09/03/2011

رجل السياسة دليل في الحكم الرشيد


بقلم محمد محفوظ

تربطني بالدكتور توفيق السيف صداقة شخصية ومعرفة ثقافية قديمة .. فهو أحد المفكرين السعوديين المتميزين والجريئين في آن .. وهو من القلائل الذين يتمكنون وبشجاعة معرفية من اقتحام بعض الميادين الفكرية والسياسية ، ويقدمون في نصوصهم وكتاباتهم العديد من التفسيرات والأجوبة ..

فنصوص الدكتور السيف دائما تثير أسئلة ، وتستفز القارئ لإدامة النقاش والحوار مع أفكاره وكتاباته المختلفة .. وبمقدار ما يعتز الدكتور السيف بفكره وقناعاته ، بذات القدر يمتاز بسعة الصدر والقبول بالاختلاف والاستماع والإنصات العميق لحجج وبراهين الطرف الآخر ..
لهذا فإنني أعتقد أن كتابات الدكتور السيف الفكرية والسياسية ، هي ثرية معرفيا وفكريا ، وحيوية وقادرة على تدشين مجموعة من الأسئلة التي تثري الحياة الفكرية والثقافية وتطورها في آن..

وقد قدم الدكتور السيف إلى المكتبة العربية ، العديد من الدراسات والكتب المتميزة ولعل من أبرزها (الحداثة كحاجة دينية)، و(حدود الديمقراطية الدينية)، و(ضد الاستبداد – الفقه السياسي الشيعي في عصر الغيبة) ، و(نظرية السلطة في الفقه الشيعي)، وكتابه الصادر حديثا والذي نحن بصدده في هذا المقال وهو الموسوم ب (رجل السياسة – دليل في الحكم الرشيد).. فهو من الكتابات المتميزة والجريئة ، والتي تمكن فيها المؤلف العزيز من اقتحام بعض الموضوعات الحيوية ، والتي تحتاج إلى المزيد من الدراسة والبحث والفحص العلمي ..

ودائما نجد في نصوص السيف الفكرية ، الكثير من عناصر الثراء .. لهذا فهي نصوص مولدة للأسئلة، وباحثة عن تفسيرات جديدة لقضايا أو إشكاليات فكرية ومعرفية متداولة أو قائمة ..
ويبدو أن النقطة المركزية التي ينطلق منها السيف في مؤلفه الجديد ، هي أنه حتى تتمكن مجتمعاتنا العربية والإسلامية من التحول إلى مجتمعات حديثة من الضروري العمل على بناء ثقافة سياسية جديدة تجاه مفاهيم السياسة والسلطة والحرية والعقد الاجتماعي وسيادة القانون والشرعية وأسسها القانونية والدستورية ..
والذي يؤكد أهمية العمل على بناء ثقافة سياسية جديدة ترتكز على مكانة الفرد وعلاقته بالجماعة ، ومفهوم الدولة وعلاقتها بالمجتمع وآلية اتخاذ القرار وحل المشكلات ، هو طبيعة التحول المتسارع الذي يجري في المجتمع .. فهذه التحولات والتغيرات التي تصيب مصادر وأساليب المعيشة والتربية والتعليم ونوعية وأنماط العلاقات الاجتماعية والسلوكيات الشخصية ، كلها انعكاس لتغييرات وتحولات عميقة تطال القيم الناظمة للعلاقات الاجتماعية والعامة ..

إن بناء ثقافة جديدة ، إنما يستهدف مواكبة التحولات الظاهرية والعميقة التي تصيب المجتمع ، حتى تتمكن قوى المجتمع وفعالياته المتعددة من الاستفادة من مكاسب العصر والحضارة دون الوقوع في نزعة الانفصام والشيزوفرينيا ..
والثقافة السياسية الجديدة ، هي المدخل الطبيعي لبناء الإجماع الوطني على أسس جديدة ، وتجديد وتحديث شرعية النظام الاجتماعي – السياسي ..
والأساس النظري الذي يقترحه المؤلف لبناء الإجماع الوطني الجديد هو التعاقد ومفهوم العقد الاجتماعي كأساس للنظام العام والحريات العامة وسيادة القانون وصيانة حقوق الإنسان والمشاركة الأهلية في الشأن العام ..

ويعرّف الدكتور السيف مفهوم العقد الاجتماعي كأساس لبناء الإجماع الوطني بقوله (يشير مفهوم العقد الاجتماعي إلى توافق وتعاقد بين أعضاء المجتمع ، غرضه تنظيم العلاقة التي تربط بينهم ، وتنظيم علاقتهم كمجموع بالحكومة التي تدير أمورهم .. ويفترض العقد أن المتعاقدين ، أي مجموع أفراد المجتمع ، لهم حقوق وعليهم واجبات تنظمها توافقات وأعراف وقوانين .. هذه التوافقات والأعراف ، هي بمثابة نظام شامل يكفل انتظام وسيرورة العلاقة بين الأفراد، والتوزيع العادل للموارد المشتركة ، وحل التعارضات التي قد تنشب بينهم ..

وبمقتضاه أيضا قامت الحكومة كممثل لمجموع الأفراد ونائب عنهم في تنفيذ تلك الأعراف والقوانين وإدارة المصالح المشتركة).. (ص 82 – 83) ..
وفي الفصل الخامس المعنون ب(مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي) يعمل المؤلف على إمكانية تفكيك المبدأ الذي تطور في أوروبا وإعادة إنتاجه على أرضية القيم الإسلامية .. ويبرر الكاتب هذا المسعى بحل الإشكالية المزمنة بين شعورنا بالحاجة إلى نظام سياسي يستمد سلطته من رضا الجمهور ، وبين قلقنا المزمن من إبعاد الدين عن الحياة العامة في ما لو أخذنا بمبادئ الحكم التي تطورت خارج الإطار الإسلامي .. إذ يقول ( إن تطور مفهوم العقد الاجتماعي وفروعه ضمن الإطار المعرفي الأوروبي لا يجعل أوروبا في المبتدأ والأخير ، فهو – مثل كل الأفكار الشبيهة – منتج إنساني ، يستطيع كلّ مجتمع الاستفادة منه أو من بعض عناصره بحسب حاجاته وظرفه التاريخي .. ومن المتوقع بطبيعة الحال أن أي معالجة نقدية لنظرية العقد الاجتماعي سوف تؤدي إلى تعديل في صيغتها المعروفة في الفكر الأوروبي من أجل إنتاج صيغة تتناسب والشروط الثقافية – الاجتماعية لمجتمع المسلمين المعاصر ..

إن إمكانية الاستفادة من نظرية العقد الاجتماعي (في صيغتها الأصلية أو مع تعديلها) كأساس للتنظيم السياسي في بلاد المسلمين ، رهن بتنسيج عناصرها ضمن الثقافة السائدة ، الثقافة التي ورثها المسلمون من أسلافهم أو تلك التي طوروها كتعبير عن ظرفهم الاجتماعي الحاضر).. (ص120) ..
ويعتمد المؤلف في توضيح أو بلورة عملية التكييف على العناصر التالية :

1- أغراض العقد الاجتماعي :
فالعقد الاجتماعي هو القاعدة الفلسفية والقانونية التي يقوم عليها النظام السياسي ، وتمثل الدولة أحد أبرز أركان هذا النظام ، ووظيفتها الرئيسة في إدارة الشأن العام ، أي الأمور المشتركة بين أعضاء الجماعة .. وقد حدد المؤلف الوظائف المندرجة تحت عنوان الشأن العام (راجع ص 121 -122) ..
2- موضوع العقد الاجتماعي :
وهو إقامة نظام عام للعلاقة بين أفراد الجماعة يحقق أغراض العقد الاجتماعي ..
ويدور النقاش في هذا الإطار في مسألتين أساسيتين وهما :
ملكية الإنسان لنفسه ، وكونه منفردا بالولاية عليها وأن أحدا غيره لا سلطة له عليه إلا برضاه ..
ملكية المجتمع كمجموع للأرض التي يقيم عليها ، بما فيها من مواد طبيعية ومستجدة ، مما لم يختص به واحد علىوجه التعيين..
وفي صفحات الكتاب إجابة تفصيلية عن بعض الإشكاليات الفلسفية والمعرفية المتعلقة بهاتين المسألتين .. إذ يقول الدكتور السيف (إن الإنسان مالك لنفسه أو أملاكه ملكية تامة إلا في حالتين :

الأولى ، إذا تعارضت هذه الملكية مع الحقوق الثابتة للخالق سبحانه ، والقائمة بدورها على قاعدة أعلى من ملكية الإنسان لنفسه ، وهي الخلق والإيجاد والسيطرة على المصير النهائي (الموت أو البقاء حيا) .. والثانية ، إذا كان تصرف الإنسان في نفسه مؤديا إلى زوالها أو إيقاع ضرر جسيم عليها ، لما في ذلك من تعارض مع مبدأ الوجود .. نستطيع القول ، إذاً ، إن ملكية الإنسان لنفسه قائمة ضمن دائرة الوجود وليس فوقه).. (ص125) .
أما بالنسبة إلى ملكية المجتمع كمجموع للأرض وثرواتها فيقول المؤلف (زبدة القول ، إذاً ، إن المال العام ، أعيانه ، ومنافعه ، مملوك لجميع الناس أو جميع المسلمين .. وهم يمنحون حكومتهم حق إدارته والتصرف فيه بما يحقق الأغراض المستهدفة من العقد القائم بين أفراد الجماعة .. هذا العقد يقيم علاقة بين المالك "المجتمع" والمستأمن على الملك "الحكومة " يمكن وصفها بالوكالة .. فالحكومة هنا وكيل عن الشعب تتصرف في أمواله لمصلحته وبرضاه .. ذلك العقد هو الأساس الذي يجعل تصرف الحكومة في الموارد العامة وفي أموال الأفراد شرعيا ومجازا .. ومن دونه يعتبر تصرفها بغيا وعدوانا ، إلا إذا رضي المالكون به فرداً فرداً)..(ص133)..

سلامة التعويل على العقل الفردي أو المجتمعي في تصريف المصالح :
إذ ينطلق المؤلف في هذه النقطة من قناعة راسخة لديه مفادها : أن المصالح العامة التي هي موضوع عمل النظام السياسي ليست من الغيبيات ، بل هي قضايا عقلائية ، وأنها في الأعم الأغلب ليست من إنشاءات الشريعة الإسلامية ، بل من إنشاءات العرف التي أمضاها المشرع ، وأن المعيار في وضعها أو رفعها هو تحقيقها للمصلحة المرجوة منها .. (ص137) ..
ومن خلال هذه العناصر الأساسية ، يصل المؤلف في نهاية الفصل المعنون ب( مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي) إلى النتيجة التالية:(ويظهر مما سبق ، أن فكرة العقد الاجتماعي ، وإن كانت قد ظهرت وتطورت في الإطار المعرفي الغربي ، بل وجاءت في سياق التباعد بين الفلسفة السياسية، وبين الديانة المسيحية في القرن السابع عشر وما بعده ، إلا أنها قدمت – كمفهوم وكفلسفة عمل – أداة مناسبة لتصحيح العلاقة بين المجتمع والدولة وإعادة بناء النظام السياسي على أسس تجعل الحكومة في خدمة المجتمع وليس العكس ..

وأنه يمكن تجريد المفهوم من الشروط التاريخية التي ظهر فيها والتعامل معه كنظرية قائمة بذاتها .. إضافة إلى أن هناك فرصة لتفكيك النظرية وإعادة تركيبها ضمن الشروط الثقافية الخاصة بمجتمع المسلمين ، وأنه يمكن مقارنتها بالعديد من المقولات الراسخة في التراث الفقهي والفلسفي الإسلامي ..
وعلى كل حال فإن الكتاب يستحق أكثر من وقفة ، لأنه يتضمن الكثير من الأفكار والرؤى ، والتي تتطلب المزيد من الحوار وإثارة النقاش الفكري حولها ..
وأرجو أن يكون هذا المقال ، محفزا لقراءة الكتاب ومناقشة أفكاره ، لأنه وببساطة شديدة ، كتاب يستحق القراءة العميقة والتفاكر المشترك حول قضاياه وخياراته المعرفية ..

جريدة الرياض   (9 مارس 2011)   http://www.alriyadh.com/2011/03/09/article612048.html

بيبلوغرافيا
د. توفيق السيف
رجل السياسة : دليل في الحكم الرشيد
التصنيف: الفلسفة السياسية ، علم السياسة
الناشر: الشبكة العربية . بيروت 2011

14/02/2011

الفقر والإحباط والغضب

 مقتل الشاب خالد سعيد على يد ضباط الشرطة كان الشرارة التي أطلقت الغضب في مصر، مثلما أطلق مقتل الشاب محمد بوعزيزي شرارة التغيير في تونس. تلك الحادثة كانت صدمة لعشرات من الشباب الذين أنشأوا صفحة على الفيس بوك تحت اسم «كلنا خالد سعيد»، كما نشروا العديد من الأفلام القصيرة عن مقتله وتشييعه وردود الفعل على هذه الحادثة. شاهد الفيلم الرئيسي على اليوتيوب أكثر من مئتي ألف، وانضم إلى مناصري الحملة على الفيس بوك نحو خمسين ألفا.

كان الاحتجاج على الفقر وضيق العيش أبرز المبررات المطروحة لتظاهرات مصر وتونس وبقية البلدان العربية التي شهدت أحداثا مماثلة خلال الأسابيع الماضية.

لكنا نعلم أيضا أن معظم الذين شاركوا في هذه الأحداث لم يكونوا أفقر أهل البلاد. في مصر على الأقل، تركزت الاحتجاجات في المدن الكبرى مثل القاهرة والإسكندرية والمحلة وبور سعيد والسويس. ولم نسمع كثيرا عن تظاهرات ذات شأن في الريف المصري. ومعظم أهل تلك المدن من الطبقة الوسطى. نعلم أيضا أن الشباب هم الذين حملوا راية الاحتجاجات وبادروا بها، وأنهم تواصلوا مع بعضهم من خلال الإنترنت. بطبيعة الحال فإن امتلاك جهاز كمبيوتر والدخول على الإنترنت هو من سمات الحياة المدنية وخصوصا طبقتها الوسطى. زبدة القول إن الأكثر فقرا لم يبادروا بالتظاهر، والذين قادوا المسيرة، بل والكثير ممن شارك فيها لاحقا، كان غنيا أو متوسط الحال.

بعض الناس يرى في الأمر نوعا من التناقض، وبعضهم يتجاوز المسألة للتأكيد على حاجة العالم العربي للتعجيل في معالجة الفقر والبطالة ومشكلات المعيشة الأخرى، وهو يرى في ذلك وقاية لازمة من احتمالات الانهيار السياسي الذي نرى اليوم بعض تجلياته. لكن هذا ليس حلا في نظري.

يكشف تاريخ الحركات الشعبية في العديد من دول العالم أن الطبقة الوسطى كانت على الدوام بؤرة التوتر وصانعة التغيير. تتسم الطبقة الوسطى بالقلق وعدم الاستقرار، ليس لأسباب اقتصادية دائما، بل لأسباب سياسية وثقافية في معظم الأحيان. الطبقة الوسطى هي الظرف الاجتماعي الذي تجري في وسطه التحولات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، ولا سيما تدهور القيم والأعراف والتقاليد القديمة.

 يتحدث أهل الطبقة الوسطى عن الفقر في إطار المقارنة بالأكثر ثراء وليس بالأكثر فقرا، ويتحدثون عن البطالة وهم ينظرون إلى مستوى الوظيفة وعائدها، وليس مجرد لقمة العيش. الطبقة الوسطى هي مكان التطلع والطموح والبحث عن الذات، ولهذه الأسباب فهي أيضا موقع الصدمات والإحباطات. على الجانب الثاني فإن الطبقة الوسطى تملك وسائل فهم الذات والتعبير عنها، وتملك أدوات التواصل الجمعي التي تحول الهموم الشخصية إلى قضايا عامة..

لهذه الأسباب، يقول الباحثون في التنمية إن حل المشكلات الاقتصادية قد يؤجل انفجار الغضب أو ربما ينقل نقاط تركيزه، لكنه لا ينهي التوتر ولا يطفئ مصادره. أحد الحلول التي جربت في أكثر من بلد هو فتح الأبواب للتعبير الحر عن الرأي الفردي والجمعي، وتمكين الناس من البحث عن حلولهم الخاصة لمشكلاتهم. الحوار العلني والصريح بين الجمهور ولا سيما الجيل الجديد وبين رجال الدولة هو بالتأكيد وسيلة لفتح الأبواب وتجديد الأمل في نفوس الناس، وهو قد يكشف بعض مسارات الحل. يجب أن يشارك الناس في صناعة الحلول كي ترضى أنفسهم. فرض الحلول ــ حتى الجيدة منها ــ قد يشعر الناس بالمزيد من الاغتراب والإحباط.

« صحيفة عكاظ » - 14 / 2 / 2011م    https://www.okaz.com.sa/article/637605

مقالات ذات علاقة

17/01/2011

وقت للأسى: نهاية السودان كما عرفناه

قد يشهد هذا الأسبوع نهاية السودان بحدوده التي عرفناها منذ درسنا الجغرافيا. أتذكر اليوم خطابا حماسيا للزعيم السوداني استشهد فيه بالآية المباركة «ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض» وقد طبقها على المجموعة العسكرية التي كانت قد استلمت السلطة للتو. وقد كنت ــ في العموم ــ كنت متعاطفا مع هذا البلد وأهله، وتعزز هذا التعاطف بعدما التقيت العديد من شخوصه البارزين. لحظة الصدمة جاءت حين رويت لأحد زملائي بعض ما دار في لقاء جمعني بالدكتور حسن الترابي الذي أخبرنا يومها أنه كان وراء انقلاب 1989. رفض الزميل تفاؤلي وقال إن هذا الانقلاب سيقود السودان إلى التفكك. منذ ذلك الوقت وأنا أشعر بالحيرة إزاء تطور الأحداث في هذا البلد. وحصل أن جادلت السيد الصادق المهدي، وهو سياسي محنك، في مواقفه المعارضة للنظام القائم، فأجابني مع ابتسامة عريضة أن الأمور تسير ــ على المدى البعيد ــ في اتجاه معاكس لما أقوله. أفهم الآن أن هذا الرأي ورأي الزميل السابق كان هو الصواب. لا يمكن لك أن تصلح شخصا إذا وضعت المسدس في فمه، ولا يمكن لك أن تجبر مجتمعا على تصديق ما تقول إذا كان يرى عكس كلامك في الشارع وفي تفاصيل الحياة المختلفة.
خلال العقدين الماضيين، أنعم الله على السودان بالنفط الذي تدفق معظمه في أراضي الجنوب، لكن الجنوب بمجمله بقي فقيرا، وبقيت الأكثرية الساحقة من سكانه خارج دائرة التنمية. خلال الأيام المنصرمة استمعت لجنوبيين من أديان مختلفة، وبينهم مسلمون، يدعون للانفصال، لأنهم ببساطة يرون أن الهوية الوطنية السودانية لم تستطع منحهم المساواة التي هي حقهم. منذ استقلال السودان كان الحكم حكرا على الشماليين. بعد اتفاقية السلام في 2005 بدا أن الوضع يميل إلى التغيير، فقد دخل الحكومة عدد كبير من الجنوبيين. لكن هذه التطورات بدت أشبه بترتيبات مؤقتة. بقيت العلاقة بين الطرفين مشحونة بالريبة والخوف، وحاول كل منهما كبح نفوذ الآخر قدر ما استطاع. لا يمكن لسلوك كهذا أن يبني إجماعا وطنيا ولا أن يؤسس لدولة قوية. بل سيؤدي بالضرورة إلى نوع من تقسيم السلطة يؤدي إلى إضعافها.
يقول السودانيون اليوم إن الحكومة لم تبذل ما يكفي لجعل الوحدة جاذبة للجنوبيين؛ أي أنها ــ بعبارة أخرى ــ أغفلت ما هو ضروري لإقناع الجنوبيين بالوحدة مع الشمال، وأهمه في رأيي هو العدالة الاجتماعية. العدالة الاجتماعية تدور حول محورين: تنمية متوازنة وشراكة في القرار. ويبدو أن هذا وذاك لم يكن موضع اهتمام كبير.
على أي حال سيكون هذا الأسبوع موسما للحزن في السودان الشقيق، والحق أن الحزن هو أقل ما يمكن فعله إزاء الخسارة الفادحة التي أصابته، لكننا نتحدث اليوم عن موضوع أصبح تاريخا، ومن الخير للسودان أن يستوعب الدرس كي لا يتحول الإنقسام إلى هدف للأقاليم الأخرى التي كانت ولا تزال تعاني مثل ما عانى الجنوب.
عكاظ 17 يناير 2011


30/12/2010

الهجوم على الليبرالية ليس سيئا

الصحافة السعودية مشغولة هذا الاسبوع بتداعيات هجوم المفكر السعودي عبد الله الغذامي على الليبرالية والليبراليين. احاديث الغذامي هذه جاءت في سياق محاضرة عامة ثم مقابلة تلفزيونية. يرجع الاهتمام الاعلامي بهذا الموضوع الى حقيقة ان المسألة ليس مجرد جدل في الثقافة. تشهد المملكة هذه الايام صراعا شديدا بين جبهتين: تجمع الاولى شرائح وافرادا ينتمون الى التيار الديني التقليدي ، وتجمع الثانية نظراء لهم يدعون الى الاصلاح والانفتاح ، وتضم في اطارها تيارات دينية اصلاحية وليبراليين وبيروقراطيين ونشطاء سياسيين. يتهم الطرف الاول منافسه بالليبرالية وتمييع الدين والعلمانية ، بينما يتهم هؤلاء اولئك بالتعصب والانغلاق وتعطيل الاصلاح السياسي والاجتماعي.
حديث الغذامي الشديد ضد الليبرالية وانصارها تحول الى جزء من هذا الصراع الطويل والمتشعب. الغذامي كان مصنفا في الاصل ضمن التيار الحداثي وقد حاربه التقليديون في سنوات سابقة وصدرت فتاوى بتكفيره واستحلال دمه. ولهذا اعتبر هجومه الحالي على الليبراليين مكسبا سياسيا هاما احتفى به التقليديون ايما احتفاء . بينما – في المقابل – واجهه انصار الغذامي السابقون ودعاة الاصلاح بشكل عام ، بالاستنكار والرفض.

يقول الغذامي ان الليبرالية السعودية وهم ، وانه لا يوجد في هذه البلاد اتجاه ليبرالي حقيقي ولا ليبراليون مخلصون لمبادئهم. واظن ان الفكرة قد راقت لبعض الناس ، اما لانهم يضعون الليبرالية الاوربية كمعيار للمقارنة ، او لانهم ينظرون اليها كايديولوجيا منجزة ، او لانهم – ببساطة – يميلون الى جلد الذات بدلا من فهمها وتفسيرها.
اغفل حديث الغذامي محطات منهجية هامة ، مثل التمييز بين الاطار الاجتماعي/السياسي للافكار وبين حقيقتها الفلسفية او النموذجية. وقفز على شروط المرحلة الاجتماعية/الثقافية التي تحكم الموضوع محل النقاش. وفي وقت سابق جادله احدهم في هذا فرد بانه ينظرالى المسالة كناقد ومفكر يهتم بحقيقة الاشياء لا بظرفها.
خلافا لما يبدو من النظرة الاولى ، اظن ان هجوم الغذامي سيكون له مردود ايجابي. كثير من الناشطين في المجال السياسي والثقافي ، وبعضهم ينتمي الى تيارات دينية ، ينظرون الى الليبرالية كتفسير مناسب او اطار لطروحات بديلة عن تلك التي ورثناها من الاسلاف وسادت في المجتمع السعودي باعتبارها فهما وحيدا للدين وتعبيرا مفردا عن الفضيلة. يعتقد الاصلاحيون ان حقيقة الدين لا تتجلى في غياب الحرية والتعددية ، وان الفضيلة لا يمكن ان تنمو في ظرف المجتمع الشبيه بالمعسكر. تتجلى فضائل الانسان الحقيقية حين يطورها بنفسه ويختارها بين بدائل عديدة. وهذا مستحيل التحقيق في غياب الحرية وصراع الافكار وتوفر الفرص والبدائل.
الخلافات الدائرة حول الحرية وتطبيقاتها لا تنفي قيمة الحرية وضرورتها . انها – في الجوهر – شكوك في اولوية الحرية على غيرها من الخيرات الاجتماعية.  كان الماركسيون يضعونها في مرتبة متاخرة عن العدالة الاجتماعية. ويقولون بان الحرية لا معنى لها اذا كنت جائعا او فقيرا معدما. واعتبر القوميون العرب الوحدة وتحرير الارض مقدمة على الحرية الفردية. وفي وقتنا الحاضر يرتاب الاسلاميون التقليديون في عواقب الحرية ، لا سيما انفلات الزمام وتدهور المعايير والاعراف التي يرونها ضرورية لصيانة اخلاقيات المجتمع والتزاماته الدينية.
رغم قناعة الجميع بالحرية ، ورغم قناعتهم ايضا بان النموذج الليبرالي يوفر منصة مناسبة للتعبير عن تطلعاتهم السياسية والاجتماعية ، الا ان معظم هؤلاء يتردد في الاقرار بانه ليبرالي او الدعوة صراحة التي تبني الليبرالية كمنصة او اطار نظري وتفسيري لدعوة الاصلاح. سبب هذا التردد يكمن في الصورة المشوهة عن الليبرالية التي عممها التقليديون .

اقول ان هجوم الغذامي سيكون ذا مردود ايجابي ، لانه سيعجل في اخراج دعاة الاصلاح من دائرة التردد. وسنجد في الايام القادمة من يقول صراحة انه ليبرالي وان الليبرالية تمثل اطارا مناسبا لمباديء الاصلاح السياسي والاجتماعي الذي ندعو اليه. نحن ندعو الى الليبرالية ، ليس فقط لانها تتوافق - في الجوهر - مع القيم الدينية ، بل لانها ايضا تخلق الظرف الضروري لتحويل القيم الاسلامية الرفيعة من كلام نظري في الدين الى تفسير للحياة ودافع للتقدم.
شبكة مصدر 30 ديسمبر 2010

مقالات ذات علاقة 


الطريق الليبرالي http://talsaif.blogspot.com/2009/06/blog-post.html

عن الليبرالية وتوق الانسان للتحرر: اجابات http://talsaif.blogspot.com/2011/04/blog-post_28.html

الليبرالية ليست خيارا http://talsaif.blogspot.com/2004/03/blog-post_27.html

الليبرات والليبرون المكبوتون المخدوعون  http://talsaif.blogspot.com/2007/10/blog-post.html

26/12/2010

الوطن هو الناس وليس الجغرافيا


 نحن بحاجة الى معالجة مفهوم "الوطن" في المناهج الدراسية حتى يصبح جليا وواضحا مثل الشمس . هذا المفهوم ليس راسخا في ثقافتنا العامة لانه جديد وقد استوردناه مع الكثير من المفاهيم الاخرى التي صاحبت قيام الدولة الحديثة (التي تسمى أيضا الدولة القومية او دولة الامة). 
وقد تكرر مصطلح "الوطن" في التراث العربي القديم. لكن مضمونه اصغر كثيرا من الوطن الذي نتحدث عنه اليوم. فهو يرمز الى مرابع الصبا واهلها ، اي بعبارة اخرى : القرية او القبيلة ، كما يقول ابن الرومي :
وحبب أوطان الرجال إليهم
 مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم
عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
اما مفهوم الوطن المعاصر فيشير الى ما يعرف في علم السياسة بالدولة القومية ، اي مجموع السكان الذين يعيشون في بلد له سيادة ضمن حدود اقليمية معترف بها دوليا . ضمن هذا التعريف فان سكان هذا البلد يعتبرون امة بذاتها . وهم يتمايزون عن كل احد سواهم بانتمائهم الى هذا البلد المحدد وبالجنسية التي يحملونها. كل حامل للجنسية يعتبر عضوا في هذه الامة ومواطنا ، بغض النظر عن دينه او مذهبه او جنسه او اصوله الاثنية او ميوله الثقافية والسياسية . مفهوم المواطنة ضمن هذا التعريف يشير الى منظومة من الحقوق والواجبات المتبادلة بين المواطن ووطنه . منظومة يتساوى فيها الكبير والصغير ، الغني والفقير ، الابيض والاسود ، الرجل والمرأة . كل فرد يحمل جنسية البلد يسمى مواطنا ، يتمتع بنفس الحقوق التي يتمتع بها المواطن الاخر ، ويتحمل نفس الواجبات والمسؤوليات ، بلا زيادة ولا نقصان.
في كل بلد توجد تقسيمات اجتماعية طبيعية ، فهذا ينتمي الى قبيلة وذاك الى طائفة وثالث الى طبقة ، ورابع الى مجموعة اثنية خاصة الخ ..ولكل من هذه الانتماءات حصة في تشكيل هوية الشخص. ولذلك قد نجد فروقا بين ابناء القبائل او الطوائف او المناطق او المجموعات الاثنية . لكن جميع هذه الانتماءات تعتبر ثانوية بالقياس الى الهوية الوطنية الاعلى . الهوية الوطنية هي دائرة واسعة تسمح بالتنوع في داخلها ، مع بقائها جامعا لكل ابناء الوطن مهما اختلفت انتماءاتهم واصولهم وهوياتهم الثقافية.
نحن بحاجة الى تنسيج هذا المفهوم في ثقافتنا العامة وترسيخه كارضية للعلاقة بين ابناء وطننا . خلال السنوات القليلة الماضية اكتشفنا مدى التجاهل والتباعد القائم بين ابناء وطننا . وظهر ذلك في التجاذبات الطائفية والمناطقية والمذهبية والقبلية ، وفي الاسئلة الخاطئة التي تنتشر في المنتديات مثل سؤال : "هل انت مسلم اولا ام سعودي اولا؟". كما ظهر في القبول الواسع لفكرة التمايز بين المواطنين بناء على انتمائهم المذهبي او اصولهم القبلية . بل ورأينا مثل هذا التمايز مقبولا حتى في اجهزة مهمتها اقرار العدل ، مثل الحكم المشهور لاحد القضاة بالتفريق بين زوجين لان قبيلة الزوج ادنى كعبا من قبيلة الزوجة . ومثل فتوى احد المشايخ لموظف استفتاه بنبذ زملائه الذين ينتمون الى مذهب اخر ومقاطعتهم واحتقارهم والدعاء عليهم.
هذه الامثلة وغيرها دليل على ان المواطنة المتساوية لم تترسخ بالقدر الكافي في نفوسنا وفي ثقافتنا ، وان الهويات دون الوطنية ما زالت اكثر فاعلية في تشكيل مواقفنا وتصوراتنا حول وطننا وابناء وطننا. نحن بحاجة اذن ان نبدأ من الاساس ، من مرحلة الطفولة والصبا ، حيث يكون المواطن ثقافته الاولية ويصوغ شخصيته . اي من المدرسة التي تمثل المصدر الرئيس للثقافة ومعرفة العالم في مرحلة الطفولة والصبا.
ترسيخ فكرة المواطنة المتساوية يبدأ بالتعرف على الوطن الحقيقي ، الوطن الذي يتشكل من ابنائه جميعا ولا يقتصر على التضاريس الجغرافية . المملكة لا تتكون من جبال وصحارى ووديان وواحات ، بل تتكون اولا وقبل كل شيء من بشر يسكنون هذه التضاريس . يجب ان نعرف ابناءنا على هؤلاء البشر ، نظرائه في وطنه ، كيف يعيشون ، كيف يفكرون ، ما هي اسماؤهم وقبائلهم ، ثقافتهم المحلية ، همومهم واهتماماتهم .. الخ .

المعرفة هي الطريق الطبيعي للالفة والتآلف ، والمرء عدو ما جهل . ولذلك فان استئصال العداوة يبدأ بالمعرفة والتعارف. يمكن للتعليم العام ان يساهم بفاعلية في ترسيخ فكرة المواطنة اذا جرى توجيه الاهتمام الى المواطن ، واول خطوة هي تعريف كل مواطن الى نظيره ، وكشف حجاب الجهل الذي طالما ادى الى الاستغراب واحيانا الخوف او العداوة . 

 

مقالات ذات صلة

الاقتصاد كأداة لتعزيز الهوية الوطنية

حقوق الانسان في المدرسة

حول نظام حماية الوحدة الوطنية

دولة الاكثرية وهوية الاقلية

شراكة التراب وجدل المذاهب

شراكة التراب" كتطبيق لمبدأ العدالة الاجتماعية

الشراكة في الوطن كارضية لحقوق المواطن

طريق الاقلية في دولة الاكثرية

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

 من التوحيد القسري الى التنوع في اطار الوحدة

من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

مناظرة تلفزيونية حول الدين والمواطنة

مواطنون فقط. لا ذميون ولا مستأمنون

الهوية المتأزمة

الوطن الرومانسي والوطن الواقعي

الوطن ، الهوية الوطنية ، والمواطنة: تفصيح للاشكاليات

وطن الكتب القديمة

الوطن شراكة في المغانم والمغارم

20/12/2010

فتوى الجمهور لا فتوى الفقيه

؛؛ المدخلي: مهما تشدد السلفيون لا يبلغون عشر ما كان عليه السلف من شدة على أهل البدع لدرجة أنهم يأمرون بقتلهم ويطاردونهم ويذلونهم،،


اتاح لي رمضان المنصرم (1431ه) فرصة لقراءة الجدالات الداخلية المزمنة بين اجنحة التيار الديني في المملكة.من اقصى اليمين التقليدي الى اقصى اليسار الاصلاحي مرورا بالصحويين والمتشددين والمعتدلين والعصرانيين .. الى اخر الاوصاف التي يطلقها كل فريق على بقية الفرقاء ، او يطلقها الاخرون من خارج التيار على شخوصه وجماعاته.
الشيخ عبيد الله الجابري
وهذه بالطبع ليست اوصافا موضوعية ولا خالية من الغرض. لكنها على اي حال تقال من اجل التعريف ، لان تلك الاجنحة تابى تعريف نفسها باسم خاص، وتصر على انها هي الجماعة المقصودة في رواية "الفرقة الناجية" او "الفرقة المنصورة " ، وهذا المسمى الاخير تعريف جديد طرحه احد الدعاة ولم يقبله جميعهم.
تحفل تلك الجدالات بقضايا ومواضيع وتوصيفات وتفسيرات واستدلالات تصلح بذاتها موضوعا للدراسة والتدليل على البيئة الثقافية وانساق المعرفة التي يعبر عنها كل جناح. ولاحظت في هذه الايام رواجا لوصف جديد هو "التمييع". وأظن ان الشيخين سلمان العودة وعايض القرني هما اكثر من يرمى به الان. 

واظن ان هذا الوصف قد ظهر في ادبيات الجدل الديني للمرة الاولى في العام 2004 على يد حركيين جزائريين من اتباع التيار المسمى بسلفية المدينة (او الجامية كما يسميهم اعداؤهم) ، ثم تداوله نظراء لهم من ليبيا ، قبل ان ينتقل الى التداول بين الحركيين في المملكة. وكتب احدهم رسالة اسماها "المجموع البديع في الرد على شنشنة التمييع" وافتتح اخر مجموعة انترنتية عنوانها "الجمع البديع في بيان معنى التمييع". وتحدث عنه الشيخان ربيع المدخلي وعبيد الجابري وهما من ابرز رموز ذلك التيار. ورفض المدخلي اعتبار الوصف مصطلحا معياريا ، لكنه يصح ان يطلق على اولئك الدعاة الذين قال انهم "يميعون اصول الاسلام ويرققونها ويهونون من شأنها، بل يحاربونها". 

تمييع اصول الاسلام ومحاربتها يكمن – حسب راي الشيخ - في ميل بعض الدعاة الى اللين ورفضهم للتشدد والغلو. وهو يعيب على السلفيين المعاصرين تركهم لما كان عليه نظراؤهم السابقون من شدة بالغة على مخالفيهم. ويقسم بالله ان سلفيي هذا اليوم مساكين: "والله الذي لا إله إلا هو أنه لا يوجد شدة الآن في السلفيين المساكين . و إنه مهما تشدد السلفيون في مواجهة الباطل و البدع لا يبلغون عشر معشار ما كان عليه السلف من الشدة على أهل البدع لدرجة أنهم يأمرون بقتلهم ، ويطاردونهم ، ويهجرونهم ، و يضربونهم ، ويذلونهم".
لست مهتما بتحديد موارد الحق والباطل في تلك الجدالات ، بل بدلالاتها السوسيولوجية ثم السياسية. فيما يتعلق بالجانب السوسيولوجي ، فقد وجدت فيها تطبيقات عديدة لواحدة من النظريات التي اثارت كثيرا من الجدل ، اعني بها تلك التي تقول بان عامة الناس يشتركون في صياغة نموذج التدين السائد في عصرهم الخاص. التصور الغالب ينحو الى اعتبار "الفكرة الدينية" منتجا معياريا للنخبة العليا من علماء الدين ، الذين يجتهدون في فهم النص وقراءة قضايا الواقع المعاش ، ثم يصدرون اراءهم التي تعامل باعتبارها فتوى او رايا دينيا ، او "توقيعا عن رب العالمين" ، حسب تعبير الشيخ ابن القيم. بالنسبة للملتزمين بتلك الاراء والفتاوى ، فان تطبيقاتها تعتبر "ممارسة دينية" تنطوي ، مثل "الفكرة الدينية" ، على قدر من القداسة المستمدة من ارتباطها المباشر بالمصدر الاعلى للتشريع اي النص المقدس.
اذا تابعت تلك الجدالات وما ترتب عليها من فتاوى واراء ومواقف ، فسوف تجد ان كثيرا من الحالات شهدت مسارا معكوسا ، فالفكرة الدينية او الفتوى لم تنتج ممارسة دينية ، بل  العكس هو الصحيح: الممارسة الدينية ، اي هموم وانشغالات عامة المؤمنين او بعضهم ، ولا سيما الناشطين منهم ، هي التي حددت لعالم الدين او صاحب الفتوى نطاق الرأي الذي سيصدر لاحقا. 

بعبارة اخرى فان الفتوى او الراي الذي يلبس رداء التشريع او التوقيع عن رب العالمين لم يكن اجتهادا مستقلا في النص ، بل هو موقف مسبق تجاه موضوع صيغ على شكل مسألة. واذا وضعت السؤال والجواب في اطار الصراع بين الاجنحة المختلفة ، فسوف تجد ان الراي الذي يرتدي عباءة الدين ليس سوى صياغة لنفس الموقف السياسي او الاجتماعي الذي يتخذه صاحب الفتوى تجاه الطرف الذي هو موضوع للفتوى ، تاييدا له او تنديدا به. اما بقية الكلام فليس سوى تفاصيل جانبية.
عكاظ 20 ديسمبر 2010  https://www.okaz.com.sa/article/370121/


مقالات ذات علاقة



المواطن "الممتاز" والمواطن "العادي"

سألتني السيدة ميره ، وهي مثقفة من دولة الامارات الشقيقة ، عن علاقة المواطنين ببعضهم وعلاقتهم بوطنهم: هل نكتفي بمضمونها القانوني ، ام نحتا...