21/12/2022

كل عام وانتم بخير

الغرض من هذه الكتابة هو تذكير القراء الأعزاء ، بأن عيد الميلاد المجيد الذي يصادف الاسبوع القادم ، يوفر فرصة للتأكيد على فضيلة من أعظم الفضائل الإنسانية ، وهي التسامح. في سنوات سابقة ، كان الأسبوع الأخير من العام الميلادي ، أشبه بسوق موسمي تعقده احدى الجماعات السياسية/الدينية للتعبئة وكسب الأنصار ، وتدريب الأعضاء والمحازبين على مقارعة الخصوم. وكانت مادة عملهم في هذا الموسم هي الخطب والكتابات التي تشكك في صحة الميلاد المجيد ، وصحة انتماء المسيحيين المعاصرين الى دعوة نبي الله عيسى. وتختتم بالتأكيد على حرمة تهنئة المسيحي بعيد الميلاد او السنة الجديدة ، والتنديد بالمسلمين الذين أحسنوا الى جيرانهم من أهل الأديان الاخرى او تلطفوا معهم.


الحمد لله ان تلك السوق ما عادت قائمة. ولم يعد ثمة حرج في دعوة القراء الاعزاء لاغتنام الفرصة ، ولو بأدنى ما يستطيعونه ، مثل تقديم التهاني بالمناسبة ، لكل من يفرح في عيد الميلاد او يحتفل به ، سواء كان باعثه دينيا او دنيويا.

اعلم طبعا ان الامر محرج لبعض الناس ، نظرا لما يعرفون من فتاوى لفقهاء معاصرين وقدامى تؤكد على ذلك التحريم. لكني أعلم أيضا انه لم يرد نص صريح في الكتاب او السنة الشريفة ، يدعم ذلك التحريم على نحو ينفي الاختلاف والجدل فيه.

أستطيع القول – مع شيء من التحفظ – ان غالبية المنادين بالتحريم ، يرجعون لاجتهاد فقهي يصنف الفعل المذكور ضمن التشبه بغير المسلم ، او ابداء الرضى بالباطل ، او المساعدة على اشاعته ، وما الى ذلك. وهذه الاستدلالات كلها تكلف بلا ضرورة ، فهي لا تنطبق على فعل التهنئة ، وقياسها لا يستند الى تسلسل منطقي سليم ، ولا تدعمها تجربة واقعية قديمة او معاصرة. بل الامر على عكس ما قيل. فقد ثبت بالتجربة الواقعية المتكررة في بلاد المسلمين وغيرها ، ان الاحتفال بعيد الميلاد او التهنئة به لم يخلف اي ضرر ملموس ، بل لعله لا يخلو من منفعة. وعلى أي حال فان مفاهيم مثل نصرة الباطل او التشبه بالكافر ، لا تنطبق على أي فعل الا اذا عرف تعريفا جامعا مانعا ، اذا ان التحريم حكم عظيم لا يصح التساهل في إصداره او تطبيقه الا على اضيق نطاق ، لا يترك عذرا لمن تجاوزه.

ويظهر لي ان الميل الفقهي للتشدد في العلاقة مع غير المسلمين ، ليس ناتجا عن دراسة محايدة للنصوص المتعلقة بالموضوع ، ولا بموازنات المصالح التي ينبغي للفقيه ان ينظر فيها قبل اصداره للفتوى ، بل هو تعبير عما أسماه بعض المعاصرين "فقه المحنة" الذي يربط صفاء العقيدة والسلوك باعتزال المخالفين والمختلفين.

هذه اذن فرصة للتاكيد على فضيلة التسامح ، وتطبيقها فعليا. وقد أوضحت فيما سبق ان التسامح لا يعني اللين في المعاملة ، كما يتكرر على السنة الناس ، بل الإقرار بان لكل انسان ، منا وممن يخالفنا ، حقا أصيلا وغير قابل للمزاحمة ، في اختيار الدين الذي يرى فيه نجاته ، وطريقة العيش التي تضمن سعادته. لقد اخترنا ديننا واختاروا دينهم. وليس لاحد منا او منهم أن ينكر حق الآخر في اختيار طريقه للخلاص او السعادة. لا يجوز لك ان تزاحمهم ، كما لا يجوز لهم ان يزاحموك في خياراتك. هذا ببساطة معنى التسامح.

آمل ان نبادر جميعا لتهنئة شركائنا في هذا الكوكب بعيد الميلاد المجيد ، تأكيدا على احترامنا لحقوقهم وخياراتهم ، على أمل ان نكون ممن ينال فضل المبادرة بالقاء السلام. ان اردت نشر الاحترام في عالمك ، فكن صانعه الأول.

 الأربعاء - 27 جمادى الأولى 1444 هـ - 21 ديسمبر 2022 مـ رقم العدد [16094]

https://aawsat.com/home/article/4054571/

مقالات ذات علاقة

ابعد من تماثيل بوذا

ان تكون مساويا لغيرك

بل التقارب قائم ومتواصل بين السنة والشيعة

تجريم الكراهية

التسامح وفتح المجال العام كعلاج للتطرف

التعايش أو التقارب.. طريق واحد

تعزيز التسامح من خلال التربية المدرسية

ثقافة الكراهية

حقوق الانسان في المدرسة

سؤال التسامح الساذج

سؤال الى البابا

العالم ليس فسطاطين

فرصة لتطبيق ما ندعو اليه: فوائد التسامح

فلان المتشدد

في التسامح الحر والتسامح المشروط

في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء

في انتظار عيد الميلاد المجيد

في بغض الكافر

كن طائفيا او كن ما شئت .. لكن لا تضحي بوطنك

وجهات "الخطر" وقهر العامة

14/12/2022

أسئلة التلاميذ العسيرة


في مقالته "اللامعرفة حين تكون سلطة" (الاتحاد 10-12-2022) عالج المفكر المعروف د. عبد الله الغذامي مسألة اظن ان معظمنا قد سمع بها ، او ربما كان طرفا فيها يوما من الأيام. ذكر الغذامي القصة على النحو التالي: سأل التلميذ استاذه.. من هو اول من كتب الشعر الحر في اللغة العربية؟. فأجاب الاستاذ بأن هذا من الاسئلة التي لا جواب لها ، انه "يشبه سؤال من هو أول شاعر في التاريخ". طبعا ليس هناك من يعرف اول شاعر في التاريخ.

في النظرة الاولى سوف تتقبل جواب الاستاذ ، وربما قلت لنفسك: حسنا... هناك اسئلة لا يمكن لاحد ان يجيب عليها ، ولهذا لا ينبغي ان تطرح. لكن الغذامي يشير الى جانب آخر ، فهو يريد ان يقول للاستاذ: ان كنت لا تعرف الجواب ، فقلها ببساطة.. لا اعرف ، ولا تحول النقاش الى مكان آخر غير ذي صلة بجوهر الموضوع.

ذكرتني هذه بدراسة كتبتها ايام الشباب ، وعرضت في حلقة نقاش فنالت مديحا طيبا من جانب الحضور. وحين جاء دور الاستاذ المعقب ، زادها مدحا لجدة معلوماتها وتحليلها.. الخ. لكنه في التقييم النهائي اعتبرها أقل من المستوى المطلوب ، لأنها ببساطة لم تعالج الفرضية الرئيسية فيها. وشرح هذا قائلا ان كل جزء في الدراسة ممتاز بذاته ، لكنه "غير ذي صلة". هذه العبارة هي التي بقيت في ذهني من تلك القصة. وفي السنوات التالية قرأتها وسمعتها تكرارا. وان اردتم الصراحة فقد صرت مغرما باكتشاف الصلة وعدم الصلة في الجدالات العلمية.

-         حسنا ، ما الذي يبرر طرح هذا الموضوع اليوم؟.

الواقع ان قصة الدكتور الغذامي وجهت انتباهي لقصة أخرى شائعة عندنا ، وهي استنكار الاسئلة التي يصعب الاجابة عنها ، أو تلك التي لها امتدادات ذات طبيعة جدلية. وكنت قد ناقشت الاستاذ عدنان عيدان ، وهو خبير متقدم في حوسبة اللغة العربية ، حول سبب انحدار الكثير من نقاشاتنا نحو العنف اللفظي ، وانزلاقها للتنديد بالاشخاص بدلا من نقد الأفكار ، فأرجعها الى ضآلة المخزون اللغوي عند غالبية المواطنين العرب ، الامر الذي يجعلهم غير قادرين على التمييز بين المحمولات المختلفة للتعابير والمصطلحات. ويعتقد الأستاذ عيدان ان اي خريج جامعي ينبغي ان يكون قادرا على الحديث والنقاش ، لمدة لا تقل عن نصف ساعة ، من دون تكرار الكلمات او الجمل ، او وضعها خارج سياقها الصحيح. وضرب مثلا بمن يتعلمون لغة اجنبية واضطرارهم الى استعمال نفس الكلمات مرات عديدة في محادثة واحدة ، الامر الذي يكشف ضعف مخزونهم من المفردات او كونه غير نشط.

مع تقديري لرأي الأستاذ عيدان ، فالذي أميل اليه هو ان النمط الثقافي السائد عندنا ، لا يهتم كثيرا بالبناء المنطقي للفكرة ، ولا يعتني بايضاح النسبة بينها وبين الأفكار المماثلة او المختلفة ، قدر اهتمامه بالجانب البياني الذي يركز على جماليات العرض ، كما يكثر استعمال الشعر والشواهد التاريخية واللغة الدينية ، لتعزيز الأثر النفسي للكتلة اللفظية ، بغض النظر عن صلتها المنطقية بالواقع ، او صلة الشواهد المذكورة بجوهر الفكرة التي يدور حولها الجدل.

أضيف الى ذلك ، ان نظام القيم السائد يميل بشدة للربط بين صفة التهذيب وبين السمع والطاعة. بالنسبة لغالبية الآباء والمعلمين ورجال الدين ، فان الولد المهذب هو الولد الذي يصغي جيدا ويطيع ، بعكس الولد العنيد او القليل التهذيب ، الذي سمته التشكك وكثرة الجدال في كل مسألة. يجري تطبيق هذه المقولات لسنين طويلة ، ولذا لا نستغرب ان وجدنا الشباب غير قادرين على خوض نقاش هاديء لمدة طويلة ، أو وجدناهم يكرهون كثرة الأسئلة ، ولا سيما العسير منها ، مثل سؤال الغذامي سابق الذكر.   

الشرق الأوسط الأربعاء - 20 جمادى الأولى 1444 هـ - 14 ديسمبر 2022 مـ رقم العدد [16087]

https://aawsat.com/node/4042001/

مقالات ذات صلة

من الظن الى اليقين ، ثلاثة مستويات للمعرفة

التسامح ، او قابلية العيش مع الغريب

بماذا ننصح أينشتاين؟

مغامرات العقل وتحرر الانسان - كلمة في تكريم الاستاذ ابراهيم البليهي

في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء

من العقل الجمعي الى الجهل الجمعي

في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء

فلان المتشدد 

وجهات "الخطر" وقهر العامة

07/12/2022

التسامح ، او قابلية العيش مع الغريب


كشف الدوري العالمي لكرة القدم (المونديال) المقام في العاصمة القطرية ، تجارب في العلاقات الإنسانية ، نادرا ما تظهر في مناسبات أخرى. وأبرزها في رايي تقبل الغريب ، و "الاضطرار" لتجربة التسامح ، سيما بالنسبة لمن لم يجربه او اعتاد انكاره قبل ذلك. يعد المونديال مناسبة استثنائية ، لأكثر من سبب ، أولها أن الجميع ، المتسامحين والمتعصبين ، يريده ان ينجح او على الاقل ان يمضي بلا خسائر. ولهذا يدرك الجميع ان من يحاول التشويش ، سوف يكون في مرمى سهام الجميع ، ولن يشفع له أحد. السبب الثاني انه حدث مضغوط جدا من حيث الوقت والمكان ، فهو أشبه بفيلم سينمائي يحكي في ساعة واحدة احداثا تستغرق ، في الظروف الطبيعية ، شهورا او سنوات.

امير قطر يهدي ميسي - بطل فريق الارجنتين - العباءة العربية

 ومن هنا فان الجميع يستذكر كل ما يجري من احداث وما يتولد عنها من انطباعات او مواقف. صور الناس والحوادث ومعانيها: من الفتاة التي تجرب الحجاب ، والاخرى التي كشفت عن مفاتنها ولفتت انظار الحاضرين وكاميراتهم ، الى شعار ".... كسرنا عينه" الى رفض احد الفرق ترديد النشيد الوطني لبلاده ، وحتى توزيع الاهالي الحلويات على اللاعبين والمتفرجين ، وصولا الى مطاعم "البيك" السعودية المعروفة ، التي جهزت مطاعم متنقلة لبيع منتجاتها ، من أجل التعريف بماركتها في انحاء العالم.. الخ.

 ما جرى في هذا الحدث الضخم يكشف حقيقة ان الناس جميعا ، كانوا مستعدين للتغاضي عن الفوارق الثقافية التي تبعدهم عن بعضهم. بل رأينا بعضهم يبادر فعلا بتحويل هذه الفوارق الى عوامل للتفاهم والتلاقي. من ذلك مثلا ، محاولة بعض الضيوف الحديث بلغة الآخرين او ارتداء ازيائهم او الغناء معهم ، او حتى مجرد الاستماع اليهم ، واستقبال الطرف الثاني لهذه المبادرات ، باعتبارها "مشاركة في المرح". فهذه وتلك ، تدل جميعا على ان جمهور الناس يمكنهم ان يغفلوا – ولو مؤقتا – دواعي الفرقة والخصام ويعاملوا بعضهم ك "بني آدم" وان اختلفت مصادرهم او مشاربهم.

لعلنا نتذكر احيانا الكلام الثقيل الذي يقوله أرباب الايديولوجيا ، عن مخاصمة الكافر واظهار النفرة منه. وهذا مثال عن توجيهات كثيرة ، يزعم بعضها انه يرتدي عباءة الدين ، ويلبس غيره عباءات قومية او وطنية ، او غيرها.

لكن أهل التقاليد وأهل الحداثة ، الفقراء والأغنياء ، اظهروا جميعا قدرة فائقة على التلاقي والتفاهم. نعلم طبعا ان الناس يختلفون في المصالح. ولو بقي هؤلاء مدة أطول فلربما اختلفوا وتنازعوا. لكننا نتحدث هنا عن القابلية والدوافع العفوية ، التي تشكل الدافع الأقوى والأكثر تأثيرا في تعاملاتنا مع الناس. ان الجهل بالغير هو ابرز أسباب التناكر ، وهذا امر يشترك فيه كل البشر. وقد ورد في الأثر "الناس أعداء ما جهلوا". لكن ثمة عوامل تعزز هذا النزوع الطبيعي وتبرره ، فتحوله الى سلوك حاكم ومرغوب. بمعنى آخر ، فانه بدلا من أن يقول الانسان لنفسه: عليك بالتعرف على الناس كي لا تعاديهم بلا مبرر ، فسوف يقول هو لنفسه او سيقول له آخرون: ستكون اقرب الى الفضيلة لو انكرت هذا وعاديت ذاك ، لأن العلاقة بين الناس مشروطة باتفاقهم في العرق او الدين.

زبدة القول ان مناسبة "المونديال" أظهرت ان المسافات قصيرة بين بني آدم ، وأن كل ما يحتاجونه هو الغفلة ، ولو مؤقتا ، عن دواعي التناكر والتنازع ، والعودة لفطرتهم الأولى ، أي نزوعهم للعيش مع بقية بني آدم. كل ما نحتاجه هو تذكير انفسنا بهذه الحقيقة ، وتهميش دواعي الخصام والتنازع والتناكر ، حتى تلك التي ترتدي عباءة مقدسة.

الأربعاء - 13 جمادى الأولى 1444 هـ - 07 ديسمبر 2022 مـ رقم العدد [16080]

https://aawsat.co/node/4029056


مقالات ذات علاقة

ابعد من تماثيل بوذا

ان تكون مساويا لغير: معنى التسامح

بل التقارب قائم ومتواصل بين السنة والشيعة

تجريم الكراهية

التسامح وفتح المجال العام كعلاج للتطرف

التعايش أو التقارب.. طريق واحد

تعزيز التسامح من خلال التربية المدرسية

ثقافة الكراهية

 حقوق الانسان في المدرسة

سؤال التسامح الساذ: معنى التسامح

فرصة لتطبيق ما ندعو اليه

فلان المتشدد

في التسامح الحر والتسامح المشروط

في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء

في بغض الكافر

كن طائفيا او كن ما شئت .. لكن لا تضحي بوطنك

 

30/11/2022

هل حضرتم صلاة الجماعة؟


يقول بعض الزملاء ان الدعوة للحرية ، عبث لا طائل تحته. وهم يحتجون بأنه لا يوجد تعريف معياري  متفق عليه للحرية ، وأن المجتمعات الغربية قد أخفقت في تطبيقها ، رغم أنها عنصر محوري في الثقافة العامة لتلك المجتمعات ، كما انها جزء من الأرضية الفلسفية التي يقوم عليها نظامها الاجتماعي والقانوني.  فاذا كان مؤسسو هذا المبدأ قد اخفقوا فيه ، فغيرهم – أي المجتمعات الشرقية – أقرب للاخفاق وأولى به.

نعلم جميعا ان هذا كلام لا يصح في ذاته. كما لا يصلح دليلا على عبثية الدعوة للحرية في أي مجتمع ، شرقيا كان او غربيا.

دعنا نبدأ بافتقار الحرية الى تعريف معياري: الواقع ان الغالبية العظمى من دارسي العلوم السياسية ، متفقون على التعريف الذي اقترحه المفكر البريطاني ايزايا برلين في محاضرته الشهيرة "مفهومان للحرية". تتعلق اكثر بحوث ايزايا برلين بتاريخ الأفكار. وهو يرى ان مرور الزمن ينحت في الأفكار والمصطلحات الشائعة ، فيغير في مضامينها او في حمولتها السياسية او الأخلاقية ، او في موقعها ضمن منظومات القيم السائدة في المجتمع. لكن ثمة خيط خفي يربط بين النسخ العديدة للفكرة الواحدة ، رغم تحولاتها عبر التاريخ. هذا الخيط يدلنا على حقيقة الفكرة ، والمعنى العميق الذي يريد البشر اظهاره حين يستعملونها. وجد برلين نحو 200 تعريف مختلف للحرية. ثم حدد الخيوط التي تصل بينها ، فلخصها في معنيين ، اطلق على الأول اسم الحرية السلبية (الحرية من) وتعني الأمان من تدخل الاخرين اعتباطيا في حياتك. واطلق على الثاني اسم الحرية الإيجابية (الحرية في) أي التمتع بالحقوق التي ينشئها القانون. وأميل شخصيا الى اعتبار الأول شرطا لكرامة الانسان.

لكن دعنا نفترض انه لا يوجد تعريف واحد للحرية ولا معنى منضبط كما يقولون.. فهل هذا يبرر انكارها او استنكار الدعوة اليها؟. هل يتقبل الرافضون ان يطرق احد المارة باب بيتهم ، ليسأل ان كان اهل البيت قد حضروا صلاة الجماعة ام لا ، هل يتقبلون ان يوقفهم شخص في الشارع ، كي يفتش جوالاتهم للتأكد من انها لا تحوي أشياء سيئة ، هل يودون ان تقوم جهة ما بتسجيل مكالماتهم ، ثم مساءلتهم عما يقصدون بهذه الكلمة او تلك؟. هل يقبلون ان يتصل بهم شخص ، ليسألهم عن مصدر أموالهم وكيف صرفوها ولماذا ، هل يرغب أستاذ جامعي في ان يستدعى بين حين وآخر ، لتقديم مبررات كلامه للطلبة حول هذا الموضوع او ذاك؟. وأخيرا.. هل نرغب في رؤية شيء يشبه محاكم التفتيش التي أقيمت في القرون الوسطى ، للتحقق من "صحة اعتقاد" المتهمين بالابتداع والمروق عن الكاثوليكية؟.

لقد ضربت هذه الأمثلة لأنها  كانت تحدث فعليا ، في وقت من الأوقات في بعض بلدان المسلمين. وأعلم ان الذين يجادلون ضد الحرية لا يريدون أيا مما ذكرناه ، ويخشون جديا من حدوثه. ولهذا أقول لهم ان رفضهم لتلك الأمور ، هو التعبير الدقيق عن الرغبة في الحرية ، ولا سيما في معناها الأول. فلنبحث عن عاقل في أي مكان في العالم ، يقول بالفم الملآن انه يرحب بأي واحدة من التدخلات التي ذكرتها.

أخيرا.. أتساءل هل يمكن لمواطني أي بلد ، غربي او شرقي ، ان يتخلصوا من تلك التدخلات التي ذكرناها ، هل يمكن ان يضعوا قانونا يمنع المتدخلين والمتطفلين؟.

اجزم انهم سيجيبون بنعم. فهم بالتأكيد قادرون على منعها بقوة التثقيف او قوة القانون. وهذا بذاته دليل على إمكانية نجاح الدعوة للحرية وضمانها بالقانون ، في الشرق او في الغرب.

واضح اذن ان التعريف ليس مشكلة ، وان التطبيق في أي مجتمع ليس مستحيلا ، اليس كذلك؟.

الشرق الاوسط الأربعاء - 7 جمادى الأولى 1444 هـ - 30 نوفمبر 2022 مـ رقم العدد [16073]

https://aawsat.com/node/4015911


مقالات ذات صلة

أسس بنكا او ضع عقلك في الدرج

التخصص ام سلطة المتخصص؟

التخلي عن التلقين ليس سهلا

حول البيئة المحفزة للابتكار

سلطة المدير

العلم والحيرة

فتاة فضولية

المدرسة وصناعة العقل

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

من العقل الجمعي الى الجهل الجمعي

23/11/2022

الليبرالية البغيضة!


بعض القراء الاعزاء يقولون كلاما فحواه انهم يحبون الحرية ، لكنهم يبغضون الليبرالية. هذا ليس أمرا سيئا بطبيعة الحال ، فلكل منا طريقة في عيش حياته ، وفي التعبير عن أولوياته ، واختيار الاطار الذي يجمع اطراف رؤيته لذاته والعالم المحيط به. وهذا هو المضمون الداخلي لما نسميه "الانتماء".

بيان ذلك: حين يقول شخص انه مسلم او ليبرالي او يساري او محافظ ، وحين تصف فتاة نفسها بانها نسوية او قبيلية الخ.. فان كلا من هؤلاء يشير الى الاطار الذي تنتظم فيه الرؤى والصور العديدة ، التي تشكل ما نسميه الرؤية الكونية ، أي فهم الانسان لذاته وحياته وموقعه ، وطريقة تعبيره عنها. انها اقرب الى عنوان الكتاب الذي يلخص ، في كلمات قليلة ، الفكرة العامة التي تشرحها مئات الصفحات.

  الانتماء - اذن - ليس علاقة مادية تربط الانسان بالمكان او بالأشخاص الآخرين ، بل هو حالة ذهنية ، مضمونها الرغبة في الوقوف تحت هذه اللافتة او تلك ، حمل هذا الوصف او ذاك. قد يكون الامر قرارا واعيا ، مسبوقا بتأمل وربما تعاقد واتفاق مع بقية أعضاء الجمع (كما يحصل حين تنتمي الى شركة او حزب سياسي مثلا) وقد تكون مجرد رغبة أحادية بالانخراط في حشد تربط بينهم عاطفة مشتركة ، مثل الالتحاق بمشجعي ناد رياضي مثلا.

واذا كنت تنتمي لمجتمع شرقي ، وقررت تبني الليبرالية كمذهب في السياسة او في الحياة ، فان قرارك هذا سيكون – على الاغلب – نتاج تأمل ومكابدة ذهنية ، تتضمن سلسلة من المجادلات الداخلية ، حول المكاسب والخسائر ، وردود فعل المحيط الاجتماعي على ما يعتبرونه انحيازا عن الطريق المعتاد.

حين يدعي شخص ما الانتماء الى الليبرالية كتيار سياسي او كمنهج حياتي ، فهو يشير الى قناعته بشريحة من العناصر التي تشكل أركانا أساسية لهذا المذهب ، وفي طليعتها الحرية. الحرية جوهر المذهب الليبرالي ، وهي الفارق الرئيس بينها وبين اي مذهب آخر ، ومن هنا فان نزعها يعادل الغاء المذهب كله.

ما يميز الليبرالي عن عامة المؤمنين بالحرية ، هو قناعته بفوقيتها على أي قيمة أخرى. فلو احتجنا الى استثناء او تعديل ، بناء على قيمة المساواة او النظام او التكافل مثلا ، فان هذا التعديل يجب ان يؤسس على أرضية الايمان بالحرية ، وكونها الفرض الأولي والمعيار الرئيس ، في تعيين ما هو صحيح وما هو خطأ. من الأمثلة الشهيرة في هذا الصدد نذكر رأي الفيلسوف المعاصر جون رولز ، الذي عارض الليبرالية الكلاسيكية ، لصالح نظرية في العدالة تركز على انصاف الطبقات الضعيفة ، إلا أنه أكد في كل جزء من شروحاته لتلك النظرية ، على ان الحرية الفردية جزء حيوي في مفهوم العدالة ، بحيث لا يمكن التضحية بها ، حتى لو توقفت على هذا مصلحة المجتمع كله. تبعا لرؤية رولز ، فان هدر حرية الفرد تعادل هدر العدالة الاجتماعية في ادق تعريفاتها.

ليس ضروريا ان تقف تحت لافتة الليبرالية ، مع انها اكثر العناوين اشراقا. ما هو مهم في حقيقة الامر هو ان تؤمن بالحرية في معناها الكامل ، أي كون حريتك الشخصية معادلة لحق الاخرين في ان يعيشوا حياتهم دون تدخل او جبر. وان التمتع بالحرية يعادل الإقرار بالمسؤوليات والتكاليف التي تترتب على الحرية والتي تؤدي بالضرورة الى تحديدها. وأخيرا الايمان بان التطبيق الحضاري لمفهوم الحرية ، ممكن فقط في ظل المجتمع المدني وسيادة القانون ، القانون الذي يصون حرية الجميع ، فيمنع تدخل الاخرين في حياتك ، كما يمنعك من التدخل في حياة الاخرين.

الشرق الاوسط الأربعاء - 29 شهر ربيع الثاني 1444 هـ - 23 نوفمبر 2022 مـ رقم العدد [16066]

https://aawsat.com/node/4002711/

مقالات ذات علاقة

الأخ الأكبـــر

طريق التقاليد

الطريق الليبرالي

عن الليبرالية وتوق الانسان للتحرر: اجابات 

الليبرات والليبرون المكبوتون المخدوعون 

الليبرالية في نسخة جديدة: رؤية جون رولز

الليبرالية ليست خيارا

منهجان في فهم الحرية

نموذج مجتمع النحل

نهاية الليبرالية

الهجوم على الليبرالية ليس سيئا 

 

16/11/2022

نهاية الليبرالية


يعتقد الكاتب والسياسي المغربي د. حسن اوريد ان الحضارة الليبرالية بلغت نهاية الطريق ، ولم يعد لديها طاقة للاستمرار. كنت قد سمعت سابقا عن كتاب الدكتور أوريد "أفول الغرب" ، ثم التقيته خلال "منتدى أبو ظبي للسلم" الذي انعقد الأسبوع الماضي. لفت انتباهي دعوته لعقد اجتماعي عالمي بديل ، كي نتلافى الانزلاق الى ما أسماه "عالم هوبز" او "حرب الجميع على الجميع" حسب توصيف المفكر الإنجليزي توماس هوبز (1588-1679م) للمرحلة التي عاشتها البشرية ، قبل تبلور مبدأ العقد الاجتماعي وظهور الدولة.

د. حسن اوريد

اثار كتاب اوريد المذكور ، كثيرا من الجدل ، يوم نشر في 2018. وقيل يومها ان كاتبه قد انزلق فعلا في هاوية العداء الأيديولوجي للغرب ، واعتبره بعض الناقدين ردا (في العموم) على مقولة الانتصار النهائي لليبرالية ونهاية الأيديولوجيا ، وفق تصوير المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما ، في كتابه الجدلي "نهاية التاريخ". الواقع ان اوريد لا يخفي معارضته لهذه الرؤية ، بل انه اسمى الفصل الثاني من الكتاب "نهاية نهاية التاريخ" في إشارة لما يعتقد انه أفول متوقع للحضارة الليبرالية.

لم يركز اوريد نقده على الجزء الجوهري من رؤية فوكوياما ، أي نهاية الحتميات الرؤيوية المنبثقة من قناعات أيديولوجية مسبقة التصميم. بدلا من ذلك اهتم بالتطبيقات الاقتصادية لليبرالية ، ولا سيما الملكية الفردية المفرطة ، الهيمنة المطلقة للسوق ، وتحول مستلزمات التبادل الاقتصادي الى مصدر للقيم ، او معيار لقبول القيم الناظمة لحياة المجتمعات والافراد.

في محاضرته بمنتدى ابوظبي للسلم ، قدم الدكتور اوريد مطالعة عميقة في الأزمات التي يعيشها عالم اليوم. خلال السنوات الأخيرة ، بدا واضحا ان النظام الدولي والاعراف المنظمة للتبادلات الاقتصادية ، مليئة بالثغرات ، على نحو ينذر بكوارث مؤلمة ، نظير ماعرفناه خلال جائحة كورونا. لم تنته هذه الجائحة حتى تعرفنا على أزمات الغذاء والطاقة التي تسببت فيها الحرب الروسية – الأوكرانية. وأخيرا كارثة السيل التي ضربت باكستان ، وأدت الى تهجير مليون عائلة ، تضررت منازلهم او جرفت مزارعهم ، فما عاد لديهم مأوى ولا مصدر عيش. الواقع ان مشكلة الهجرة والنزوح تحولت الى هم مقيم في العديد من مناطق العالم ، وسببها دائما النزاعات الاهلية او الكوارث الطبيعية.

تنسب الكوارث الطبيعية الى الاستهلاك الجشع لموارد البيئة الكونية. وهذا بدوره ناشيء – وفقا لتقدير الدكتور اوريد – عن هيمنة الفكرة القائلة بامتلاك الانسان للطبيعة. أما الحروب فهي تستمد وقودها من تسليع الحياة الإنسانية ، الأمر الذي جعل قيمة الانسان أدنى من الموارد التي يقاتل من اجل الاستئثار بها ، او يقاتل دفاعا عنها.

ربما لم يقل احد صراحة ، انه سيخوض الحرب من اجل السيطرة على مصادر البترول او الغاز او المياه او التكنولوجيا. لكن تجربة البشر تخبرنا ، ان هذه العوامل كانت محركا دائما للنزاعات السياسية ، التي تقود للحرب. ان الخلاف الراهن بين الصين والولايات المتحدة مثال على نوعية الصراعات الجديدة التي يحركها - في المقام الاول - الفارق التقني ، اي شعور النخبة الامريكية بأن هيمنة الصين على تقنيات الجيل الخامس من نظم الاتصالات ، ربما تمنحها نفوذا بالغا على مسارات التبادل العالمي.

تنتمي الفكرة التي يطرحها د. اوريد الى منظومة من القيم تتبني فكرة الشراكة الكونية والمسؤولية الجمعية عن مصير الكوكب. وهي فكرة جديرة حقا بالاهتمام. من هذه الزاوية كانت محاضرته مثيرة جدا للاهتمام. لكني – من زاوية أخرى – لم اقتنع بان الليبرالية قد استنفذت اغراضها او  خسرت زخمها. فهي – حسب تقديري – لازالت الحل الأقل كلفة لمشكلات العلاقة بين البشر ، رغم انها – بطبيعة الحال – لا تخلو من عيوب ، وبينها ما ذكره  الأستاذ اوريد.

الشرق الأوسط الأربعاء - 22 شهر ربيع الثاني 1444 هـ - 16 نوفمبر 2022 مـ رقم العدد [16059]

https://aawsat.com/home/article/3989526

09/11/2022

دور الراي العام في التشريع


تحدثت في الاسبوع الماضي عن اشكال يحيط بمفهوم الجماعة ، فحواه أنها مبجلة – نوعا ما – في الشرع والقانون ، لكنها في الوقت نفسه موضع جدل ، منشؤه الفكرة السائدة حول سلوك الحشود/القطيع.

أردت من ذلك الحديث تمهيد الطريق لطرح الفكرة التي خلاصتها ، ان عرف الجماعة وتوافقاتها وتشخيصها للمصالح ، يمكن ان يشكل مصدرا مناسبا للقانون والاحكام الشرعية.

لو طرحت هذه الفكرة في مجتمع أوروبي ، فلن تثير جدلا ، فهي بديهية في ثقافتهم الحديثة. أما في المجتمعات المسلمة فالامر بالعكس.

ولعل معظمنا قد سمع يوما ، من يستنكر اعتماد الراي العام كأساس للتشريع او تفويض السلطة (عبر الانتخابات مثلا). مفهوم ان الناس لا يقولون هذا صراحة ، سيما في النقاشات العامة ، بل يضعونه في قالب المقارنة بين رأي العالم ورأي الجاهل ، فيقولون مثلا: الانتخابات طريقة سيئة ، لأنها تساوي بين راي العالم الكبير والعامل البسيط. فهل يصح ان نعطي لكلا الرأيين نفس الوزن ، ونغفل فارق المعرفة بينهما؟.

ورأيت في هذه الأيام تعبيرا آخر عن الفكرة ، حين تبرم بعض الناس بالنقد الموجه لعلماء الدين او الإنتاج العلمي للهيئات الشرعية. يقولون مثلا: ان طالب العلم يثني ركبتيه عشرات السنين عند شيوخه ، قبل ان يفتي في مسألة ، ثم يأتي شخص "قرأ كتابين" ، فيدعي الاهلية للرد على تلك الفتوى. فهل هذا سائغ او معقول؟.

يسهل على الناس تقبل هذا القول ، بل واعتباره محاكيا للحقيقة ، لأنه ينطلق من مفهوم مستقر في الثقافة العامة ، فحواه تقديم اهل العلم على غيرهم ، ثم تقديم حملة العلم الديني ، في مختلف مستوياتهم ، على كل أحد ، حتى العلماء في المجالات الأخرى.

احتمل ان القاريء العزيز قد توصل الآن الى حقيقة ان النقاش حول الراي العام والعرف والجماعة ، يشوبه خلط كثير ، أدى في أحيان كثيرة ، الى انحراف النقاش نحو نقاط لا علاقة لها بالموضوع أصلا. ان تفكيك هذا الاختلاط يستدعي التأمل في كل من عناصر الموضوع بمفرده ، ثم البحث عن الرابط الصحيح بينها.

المسالة الأولى التي يجب الانتباه اليها ، هي اطار النقاش: اذا كنا في المجال العلمي البحت ، فان راي الأكثرية وراي الفرد الواحد سواء. والمقدم هو ما يبنى على دليل مقنع. اما في حل الاختلافات العملية ، او في تعيين ممثلي الجماعة ، او تفويض السلطة ، فان رأي الأكثرية هو المقدم.

بعبارة أخرى ، فان جميع الآراء محترمة على مستوى العلم ، بما فيها الآراء في الدين. مع ان العقلاء سيأخذون بالرأي المستند الى دليل متين ، حتى لو كان صاحبه ممن "قرأ كتابين" كما يقال احيانا. لهذا فقوة الدليل هي المعيار. ويبقى لكل فرد حق تام في اختيار ما يراه ، طالما لم يفرضه على غيره.

الاخذ برأي الأكثرية في القضايا العامة ضروري ، لان الناس يختلفون في تشخيص المصالح ، فلا بد من طريقة للتوصل الى حل يتجاوز الاختلاف. لكن ثمة – إضافة الى هذا - مبرر آخر ، وهو اجتماع العقول. فالمؤكد ان دعوة الناس للتعبير عن آرائهم والمشاركة في القرار ، سوف توفر لنا رؤية واسعة ، تستند الى مئات العقول ، من تخصصات ومشارب مختلفة ، وهذا يسمح بالتعمق في فهم خلفيات القرار ونتائجه المحتملة قبل إصداره. وقد ورد في الأثر "اعقل الناس من جمع عقول الناس الى عقله".

عقلانية الاخذ بالراي العام ثابتة في الأمور العامة ككل ، ومن بينها – في رايي - الاحكام الشرعية التي تفرض بواسطة هيئات الدولة على عموم الناس.

الأربعاء - 15 شهر ربيع الثاني 1444 هـ - 09 نوفمبر 2022 مـ رقم العدد [16052]

https://aawsat.com/node/3976421/

 

مقالات ذات صلة

جبر العامة

الحركة الاسلامية ، الجمهور والسياسة

مكانة "العامة" في التفكير الديني

طريق الحزب الى السلطة

الديمقراطية في بلد مسلم- الفصل الرابع

حول جاهزية المجتمع للمشاركة السياسية

الديمقراطية في بلد مسلم- الفصل الثاني

اقامة الشريعة بالاختيار

 

02/11/2022

العرف العام وبناء العقلاء

ثمة مفاهيم تبدو للوهلة الأولى في غاية البساطة. لكنها تنكشف عن تعقيد غير متوقع ، حين توضع امام نقائضها ونظائرها. تحدثت في الأسبوع الماضي عن "العقل الجمعي" محاولا تمييزه عن مفهوم الحشد او ذهنية القطيع/سلوك القطيع. وكان الداعي لهذا التمييز ، هو الخلط المتكرر بين المفهومين ، حتى من جانب كتاب وخطباء ، يفترض فيهم تجنب الخلط بين المفاهيم ، سيما حين يؤدي الى تعقيد ثقافي او أخلاقي غير مستحب.

من ذلك مثلا ظن بعض الناس ان "العقل الجمعي" مساو لتلاشي شخصية الفرد وضياع العقلانية. وهذا ظن لا يخلو من مبالغة. لكن ما يهمني في هذا المقام هو مراجعة اصل الفكرة ، أي مفهوم الجماعة ، حيث بدا لي أنه يستعمل على وجهين متعارضين: في بعض الأحيان تذكر الجماعة باعتبارها موضع الحق والوحدة والطريق الوسط ، أي انها معاكسة لحالة الخروج عن الجادة (الباطل) والتنازع والتطرف. وفي أحيان أخرى تذكر الجماعة كقرين للجمود والتأخر والارتهان للماضي (أي ما يجب التمرد عليه).

بعبارة أخرى فان الثقافة العربية الحديثة ، تنطوي على التباس في مفهوم الجماعة وعلاقة الفرد بها ، وكذا الدور الحياتي والوظيفة المفهومية التي يشغلها كل منهما في النظام الاجتماعي.

بيان ذلك: ان ثقافتنا الموروثة – مثل سائر الثقافات القديمة – تميل لإعلاء مكانة الجماعة. وهو ميل عززه تأكيد الفكر الديني على الوحدة والانسجام ، وتصوير الجماعة كنظام عضوي ، له دور محوري في التجربة الدينية. ان تحليل السياقات التي استعمل فيها مفهوم الجماعة في النصوص التراثية ، يحمل على الاعتقاد بان المفهوم يشير في غالب الأحوال الى ما نسميه الآن "التيار العام" أي الأكثرية العددية المعلنة (اود التأكيد على وصف المعلنة ، لتمييزها عن الأكثرية العددية الحقيقية ، حيث انها غير متحققة ، لكونها صامتة او مهملة او مقهورة ، كما هو حال المسلمين الجدد والنساء اللاتي لم يكن رايهن معتبرا ضمن حساب الأكثرية والاقلية).

اخذا بعين الاعتبار هذا التمهيد ، أود الإشارة أيضا الى ان المقارنة بين الأكثرية والأقلية ، ليس اصيلا في ثقافة المسلمين. لم يكن ثمة ما يطلق عليه أقلية. ولذا لم يكن ثمة أكثرية أيضا. لقد جرى التعبير عن الكثرة والقلة بوصفين: الجماعة والخارج عن الجماعة ، الذي يطلق عليه أحيانا الشاذ ، بمعنى المتمرد. وفي هذا السياق اشتهر الحديث المنسوب للنبي "عليكم بالجماعة ، فان يد الله على الجماعة". وزاد عليها بعض الرواة "ومن شذ شذ في النار". والظاهر انها ليست جزء من الحديث.

هذا التحليل يضع راي الجماعة في موقع "العرف العام". اني أحاول هنا تقريب العرف العام/راي الجماعة الى ما يسميه الفقهاء "بناء العقلاء/عرف العقلاء" ، أي احكام العقل ، أو القيم التي تلقى على الافعال من جانب عقلاء العالم ، أيا كانت اديانهم وازمانهم.

أرى هذا التقريب/التعريف ضروريا لجعل الثقافة العربية والإسلامية تتقبل المشترك الإنساني ، أي ما توافق عليه عقلاء البشر ، وتضيفه الى نسيجها الخاص كي يمسي جزء منها ، حتى لو كان في الأصل منسوبا الى ثقافات الأمم الأخرى. لابد من الإشارة هنا الى ان حديثنا كله يتعلق باطار العمل والقيم الاجتماعية التي تنظم العلاقة بين الناس. اما مجال العلم فبعيد عن هذا كله. ان الرأي العلمي للفرد والجماعة سواء ، لا يعلو احدهما الاخر ولا يلغيه. وقد اشرت في مقالات أخرى الى ان مفهوم الاجماع وتقديم رأي الجماعة ، يستهدف وضع قاعدة لعلاج الاختلاف في الراي المتعلق بقيمة عمل ما ، ولا يستهدف الموازنة بين الأدلة العلمية.

الشرق الأوسط الأربعاء - 8 شهر ربيع الثاني 1444 هـ - 02 نوفمبر 2022 مـ رقم العدد [16045]

https://aawsat.com/node/3964226

مقالات ذات صلة

 

بماذا ننصح أينشتاين؟

بين العقل الجمعي وسلوك القطيع

التعصب كمنتج اجتماعي

الخوف من التغيير

في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء

في معنى التعصب

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

كهف الجماعة

كيف تولد الجماعة

مغامرات العقل وتحرر الانسان - كلمة في تكريم الاستاذ ابراهيم البليهي

من العقل الجمعي الى الجهل الجمعي

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...