتشبيهات البليغة ، التي لا تخبرنا عن واقع ولاتكشف مخفيا ، بقدر ما تعزز اوهامنا القديمة ، وتكرس عزلتنا الروحية عن عصرنا وعالمنا.

من يتشكك في صدقية هذه الدعوى ، أدعوه لمراجعة ردود فعل المسلمين على الانسحاب الامريكي من افغانستان ، وكيف تحول من موضوع للنقاش الجاد (هل هو جيد ام سيء ، هل كنا نريده ام نرفضه ، هل احسن الامريكان الى الافغان ام اساؤوا ، هل ينطوي على فرص ام تحديات.. الخ) تحول موضوعا للتندر والسخرية ، وجمع المعايب والمبالغة في تصويرها ، واستخدامها في بيان قبح الغرب عموما وامريكا خصوصا.

اليس هذا هو ما تعلمناه طيلة قرن من الزمان؟.

ترى من الذي تضرر من هذا الفهم الاعوج.... نحن الذين تجمدنا في نقطة قصية من تاريخ البشرية ، ام الغرب الذي يتحرك الى الامام بسرعة الطائرة؟.

الشرق الاوسط الأربعاء - 30 محرم 1443 هـ - 08 سبتمبر 2021 مـ رقم العدد [15625]

https://aawsat.com/home/article/3176371/

مقالات ذات علاقة

 

الاسئلة الباريسية

انقاذ النزعة الانسانية في الدين

تلميذ يتعلم وزبون يشتري

الحركة الاسلامية ، الغرب والسياسة -1

حول طبيعة السؤال الديني

 خلافة على منهاج نبوة

الديمقراطية والاسلام السياسي

ركاب الدرجة السياحية

الشيخ القرني في باريس

العولمة فرصة ام فخ ؟

قادة الغرب يقولون دمروا الاسلام ابيدوا اهله

كيف نتقدم.. سؤال المليون

مباديء اهل السياسة ومصالحهم

مشروع للتطبيق لا تعويذة للبركـة

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

نقد المشروع طريق الى المعاصرة

وهم الصراع بين الحضارات

اليوم التالي لزوال الغرب

 


02/09/2021

الفلسفة السياسية : تمهيد موجز جدا

 البروفسور ديفيد ميلر

المؤلف:

"غرضي من هذا الكتاب هو جعل الفلسفة السياسية جذابة وميسرة للاشخاص الذين لم يقرأوا فيها من قبل. ولذا حاولت جاهدا تبسيط الأفكار الى اقصى حد ممكن ، من دون التضحية بالدقة اللازمة في هذا النوع من الموضوعات. كان الجمع بين الايجاز والدقة والتبسيط ، تحديا غير يسير ، سيما حين تحتاج لشرح أفكار مجردة ، من دون الغرق في المصطلحات الدقيقة للعلم ، وهو الامر الذي تسبب أحيانا في اضعاف الاعمال الاكاديمية".


يقدم الكتاب اطلالة بانورامية على عدد من اهم المفاهيم الأساسية في الفلسفة السياسية: السلطة ، الحرية ، العدالة ، إضافة الى مسائل الهوية الاثنية والجندرية. وهو مكتوب بطريقة جدلية ، تشجع القارئ على التأمل في الأسئلة الخاصة بالموضوع ونقد الطروحات التي يقترحها الكاتب.

للقراءة والتنزيل: موقع ارشيف اضغط هنا

01/09/2021

الاسئلة الخطأ

 

استيلاء حركة "طالبان" على العاصمة كابل ، أثار – كما توقع الجميع – نقاشات مستجدة حول الحكومة الدينية وسلطة رجال الدين. ومرة اخرى ذهبت نقاشاتنا في اتجاه لا يفيد معرفة ولا يثبت رأيا. في اعتقادي ان سؤال: هل حكومة "طالبان" اسلامية ام لا ، سؤال خطأ ، فلا يمكن ان يأتي بجواب صحيح مهما حاولت.

سواء اعتبرنا حركة "طالبان" جيدة او سيئة ، اسلامية ام قبلية ، فان السؤال المتعلق بتشكيل الحكومة ينبغي ان يبدأ في نقطة أخرى ، هي الشرعية السياسية.

بكلمة موجزة ، تعرف الشرعية السياسية ب "الحق او المبرر الذي يسوغ لاشخاص محددين اصدار الاوامر للناس والتصرف في المال العام ، والحق او المبرر الذي يسوغ للمواطنين طاعتهم من دون ان يشعروا بان أولئك الاشخاص يستعبدونهم". أقرب مثال يوضح الفكرة هو علاقة الموظف بمديره: حين يأمرك المدير بأمر ، فان كليكما يعرف الاساس او المبرر الذي يسوغ له اصدار الامر ، ويسوغ لك طاعة الامر ، رغم انك لست عبدا له. المبرر طبعا هو عقد العمل الذي وقعته مع رب عملك.

بالعودة الى افغانستان.. فان دستورها الصادر في 2004 هو وثيقة العقد الاجتماعي بين المواطنين ، والتي تشكل مصدر الشرعية القانونية ، كما تحدد طريقة نيل الشرعية السياسية. هذا الدستور هو القانون الاعلى للبلاد ، وهو مرجع كافة القوانين ، واليه يرجع تفويض السلطات وتبريرها.

لكن السؤال الذي يسبق الدستور ، هو بالتأكيد سؤال الدولة ذاتها: ما هي هذه الدولة التي ستنظم امورها طبقا لهذا الدستور؟. نسمع طبعا من يتحدث عن "امارة اسلامية". لكن ليس لدينا نموذج مماثل في هذا العصر كي نقيس عليه ، اما نموذج الحكم الذي اقامته "طالبان" نفسها بين عامي 1996 و 2001  فقد كان فوضويا وغير مستقر ، ولذا لا يمكن القياس عليه ، بل حتى زعماء طالبان يقولون بشكل صريح او ضمني انهم لن يكرروا تلك التجربة.

يمكن ان تناقش سؤال الدولة من اي زاوية. لكنك مضطر ، في نهاية المطاف ، لطرح نموذج الدولة القومية الحديثة ، لأنها النموذج الوحيد المتلائم مع النظام الدولي والقوانين التي تحكم العلاقات بين الأمم. بعبارة اخرى ، فان اي دولة مضطرة الى اقامة علاقات مع دول العالم الاخرى ، ولن تستطيع العيش في  عزلة. هذه العلاقات منظمة فعليا في اطارات قانونية ومؤسسية راسخة ، لا تفسح مجالا إلا لنموذج الدولة القومية.

لعل طالبان تعتزم اقامة دولة قومية ، وتطلق عليها اسم الامارة الاسلامية ، فهناك العديد من الدول ، من بينها افغانستان نفسها وباكستان وايران وموريتانيا ، تحمل اسم الجمهورية الاسلامية ، لكنها في واقع الامر دول قومية.

لا بد لحركة "طالبان" ان تسير في هذا الاتجاه (بغض النظر عن الاسم) ، اي ان تقيم دولة قومية ذات نهج تعددي ، يحترم كافة المكونات القومية والدينية ، ويقيم هوية وطنية جامعة ، لا ترهن علاقة المواطن مع بلده او مع حكومته ، بعرقه ولا بدينه او قبيلته او طريقة حياته. يمكن للمواطن ان يكون مسلما او بوذيا او هندوسيا ، ويمكن ان يكون من البشتون او الازبك. لكن ما هو مهم هو الهوية الوطنية التي لا تميز بين اي من هؤلاء.

تمثل الدولة القومية إطارا مناسبا للمشاركة المتساوية في الحقوق والفرص المتاحة في المجال العام ، والوصول الى الوظائف العامة. هذه المساواة القانونية هي التي تعزز امل المواطنين في المستقبل ، وتبرر تحميلهم الواجبات والمسؤوليات المقابلة لتلك الحقوق ، وابرزها واجب الدفاع عن البلد والمساهمة في بنائه.

ان اي حكومة ، في اي بلد ، مسؤولة في المقام الاول عن دنيا الناس وعمرانها ، اما آخرتهم ، فكل منهم مسؤول بشكل شخصي عن مصيره "وكلهم آتيه يوم القيامة فردا".

الشرق الاوسط الأربعاء - 23 محرم 1443 هـ - 01 سبتمبر 2021 مـ رقم العدد [15618]

https://aawsat.com/home/article/3163791/

مقالات ذات علاقة

توفيق السيف في مقابلة تلفزيونية حول الربيع العربي وصعود التيار الاسلامي

مصر ما زالت متدينة لكنها خائفة من التيار الديني

التحدي الذي يواجه الاخوان المسلمين

الصعود السياسي للاسلاميين وعودة الدولة الشمولية

مباديء اهل السياسة ومصالحهم

اقامة الشريعة بالاختيار

الحد الفاصل بين الاسلام و الحركة

الحركة الاسلامية: الصعــود السـر يـع و الا سئـلة الكبرى

الحل الاسلامي بديع .. لكن ما هو هذا الحل ؟

جدل السياسة من الشعارات الى البرامج

حاكمية الاسـلام … تحــولات المفـهــوم

نقد المشروع طريق الى المعاصرة

مشروع للتطبيق لا تعويذة للبركـة

الحركة الاسلامية ، الجمهور والسياسة

الديمقراطية والاسلام السياسي

من الحلم الى السياسة

ان تكون سياسيا يعني ان تكون واقعيا

 

سلع سريعة الفساد

 

25/08/2021

الخطة ب: افغانستان وتعزيز الاتجاه التصالحي

اريد في هذه السطور اقتراح استراتيجية عمل لإنقاذ افغانستان من السيطرة الأحادية لحركة "طالبان" ، في حال مالت الحركة للاستئثار بالسلطة ، أو عاملت المواطنين بتعسف ، على نحو ما فعلت في تجربتها السابقة. يتسع المقام لعرض المفهوم فقط ، ومن يتابع التحولات السياسية لن يصعب عليه استنباط التفاصيل. جوهر هذه الاستراتيجية هو احتواء الحركة وتوجيه مسارها السياسي وصولا الى تأهيلها ، بدل قمعها او اطلاق يديها. الغرض النهائي هو تلافي قيام بؤرة لتصدير العنف الذي يتلبس برداء الدين الحنيف ، كما جرى قبل 20 عاما.

خريطة افغانستان: الملاذ الآمن المقترح هو المثلث الواقع شمال غرب البلاد

اما الأغراض التكتيكية فهي ثلاثة: اولها الحيلولة دون استئثار طالبان بالسلطة. نظرا لأنه سيؤدي الى فراغ سياسي وأمني في شمال وغرب البلاد ، يسمح بقيام تمردات مسلحة او انتشار الفوضى ، ومن ثم تفاقم الاتجاهات المتطرفة في "طالبان" وغيرها.

أما الغرض الثاني فهو تعزيز الاتجاه التصالحي وسط الحاضن الشعبي للحركة ، من خلال الاستمرار في توفير مصادر العيش الطبيعي ، والحيلولة دون تدهور حاد لمستوى المعيشة. هذا سيعزز – طبيعيا - الميل للمسالمة بين اعضاء الحركة نفسها ، وهو امر مطلوب لذاته ، خاصة بعدما انفردت بالسلطة.

الغرض الثالث هو توسيع فاعلية المجتمع ، من خلال المحافظة على مسار التحول نحو الحداثة ، الذي بدأ مع سقوط حكومة طالبان الاولى نهاية 2001. المجتمع الافغاني اليوم اكثر ميلا للحداثة من  أي وقت. انظر للصور التي يبثها التلفزيون ، سترى ان معظم الناس يحملون اجهزة اتصالات ذكية ، بمن فيهم مقاتلو طالبان نفسها. هذه الوسيلة التي تصل الانسان بالعالم ، هي اقوى تحد لأي حكومة قمعية او تقليدية. يجب المحافظة على شبكات الاتصال والانترنت ، مهما كانت الكلفة ، فهذا جزء مهم من الجهد الضروري لاتقاء موجة ارهابية محتملة. الهاتف والانترنت مثال ، ومقصودنا عموما هو  الاستمرار في تعزيز الحراك الحداثي واضعاف هيمنة التقاليد ، في التعليم والتفكير وانماط العيش والاقتصاد وغيرها.

جوهر الاستراتيجية المقترحة هو إنشاء "ملاذ آمن" أي منطقة حكم ذاتي ، تديره حكومة مستقلة مؤقتا عن الإدارة المركزية في العاصمة. وتضم المحافظات الواقعة من باميان حتى هرات في الغرب ومزار شريف في الشمال ، أي نحو 15 من اصل 34 محافظة.

على المستوى الإنساني ، يمكن لهذه المنطقة الواسعة نسبيا ، ان توفر ملاذا للهاربين من سيطرة "طالبان". وعلى المستوى السياسي والاستراتيجي ، ستشكل عامل ضغط شديد على قيادة الحركة ، للقبول بنظام سياسي ديمقراطي او توافقي ، ومنع استبداد أي طرف بمصادر القوة او اقصاء الآخرين.

مبدئيا يمكن تأليف الحكومة من الائتلاف الذي كان يدير البلاد سابقا برئاسة الرئيس الأسبق حامد كرزاي. ويجب ان يعترف العالم بهذه الحكومة ، وان يتعامل معها كممثل رسمي للبلاد (منفردة او كشريك في السيادة) رجوعا الى الدستور الافغاني الذي يعتبر الانتخابات العامة ، طريقا وحيدا لنيل الشرعية السياسية وتقلد المناصب العامة.

الفرضية العامة التي تقوم عليها الاستراتيجية المقترحة ، هي ان طالبان اليوم غير التي عرفناها قبل 20 عاما ، وانها راغبة في ممارسة السلطة لأغراض دنيوية ، أي ان تفكيرها يتأثر بعامل المصلحة العقلانية ، إضافة للأيديولوجيا. كما ان جسمها البشري لم يعد مقتصرا على طلبة العلوم الشرعية في باكستان او قندهار. انها اليوم اقرب الى ميليشيا عادية تستهدف نيل السلطة ، ويعمل أعضاؤها مقابل اجر مادي وليس طلبا للاخرة.

المجتمع الافغاني تغير هو الاخر ، ولم يعد جاهلا بحال العالم ، مغيبا عن الشأن العام ، ولا خاضعا للاعراف القبلية. هذه الأرضية تعطينا فكرة عن: كيف تفكر طالبان  وكيف يفكر الأفغان.

لا يتسع المجال لشرح أوسع. لكن لا بد من الإشارة الى ان فكرة الملاذ الآمن قد لا تقي من حرب أهلية. وهذا يستدعي التفكير في العديد من الخيارات الموازية. لكن المؤكد ان وجودها يقلل من الكلفة الإنسانية لتلك الحرب ان وقعت.

الشرق الاوسط الأربعاء - 17 محرم 1443 هـ - 25 أغسطس 2021 مـ رقم العدد [15611]

https://aawsat.com/node/3150261/

   

مقالات ذات صلة

 ابعد من تماثيل بوذا

الاسئلة الخطأ

البلاد بوصفها مسرح العرائس

التحدي الذي يواجه الاخوان المسلمين

الحد الفاصل بين الاسلام و الحركة

الحركة الاسلامية: الصعــود السـر يـع و الا سئلة الكبرى

الحل الاسلامي بديع .. لكن ما هو هذا الحل ؟

الديمقراطية والاسلام السياسي

الصعود السياسي للاسلاميين وعودة الدولة الشمولية

مباديء اهل السياسة ومصالحهم

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...