لا أرى فرصة للنقاش المفيد بين المدافعين عن النسخة التقليدية من الدين وبين
دعاة التنوير/الحداثة. ينتمي كل من الفريقين الى نظام معرفي وقيمي ، مختلف تماما
عن الآخر. يتمثل دعاة التنوير روح العصر وفلسفته ، وينفتحون على مصادر المعرفة فيه
، بل ربما وضعها بعضهم في مرتبة مساوية لمرتبة الوحي ، لأن العقل
عندهم مصدر مستقل للقيم والتشريع. يعتقد
هؤلاء ان المهمة الكبرى للاسلام المعاصر ، هي تقديم نموذج ايماني قادر على استيعاب
حاجات الزمان وتحدياته ، نموذج قابل للحوار
والتفاهم مع التيارات الروحية والايديولوجيات السائدة في عالم اليوم.
خلافا لهذا فان الفريق التقليدي يرفض كليا فكرة المساواة بين العقل والقرآن في التشريع وإنتاج القيم ، ويعطي المكانة الثانية للسنة النبوية. مكان العقل – عندهم - هو خدمة الكتاب والسنة ، ليس موازيا لهما ولا مستقلا عنهما. أما المهمة الكبرى للمجتمع الإسلامي المعاصر ، فهي حماية أبنائه من تأثير الحضارة الغربية الغالبة. هذا المنظور الدفاعي انعكس على شريحة واسعة جدا من النتاج الفكري والفقهي لهذا الفريق ، فبات ميالا بشدة الى التبرير والدفاع ، بدل النقد الذاتي الضروري للتطور.
هذه المنطلقات تعني ان كلا من الفريقين يفكر بطريقة
مختلفة ، ويتحدث بلغة لا يمكن للفريق الآخر ان يتقبلها ، لأنها تعارض ما يعتبره بديهيا
من بديهيات منهجه. الحقيقة ان الطرفين لا يديران نقاشا معمقا في المباديء الرئيسية
والارضية الفلسفية التي يقف عليها كل منهما ، نقاش ربما أثمر عن تعديل في رؤيتهما
العامة. تبدأ النقاشات دائما في التفاصيل والفروع ، وقد تصل الى المباديء العامة ،
لكنها في الغالب تواصل الدوران حول الفروع.
تجري الأمور عادة على النحو التالي: يطرح
التنويريون/الحداثيون فكرة صادمة للعرف السائد ، مثل تشكيك المرحوم د. محمد شحرور في
مشروعية تعدد الزوجات وتفسيره الجديد لآيات
الإرث. وكلا الفكرتين تعارض حديا الموروث الديني ، بما فيه أحاديث تنسب للنبي ، واجتهادات
كبار الفقهاء ، من قدامى ومحدثين.
ردا
على هذا ، يقدم المدافعون عن الموروث الديني مرافعات تعيد التذكير بأصول
فكرتهم ، وتنفي سلامة الاجتهادات المذكورة ، كما تشكك في أهلية صاحب الفكرة
للاستدلال والتوصل الى احكام أو حقائق شرعية.
لا تناقش هذه الردود أدلة التنويريين ، بل تستعين
بنفس الأدلة التي سبق استعمالها في دعم الرؤية الموروثة. لكن التنويريين يعرفون
هذه الرؤية وقد رفضوها سلفا. وهكذا نجد أنفسنا امام الحالة التي تسمى أحيانا حوار
الطرشان: كلا الطرفين يطرح أدلة يرفضها الثاني من حيث المبدأ ، فلا يناقشها. فكان
الطرفين يتحدثان في عالمين مختلفين ، لا احد منهما يسمع قول الآخر.
الواقع اننا نتحدث فعلا عن عالمين فكريين متمايزين ،
لكل منهما ارضيته ومبرراته الفلسفية ومنطلقاته وفرضياته وأدوات نقده ، وهو مختلف
تماما عن العالم الآخر. ولهذا لا توجد قاعدة معيارية واحدة او ميزان علمي مشترك ،
يمكن الاعتماد عليه في الموازنة بين الرأيين أو أدلتهما. هذه يشبه المقارنة بين قصيدة
عربية وأخرى انجليزية... هل تراه ممكنا؟. بالطبع لا ، لأن القصيدتين تنتميان الى
عالمين مختلفين في الصور والتعبيرات والسياق ، بحيث لا نستطيع القول ان هذه افضل
من تلك او اجمل او اصح.
-
هل ينبغي ان
نأسف لاستحالة اطلاق حوار يؤدي الى توحيد
التيارين ، او تقليل الخلافات بينهما؟.
في رأيي ان الأمر لا يستدعي الأسف. من المفيد ان
ننظر للجانب الحسن في الجدالات الساخنة. ان محاولة كل من الطرفين فرض رأيه ، سوف تدفع
الطرف الآخر الى تقوية استدلالاته وتعميق الأفكار المطروحة للنقاش. لو سكت الجميع
حفظا لوحدة الموقف ، فسوف لن يستفيد أحد. المناقشة هي التي تولد رؤى جديدة ، تعلم
الناس وتوسع آفاق المعرفة.
الأربعاء -
18 جمادى الآخرة 1444 هـ - 11 يناير 2023 مـ رقم العدد [16115]
https://aawsat.com/home/article/4091671/
مقالات ذات علاقة
تجديد الخطاب الديني: رؤية مختلفة
الحداثة كحاجة
دينية (النص الكامل للكتاب)
حول المسافة بين الدين والمؤمنين
في ذكرى محمد شحرور- اسئلة اليوم غير اسئلة
الامس
ما الذي يجعل محمد شحرور مختلفا وبغيضا أيضا
ماذا يختفي وراء جدل العلاقة بين
العلم والدين
المعنوية ، حيث تلتقي جميع الرسالات
النقد الأخلاقي للتراث: مجادلة أولى
الوحدة الاوربية "آية" من آيات الله